لا یکفی الاعتراف بالانتماء الوطنی (المتعدد الأدیان) والمحدد جغرافیاً لکی تصبح المواطنة کاملة، فالمواطن غیر المسلم یمثل فرداً لا یحظى بکامل حقوق المواطنة الحالیة کما کانت تتعامل معه الرؤیة الإسلامیة التاریخیة. وهذا ما احتاج من الشیخ شمس الدین إلى بذل جهود فکریة وفقهیة، اضطر معها للاستعانة بالتطورات الحاصلة فی المناخ الثقافی السنی، والمستندة إلى جذور فی الفقه السیاسی السنی، لیؤصّل حقوق المواطنة لغیر المسلمین فی جهاز الدولة الإسلامیة وخصوصاً لجهة المساواة فی تسلم المناصب الإداریة والسیاسیة.
هذا الرافد ما کان ممکناً لولا تطور معرفی حصل فی بنیة التفکیر عند شمس الدین وهو تغیر ابستمولوجی ما کان لیحصل لولا اطلاعه (الجزئی) على التطور المنهجی القائم فی العلوم الإنسانیة الغربیة، وکان من نتیجة ذلک توصله إلى إمکانیة التفریق بین بنیة الدولة الإسلامیة السلطانیة فی التاریخ، وبنیة الدولة الحدیثة البیروقراطیة والتعاقدیة.
من هنا یأتی نقد شمس الدین للدولة التاریخیة الإسلامیة فی صیغتها التی کانت تتضمن سلطات مطلقة وفردیة للعامل او الموظف الإداری، فی حین أن الصیغة المعاصرة للدولة الإسلامیة کما یتصورها شمس الدین لا تتضمن الصلاحیات نفسها للعامل فی أجهزة الدولة الذی یحمل صلاحیات تنفیذیة فقط، هو مجرد ناقل للقرار ولیس صاحب القرار.(1)
هذا الفهم المعاصر لبیروقراطیة جهاز الدولة والاستعانة بمواد الفقه السیاسی السنی أمّنا النقلة المعرفیة لجواز تسلیم غیر المسلم مناصب فی الدولة الإسلامیة فی إطار المساواة ضمن المواطنة، ولذلک یورد شمس الدین عن الماوردی الشافعی (ت 450 هـ) فی "الأحکام السلطانیة" وأبی یعلى الفراء الحنبلی ( ت 458 هـ ) جواز أن یتولى غیر المسلم وزارة التنفیذ: "ویجوز أن یکون (وزیر التنفیذ) من أهل الذمة وإن لم یجز أن یکون وزیر التفویض منهم".(2)
بقیت المسألة ضمن إطار الدولة الإسلامیة فلم یطوّر شمس الدین هنا رؤیة أکثر مساواتیة لمفهوم المواطنة، إذ بقیت الإشکالیة المطروحةحول عمل غیر المسلم فی دولة المسلمین، لا فی دولة تعاقدیة تمثل قیم الطرفین. ولذلک فالمساواة هی ضمن إطار السلطة التنفیذیة للحکومة التی تهتدی بهدی القیم الإسلامیة العامة، وأجهزة الدولة التی توضع لها سیاسات عامة إسلامیة تمنع على "الکافر" أو غیر المسلم أن یتخذ قرارات شخصیة، وأن یستعلی على المسلمین.(3)
عام 1990 حصل الانتقال الأول من الوحدة السیاسیة للأمة الإسلامیة إلى القبول بالتجزئة السیاسیة ولکن بشرط الحفاظ على المضمون العقائدی للدولة, أی الدولة الإسلامیة. وکان ذلک عبر القبول بنشوء أوطان إسلامیة ودول إسلامیة عدیدة داخل الأمة. وبهذا المعنى تصبح أمة واحدة بالمعنى الثقافی وتنتهی وحدتها السیاسیة کما کان یطالب شمس الدین قبل نحو ثلاث سنوات أو أربع فقط: "فلا بد للحرکات الإسلامیة السنیة من أن تستنبط صیغة فقهیة للدولة الإسلامیة المعاصرة (غیر نظام الخلافة) تصلح للانسجام مع الواقع الدولی الإسلامی ومع الواقع الدولی العام، یمکن فی إطارها إقامة أنظمة إسلامیة فی نطاق وطنی أو قومی یحفظ لکل شعب مسلم کیانه السیاسی الإقلیمی وشخصیته الخاصة فی إطار وحدة الأمة"(4)
بات للمسلم انتماءان: واحد عقائدی، روحی (ثقافی)، وآخر سیاسی لدولة محددة، یحمل جنسیّتها. وهنا بدأت "المواطنة" و"الجنسیة" تأخذان الشرعیة فی الفکر السیاسی الإسلامی من باب التنظیم والتدبیر(5)
جاء تثبیت التجزئة القطریة والقومیة على حساب وحدة الأمة، ولحق به تحوّل آخر بعد فترة صغیرة مماثلة، إذ بقیت القطریة والتجزئة وذهب الشرط السابق وهو إسلامیة الدولة المعاصرة (هویة النظام السیاسی)، فلم یعد هذا أساساً للحفاظ على الهویة (الإسلامیة). أمکن لشمس الدین بدءاً من العام 1993 القبول بدول لها مجتمعات إسلامیة وضمن هذه المجتمعات یمکن أن یکون هناک مجتمعات یشکل فیها المسلمون 95 % من السکان (وما فوق) ولها وضعها الخاص من ناحیة الحکم (الإسلامی)، ومجتمعات (حتى ولو کانت ذات غالبیة إسلامیة) لا تصل إلى نسبة 95% من المسلمین، ولکنها یجب أن تکون مجتمعات متنوعة54، علیها الحفاظ على تنوعها وهذا التنوع هو أحد أبعاد الهویة الذی کان سابقاً یُختزل فی بُُعد واحد هو إسلامیة الدولة والمجتمع.(6)
