

کانت المنافرة بین هاشم بن عبد مناف بن قصی ، وبین ابن أخیه أمیة بن عبد شمس بن عبد مناف ، وسببها أن هاشماً کانت إلیه الرفادة مع السقایة ، وذلک أنّ أخاه عبد شمس کان یسافر وکان یقیم بمکة ، وکان رجلاً مقلاً وله ولد کثیر ، فاصطلحت قریش على أن یلی هاشم السقایة والرفادة ، وکان هاشم رجلاً موسراً ، وکان إذا حضر موسم الحج قام فی قریش فقال :
یا معشر قریش إنّکم جیران الله وأهل بیته ، وإنّکم یأتیکم فی هذا الموسم زوّار الله یعظمون حرمة بیته ، وهم ضیوف الله ، وأحق المضیّف بالکرامة ضیفه ، وقد خصّکم الله بذلک وأکرمکم به ، حفظه منکم أفضل ما حفظ جار من جاره ، فأکرموا ضیفه وزوّاره ، فإنّهم یأتون شعثاً غُبراً من کلّ بلد على ضوامر کالقداح ، وقد أزحفوا وتفلوا وقملوا ، فأقروهم وأنموهم وأعینوهم.
وکانت قریش ترافد على ذلک ، حتى أن کان أهل البیت یرسلون الیسیر على قدرهم ، فیضمّه هاشم إلى ما أخرج من ماله وما جمع مما یأتیه به الناس فإن عجز کمّله ، وکان هاشم یخرج فی کلّ سنة مالاً کثیراً ، وکان قوم من قریش یترافدون فکانوا أهل یسار ، فکان کلّ إنسان منهم ربما أرسل بمائة مثقال هرقلیة.(1)
وکان هاشم یأمر بحیاض من أدُم فتجعل فی موضع زمزم ـ من قبل أن تحفر زمزم ـ ثم یستقی فیها من البئار التی بمکة فیشرب الحاج ، وکان أوّل ما یطعمهم قبل الترویة بیوم بمکة ، ویطعمهم بمنى وبعرفة وبجمع ، فکان یثرد لهم الخبز ، واللحم والخبز والسمن ، والسویق والتمر ، ویحمل لهم الماء حتى یتفرق الناس لبلادهم ، وکان هاشم یسمّى عمرواً ، وإنّما قیل له هاشم لهشمه الثرید بمکة ، وفیه یقول مادحه :
عمرو العلا هشم الثرید لقومه / ورجال مکة مسنتون عجاف
وکان أمیة بن عبد شمس ذا مال ، فتکلّف أن یفعل کما فعل هاشم من إطعام قریش فعجز عن ذلک ، فشمت به ناس من قریش وعابوه ، فغضب ونافر هاشماً على خمسین ناقة سود الحدق تنحر بمکة ، وعلى جلاء عشر سنین ، وجعلا بینهما الکاهن الخزاعی ـ جد عمرو بن الحمق ـ وکان منزله عسفان ، وخرج مع أمیة أبو همهمة حبیب بن عامر بن عمیرة بن ودیعة بن الحارث بن فهر بن مالک الفهری.
فقال الکاهن : والقمر الباهر ، والکوکب الزاهر ، والغمام الماطر ، وما بالجو من طائر ، وما اهتدی بعَلَم مسافر ، من مُنجد وغائر ، لقد سبق هاشمُ أمیة إلى المآثر ، أوّل منه وآخر ، وأبو همهمة بذلک خابر.
وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر ، وخرج أمیة إلى الشام فأقام بها عشر سنین (2).
قال العقّاد : فکان هذا أوّل عداوة وقعت فی بنی هاشم وبنی أمیة.
أقول : وتجد حدیث هذه المنافرة فی جملة من المصادر التاریخیة منها المنمّق لمحمد بن حبیب (3) ، ثم قال ابن حبیب :
ومن ثم یقال : انّ أمیة استلحق أبا عمرو ابنه ، وهو ذکوان وهو رجل من أهل صفوریة ، فخلف أبو عمرو على امرأة أبیه بعده ، فأولدها أمیة وهو أبو معیط ، ویقال : استلحق ذکوان أیضاً أبان.
أقول : وما ذکره ابن حبیب منسوباً إلى القیل ، فقد ذکره المقریزی فی النزاع والتخاصم (4) کحقیقة ثابتة وبما هو أقبح من ذلک ، حیث قال : وصنع أمیة فی الجاهلیة شیئاً لم یصنعه أحد من العرب ، زوّج ابنه أبا عمرو بن أمیة امرأته فی حیاة منه ، والمقتیون فی الاسلام هم الّذین أولدوا نساء آبائهم واستنکحوهن من بعد موتهم ، وأما أن تزوجها فی حیاته ویبنى علیها وهو یراه ، فإنّ هذا لم یکن قط (5) ، وأمیة جاوز هذا المعنى ولم یرض بهذا المقدار حتى نزل عن ماله وزوّجها منه ثم قال : وأبو معیط بن أبی عمرو بن أمیة قد زاد فی المقت درجتین ، یشیر إلى ما مرّ عن ابن حبیب.
