العواصم من القواصم

بدأت مرحلة جديدة من العمل، وبخاصة في أوساط الشباب، وكانت الفكرة التي ندعو إليها برّاقة جذابة، تتمثل في محاربة الشرك والبدعة، والدعوة الى التوحيد الخالص، وإعادة الاسلام والمسلمين الى الطريق الصحيح الذي انتهجه السلف الصالح.
Monday, January 1, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
العواصم من القواصم
 العواصم من القواصم



 

بدأت مرحلة جديدة من العمل، وبخاصة في أوساط الشباب، وكانت الفكرة التي ندعو إليها برّاقة جذابة، تتمثل في محاربة الشرك والبدعة، والدعوة الى التوحيد الخالص، وإعادة الاسلام والمسلمين الى الطريق الصحيح الذي انتهجه السلف الصالح.
تأقلمت مع الفكرة الجديدة بعد أن اقنعت نفسي بصوابها - رغم ما في النفس - واندفعت في العمل مع باقي أعضاء الجماعة، فكنا نلتقي بالشيخ اُسبوعياً حيث نتدارس القرآن، وكان الشيخ يستمع الى آرائنا ويعطينا المزيد من المعلومات، ثم يقوم بتوجيهنا، وزودنا ببعض مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب وابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم، كما لاحظت أن الشيخ كان يفسّر لنا الآيات معتمداً على تفسير (في ظلال القرآن) لسيد قطب.
حاولت في هذه الأثناء أن أجتذب أقربائي الى الفكرة الجديدة، الاّ أن معظمهم رفض الأفكار الجديدة، وعندما شكوت الى الشيخ ما اُلاقي منهم - وكنت أتوقع أن يواسيني ويسألني دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة ـ لكنه فاجأني بقوله متمثلا بالآية الكريمة: (إنَّ الذينَ كَفروا سَواءٌ عليهم أأنذرتَهُم أم لَمْ تُنذِرهُم لا يُؤمنونَ)(1).

الانفصام

بدأت سحب الخلاف تظهر بيني وبين الشيخ عندما ناقشته حول بعض الاُمور التي وردت في بعض الكتب التي كان يوصينا بقراءتها.
كان الأمر يتعلق بالدرجة الاولى ببعض المعلومات التاريخية التي وردت فيه، لكنني لاحظت أن الشيخ كان مقتنعاً تماماً بالاُمور التي اعترضت عليها، والمتلخص بتمجيد بني اُمية الذي كان الشيخ متحمساً فيه، بل وكان يمجّد حتى ولاة بني اُمية كالحجاج بن يوسف الثقفي وغيره، حيث اعتبرهم الشيخ من المجاهدين المخلصين للاسلام، واعتبر خلفاء بني اُمية جميعاً اُمراء للمؤمنين بحق، حيث رفعوا راية الاسلام ونشروه في مختلف الأصقاع.
وعلى الرغم من أن تاريخ ابن كثير كان معتمدنا الأول في معلوماتنا التاريخية، الاّ أن الشيخ كان يعترض أحياناً على بعض آراء ابن كثير أيضاً، خصوصاً قوله بتفسيق بعض خلفاء الاُمويين الذين اعتبرهم الشيخ كلهم اُمراء للمؤمنين لا ينبغي ذكرهم الاّ بعبارات الثناء لأنهم قد خدموا الاسلام، وأن كل ما يثار حولهم من شبهات، إنما هي من صنع أعداء الاسلام، وحتى قضية ثورة الحسين بن علي(رضي الله عنه) بدا الشيخ ميالا الى جانب يزيد وتصويب موقفه، وتخطئة موقف الحسين، وكذا حول وقعة (الحرّة)، وأن أهل المدينة قد أخطأوا بخروجهم على إمامهم يزيد بن معاوية، وأن يزيد ليس بمسؤول عما حدث.
وعندما احتججت على الشيخ بخروج معاوية على الخليفة علي بن أبي طالب(رضي الله عنه)، أجابني الشيخ بأن الأمر هنالك مختلف، فمعاوية صحابي جليل، ولم يكن خروجه لغاية دنيوية ولا طلباً للملك، ولكنه كان يريد الاقتصاص من قتلة عثمان الذين كانوا في جيش علي بن أبي طالب الذي رفض تسليمهم لمعاوية.
قلت: هل تنكر أن معاوية وحزبه كانوا بغاة؟
قال: لا، ولكنهم مجتهدون مخطئون، وهم مأجورون على كل حال.
كانت قضية الاجتهاد والتأول في الفقه، الاّ أنها انسحبت على كل الاُمور الاُخرى على ما يبدو، حتى المتضمنة الخروج على طاعة الامام وقتل المسلمين. صار الاتفاق بيني وبين الشيخ أمراً عسيراً، وخفّت حماستي للعمل، فأدلة الشيخ هذه المرة لم تكن مقنعة تماماً، فبادرني بالقول:
يا أخي، إن التاريخ الاسلامي قد تعرض للتزييف والتشويه من قبل أعداء الاسلام، وبخاصة الروافض، فانهم لم يألوا الاسلام شراً، وإذا أردت التحقق من ذلك ومعرفة تاريخ الاسلام على وجهه الصحيح، فعليك بكتاب (العواصم من القواصم) لابن العربي، وسوف يثبت لك هذا الكتاب أن كل ما اُثير حول الصحابة من شبهات لا أساس له من الصحة، ولو كان الكتاب في متناول يدي لأهديتك إياه، ولكنك تستطيع الحصول عليه من المكتبات.

