یواجه الفکر الإسلامی تحدیات عدیدة فی علاقته بالدولة الحدیثة، لعل من أبرزها مسألة المواطنة والوطن، سواء فی مدى قدرته على استیعابها نظریاً فی إطار منظومته المعرفیة القائمة على أولویة الرابطة الدینیة، أو فی مدى قدرته على التعامل معها عملیاً فی إطار مؤسسات الدولة القائمة على الرابطة الوطنیة، ومع مکونات المجتمع نفسه وبالتحدید العلاقة مع غیر المسلمین من أبناء المجتمع الواحد.
لکن صعود حرکات الإسلام السیاسی عموماً والدعوات إلى تطبیق الشریعة الإسلامیة فی بعض البلدان، وکذلک المطالبات بحکم إسلامی فی بلدان أخرى، قدّر لمسألة الحسم النظری لقضیة المواطنة (لدى الحرکات الإسلامیة) أن تکون فی الصدارة بسبب تأثیرها المجتمعی على العلاقات بین المسلمین وغیر المسلمین داخل هذه البلدان من جهة، وعلى مستقبل الفکر الإسلامی المعاصر نفسه لناحیة قابلیة هذا الفکر على التطور والاجتهاد وتقدیم حلول من داخل نسقه الفکری.
من هنا یبدو ضروریاً مراجعة إحدى التجارب الإسلامیة المعاصرة التی تناولت موضوع المواطنة والوطن، لفهم وتفسیر حدود القدرة الإسلامیة على معالجة هذا التحدی. وکان اختیارنا لتجربة الشیخ محمد مهدی شمس الدین باعتباره مفکراً إسلامیاً عالج هذه المسألة من الناحیة النظریة الفکریة کما أنه عایش خطورة هذا الموضوع عملیاً فی بلد متنوع یضم مسلمین وغیر مسلمین وهو لبنان. وتنظیماً للبحث سوف نقسمه إلى قسمین: الأول، یتناول مفهوم المواطنة ومدلولاته. والثانی، یتناول تفاعل الفکر الإسلامی مع مفهوم المواطنة من خلال نموذج الشیخ محمد مهدی شمس الدین.
مفهوم المواطنة
یرتبط مفهوم المواطنة بصیغته الحالیة بنشوء الدولة الحدیثة وتطور علاقتها بأفراد المجتمع وبالسیاق الثقافی التاریخی لأوروبا الغربیة الذی نشأت ضمنه هذه الدولة خلال القرون الأربعة الأخیرة وهی الفترة التی تعرف بالأزمنة الحدیثة.کان للقیم والأفکار والتحولات المعرفیة التی جرت خلال هذه الفترة المعروفة بفترة الحداثة الأثر البالغ فی بلورة مفهوم المواطنة وفی إعطائه الخلفیة الثقافیة والتاریخیة التی یختزنها نتیجة لإعادة إنتاجه فی هذه التجربة الخاصة القائمة على ولادة صورة جدیدة للانسان عن نفسه، وعن الکون، وتغییر رؤیته للحیاة ککل ولدوره فیها، ولعلاقته بتاریخه وبالطبیعة والعالم من حوله(1)
وأخذاً بعین النظر هذه التحولات المعرفیة والتاریخیة تبدو المقارنة بین مفهومی المواطنة فی السیاقین التاریخیین الإسلامی ـ العربی من جهة والغربی من جهة أخرى، مبسطة ومختزلة إذا أرید منها التوصل إلى المماثلة أو التشابه بینهما، أو إلى الاستنتاج بوجود مفهوم المواطنة الحدیث نفسه فی السیاق التاریخی الإسلامی. فالمواطنة لغویاً مشتقة من لفظة المدینة - یعود ذلک إلى الجانب الاستبعادی- الإقصائیفی تعریف المواطن والمواطنة ، القائم على تحدید وتعریف غیر المرغوب دخولهم إلى المدینة من جماعات أو أفراد. فالمدینة فی القرن الثامن عشر وفقاً لمیشال فوکو : هی مسرح تقنیات الأمن وتحدید الهویات. قبل أن یصبح الحدود الوطنیة (حال الولایات المتحدة) فی القرن العشرین.انظر البحث المقدم من الباحثة الکندیةماری إلین باریزو بعنوان: المواطنة والهویة وعلوم الجینات: خطوط فاصلة فى عالم معولم إلى مؤتمر المواطنة المنعقد فی جامعة الروح القدس بالکسلیک (لبنان) بین 15 و 17 آذار / مارس 2007.ونشر فی الکتاب الصادر عن الجامعة نفسها حول المؤتمر ، ص69. (2)
( Citizenshi )فی اللغات الأوروبیة، لکنها مشتقة فی اللغة العربیة من الوطن, وهوالمنزل، وموطن الانسان، ومحله. وفقد أثار هذا الأمر سجالات فکریة عند العدید من الباحثین العرب الذین رفض بعضهم اعتبار لفظة المواطنة مرادفاً وافیاً بالمعنى نفسه لنظیرتها الأوروبیة(3) .
