المواطنة والفقهاء

ما هي علاقة فقهاء الإمامية اللبنانيين بالوطن؟ هل هي علاقة عَرَضية وزائلة، أم أنها جوهرية ودائمة؟ وبلفظ آخر، هل أن الشيعي الإمامي اللبناني ينتمي إلى الوطن انتماءً حقيقياً، أم أن صفة المواطنة غائبة عنه، وبعيدة المنال؟
Sunday, December 24, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
المواطنة والفقهاء
 المواطنة والفقهاء



 

ما هي علاقة فقهاء الإمامية اللبنانيين بالوطن؟ هل هي علاقة عَرَضية وزائلة، أم أنها جوهرية ودائمة؟ وبلفظ آخر، هل أن الشيعي الإمامي اللبناني ينتمي إلى الوطن انتماءً حقيقياً، أم أن صفة المواطنة غائبة عنه، وبعيدة المنال؟
وبالأحرى، هل أن المواطنة والانتماء للوطن هو شعور راسخ عند الشيعة الإمامية، أم أنه شعور على دَخَن، وتالياً، يتجاوز الوطن إلى أوطان أخرى؟
ونتساءل أكثر، هل نجد عند فقهاء الإمامية القدامى ما يُشير إلى (حب الوطن) (والتعلق به)، (والدفاع عنه)؟ أم أنه لا أثر لذلك في سيرهم العملانية ومقالاتهم الفكرية؟ ويا تُرى، بماذا نفسّر ما أصاب هؤلاء الفقهاء من اضطهاد وتشريد، بل من قتل واستشهاد على يد السلطات الحاكمة؟ فهل هو نتيجة "العمالة" و"الخيانة" لأوطانهم، أم لأسباب وعوامل أكثر تعقيداً وخطورة؟
هذا ما سوف أحاول أن أبيّنه في بحثي المضغوط هذا، مبتدئاً بالفقيه المجاهد ابن ملّي البعلبكي (ت699هـ / 1299م)، مروراً بالفقيه المؤسس الشهيد محمد بن مكي الجزيني (ت784هـ / 1382م)، والمشهور بـ"الشهيد الأول"، وانتهاء بالفقيه الوحدوي، عنيت به زين الدين بن علي الجباعي (ت965هـ / 1558م)، والأكثر شهرة بـ"الشهيد الثاني". وهذه المحاولة تستغرق ما يقرب من ثلاثة قرون من الزمن، حيث تبدأ من أواخر القرن السابع الهجري، مع مطاردة ابن ملّي وموته بعيداً عن منبت ولادته، وتنتهي أواخر القرن العاشر الهجري، باستشهاد الشهيد الثاني خارج وطنه أيضاً.

المواطنة والفقهاء:

ضرورة العمل على نظرية فقهية معاصرة:
أشار الفقهاء إلى نوعين من الأوطان: الوطن العرفي والوطن الشرعي(1). وبيّنوا محدّدات كل واحد منهما.
ولكن، من المهم اليوم بيان الرؤية الفقهية تجاه هذه المقولة (الوطن والمواطنة)، والتي هي ليست علاقة عاطفية فحسب، بل هي علاقة قانونية، دستورية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، تتطلب صياغة "نظرية فقهية معاصرة" تجاه هذا الموضوع أو الظاهرة الإنسانية المعاصرة، لأن الشعور الوطني أضحى اليوم من الحقائق الدستورية، والقانونية، والسياسية الهامة. والأمة الإسلامية، اليوم، موزعة في أوطان متعدّدة، وفي كل وطن مكوّنات متعددة، وقوانين مختلفة. والإنسان، عادة، ينتمي إلى دوائر إنسانية عديدة، ومنها دائرة الوطن، فكيف السبيل إلى التوفيق بين هذه الدوائر (الأسرة، القبيلة، المذهب، الوطن، الإنسانية...) وإمكانية انفتاح الانتماء الوطني على الإنسانية، لتصبح الإنسانية أكثر نبلاً، بدلاً من الانغلاق والتصحّر الإنساني؟

مفهوم المواطنة في بحثنا:

لن أدخل هنا في عمل معهود ومشهور، أي الحديث عن تعريف الوطن، والمواطنة، لأن في ذلك بساطة ورتابة، وهو في الأخير متوّفر وبشكل موسّع في الدراسات المختصّة، والقواميس، والموسوعات، لا سيما أن مصطلح (المواطنة) لا ينفك في يومنا، وببداهة، عن ربطه بالوَطَن والمَوطِن(2)
والحقوق والواجبات، فلذلك، فضّلت في ورقتي هذه، أن أترك هذا الجانب، والغوص رأساً في المقصود من (المواطنة) عند فقهائنا الثلاثة، لأن مفهوم (الوطن) (والمواطنة) في عصر هؤلاء، لا يعني بالتمام ما هو مقصود منه في عصرنا الحاضر، فقديماً اعتبر بهاء الدين العاملي (ت 1030هـ / 1621م) "أن الوطن هو ذلك المكان الذي لا اسم له"(3).
فلذلك، ومنذ البداية، أعني بـ " المواطنة والوطن" عند فقهائنا الثلاثة "الكيان الثقافي"، وليس "الكيان السياسي المعروف" لعدمه في حينه(4)
أعني بذلك، أن المواطنة عندهم تعني النشأة، والمولد، والانتماء للأرض والناس، والدفاع عنهم، والتشديد على رابطة التعايش السلمي بين أفراد يتشاركون أرضاً واحدة، لأن "الهوية المذهبية" عند فقهائنا الثلاثة، وغيرهم طبعاً، لم تكن قاعدة أو منطلقاً للصراع بين الأفراد والجماعات، بل غَدَت وعياً عميقاً في المسؤولية تجاه انتماءاتهم، فلذلك، قاتلوا، وجاهدوا بل واستشهدوا في سبيل هذا الوعي. ومن المؤسف حقاً، أن ما يحصل اليوم هو تمزيق "للذاكرة الجماعية" أو إعدام وجودها، فنرى بثّ الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، بل الأمة الواحدة، على قاعدة الانتماء الحقيقي أو العمالة.