هکذا تصبح مصر ولبنان مثلین على هذا المجتمع المتنوع الذی فیه مسلمون وغیر مسلمین (مسیحیون). وفی هذه الفترة بالذات ینتقل التفکیر السیاسی للشیخ شمس الدین من فکرة الدولة والحکم الاسلامی المعاصر، الخارج عن الشکل التاریخی للخلافة أو الإمامة، إلى مجتمع المواطنة. هنا بالتحدید یبدأ تبلور فکر سیاسی أقرب إلى النموذج الغربی اللیبرالی, أصبح الوطن الآن انتماءاً فوق دینی، والتنوع فیه أساس هذا الانتماء. تمّ التحول هنا إلى رابطة "الوطنیة" التی تحفظ التنوعات المختلفة. "أنا أقبل بمجتمع متنوع. المجتمع اللبنانی مجتمع متنوع، هذا التنوع یفرض نمطاً معینا ًفی النظام السیاسی، وفی مشروع الدولة، وأنا ألتزم بکل مقتضیات التنوع من منطلق أن الوحدة السیاسیة للمجتمع هی المواطن ولیس الطائفة"(7)
تخلی شمس الدین عن شرط إسلامیة الدولة وقبوله بالتجزئة القطریة والقومیة فی الآن نفسه، فتح الباب أمام شرعیّة الدولة بصیغتها الحدیثة دون شروط باستثناء واحد، هو شرط عام یلتقی فیه مع الفکر اللیبرالی غیر الإسلامی، وهو شرط موافقة الغالبیة الشعبیة واحترام الإرادة الشعبیة فی اختیار النظام السیاسی(8)
سمحت هذه التحولات بالقبول بالمساواة بین المسلمین وغیر المسلمین (المسیحیین) فی المناصب الرسمیة مع استثناء مؤقت، هو منصب رئیس الدولة ، ولسبب سیاسی ما یلبث أن یلغیه لاحقاً.(9)
مع الأخذ بعین الاعتبار النقد الجذری الذی یقدمه شمس الدین للفکر الإسلامی السیاسی، یبدو مفهوم المواطنة على النموذج الغربی هو أساس فکرة الوطن. وتعطى الدولة بنموذجها الغربی، على ید شمس الدین، الشرعیة الکاملة لتجاوز الأفکار السابقة (له وللإسلامیین الآخرین) حول الدولة والحکومة الإسلامیة سواء الموحدة أو المجزأة وتصبح مفردة المجتمع، ومفردة الوطن، ومفردة المواطن، هی الحاضرة بدل الدولة الإسلامیة. إذ یتجاوز تحفظاته السابقة لیرسی قاعدة المساواة فی الحقوق والواجبات بین جمیع المواطنین فی الدولة الحدیثة, وبذلک لا یعود هناک أی مانع من تولی غیر المسلم لأیة وظیفة وتحمّل أیة مسؤولیة فی الدولة الحدیثة. هنا یطوی "الشیخ" صفحة الفقه السیاسی السنی الفاصل بین وزارة التنفیذ ووزارة التفویض باتجاه موقف جدید قائم على مقاربة جدیدة لمسألة الدولة الحدیثة وللمواطنة.(10)
وجهه الأول، إحالة التراکم الفقهی الإسلامی فی موضوع أهل الذمة إلى الشأن التاریخی باعتباره جزءاً من شروط تاریخیة لم تعد موجودة، والتخلص من موجبات النظرة الفقهیة وأحکامها تجاه أهل الکتاب ضمن مفهوم أهل الذمة، باحالتها إلى التقاعد الفکری باعتبار أن هذا النموذج من التعامل الحقوقی والفقهی نتج عن ظروف محددة لها علاقة بالصراع الفکری والسیاسی حینها (تارة مع البیزنطیین وطوراً مع الصلیبیین), وبذلک أبطل مفاعیل أحکام أهل الذمة السابقة(11)
والوجه الثانی، هو الدفاع عن مبدأ فکری وعقائدی إسلامی هو أصل العلاقة مع أهل الکتاب کونهم فی ذمة المسلمین أی کعهدة قانونیة بین فئتین فی مجتمع سیاسی واحد.
والانتقاد الذی نشهده قاسیاً فی الوجه الأول للحکام المسلمین (أمویین وعباسیین وخلفائهم) وللفقهاء أنفسهم بسبب عدم الذمة الفقهیة لأنه لم یرد فی الکتاب ولا فی السنة باستثناء تعبیر "ذمة بیتکم"(12) هذا الانتقاد یتحول إلى دفاع عن روح وجوهر مبدأ "الذمة" فی التاریخ الإسلامی (بغض النظر عن تجلیاته الفقهیة والقانونیة التاریخیة)، إذ یرى فی الدلالة اللغویة للمصطلح ما یشیر إلى الرفعة والکرامة ولیس إلى الدونیة(13).
ومعنى کون المسیحی (والیهودی أیضاً) ذمیاً فهو اعتراف بالتنوع الدینی من خلال الاعتراف بکونه مختلف عقائدیاً وثقافیاً عن المسلمین فی الانتماء الدینی داخل المجتمع المدنی، ولکنه بالمقابل ینتمی إلى المجتمع السیاسی نفسه باعتباره مواطناً مثله مثل المسلم(14)
وفیما یقع اللوم على الحکام المسلمین والتجاوزات التی قاموا بها فی إطار تنزیه التشریعات والعقائد الإسلامیة تجاه أهل الذمة، فإن الشیخ شمس الدین یلوم أیضاً طرفاً خارجیاً هو المستشرقین(15) ، الذین أسبغوا الصفات السلبیة على مفهوم "أهل الذمة" وکرسوها فی الأذهان. والنتیجة النهائیة التی یصل إلیها هی أن الإسلام أرسى حقوق المواطن وأوجد علاقات مواطنة بین سکان الدولة سواء أکانوا مسلمین أم غیر مسلمین و"جعل معنى المواطنة موضوعیاً ودنیویاً وحقوقیاً لا علاقة له بالانتماء الدینی إطلاقاً"(16)
هذا الانقلاب الکامل (وصل الأمر إلى انقلاب مضاد فی الفکر السیاسی عند شمس الدین بحیث صار کثیر من الخطابات الإسلامیة حول العدالة والأمة وشرعیة السلطة مجرد خطابات عامة لا یمکن الرکون الیها فی وقتنا المعاصر دون الدخول فی آلیات عمل واقتراحات تشابه تقنیاً الصیاغات اللیبرالیة الغربیة التی أعجب بها شمس الدین أیما إعجاب: "لا شک أن هذا الکلام فی حدود الشعار هو نظری محض. لذلک لا بد من وجود صیغ لها لحم ودم وشکل لا أن تکون المسألة مجرد خطاب مدیحی، لا ملامح له.