کما أنه من التبسیط الشدید التعامل مع مفهوم المواطنة کوصفة جاهزة للتطبیق(4)، حتى فی السیاق الغربی نفسه، حیث تبلورت المواطنة فی سیاقات متفاوتة داخل الدول الحدیثة وفقاً لتطور أوضاع مجتمعاتها.
المواطنة مفهوم یشرح العلاقة بین الدولة والفرد المنتمی الیها، وبشکل أدق العلاقة المتبادلة بین السلطات داخل الدولة والمجتمع والفرد المواطن. وقد تطورت هذه العلاقة منذ العصور القدیمة مروراً بأثینا والتجربة الیونانیة ثم المسیحیة والإسلامیة لتصل إلى مرحلة جدیدة یأخذ فیها مفهوم المجتمع المدنی والقوى الفاعلة خارج جهاز الدولة الرسمی، دوراً جدیداً على حساب الدولة، فی إطار تطور مرحلة جدیدة أسماها بعض الباحثین بالنسخة الثانیة من عقد المواطنة، أواخر القرن العشرین وبدایة القرن الحادی والعشرین، عاملاً على زیادة الضمانات للمواطن الفرد رداً على تجاوزات الدولة والجبروت الذی عاملت به مواطنیها عندما انحرفت عن مبادئ المواطنة فی بعض التجارب الأوروبیة (وغیر الأوروبیة) خلال القرن العشرین(5).
وترکز التعریفات التقلیدیة للمواطنة على کون العلاقة التی تربط الفرد بالدولة الحدیثة الدیمقراطیة تخضع لقانون یقوم على الحقوق والواجبات الناجمة عن عضویة الفرد فی الجماعة الوطنیة التی تثبت رسمیاً بالجنسیة(6)
وقد تعددت الوثائق الرسمیة التی أصدرتها الدولة الحدیثة بدءاً من القرنین الثامن عشر والتاسع عشر لإثبات الجنسیة والمواطنیة، بین بطاقات الهویة وجوازات السفر، وبطاقات التموین، خصوصاً فی التجربتین الفرنسیة والألمانیة(7).
إن ضرورات الأمن والمراقبة والضبط للأفراد والجماعات، کانت أساساً فی إجراءات الدولة لتنظیم أعمال التعریف بالمواطنین وتمییزهم، واستخدمت لذلک تقنیات علمیة، کبصمات الأصابع وقزحیة العین. ودخلت لاحقاً خصوصاً بعد هجمات 11 أیلول 2001 اجراءات مشددة للتعریف والتمییز بین المواطنین أنفسهم أو بین المواطنین والأجانب – الدخلاء، مثل الاختبارات الجینیة الوراثیة (الدنا – DNA(8)
وأجهزة الکشف الضوئی(سکانر)، مطیحة بمفاهیم حقوقیة للمواطنین والأفراد، ما یظهر قدرة الدولة الحدیثة ووسائلها التقنیة على التحکم والسیطرة، ویظهر بناء علیه الحاجة إلى مواجهة تضخم سلطات الدولة على حساب حقوق المواطنة.