قال المقریزی فی النزاع والتخاصم (6) : ولم یکن أمیة فی نفسه هناک ، وإنما یرفعه أبوه وبنوه ، وکان مضعوفاً ، وکان صاحب عهار ، یدل على ذلک قول نفیل بن عبد العزى جد أمیر المؤمنین عمر بن الخطاب حین تنافر حرب بن أمیة وعبد المطلب بن هاشم ، فنفر عبد المطلب ، وتعجب من اقدامه علیه وقال :
أبوک معاهر وأبوه عفّ / وذاد الفیل عن بلد الحرام
وذلک أنّ أمیة کان تعرض لامرأة من بنی زهرة ، فضربه رجل منهم ضربة بالسیف ، وأراد بنو أمیة ومن تابعهم إخراج بنی زهرة من مکة ، فقام دونهم قیس بن عدی السهمی وکانوا أخواله ، وکان منیع الجانب ، شدید العارضة ، حمیّ الأنف ، أبیّ النفس ، فقام دونهم وقال : ( أصبح لیل ) فذهبت مثلاً ، ونادى : ( ألا إنّ الظاعن مقیم ) ففی هذه القصة یقول وهب بن عبد مناف بن زهرة :
مهلاً أمیّ فإنّ البغی مهلکة / لا یکسبنّک یومٌ شرّه ذکر
تبدو کواکبه والشمس طالعة / یصبّ فی الکأس منه الصاب والمقر
أقول : فهذا أمیة والد حرب ، وکان کأبیه فقد حسد عبد المطلب بن هاشم على مآثره ، فنافره إلى نفیل بن عبد العزّى جد عمر بن الخطاب ، فقال حین تنافرا إلیه وقد عجب من اقدام حرب على منافرة عبد المطلب .
ثم قال له : یا أبا عمرو أتنافر رجلاً هو أطول منک قامة ، وأعظم منک هامة ، وأوسم منک وسامة ، وأقلّ منک لامة ، وأکثر منک ولداً ، وأجزل منک صفداً ـ عطاءً _. وحدیث هذه المنافرة فی المحبّر والمنمّق وغیرهما فلیرجع إلیهما طالبها (7).
هذا هو حرب الذی زعموا أنّ علیاً أحب اسمه فأراد أن یکتنی به ، فهل نسی علیّ علیهالسلام أنّه الذی نافر جدیه هاشم وعبد المطلب فحکم لهما المحکمون ، وأخزوه حتى أجلی عن مکة إلى الشام ، فأقام بها عشر سنین ؟
ثم هل أنّ علیاً نسی أنّ حرب هو والد أبی سفیان رأس الکفر والشقاق ، والذی کان زندیقاً (8) کما یقول عنه المؤرّخون ، ویکفی فی خزایته ، مواقفه بدءاً من بدء الدعوة ومروراً بحروب بدر وأحد والأحزاب ، وأخیراً بفتح مکة ؟
ثم هل نسی علیّ أنّ حرب هو والد أم جمیل ـ وهی حمالة الحطب ـ التی کانت تؤذی النبی صلىاللهعلیهوآلهوسلم حتى نزلت سورة فی ذمها وذم زوجها ، فقال تعالى :
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِیمِ * تَبَّتْ یَدَا أَبِی لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا کَسَبَ * سَیَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ * فِی جِیدِهَا حَبْلٌ مِن مَّسَدٍ ) (9)
فهل یُعقل أنّ علیاً لا یعرف مَن هو حرب ؟ ومن هم آباء حرب ؟ ومن هم أبناء حرب حتى یغرم باسم حرب ؟
والآن بعد هذا الخطو السریع فی رحاب التاریخ ، فهل رأینا من دافعٍ أو شافع مغرٍ یحمل علیاً على التهالک فی تسمیة أبنائه ( بحرب ) ؟
هل کانت بین البیتین فی میزان التفاضل موازنة صحیحة ، فی منکب أو موکب یتساوى فیها رجال البیتین ؟ هل کانت لدى المقارنة بین رجال الحییّن مساواة فی حول أو طول ؟ ثم ألیس هو القائل فی هذا المضمار رداً على معاویة حفید حرب :
وأما قولک : إنّا بنو عبد مناف فکذلک نحن ، ولکن لیس أمیة کهاشم ، ولا حرب کعبد المطلب ، ولا أبو سفیان کأبی طالب ، ولا المهاجر کالطلیق ، ولا الصریح کاللصیق ، ولا المحق کالمبطل ، ولا المؤمن کالمدغل ، ولبئس الخلف خلفاً یتبع سلفاً هوى فی نار جهنم (10).
ألم یسمع علی قول أبیه فی بنی حرب حیث یقول :
قدیماً أبوهم کان عبداً لجدنا / بنی أمة شهلاء جاش بها البحر
لقد سفهوا أحلامهم فی محمّد / فکانوا کجعر بئس ما ظفطت جعر (11)
کیف لم یسمع ؟ وکیف لم یعلم ؟ والأمر بین الحییّن من الوضوح حتى کان یعرفه بنو هاشم کما یعرفه أبناء حرب أنفسهم.