إن ما یجعل الفکر واقعیاً هو هذا، وأنا أقترح، من الناحیة التقنیة، تعلم صیاغة الافکار، کما تصنعها اللیبرالیة الدیموقراطیة وهی ناجحة جداً")(17)على فکرة الدولة الإسلامیة (باستثناء ما یشکل المسلمون 95% من سکانها) یبقى مقیداً بقید کون المجتمع مسلماً (ولیس بالضرورة إسلامیاً) فالهویة المسلمة (وکذلک المسیحیة) یکتمل الانقلاب على الفکر الذی آمن به شمس الدین نفسه قبل سبع سنوات فقط، فلا یعود استناد السلطة إلى الاسلام إلا مجرد شعار عام، بینما کان یرى فیه فی السابق مصدراً لشرعیة الأمة الإسلامیة فی کیانها السیاسی: "فالقول بأن الاسلام هو مصدر شرعیة السلطة، دون تحدید لآلیة اختبار السلطة وکیفیة ذلک یعد نظریاً وتجریدیاً. والأمر نفسه یمکن قوله بالنسبة إلى شعار حاکمیة الله. فهذه المصطلحات المعروفة، لیست سوى عناوین عامة وکلیة لا تنفع فی المقام شیئاً إن لم تقترن بآلیة لتطبیقها" (ص 42).
ظن شمس الدین انه التقط الحل فی موضوع الفقه السیاسی للدولة المعاصرة عبر اعطاء الشرعیة لسلطة دولة ذات حدود جغرافیة من جهة ولشرعیة سلطة نابعة من الأمة وهی الأمة التی تعد الوحدة حول الاسلام کمصدر للشرعیة شرطاً لها، بل باتت امة مجتزأة تتحمل تعدد الاوطان والوحدات السیاسیة المتعددة باعتبار انها أمة بالمعنى الثقافی والروحی.
وکان هذا الحل فی صیغة لها جذورها فی التراث السنی والفقه السیاسی السنی وهی صیغة "ولایة الأمة على نفسها" ولأن شمس الدین بات فی اواسط التسعینات من القرن العشرین (ای فی السنوات العشر الاخیرة من عمره هو) مغرماً بصیاغة الافکار على الطریقة اللیبرالیة عبر اقتراحات وآلیات لها شکل ولحم ودم فإنه وقع فی الاشکال الذی انتقد غیره بشأنه، وهو عدم تحویل صیغته السحریة "ولایة الأمة على نفسها" (ص 45) إلى صیاغات بآلیات لها لحم ودم. وجاهد خلال ما تبقى له من عمر خلال عقده الاخیر، فلم یستطع ان یجترح آلیات محددة وقابلة للتطبیق تؤمن المواطنة والمساواة والعدالة والشرعیة معاً فی إطار "ولایة الأمة على نفسها". فبیقیت شعاراً نظریاً تجریدیاً غیر ناجز التطبیق، وفی المقابل فإن الصیغة الشیعیة الأخرى التی تدعی قابلیتها للتطبیق وتضمنها لولایة الأمة على نفسها من خلال انتخابات ومؤسسات محددة، وهی صیغة "ولایة الفقیه" فقد بقیت الصیغة الإسلامیة الشیعیة الوحیدة التی لها لحم ودم وشکل وآلیات عمل مجربة على مدى 20 عاماً فی حیاة الشیخ شمس الدین وعشرة أعوام بعده، أنها لم تکن صیغة تجریدیة لأنها قائمة بالفعل، ولم تستطع صیغة "ولایة الأمة على نفسها" أن تثبت نفسها فی تجربة سیاسیة، فیما تدّعی صیغة "ولایة الفقیه" انها تضمن مشارکة الأمة فی کثیر من مؤسساتها الدستوریة ورقابتها العامة، ضمن شرعیة ولایة الفقیه أو ما یصطلح علیه داخل إیران "بالدیموقراطیة الدینیة"، غیر الناجزة وإن کانت الواقعیة، رغم أن التجربة الایرانیة ککل التجارب البشریة خاضعة للتجدید والاصلاح والتکیف مع ضرورات الزمن والمصالح العلیا.
إلا أنها فی النهایة تجربة غیر قابلة للنسخ الحرفی فی مجتمعمات مغایرة، لکنها بالتأکید، نموذج قابل للاستفادة منه ومن تجربته الغنیة القادمة من داخل الفقه الشیعی الاسلامی فی زمن محدد.