أما الحقوق والواجبات فتتوزع بین حقوق المواطن السیاسیة من خلال المشارکة وصناعة القرار ودوره فی اختیار صناع القوانین والتأثیر فیها کون المواطن أحد طرفی عقد تکون الدولة بموجبه الطرف الآخر. وعلى صعید الواجبات، فإضافة إلى الالتزام بالقوانین، على المواطن واجبات مالیة (مثل دفع الضرائب) ودفاعیة (الخدمة العسکریة). (9)
وإذا ما لاحظنا الکتابات التی تناولت الدولة الحدیثة فی علاقتها بمجتمعها نلاحظ ترکیز بعضها على الجانب القانونی والسیاسی فی هذه العلاقة وهو ما سوف نسمیه هنا بالنقاط التی تناولت الشکل فی حین أن فهم إشکالیة العلاقة العمیقة بینهما تحتاج إلى الترکیز أکثر على السیاق الثقافی ـ التاریخی والمضمون المعرفی والذی سوف نعالجه تحت عنوان المضمون.
أولاً- فی الشکل:
تشکل الدولة الحدیثة شرطاً لوجود المواطنة، بعدما انتقل هیکل الدولة من الارتباط بشخص الحاکم إلى مؤسسات بیروقراطیة شکلت الحاضنة لبروز المواطنة بما تقدم من ضمانات تتمثل فی الدستور والقوانین والجهاز القضائی المستقل عملاً بمبدأ فصل السلطات. ویعتبر الکثیر من الباحثین أن النموذج الأهم انتجته الدولة النابلیونیة الحدیثة وهی الدولة الرائدة فی بناء هرمیة حدیثة فی الجیشین العسکری والمدنی البیروقراطی(10)تتمیز الدولة الحدیثة بانتمائها إلى النموذج اللیبرالی الغربی وفقاً لمقولة السیادة المرتبطة بالأرکان الثلاثة: الأرض والشعب والسلطة، وهو ما یمیز الدولة القومیة الحدیثة الدولة ـ الأمة (Nation State) والتی تعتبر الحدود الاقلیمیة أساساً للسیادة والانتماء عبر الجنسیة الوطنیة والسلطة الوطنیة التی تحکم ممثلة للشعب، الذی یعتبر قومیة واحدة ذات لغة موحدة خصوصاً مع الاعتراف الرسمی (الدولی) بالسیادة الجغرافیة للدولة (الوطن) فی معاهدة وستفالی عام 1648.(11)
المساواة کمبدأ أساس لحکم القانون وهی الضمانة للمواطنة الحدیثة فلا مشارکة سیاسیة حقیقیة دون مساواة فعلیة، وبهذا المبدأ تتجاوز المواطنة التمییزات السابقة فی التجارب التاریخیة بین أفراد المجتمع أو بین جماعاته.
فقد میّزت الحضارة الاغریقیة وکذلک الرومانیة بین مواطن کامل العضویة فی المجتمع والدولة، ویحظى بالمشارکة السیاسیة ومواطن منتقص العضویة (مواطنین غیر احرار أو عبید أو نساء) لا یتمتع بکل الحقوق والواجبات المتبادلة مع الدولة والمجتمع(12).