فهذا ابن جعفر یقول لیزید بن معاویة مفاخراً له بحضور أبیه معاویة : بأیّ آبائک تفاخرنی ؟! أبحرب الذی أجرناه ؟ أم بأمیة الذی ملکناه ؟ أم بعبد شمس الذی کفلناه ؟
فقال معاویة : لحرب بن أمیة یقال هذا ؟ ما کنت أحسب أن أحداً فی عصر حرب یزعم أنّه أشرف من حرب ، فقال عبد الله بن جعفر : بلى أشرف منه من کفأ إناءه علیه وجلّله بردائه ، فنهى معاویة ولده عن مفاخرة بنی هاشم ، وأنّهم لا یجهلون ما علموا ، ولا یجد مبغضهم لهم سباً (12).
فاتضح من خلال ما تقدم أن لیس فی شخصیة حرب من دوافع مغریة تدعو الإمام علیاً علیهالسلام لأن یحب أن یکتنى باسمه ، فیبقى الحدیث المزعوم الذی لم یثبت لصنّاعه ما أرادوه ، حبراً على ورق فلا یسمن ولا یغنی إذا ما قرأنا ما أخرجه الطبرانی فی المعجم الکبیر (13) بسنده عن سورة بنت مشرح قالت : کنت فیمن حضر فاطمة ( سلام الله علیها ) حین ضربها المخاض فی نسوة ، فأتى النبی صلىاللهعلیهوآلهوسلم
فقال : ( کیف هی ؟ ) قالت : إنها لمجهودة یا رسول الله
قال : ( فإذا هی وضعت فلا تسبقین فیه بشیء ) قالت : فوضعت فسروّه ولغفوه فی خرقة صفراء ، فجاء رسول الله صلىاللهعلیهوآلهوسلم فقال : ( ما فعلت ؟ ) قالت : قد ولدت غلاماً وسررته ولففته فی خرقة ، قال : ( عصیتنی ) قالت : أعوذ بالله من من معصیة الله ومن غضب رسوله ، قال : ( ائتینی به ) فأتیته به ، فألقى الخرقة الصفراء ، ولفّه فی خرقة بیضاء ، وتفل فی فیه ، وألبأه بریقه ، فجاء علی علیه السلام فقال : ( ما سمیته یا علی ؟ ) قال : سمّیته جعفراً یا رسول الله ، قال : ( لا ولکن حسن وبعده حسین ، وأنت أبو حسن الخیر ) (14).
فالآن حصحص الحق ، وتبیّن الصدق ، بأنّ علیاً أراد تسمیة ابنه الأول باسم أخیه جعفر شهید مؤتة ، إلا أنّ النبی صلىاللهعلیهوآلهوسلم سمّاه حسناً کما سمى الولید الثانی حسیناً قبل أن یولد ، مما دلّ على أن الوحی الإلهی تصرّف فی المقام ، فأین یکون موضع الحدیث المزعوم بعد ما نقرأ حدیث سورة بنت مسرح القابلة ؟
وبعد بیان زیف الحدیث المزعوم من هذا الجانب ، فهل ثمة جانب آخر یرید الوضاعون الاستفادة منه ؟
نعم ، وذلک هو الجانب الأهم ، وهو الذی أخفوه أو حاولوا إخفاءه وذلک هو : إثبات ولادة المحسن السبط الثالث للرسول ( صلّى الله علیه وسلّم ) فی عهده ، وهذا الولید الذکر هو الثالث من أبناء الإمام أمیر المؤمنین من الصدیقة فاطمة الزهراء علیهاالسلام.
المصادر :
1- النزاع والتخاصم : ١٨.
2- شخصیات اسلامیة ضمن موسوعة العقّاد : ٥٤٩.
3- المنمق : ١٠٣.
4- النزاع والتخاصم : ٢٢.
5- الجاحظ فی رسالته الثانیة من رسائله ، وهی من کتاب فضل هاشم على عبد شمس راجع ص ٧٥ ، جمع وتحقیق حسن الهندوبی ، ط : مصر سنة ١٣٥٢ ه.
6- النزاع والتخاصم : ٢١.
7- المحبّر : ١٧٣ ، المنمّق : ٩٤.
8- علیّ سامی النشار فی کتابه نشأة الفکر الفلسفی فی الإسلام ١ : ٢٣١ ، وقال فی کتابه أیضاً ٢ : ٦٦ : وکان من أخطر الزنادقة أبو سفیان الأموی وعدو الإسلام العتید.
9- المسد : ١ ـ ٥.
10- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ١ : ٢١٩.
11- نفس المصدر ٤ : ٤٦٧.
12- نفس المصدر ٤ : ٤٣٥.
13- المعجم الکبیر ٣ : ٢٣.
14- قال محقق الکتاب فی الهامش : قال فی المجمع ٩ : ١٧٥ ، رواه الطبرانی بإسنادین فی أحدهما