العواصم من القواصم

بحثت عن الكتاب الذي أوصاني الشيخ به في المكتبات حتى عثرت عليه، وقال لي صاحب المكتبة وهو يناولني الكتاب: هذه نسخة جديدة منقحة ومحققة تحقيقاً علمياً بشكل ممتاز.
بدأت بقراءة الكتاب في البيت، وكان مؤلفاً من متن للقاضي ابن العربي(ذكره أبو يحيى اليسع بن حزم وبالغ في تعظيمه وتقريظه وقال: فولي القضاء فمُحِن وجرى في اعراض الامارة فلحق وأصبح تتحرك بآثاره الالسنة، نصب الشيطان عليه شباكه وسكن الادبار حراكه، فأبداه للناس صورة تُذم وسوءة تبلى، لكونه تعلق بأذيال الملك، ولم يجر مجرى العلماء في مجاهرة السلاطين وحربهم، بل داهن، ثم انتقل الى قرطبة معظماً مكرما حتى حوّل الى العدوة فقضى نحبه... قال ابن بشكوال: توفي ابن العربي بالعدوة بفاس في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وفيها أرّخه الحافظ ابن المفضل والقاضي ابن خلكان، وفي تاريخ ابن النجار في نسخة نقلت منها: سنة ست وأربعين، والأول صحيح.)(2).
وهوامش كثيرة للشيخ محب الدين الخطيب ومحمود مهدي الاستانبولي ودار النشر التي تولت طبع الكتاب.
كان الكتاب عبارة عن محاولة من مؤلفه ومحققيه لاضفاء طابع الشرعية على كل المواقف التي اتخذها الصحابة في الفتنة التي وقعت في خلافة عثمان وما بعدها، والاعتذار لهم عن كل ما بدا منهم.
لكن الأمر الذي أثار استغرابي هو أن المؤلف يلقي آراءه من خلال الروايات التي يستشهد بها دون الاشارة الى مصادرها، ودون ذكر أسانيدها كما هو متعارف عليه عند المصنفين القدامى، وذلك ما حاول المحققون وبخاصة محب الدين الخطيب تلافيه بالارجاع الى المصادر والتعليق عليها وتفصيل ما ذكره ابن العربي مجملا. الاّ أن القاضي ابن العربي يحاول فرض آرائه على القارئ ويطالبه بتصديقها دون مناقشة، وكأنه شاهد عيان يروي كل ما جرى على حقيقته، مع اعترافه بأن الفاصلة الزمنية بينه وبين تلك الحوادث هي خمسة قرون، وكما تبين في تاريخ وفاته من ترجمته.
كنت كلما استغرقت في قراءة الكتاب، تبين لي هفواته أكثر فأكثر، فهو يرفض جملة من الأخبار عن بعض الحوادث التاريخية التي هي في حكم المسلّمات عند جمهور المسلمين بكافة طوائفهم، مثل قضية الحوأب وغيرها.
وكانت الهفوة التي أسقطت اعتبار الكتاب في نظري، قول المؤلف:
"وأما معاوية: فعمر ولاّه، وجمع له الشامات كلها، وأمّره عثمان، بل إنما ولاّه أبو بكر الصديق(رضي الله عنه)، لأنه ولّى أخاه يزيد، واستخلفه يزيد، فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له، فتعلق عثمان بعمر وأمّره; فانظروا الى هذه السلسلة ما أوثق عراها..."(3).