کما أن الامبراطوریات القدیمة کانت تتعامل مع المواطنین کرعایا تابعین للسلطات ، لیس فقط فیما یتجاوز وجود حدود إقلیمیة محددة او الاقتصار على قومیة معینة ، بل أیضاً وبشکل خاص بوجود سلطة علیا هی التی تعطی الرعایا(13)منحاً بدل الحقوق المتبادلة فی مفهوم العقد الاجتماعی أو عقد المواطنة الضمنی أو الصریح الذی تمتاز به الدولة الحدیثة. ویشیر جورج قرم إلى التفاوتات التی تربط الجماعات أیضاً ولیس الأفراد فقط فی مستوى علاقاتها وفی الحقوق والواجبات المتبادلة بینها وبین السلطة فی الامبراطوریات(14)
وتعتبر هذه النقطة بالذات ـ المساواة بین المواطنین ـ مسألة إشکالیة فی الخطاب الإسلامی لأن معالجتها الفقهیة والفکریة السابقة تنحصر عادة فی الفقه السلطانی الذی یتعامل مع المواطنین بتصنیفهم بین:
مسلمین وغیر مسلمین (من أهل کتاب وآخرین). ومن بین مفردات هذا الفقه مفردة إشکالیة أیضاً تتعلق بمفهوم أهل الذمة الذی کان یؤمّن (من خلال نظام المِلل العثمانی مثلاً) حقوقاً متفاوتة بین الجماعات والأفراد والرعایا ولکن ضمن سقف الاعتراف بالتنوع الدینی، الامر الذی کان نادراً فی الامبراطوریات الدینیة غیر الإسلامیة.
لقد شهدت هذه النقطة بالذات سجالاً حاداً حول انطباق مفهوم المواطنة الغربی على التشریعات الإسلامیة السیاسیة، وکانت مورد اجتهادات عدیدة خلال النصف الأخیر من القرن العشرین.
إلا أن المساواة الکاملة للمواطن لم تأخذ طریقها إلى الوجود مباشرة ودفعة واحدة حتى داخل التجربة الغربیة، بل أخذت مساراً تدریجیاً حیث لم یکتسب کل المواطنین حق الانتخاب والمشارکة السیاسیة دفعة واحدة، وتأخر حق النساء فی التصویت الانتخابی فی سویسرا مثلاً، حتى النصف الثانی من القرن العشرین(15)
ثانیاً- فی المضمون الثقافی:
یؤدی اقتصار فهم المواطنة على النقاط الواردة فی الفهم الشکلی، کما شرح فی الفقرات السابقة، إلى خلل والتباس فی تفسیر مفهوم المواطنة الغربی المنشأ. ولأن أی مفهوم علمی أو سیاسی أو قانونی هو تجرید نظری منتزع من سیاق اجتماعی ثقافی غنی ، فإن الأکثر فائدة فی تناول الموضوع هو معرفة الخلفیات المعرفیة والثقافیة والتاریخیة التی انتزع منها، لأخذ صورة أکثر فهماً وتفسیراً.
انطلاقاً من ذلک تبدو الخلفیة المعرفیة لمفهوم المواطنة الحدیث مرتبطة بجملة من المفاهیم الأخرى ارتباطاً وثیقاً. ویمکن معالجتها فی مستویین:
مستوى الرؤیة الکونیة لدور الإنسان الحدیث، وهذا المستوى على علاقة مباشرة بإنجازات فترة الحداثة على الصعید الفکری، حیث کان لمبدأ مرکزیة الانسان والذات الانسانیة فی الفکر الغربی تأثیره على المبادئ السیاسیة الأخرى. فمحوریة الإنسان الفرد ساهمت فی الدعوة إلى إعطائه المزید من الحقوق ومنها المشارکة السیاسیة والمساواة، وإلى الدعوة لتجاوز المبادئ السابقة التی کان المحور فیها مرکزیات خارج الذات الإنسانیة (کالکنیسة أو التفکیر المیتافیزیفی)، وأدى ذلک لاحقاً إلى تکریس مفهوم سیادة الشعب باعتباره مصدراً للسلطة، وإلى ارتباط انبثاق مفهوم المواطنة الحدیث بمفاهیم أخرى ترتبط باللیبرالیة الغربیة: مثل الحریات الانسانیة ومنها الحریة السیاسیة، و حق الانتخاب والتمثیل، ومفهوم المشارکة فی السلطة وفی التأثیر على السلطة من قبل الجماعات الصغیرة والکبیرة، وحریة الانتماء العقائدی للأدیان أو للأفکار غیر الدینیة.(16)
الخلفیة الثقافیة لنموذج الدولة ـ الأمة التی کرست الانتماء والهویة الخاصة لمواطنیها، وهو انتماء یتحدد بالبعد القومی لهذه الأمة ـ الدولة وبقیمها الثقافیة الخاصة.
