
أما ابن كثير فألمح الى طرف من القصة - بعد تعديلها- فقال في ترجمته لعبدالله بن مسعود:... ثم قدم الى المدينة فمرض بها، فجاءه عثمان بن عفان عائداً، فيروى أنه قال له: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟
قال: رحمة ربي. قال: ألا آمر لك بطبيب؟ فقال: الطبيب أمرضني.
قال: ألا آمر لك بعطائك - وكان قد تركه سنتين- فقال: لا حاجة لي فيه.
فقال: يكون لبناتك من بعدك. فقال: أتخشى على بناتي الفقر أني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "من قرأ الواقعة كلّ ليلة لم تصبه فاقة أبداً".
وأوصى ابن مسعود الى الزبير بن العوام، فيقال إنه هو الذي صلى عليه ليلا، ثم عاتب عثمان الزبير على ذلك. وقيل بل صلى عليه عثمان، وقيل عمار فالله أعلم(1).
يمكننا أن نلاحظ بكل وضوح لهجة الجفاء التي قابل بها ابن مسعود عثمان بن عفان - رغم محاولة ابن كثير تلطيفها وحذف أجزاء منها- كما أن ادعاء ابن كثير أن ابن مسعود قد ترك عطاءه سنتين أمر غير معقول، وليس له أساس من الصحة، وما الذي يدعوه الى هذا العملكما ويحاول ابن كثير الايحاء بأن ابن مسعود قد مرض بعد مجيئه الى المدينة بشكل طبيعي دون أن يشير الى السبب الحقيقي للمرض، إلاّ أنّ دفن ابن مسعود ليلا وعدم إخبار الخليفة بذلك، ومعاتبة الخليفة للزبير على عدم إخباره تدل على أن ابن مسعود قد رحل الى جوار ربه وهو واجد على عثمان، كما سوف يتضح.
أما البلاذري، فقد أورد تفاصيل القصة بشكل أكثر دقة، فروى عن عباس بن هشام:
"أن عبدالله بن مسعود حين ألقى مفاتيح بيت المال(لأن عثمان عزله عن عمله كخازن لبيت المال في الكوفة) إلى الوليد بن عقبة، قال: من غيَّر، غيَّر الله ما به، ومن بدّل أسخط الله عليه، وما أرى صاحبكم إلاّ وقد غيّر وبدّل. أيعزل مثل سعد بن أبي وقاص ويولّي الوليدوكان يتكلم بكلام لا يدعه
وهو: إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد (صلى الله عليه وآله)، وشرّ الاُمور محدثاتها، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فكتب الوليد الى عثمان بذلك وقال: إنه يعيبك ويطعن عليك. فكتب إليه عثمان يأمره بإشخاصه.
وشيّعه أهل الكوفة; فأوصاهم بتقوى الله ولزوم القرآن; فقالوا له: جُزيت خيراً، فلقد علّمت جاهلنا وثبتّ عالمنا وأقرأتنا القرآن وفقّهتنا في الدين، فنعم أخو الاسلام أنت ونعم الخليل، ثم ودّعوه وانصرفوا.
وقدم ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما رآه قال: ألا أنه قدمت عليكم دُويبة سوء، من تمشِ على طعامه يقيء ويسلح.
فقال ابن مسعود: لستُ كذلك، ولكني صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم بدر ويوم بيعة الرضوان.
ونادت عائشة: أي عثمان، أتقول هذا لصاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم أمر عثمان به فاُخرج من المسجد إخراجاً عنيفاً. وضرب به عبدالله بن زمعة بن الأسود بن المطلب الأرض. ويقال: بل احتمله يحموم غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فدق ضلعه
فقال علي: يا عثمان، أتفعل هذا بصاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقول الوليد بن عقبةفقال: ما بقول الوليد فعلتُ هذا، ولكن وجّهت زبيد بن الصلت الكندي الى الكوفة، فقال له ابن مسعود: إن دم عثمان حلالفقال علي: أحلت من زبيد على غير ثقة...
وقام علي بأمر ابن مسعود حتى أتى به منزله، فأقام ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها الى ناحية من النواحي، وأراد حين برئ الغزو فمنعه من ذلك، وقال له مروان: إن ابن مسعود أفسد عليك العراق، أفتريد أن يفسد عليك الشام؟! فلم يبرح المدينة حتى توفي قبل مقتل عثمان بسنتين...
ولما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه، أتاه عثمان عائداً فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي.
قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربّي. قال: ألا أدعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا آمر لك بعطائك؟ قال: منعتنيه وأنا محتاج اليه، وتعطنيه وأنا مستغن عنه قال: يكون لولدك.
قال: رزقهم على الله. قال: استغفر لي يا أبا عبدالرحمان.
قال: أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقّيوأوصى أن لا يصلي عليه عثمان، فدفن بالبقيع وعثمان لا يعلم، فلمّا علم غضب وقال: سبقتموني به. فقال له عمار بن ياسر: إنه أوصى أن لا تصلي عليه، وقال الزبير:
لأعرّفنك بعد الموت تندبني / وفي حياتي ما زوّدتني زادي
وكان الزبير وصيّ ابن مسعود في ما له وولده، وهو كلّم عثمان في عطائه بعد وفاته حتى أخرجه لولده، وأوصى ابن مسعود أن يصلي عليه عمار بن ياسر، وقوم يزعمون أن عماراً كان وصيّه، ووصيّه الزبير أثبت" (2).
وأورد المسعودي طرفاً من الحوار بين ابن مسعود وعثمان، وفيها قول ابن مسعود له: إنك أمرت بي فوطئ جوفي، فلم أعقل صلاة الظهر ولا العصر، ومنعتني عطائي، وقول عثمان له: فهذا عطاؤك فخذه، قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينه وأنا غني عنه، لا حاجة لي به، فانصرف، فأقام ابن مسعود مغاضباً لعثمان حتى توفي، وصلى عليه عمار بن ياسر، وكان عثمان غائباً فستر أمره.."(3).
فالروايات متظافرة على ضرب عثمان عبدالله بن مسعود ومنعه عطاءه رغم نفي ابن العربي لذلك، وتغيير ابن كثير لألفاظها.
المصادر :
1- البداية والنهاية 7: 163.
2- أنساب الأشراف 6: 146.
3- تاريخ اليعقوبي 2: 170.