جاءت بعض الآلیات غیر المکتملة فی اقتراحات قدمها شمس الدین خارج نقاش "ولایة الأمة على نفسها" بل فی تطویرات اخرى على اقتراحات سبق وأن قدمها مفکرون اخرون مثل آیة الله مرتضى مطهری حول المرجعیة الشیعیة وضرورة ادخال التخصص الیها او إنشاء طلبات متخصصة من غیر علماء الدین من خلال خبراء یساندون المجتهدین فی الموضوعات المتعلقة بالتدبیرات ولیس فی الشؤون ذات الطابع العبادی او التعبدی؛ کالأسرة والزواج بل فی موضوعات متغیرة من بینها المسائل العامة و"علاقات المواطنة"(ص 53)
للمجتمع تضع أمامه قیماً خاصة على الدولة أخذها بعین الاعتبار, فقیم المجتمع الإسلامی هی أحد أبعاد الهویة. تصبح الإسلامیة هنا انتماءً ثقافیاً - سوسیولوجیاً، لا ینعکس فی الانتماء السیاسی المباشر للحکم. وتصبح الدولة هنا قائمة على المواطنة والحقوق السیاسیة المتساویة کما فی الدولة الحدیثة. أما مستوى "إسلامیتها" فموجود فی ثنایا القیم والمسلمات الوطنیة أی الهویة التی تشکل مرجعیة عامة للدولة، ولیس بالضرورة فی کل تفاصیل الدستور، وفی شکل الحکم الدینی المباشر.
أدرک شمس الدین فی أواخر سنوات حیاته أن الحل الذی نقدم به حول المواطنة فی إطار دولة إسلامیة، بالاستناد إلى نتائج الاجتهاد السیاسی السنی المعاصر، کان قاصراً عن بلوغ المساواة الحقیقیة کما تقدمها الأنظمة السیاسیة الحدیثة. فکان یجد حاجة إلى أفکار تتجاوز الحدود الاجتهادیة القدیمة، القائمة على خیار وحید وهو إقامة صیغة جدیدة لدولة إسلامیة معاصرة. کانت تجربة الدولة الغربیة التعاقدیة تبدو له ناجحة فی إطار المواطنة وحفظ النظام بالتراضی(18).
وما عاد الفقه السیاسی الإسلامی العائد لفترة أبی حسن الماوردی وذلک العائد للحرکات الإسلامیة المعاصرة کحزب الدعوة ونظیریه السنیین(الاخوان والتحریر) کافیاً لمعالجة المستجدات فی بلاد المسلمین، ومنها مسألة المواطنة.
"مسألة المجتمع، والتنوعات الدینیة داخله التی ولّدت فی الفکر الإسلامی الحدیث مشکلة وتحدیاً، وخصوصاً فیما یخص المواطنة. الوضع الحقوقی للمواطن غیر المسلم، هل هو مواطن أم غیر مواطن؟ وإذا کان کذلک هل یتمتع بالحقوق نفسها التی تستحق لکل مواطن مسلم"(19).
یقدم "الشیخ" إجابة من خارج التفکیر الاسلامی التقلیدی، مکرساً قبول النموذج الغربی بقالب إسلامی فضفاض: "أرید مجتمعاً مدنیاً، ودولة مدنیة بلا دین. (مکوّناً) من مسلمین مخلصین ومسیحیین مخلصین. هذا التنوع." "أنا أقول یوجد مجتمع سیاسی واحد، ویوجد مجتمع أهلی متنوع. یعنی اللبنانی، أو المصری لدیه دینان: دین الله الذی هو دین مسلم أو مسیحی، ودینه السیاسی الذی هو وطنه"(20).
کان ذلک نتیجة تکییفات فقهیة وفکریة أبرزها وضع مسألة الحکم فی مجال الأحکام المتغیرة ولیس الثابتة دینیاً، خصوصاً موضوع المواطنة والمساواة بین المواطنین، بعدما أخرج هذه الموضوعات من مجال "المقدس"، إلى المجال التعاقدی المدنی. وترافق ذلک مع تغیّر فی الرؤیة الاجتهدیةلدیه. (21)
ا لمصادر:
1- شمس الدین، نظام الحکم..، مصدر سابق، ص492.
2- المصدر السابق، الصفحة نفسها 492.
3- انظر النقاش الواسع لشمس الدین حول هذه النقطة فی المصدر السابق: ص491507
4- -شمس الدین، نظام الحکم والادارة..، م. س. ، ط2، ص414.
5- شمس الدین، فی الاجتماع السیاسی الاسلامی، م. س.، ص 138 – 139.
6- شمس الدین. الأمة والدولة والحرکة الإسلامیة، بیروت- منشورات مجلة الغدیر (المجلس الاسلامی الشیعی الاعلى)،ایلول 1944 ص7842. والنص فی الأصل حوار أجرته معه مجلة المنطلق فی شتاء العام 1994.
7- شمس الدین، المصدر السابق، ص 106 – 107.
8- انظر الحوار الذی أجراه فؤاد إبراهیم مع الشیخ شمس الدین فی: فؤاد إبراهیم، الفقیه والدولة – تطور الفقه السیاسی الشیعی، بیروت – دار الکنوز الأدبیة، ط 1998، ص 427 حتى 438.
9- والسبب الذی یورده سجالی – حجاجی ، ومضمونه أنه "حینما ینضج المجتمع الفرنسی لقبول رئیس جمهوریة مسلم، أنا أکون مسروراً بأن یکون رئیس جمهوریة أی دولة عربیة مسیحیاً". شمس الدین، الأمة والدولة. م. س، ص 105.
10- شمس الدین، الحوار الإسلامی المسیحی/ نحو مشروع للنضال المشترک، بیروت ـ مؤسسة الإمام شمس الدین للحوار، ط2004، ص143 ـ 144.
11- شمس الدین، الحوار الإسلامی المسیحی، م.س، ص57، (الموقف جاء فی مقابلة لصحیفة النهار عام 1997).
12- المصدر السابق، الصفحة نفسها.
13- شمس البدین، المصدر السابق، ص141. (والموقف هذا صدر العام 2000).
14- المصدر السابق نفسه.
15- المصدر السابق، ص140.
16- المصدر نفسه، ص59.
17- - شمس الدین، الأمة والدولة والحرکة الإسلامیة، ، ص47
18- شمس الدین، الأمة والدولة والحرکة الإسلامیة، م. س.، ص31.
19- المصدر نفسه، ص52.
20- المصدر نفسه، ص 107.
21- المصدر نفسه، ص 52 – 61.