لقد رکزت الدولة الحدیثة على الشخصیة القومیة وتعزیز الهویة الوطنیة والتنشئة التربویة الوطنیة لمواطنیها. فالدولة هذه لیست وعاءً فارغاً وإطاراً بلا مضمون أیدیولوجی یحدد الانتماء الثقافی والسیاسی لمواطنیها. وقد تتباین الدول الغربیة فی البناء الهویاتی الخاص بکل منها، لکنها تتبع المسار العام نفسه:
الهویة والانتماء جزء من المواطنة فی علاقتها بالدولة. والقیم التی تجسدها هذه الهویة هی قیم أعلى من السلطات والأفراد، وهی المرجع عند حصول المنازعات الداخلیة أو ذات الطابع الحذری التی تطال أسس تکوّن المجتمع.
فالعلمانیة الفرنسیة، على سبیل المثال، هی قیمة حاکمة على سلوک المواطنین وحریتهم الفردیة أحیاناً (نموذج الحجاب وتناقضه مع قیم العلمانیة الجمهوریة) والدولة هنا لیست محایدة إنما هی ذات هویة دینیة واضحة وهی الدین الوضعی18 الآتی على حساب الدین الکاثولیکی أولاً والأدیان الإلهیة التوحیدیة لاحقاً.
تبدو التجربة الفرنسیة (کدولة وحداثة) استثناءً لأن الحداثة نشأت فی الغرب على توافق مع الدین ولیس على النقیض معه(18).
وقد خصص ماکس فیبر قسطاً من أبحاثه لتحدید دور الدین فی الانتقال إلى الحداثة الغربیة (19).
ویشیر براین تیرنر إلى العلاقة الوثیقة بین الثقافة الوطنیة والثقافة الدینیة الخاصة بالمجتمع المحلی، وبنشوء الدولة الحدیثة فی بعض المجتمعات الأوروبیة. ویعطی مثالاً على مدنیة (علمانیة) دولة لا تتنکر لانتمائها الدینی – الثقافی هی الدنمارک التی ینصّ دستورها على أن المذهب الرسمی للدولة هو اللوثریة. ویرکز الباحث نفسه على الطابع السوسیولوجی للعلمانیة والتفاوت فی نماذجها وفقاً لاختلاف الأنماط الثقافیة والاقتصادیة للمجتمعات(20).
وعلى النقیض أیضاً من النموذج الفرنسی، تغدو القیم الحاکمة للدولة وللهویة الوطنیة فی الولایات المتحدة الأمیرکیة مختلفة الاتجاه. وهی قیم ومبادیء عامة متأثرة بفترة الاستقلال والنضال ضد المستعمر وبأفکار جون لوک(21) حول قدسیة الملکیة الخاصة وحق التمرد (على السلطات التی تتجاوز الحقوق الطبیعیة)، أما القیم الدینیة فهی فی التجربة الأمیرکیة قیم ثقافیة یهویدیة بروتستانتیة، مؤسّسة للدولة ولعلمانیتها الحامیة للدین والممارسة الدینیة، بما فیها الأدیان الإلهیة التوحیدیة، بعکس التجربة والقیم المؤسسة لدولة مثل فرنسا، وتمثل هذه القیم الایدیولوجی الوطنیة الامیرکیة التی تحدد المعاییر العامة للانتماء والمواطنة، ومن هو الامیرکی برأی الثقافة المسیطرة(22).