ولكن فات ابن العربي انّ السلسلة قد انقطعت بتولي علي بن أبي طالب الخلافة، ولو كان معاوية كما يصفه ابن العربي حقيقة، فلماذا لم يقرّه علي أيضاً تعلقاً بأسلافه، ولماذا أراد إزاحته عن ولاية الشام؟ اليس معنى ذلك ان معاوية قد ارتكب في خلافة عثمان اُموراً استحق عليها العزل؟ نعم، ربما كان معاوية مستقيماً في عهد أبي بكر وعمر، وبخاصة وأن عمر كان شديد الوطأة على ولاته وعمّاله يحاسبهم حساباً عسيراً، فاضطر معاوية للاستقامة خوف العزل، ولكن يبدو أن تساهل عثمان معه قد أطمعه ودفعه الى ارتكاب اُمور غير مشروعة دون خوف من عقاب أو عزل، مما حدا بعلي بن أبي طالب أن يعيد النظر في أمره ويقرر عزله فوراً عن ولاية الشام، إلاّ إذا قلنا أن علياً كان ظالماً لمعاوية دونما سبب وأراد عزله دون وجه حق، ولا أظن أن أحداً يقبل بمثل هذا القول، ولا حتى ابن العربي نفسه.
إلاّ أن عبارة للشيخ محب الدين الخطيب اعجبتني كثيراً وأفادتني فيما بعد، وهي قوله:
ومعيار الأخبار في تاريخ كل اُمة الوثوق من مصادرها، والنظر في ملائمتها لسجايا الأشخاص المنسوبة اليهم، وأخبار التاريخ الاسلامي نقلت عن شهود عيان ذكروها لمن جاءوا بعدهم، وهؤلاء رووها لمن بعدهم. وقد اندس في هؤلاء الرواة اُناس من أصحاب الأغراض زوّروا أخباراً على لسان آخرين وروجوها في الكتب إما تقرباً لبعض أهل الدنيا، أو تعصباً لنزعة يحسبونها من الدين.
ومن مزايا التاريخ الاسلامي -تبعاً لما جرى عليه علماء الحديث- أنه قد تخصص فريق من العلماء في نقد الرواية والرواة، وتمييز الصادقين منهم عن الكذبة، حتى صار ذلك علماً محترماً له قواعد، واُلفت فيه الكتب، ونظمت للرواة معاجم حافلة بالتراجم، فيها التنبيه على مبلغ كل راو من الصدق والتثبت والأمانة في النقل، وإذا كان لبعضهم نزعات حزبية أو مذهبية قد يجنح معها الى الهوى ذكروا ذلك في ترجمته ليكون دارس أخبارهم ملماً بنواحي القوة والضعف من هذه الأخبار. والذين يتهجمون على الكتابة في تاريخ الاسلام وتصنيف الكتب فيه قبل أن يستكملوا العدة لذلك - ولا سيما في نقد الرواة ومعرفة ما حققه العلماء في عدالتهم أو تجريحهم- يقعون في أخطاء كان في إمكانهم أن لا يقعوا فيها لو أنهم استكملوا وسائل العلم بهذه النواحي(4).
عبارة الشيخ الخطيب دفعتني الى التأمل والتساؤل: لماذا أظل معتمداً على آراء الآخرين وأنتظر منهم حلّ مشاكلي الفكرية؟ لماذا لا أبدأ العمل بنفسي وأحقق كتب التراث متبعاً الاُسلوب العلمي في عصر كثرت فيه البحوث والدراسات؟ أن بامكاني حتماً أن استفيد من تجارب الآخرين وبحوثهم واُقارن بين وجهات النظر المختلفة، وبعد أن أستكمل الحد الأدنى المقبول من العدة التي أحتاجها، سوف أبدأ بخوض التجربة بالاتكال على الله بعد الأخذ بالأسباب، فمسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة كما يقال.
المصدر:
1- البقرة: 6.
2- قال الذهبي في تذكرة الحفاظ 4: 1294
3- العواصم من القواصم: 95.
4- العواصم من القواصم: 76 هامش: 66.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.