هذا الرافد ما کان ممکناً لولا تطور معرفی حصل فی بنیة التفکیر عند شمس الدین وهو تغیر ابستمولوجی ما کان لیحصل لولا اطلاعه (الجزئی) على التطور المنهجی القائم فی العلوم الإنسانیة الغربیة، وکان من نتیجة ذلک توصله إلى إمکانیة التفریق بین بنیة الدولة الإسلامیة السلطانیة فی التاریخ، وبنیة الدولة الحدیثة البیروقراطیة والتعاقدیة.
من هنا یأتی نقد شمس الدین للدولة التاریخیة الإسلامیة فی صیغتها التی کانت تتضمن سلطات مطلقة وفردیة للعامل او الموظف الإداری، فی حین أن الصیغة المعاصرة للدولة الإسلامیة کما یتصورها شمس الدین لا تتضمن الصلاحیات نفسها للعامل فی أجهزة الدولة الذی یحمل صلاحیات تنفیذیة فقط، هو مجرد ناقل للقرار ولیس صاحب القرار.(1)
هذا الفهم المعاصر لبیروقراطیة جهاز الدولة والاستعانة بمواد الفقه السیاسی السنی أمّنا النقلة المعرفیة لجواز تسلیم غیر المسلم مناصب فی الدولة الإسلامیة فی إطار المساواة ضمن المواطنة، ولذلک یورد شمس الدین عن الماوردی الشافعی (ت 450 هـ) فی "الأحکام السلطانیة" وأبی یعلى الفراء الحنبلی ( ت 458 هـ ) جواز أن یتولى غیر المسلم وزارة التنفیذ: "ویجوز أن یکون (وزیر التنفیذ) من أهل الذمة وإن لم یجز أن یکون وزیر التفویض منهم".(2)
بقیت المسألة ضمن إطار الدولة الإسلامیة فلم یطوّر شمس الدین هنا رؤیة أکثر مساواتیة لمفهوم المواطنة، إذ بقیت الإشکالیة المطروحةحول عمل غیر المسلم فی دولة المسلمین، لا فی دولة تعاقدیة تمثل قیم الطرفین. ولذلک فالمساواة هی ضمن إطار السلطة التنفیذیة للحکومة التی تهتدی بهدی القیم الإسلامیة العامة، وأجهزة الدولة التی توضع لها سیاسات عامة إسلامیة تمنع على "الکافر" أو غیر المسلم أن یتخذ قرارات شخصیة، وأن یستعلی على المسلمین.(3)
نحو مواطنة أکثر وضوحاً
لم یحصل الانتقال من مفهوم الأمة الإسلامیة الموحدة سیاسیاً فی مشروع ما أو کیان سیاسی ما (وهی رؤیة کانت توحّد بین الوطن والأمة عبر الرابطة الدینیة فی کیان سیاسی) إلى مفهوم الوطن المتنوع المفصول فیه الانتماء السیاسی عن الانتماء الدینی، دفعة واحدة, ثمة مراحل متدرجة فی الخطاب السیاسی للشیخ شمس الدین قبل الوصول إلى نتیجة یمکن تسمیتها "مدنیة" الدولة والوطن.عام 1990 حصل الانتقال الأول من الوحدة السیاسیة للأمة الإسلامیة إلى القبول بالتجزئة السیاسیة ولکن بشرط الحفاظ على المضمون العقائدی للدولة, أی الدولة الإسلامیة. وکان ذلک عبر القبول بنشوء أوطان إسلامیة ودول إسلامیة عدیدة داخل الأمة. وبهذا المعنى تصبح أمة واحدة بالمعنى الثقافی وتنتهی وحدتها السیاسیة کما کان یطالب شمس الدین قبل نحو ثلاث سنوات أو أربع فقط: "فلا بد للحرکات الإسلامیة السنیة من أن تستنبط صیغة فقهیة للدولة الإسلامیة المعاصرة (غیر نظام الخلافة) تصلح للانسجام مع الواقع الدولی الإسلامی ومع الواقع الدولی العام، یمکن فی إطارها إقامة أنظمة إسلامیة فی نطاق وطنی أو قومی یحفظ لکل شعب مسلم کیانه السیاسی الإقلیمی وشخصیته الخاصة فی إطار وحدة الأمة"(4)
بات للمسلم انتماءان: واحد عقائدی، روحی (ثقافی)، وآخر سیاسی لدولة محددة، یحمل جنسیّتها. وهنا بدأت "المواطنة" و"الجنسیة" تأخذان الشرعیة فی الفکر السیاسی الإسلامی من باب التنظیم والتدبیر(5)
جاء تثبیت التجزئة القطریة والقومیة على حساب وحدة الأمة، ولحق به تحوّل آخر بعد فترة صغیرة مماثلة، إذ بقیت القطریة والتجزئة وذهب الشرط السابق وهو إسلامیة الدولة المعاصرة (هویة النظام السیاسی)، فلم یعد هذا أساساً للحفاظ على الهویة (الإسلامیة). أمکن لشمس الدین بدءاً من العام 1993 القبول بدول لها مجتمعات إسلامیة وضمن هذه المجتمعات یمکن أن یکون هناک مجتمعات یشکل فیها المسلمون 95 % من السکان (وما فوق) ولها وضعها الخاص من ناحیة الحکم (الإسلامی)، ومجتمعات (حتى ولو کانت ذات غالبیة إسلامیة) لا تصل إلى نسبة 95% من المسلمین، ولکنها یجب أن تکون مجتمعات متنوعة54، علیها الحفاظ على تنوعها وهذا التنوع هو أحد أبعاد الهویة الذی کان سابقاً یُختزل فی بُُعد واحد هو إسلامیة الدولة والمجتمع.(6)
هکذا تصبح مصر ولبنان مثلین على هذا المجتمع المتنوع الذی فیه مسلمون وغیر مسلمین (مسیحیون). وفی هذه الفترة بالذات ینتقل التفکیر السیاسی للشیخ شمس الدین من فکرة الدولة والحکم الاسلامی المعاصر، الخارج عن الشکل التاریخی للخلافة أو الإمامة، إلى مجتمع المواطنة. هنا بالتحدید یبدأ تبلور فکر سیاسی أقرب إلى النموذج الغربی اللیبرالی, أصبح الوطن الآن انتماءاً فوق دینی، والتنوع فیه أساس هذا الانتماء. تمّ التحول هنا إلى رابطة "الوطنیة" التی تحفظ التنوعات المختلفة. "أنا أقبل بمجتمع متنوع. المجتمع اللبنانی مجتمع متنوع، هذا التنوع یفرض نمطاً معینا ًفی النظام السیاسی، وفی مشروع الدولة، وأنا ألتزم بکل مقتضیات التنوع من منطلق أن الوحدة السیاسیة للمجتمع هی المواطن ولیس الطائفة"(7)