الإمامية، والمجتمع، والهجرة:

نعم، لم يؤمن علماء الإمامية بـ"المجتمع المنغلق" Fe عليهم السلامmeé، أو بتعبير برغسون، بعالم محدود، صغير، وراكد. بل آمنوا "بمجتمع منفتح" Ouve عليهم السلامte، هدّموا فيه العوائق الضيّقة، وفتحوا نوافذه بوجه المجتمعات والأديان الأخرى، لذلك آمنوا بـ"الهجرة"(لنلاحظ هنا، هجرة علماء الإمامية القديمة إلى إيران وغيرها، مقاربة مع هجرة شيعة لبنان التجارية إلى بلدان العالم في يومنا المعاصر، وكأن الهجرة من مكوّنات فكرهم. وطبعاً، لن ننسى عامل الاحتلال الصهيوني للبنان)، لأن وراء بزوغ كل حضارة "هجرة". لذا، نجد تاريخ الإسلام هو تاريخ ( الهجرة). ونرى في القرآن أن المهاجر في طريق الحقيقة يتقدّم على المجاهد، وبعد الإيمان تأتي الهجرة، كأصل عملي ووظيفة إنسانية مقدّسة وذلك في قوله تعإلى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (سورة البقرة: 18). (5).
لذلك نجد هجرة علماء الإمامية قديماً قد أنتجت حضارات، بل وجدناهم أينما حلّوا أشاعوا حبّ الإنسان، ومبدأ التعايش، والدفاع عن الأوطان. وورقتي هذه غايتها توضيح هذا المطلب. وأبدأ بالبطل المجاهد ابن ملّي البعلبكي.
مواطنة ابن ملّي البعلبكي ومحاربة الاحتلال (شهيد الوطن):
أودّ أن أطلق على هذا الفقيه اسم (شهيد الوطن) كمصطلح معاصر، لأننا اليوم نسمّي المدافع عن وطنه بالشهيد، فابن ملّي البعلبكي (ت699هـ - 1299م)8 ، ومنذ ما يزيد عن سبعمائة سنة، أعطانا درساً في المواطنة والهويّة، وحبّ الأوطان.
إنه نجم الدين، أحمد بن مُحسِّن (بضم الميم وتشديد السين المكسورة) بن ملّي الأنصاري البعلبكي (617-699هـ). أول فقيه شيعي إمامي أنجبته بعلبك، أصولي، ومتكلّم. ولد في بعلبك عام 617هـ. كان متبحراً في العلوم، كثير الفضائل، أسداً في المناظرة، فصيح العبارة، ذكياً، حاضر الحجّة، حاد القريحة، فارهاً، مقداماً. توفي عام (699هـ - 1299م) راجع موسى اليونيني – مرآة الزمان. وراجع الدراسة التي وضعها عنه الشيخ جعفر المهاجر، ستة فقهاء أبطال، مركز الدراسات والتوثيق والنشر، ط1، 1994، من ص46-77.
ابن ملّي أو (شهيد الوطن) ، هو أول فقيه إمامي أنجبته بعلبك. تلقّى علومه في دمشق، وحلب، وبغداد، وخصوصاً من ابن معقل الحمصي (ت644هـ / 1246م)، الذي هو آخر فقيه إمامي في حمص وقد سكن بعلبك.
كان شجاعاً وثائراً، فسمّاه اليونيني في كتابه "ذيل مرآة الزمان" بـ"الملك الأقرع"، وكأن ابن ملّي أراد بهذا اللقب أن يزيل النمط الثقافي الذي زرعته وعزّزته أنظمة الحكم المتوالية لمصطلح الفقيه، هذا النمط الذي لم يعط للفقيه إلاّ هامشاً ضئيلاً ينحصر بالشؤون الأخروية الصرفة، وبتغطية نظام الحكم، وتقديم التبريرات له عند الطلب، فكيف بفقيه يخرج من مصلاّه، وحلقة درسه، حاملاً سيفه ليقود حرب عصابات شعبية، ويقتل ويُقاتل؟! فجاء هذا الفقيه المجاهد مخترقاً كل المرتكزات، متجاوزاً إياّها بخبطة عبقرية واحدة، نقلته من موقعه الهلامي الهامشي، إلى موقع أشد صلابة بما لا يُقاس، من موقع (الفقيه) إلى موقع (الملك)(6).
فإن يكن اتخاذ اسم الملك يحرّره من أثقال المفهوم الذي زرعته السلطة للفقيه، فإنّ صفة (الأقرع) المستعادة من منظر التتري، ذلك المقاتل الشرس القاسي الذي لم يغلبه أحد حتى الآن، تستحضر عند السامع صفة المقاتل الشرس الذي لا يُدافَع. وهكذا، يصبُّ الاسم