تخلی شمس الدین عن شرط إسلامیة الدولة وقبوله بالتجزئة القطریة والقومیة فی الآن نفسه، فتح الباب أمام شرعیّة الدولة بصیغتها الحدیثة دون شروط باستثناء واحد، هو شرط عام یلتقی فیه مع الفکر اللیبرالی غیر الإسلامی، وهو شرط موافقة الغالبیة الشعبیة واحترام الإرادة الشعبیة فی اختیار النظام السیاسی(8)
سمحت هذه التحولات بالقبول بالمساواة بین المسلمین وغیر المسلمین (المسیحیین) فی المناصب الرسمیة مع استثناء مؤقت، هو منصب رئیس الدولة ، ولسبب سیاسی ما یلبث أن یلغیه لاحقاً.(9)
مع الأخذ بعین الاعتبار النقد الجذری الذی یقدمه شمس الدین للفکر الإسلامی السیاسی، یبدو مفهوم المواطنة على النموذج الغربی هو أساس فکرة الوطن. وتعطى الدولة بنموذجها الغربی، على ید شمس الدین، الشرعیة الکاملة لتجاوز الأفکار السابقة (له وللإسلامیین الآخرین) حول الدولة والحکومة الإسلامیة سواء الموحدة أو المجزأة وتصبح مفردة المجتمع، ومفردة الوطن، ومفردة المواطن، هی الحاضرة بدل الدولة الإسلامیة. إذ یتجاوز تحفظاته السابقة لیرسی قاعدة المساواة فی الحقوق والواجبات بین جمیع المواطنین فی الدولة الحدیثة, وبذلک لا یعود هناک أی مانع من تولی غیر المسلم لأیة وظیفة وتحمّل أیة مسؤولیة فی الدولة الحدیثة. هنا یطوی "الشیخ" صفحة الفقه السیاسی السنی الفاصل بین وزارة التنفیذ ووزارة التفویض باتجاه موقف جدید قائم على مقاربة جدیدة لمسألة الدولة الحدیثة وللمواطنة.(10)
مفهوم أهل الذمة
یتوقف الفقیه اللبنانی عند مصطلح "أهل الذمة" فی أکثر من مورد بحثی وکلامی متخذاً منه موقفاً مزدوجاً:وجهه الأول، إحالة التراکم الفقهی الإسلامی فی موضوع أهل الذمة إلى الشأن التاریخی باعتباره جزءاً من شروط تاریخیة لم تعد موجودة، والتخلص من موجبات النظرة الفقهیة وأحکامها تجاه أهل الکتاب ضمن مفهوم أهل الذمة، باحالتها إلى التقاعد الفکری باعتبار أن هذا النموذج من التعامل الحقوقی والفقهی نتج عن ظروف محددة لها علاقة بالصراع الفکری والسیاسی حینها (تارة مع البیزنطیین وطوراً مع الصلیبیین), وبذلک أبطل مفاعیل أحکام أهل الذمة السابقة(11)
والوجه الثانی، هو الدفاع عن مبدأ فکری وعقائدی إسلامی هو أصل العلاقة مع أهل الکتاب کونهم فی ذمة المسلمین أی کعهدة قانونیة بین فئتین فی مجتمع سیاسی واحد.
والانتقاد الذی نشهده قاسیاً فی الوجه الأول للحکام المسلمین (أمویین وعباسیین وخلفائهم) وللفقهاء أنفسهم بسبب عدم الذمة الفقهیة لأنه لم یرد فی الکتاب ولا فی السنة باستثناء تعبیر "ذمة بیتکم"(12) هذا الانتقاد یتحول إلى دفاع عن روح وجوهر مبدأ "الذمة" فی التاریخ الإسلامی (بغض النظر عن تجلیاته الفقهیة والقانونیة التاریخیة)، إذ یرى فی الدلالة اللغویة للمصطلح ما یشیر إلى الرفعة والکرامة ولیس إلى الدونیة(13).
ومعنى کون المسیحی (والیهودی أیضاً) ذمیاً فهو اعتراف بالتنوع الدینی من خلال الاعتراف بکونه مختلف عقائدیاً وثقافیاً عن المسلمین فی الانتماء الدینی داخل المجتمع المدنی، ولکنه بالمقابل ینتمی إلى المجتمع السیاسی نفسه باعتباره مواطناً مثله مثل المسلم(14)
وفیما یقع اللوم على الحکام المسلمین والتجاوزات التی قاموا بها فی إطار تنزیه التشریعات والعقائد الإسلامیة تجاه أهل الذمة، فإن الشیخ شمس الدین یلوم أیضاً طرفاً خارجیاً هو المستشرقین(15) ، الذین أسبغوا الصفات السلبیة على مفهوم "أهل الذمة" وکرسوها فی الأذهان. والنتیجة النهائیة التی یصل إلیها هی أن الإسلام أرسى حقوق المواطن وأوجد علاقات مواطنة بین سکان الدولة سواء أکانوا مسلمین أم غیر مسلمین و"جعل معنى المواطنة موضوعیاً ودنیویاً وحقوقیاً لا علاقة له بالانتماء الدینی إطلاقاً"(16)
هذا الانقلاب الکامل (وصل الأمر إلى انقلاب مضاد فی الفکر السیاسی عند شمس الدین بحیث صار کثیر من الخطابات الإسلامیة حول العدالة والأمة وشرعیة السلطة مجرد خطابات عامة لا یمکن الرکون الیها فی وقتنا المعاصر دون الدخول فی آلیات عمل واقتراحات تشابه تقنیاً الصیاغات اللیبرالیة الغربیة التی أعجب بها شمس الدین أیما إعجاب: "لا شک أن هذا الکلام فی حدود الشعار هو نظری محض. لذلک لا بد من وجود صیغ لها لحم ودم وشکل لا أن تکون المسألة مجرد خطاب مدیحی، لا ملامح له.
إن ما یجعل الفکر واقعیاً هو هذا، وأنا أقترح، من الناحیة التقنیة، تعلم صیاغة الافکار، کما تصنعها اللیبرالیة الدیموقراطیة وهی ناجحة جداً")(17)على فکرة الدولة الإسلامیة (باستثناء ما یشکل المسلمون 95% من سکانها) یبقى مقیداً بقید کون المجتمع مسلماً (ولیس بالضرورة إسلامیاً) فالهویة المسلمة (وکذلک المسیحیة) یکتمل الانقلاب على الفکر الذی آمن به شمس الدین نفسه قبل سبع سنوات فقط، فلا یعود استناد السلطة إلى الاسلام إلا مجرد شعار عام، بینما کان یرى فیه فی السابق مصدراً لشرعیة الأمة الإسلامیة فی کیانها السیاسی: "فالقول بأن الاسلام هو مصدر شرعیة السلطة، دون تحدید لآلیة اختبار السلطة وکیفیة ذلک یعد نظریاً وتجریدیاً. والأمر نفسه یمکن قوله بالنسبة إلى شعار حاکمیة الله. فهذه المصطلحات المعروفة، لیست سوى عناوین عامة وکلیة لا تنفع فی المقام شیئاً إن لم تقترن بآلیة لتطبیقها" (ص 42).
ظن شمس الدین انه التقط الحل فی موضوع الفقه السیاسی للدولة المعاصرة عبر اعطاء الشرعیة لسلطة دولة ذات حدود جغرافیة من جهة ولشرعیة سلطة نابعة من الأمة وهی الأمة التی تعد الوحدة حول الاسلام کمصدر للشرعیة شرطاً لها، بل باتت امة مجتزأة تتحمل تعدد الاوطان والوحدات السیاسیة المتعددة باعتبار انها أمة بالمعنى الثقافی والروحی.
وکان هذا الحل فی صیغة لها جذورها فی التراث السنی والفقه السیاسی السنی وهی صیغة "ولایة الأمة على نفسها" ولأن شمس الدین بات فی اواسط التسعینات من القرن العشرین (ای فی السنوات العشر الاخیرة من عمره هو) مغرماً بصیاغة الافکار على الطریقة اللیبرالیة عبر اقتراحات وآلیات لها شکل ولحم ودم فإنه وقع فی الاشکال الذی انتقد غیره بشأنه، وهو عدم تحویل صیغته السحریة "ولایة الأمة على نفسها" (ص 45) إلى صیاغات بآلیات لها لحم ودم. وجاهد خلال ما تبقى له من عمر خلال عقده الاخیر، فلم یستطع ان یجترح آلیات محددة وقابلة للتطبیق تؤمن المواطنة والمساواة والعدالة والشرعیة معاً فی إطار "ولایة الأمة على نفسها". فبیقیت شعاراً نظریاً تجریدیاً غیر ناجز التطبیق، وفی المقابل فإن الصیغة الشیعیة الأخرى التی تدعی قابلیتها للتطبیق وتضمنها لولایة الأمة على نفسها من خلال انتخابات ومؤسسات محددة، وهی صیغة "ولایة الفقیه" فقد بقیت الصیغة الإسلامیة الشیعیة الوحیدة التی لها لحم ودم وشکل وآلیات عمل مجربة على مدى 20 عاماً فی حیاة الشیخ شمس الدین وعشرة أعوام بعده، أنها لم تکن صیغة تجریدیة لأنها قائمة بالفعل، ولم تستطع صیغة "ولایة الأمة على نفسها" أن تثبت نفسها فی تجربة سیاسیة، فیما تدّعی صیغة "ولایة الفقیه" انها تضمن مشارکة الأمة فی کثیر من مؤسساتها الدستوریة ورقابتها العامة، ضمن شرعیة ولایة الفقیه أو ما یصطلح علیه داخل إیران "بالدیموقراطیة الدینیة"، غیر الناجزة وإن کانت الواقعیة، رغم أن التجربة الایرانیة ککل التجارب البشریة خاضعة للتجدید والاصلاح والتکیف مع ضرورات الزمن والمصالح العلیا.
إلا أنها فی النهایة تجربة غیر قابلة للنسخ الحرفی فی مجتمعمات مغایرة، لکنها بالتأکید، نموذج قابل للاستفادة منه ومن تجربته الغنیة القادمة من داخل الفقه الشیعی الاسلامی فی زمن محدد.