والصفة كلاهما في الاتجاه نفسه.
ولكن من هي الجهة التي قاتلها ابن ملّي وجاهدها؟ هل هم مواطنوه، أو بالأحرى مخالفوه في الرأي؟ بالطبع لا، لأن ابن ملّي جمع كل مواطنيه، ووحّدهم لقتال المحتلين والجبّارين الذين لا يُهزمون، عنيتُ بهم جيش هولاكو (أي المغول)، العدو الجديد للأمّة والمقاتل الشرس.
يقول اليونيني في "ذيل مرآة الزمان:" في سنة ثمان وخمسين وستمائة عند مجيء التتر على الشام، كان هو بجبال بعلبك، وأنّه جمع له جماعة نحو عشرة آلاف نفر، وأنّه تسمّى بالملك الأقرع، وأنهم كانوا يتخطفّون التتر في الطرقات، خصوصاً في الليل، لأن التتر ما يركبون في الليل".
استطاع ابن ملّي بإيمانه وعقيدته الثورية والجهادية ضد المغول، العدو المشترك، الذي احتل البلاد، من سمرقند إلى فارس، والعراق، وبلاد الشام... استطاع أن يؤثربجماهيره كفقيه شيعي يُقتدى به، فأعلن الجهاد، بعد أن انقسمت مدينة بعلبك بين مستسلم وخائف التجأ إلى القلعة، وقرّر التصدّي والمقاومة، فأعلن الجهاد.
وأزعج التتر، متخذاً أسلوب حرب العصابات؛ في جبال تكسوها الغابات، صعبة المسالك والممرات، يعرفها جيداً هو ورجاله، في حين هي عصيّة على العدو. هذه الطبيعة المقاوِمة، شكلّت فيما بعد ملاذاً للثوار البعلبكيين ضد الأتراك والفرنسيين.
وهنا نسأل، يا ترى ما كان مصير ابن ملّي بعد هزيمة التتار، واندحار دولتهم على يد المماليك؟ من المؤسف له حقاً أن يُلاحقَ ابن ملّي، وبعد قتال دام ما يقرب من سبعة شهور، وبدلاً من المكافأة والتقدير، نجده يُطارد ويلاحق من قبل السلطة الحاكمة الجديدة. يقول اليونيني ما نصه: "ولمّا زالت دولة التتر اختفى" ، نعم اختفى، لأن الدولة حشدت جيشاً للقضاء على الملك الأقرع، فخشي على أتباعه، فودّعهم، وسافر متخفياً إلى مصر، واستقرّ فيها سنين طويلة، ثم عاد إلى لبنان، ولم يتجرأ على العودة إلى موطنه بعلبك، فأقام في بخعون من منطقة الضنيّة، وفيها مات (699هـ / 1299م).
المصادر :
1- راجع: حسين مرعي: القاموس الفقهي، دار المجتبى، لبنان، ط1، سنة 1922م، ص222 و223 و224. وأيضاً آية الله المشكيني، مصطلحات الفقه، دفتر نشر الهادي، قم، ط1، 1377 هـ.ق، ص561 و562. مع الإشارة إلى أن آية الله المشكيني ذهب في كتابه إلى أن الفقهاء قسّموا الأوطان إلى ثلاثة أقسام: الوطن الأصلي، والوطن المستجد، والوطن الشرعي... الخ.
2- راجع تفريق د.نصار بين المواطنين على أساس الوطن والمواطن وتعريفاته للوطن وغيره. ناصيف نصار:في التربية والسياسة, دار الطليعة البنيان,ط1, سنة 2000م, ص14 وما بعدها.
3- يقول الشيخ البهائي في ديوانه الفارسي (مثنوي نان وحلوا) ما نصّه: ليس الوطن هو مصر والعراق والشام، بل الوطن هو ذلك المكان الذي لا اسم له. راجع الدين والعلم: مطارحات في ديننة العلم، مجموعة من الباحثين؛ تعريب الشيخ محمد زراقط، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، لبنان، ط1، سنة 2008، ص206.
4- راجع عن هوية لبنان وتشكله ككيان سياسي دراسة د. غسان طه: هوية لبنان، المركز الإسلامي للدراسات الفكرية، لبنان، ط1، سنة 2009
5- راجع عن الإيمان والهجرة والجهاد د. شريعتي – محمد خاتم النبييّن. دار الأمير، لبنان، ط1، 2002، ص31 وما بعدها.
6- الشيخ جعفر المهاجر: ستة فقهاء أبطال، ص67. 
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.