جاءت بعض الآلیات غیر المکتملة فی اقتراحات قدمها شمس الدین خارج نقاش "ولایة الأمة على نفسها" بل فی تطویرات اخرى على اقتراحات سبق وأن قدمها مفکرون اخرون مثل آیة الله مرتضى مطهری حول المرجعیة الشیعیة وضرورة ادخال التخصص الیها او إنشاء طلبات متخصصة من غیر علماء الدین من خلال خبراء یساندون المجتهدین فی الموضوعات المتعلقة بالتدبیرات ولیس فی الشؤون ذات الطابع العبادی او التعبدی؛ کالأسرة والزواج بل فی موضوعات متغیرة من بینها المسائل العامة و"علاقات المواطنة"(ص 53)
للمجتمع تضع أمامه قیماً خاصة على الدولة أخذها بعین الاعتبار, فقیم المجتمع الإسلامی هی أحد أبعاد الهویة. تصبح الإسلامیة هنا انتماءً ثقافیاً - سوسیولوجیاً، لا ینعکس فی الانتماء السیاسی المباشر للحکم. وتصبح الدولة هنا قائمة على المواطنة والحقوق السیاسیة المتساویة کما فی الدولة الحدیثة. أما مستوى "إسلامیتها" فموجود فی ثنایا القیم والمسلمات الوطنیة أی الهویة التی تشکل مرجعیة عامة للدولة، ولیس بالضرورة فی کل تفاصیل الدستور، وفی شکل الحکم الدینی المباشر.
أدرک شمس الدین فی أواخر سنوات حیاته أن الحل الذی نقدم به حول المواطنة فی إطار دولة إسلامیة، بالاستناد إلى نتائج الاجتهاد السیاسی السنی المعاصر، کان قاصراً عن بلوغ المساواة الحقیقیة کما تقدمها الأنظمة السیاسیة الحدیثة. فکان یجد حاجة إلى أفکار تتجاوز الحدود الاجتهادیة القدیمة، القائمة على خیار وحید وهو إقامة صیغة جدیدة لدولة إسلامیة معاصرة. کانت تجربة الدولة الغربیة التعاقدیة تبدو له ناجحة فی إطار المواطنة وحفظ النظام بالتراضی(18).
وما عاد الفقه السیاسی الإسلامی العائد لفترة أبی حسن الماوردی وذلک العائد للحرکات الإسلامیة المعاصرة کحزب الدعوة ونظیریه السنیین(الاخوان والتحریر) کافیاً لمعالجة المستجدات فی بلاد المسلمین، ومنها مسألة المواطنة.
"مسألة المجتمع، والتنوعات الدینیة داخله التی ولّدت فی الفکر الإسلامی الحدیث مشکلة وتحدیاً، وخصوصاً فیما یخص المواطنة. الوضع الحقوقی للمواطن غیر المسلم، هل هو مواطن أم غیر مواطن؟ وإذا کان کذلک هل یتمتع بالحقوق نفسها التی تستحق لکل مواطن مسلم"(19).
یقدم "الشیخ" إجابة من خارج التفکیر الاسلامی التقلیدی، مکرساً قبول النموذج الغربی بقالب إسلامی فضفاض: "أرید مجتمعاً مدنیاً، ودولة مدنیة بلا دین. (مکوّناً) من مسلمین مخلصین ومسیحیین مخلصین. هذا التنوع." "أنا أقول یوجد مجتمع سیاسی واحد، ویوجد مجتمع أهلی متنوع. یعنی اللبنانی، أو المصری لدیه دینان: دین الله الذی هو دین مسلم أو مسیحی، ودینه السیاسی الذی هو وطنه"(20).
کان ذلک نتیجة تکییفات فقهیة وفکریة أبرزها وضع مسألة الحکم فی مجال الأحکام المتغیرة ولیس الثابتة دینیاً، خصوصاً موضوع المواطنة والمساواة بین المواطنین، بعدما أخرج هذه الموضوعات من مجال "المقدس"، إلى المجال التعاقدی المدنی. وترافق ذلک مع تغیّر فی الرؤیة الاجتهدیةلدیه. (21)
ا لمصادر:
1- شمس الدین، نظام الحکم..، مصدر سابق، ص492.
2- المصدر السابق، الصفحة نفسها 492.
3- انظر النقاش الواسع لشمس الدین حول هذه النقطة فی المصدر السابق: ص491507
4- -شمس الدین، نظام الحکم والادارة..، م. س. ، ط2، ص414.
5- شمس الدین، فی الاجتماع السیاسی الاسلامی، م. س.، ص 138 – 139.
6- شمس الدین. الأمة والدولة والحرکة الإسلامیة، بیروت- منشورات مجلة الغدیر (المجلس الاسلامی الشیعی الاعلى)،ایلول 1944 ص7842. والنص فی الأصل حوار أجرته معه مجلة المنطلق فی شتاء العام 1994.
7- شمس الدین، المصدر السابق، ص 106 – 107.
8- انظر الحوار الذی أجراه فؤاد إبراهیم مع الشیخ شمس الدین فی: فؤاد إبراهیم، الفقیه والدولة – تطور الفقه السیاسی الشیعی، بیروت – دار الکنوز الأدبیة، ط 1998، ص 427 حتى 438.
9- والسبب الذی یورده سجالی – حجاجی ، ومضمونه أنه "حینما ینضج المجتمع الفرنسی لقبول رئیس جمهوریة مسلم، أنا أکون مسروراً بأن یکون رئیس جمهوریة أی دولة عربیة مسیحیاً". شمس الدین، الأمة والدولة. م. س، ص 105.
10- شمس الدین، الحوار الإسلامی المسیحی/ نحو مشروع للنضال المشترک، بیروت ـ مؤسسة الإمام شمس الدین للحوار، ط2004، ص143 ـ 144.
11- شمس الدین، الحوار الإسلامی المسیحی، م.س، ص57، (الموقف جاء فی مقابلة لصحیفة النهار عام 1997).
12- المصدر السابق، الصفحة نفسها.
13- شمس البدین، المصدر السابق، ص141. (والموقف هذا صدر العام 2000).
14- المصدر السابق نفسه.
15- المصدر السابق، ص140.
16- المصدر نفسه، ص59.
17- - شمس الدین، الأمة والدولة والحرکة الإسلامیة، ، ص47
18- شمس الدین، الأمة والدولة والحرکة الإسلامیة، م. س.، ص31.
19- المصدر نفسه، ص52.
20- المصدر نفسه، ص 107.
21- المصدر نفسه، ص 52 – 61.