مفارقات غربیة
یعانی المسار الغربی المتشعب هذا تناقضاً أولیاً بین هویة وطنیة من جهة وانتماء إنسانی نابع من رؤیة کونیة متمحورة حول الذات الإنسانیة من جهة أخرى. فالهویة الوطنیة فی صورها المتطرفة تؤدی إلى وضع "المواطنات" (هویات المواطنین) فی مواجهة بعضها بعضاً، وصولاً إلى الحرب (کما حصل فی الحربین الأولى والثانیة العالمیتین). وهذا التناقض نفسه هو الذی تحاول "المواطنة" الأوروبیة حله عبر الجمع بین "مواطنة" الهویة الوطنیة ـ القومیة ومواطنة ما فوق هذه الهویة, عبر المصالحة بین الانتماءین: الانتماء القومی داخل الدولة والانتماء القاری الجبهوی داخل حدود أوروبا. وصولاً إلى فکرة تتجاوز کل الانتماءات الوطنیة والجهویة، وهی فکرة المواطنة العابرة للقومیة والمواطنة العالمیة أو الإنسانیة. (23)أما کونیاً فقد أدت انتماءات الدولة ـ الأمة المتطرفة إلى عصبیة "ثقافویة"، تبرر استعمار الآخرین تحت شعار تحدیثهم أو تحت شعار المصالح القومیة (الوطنیة). وهی العصبیة نفسها التی کرست تمایز الأعراق بمبررات ثقافیة وبیولوجیة تستند إلى علوم الفکر الغربی الحدیث، ومنها العرقیة الاجتماعیة المستندة إلى الداروینیة، والایدیولوجیات القائمة على فکرة التفوق الحضاری على الآخرین خارج أوروبا.
هکذا نشأت نعوت "البربریة" تجاه الثقافات الأخرى فیما عرف بـ "المرکزیة الاثنیة" والثقافیة، الأمر الذی حدا بـ"کلود لیفی شتراوس"
أعاد الفکر الغربی تقویم التجربة بمراراتها وإخفاقاتها من جهة وإنجازاتها من جهة أخرى. وإذا کانت تجربة الاستبداد واحتکار السلطة والعنف بواسطة أجهزة الدولة الحدیثة قد مثلت تجربة مریرة سواء فی النسخة الاشتراکیة والسوفیاتیة، أو فی النسخة الأوروبیة الغربیة, الألمانیة والایطالیة (خلال أواسط الثلاثینیات وأوائل الأربعینیات من القرن العشرین). الأمر الذی دفع بالکثیرین إلى الدعوة لإعادة تعریف "المواطنة"، وإعطاء المواطن الفرد ضمانات سیاسیة واجتماعیة جدیدة عبر مستویین من مستویات تعزیز المواطنة:
1- إعادة توزیع السلطة داخل المجتمع من خلال تغذیة مراکز النفوذ الأهلیة کـ"المجتمع المدنی"26 ، وذلک حفاظاً على حقوق "المواطنة" عند أفراد الشعب فی مواجهة سلطة الدولة القهریة المتعاظمة.
2- الترکیز على أن عقد "المواطنة" یتضمن أیضاً مفاهیم العدالة کانوا خارج الثقافة الیونانیة الرومانیة. لاحقاً, فی أوروبا الغربیة, استعملت کلمة "متوحش" فی المعنى نفسه بقصد إقصاء غیر المنتمین إلى الحضارة الغربیة خارج الثقافة, وبعبارة أخرى إقصائهم فی الطبیعة".(المصدر والصفحة نفسهما)
المصادر :
1- التحولات الفکریة الکبرى للحداثة مساراتها الابستمولوجیة ودلالاتها الفلسفیة، فی مجلة الفکر العربی المعاصر، بیروت، العددان 110 – 111 ربیعصیف 1999
2- المواطنة والهویة وعلوم الجینات: خطوط فاصلة فى عالم معولم إلى مؤتمر المواطنة المنعقد فی جامعة الروح القدس بالکسلیک (لبنان) بین 15 و 17 آذار / مارس 2007.ونشر فی الکتاب الصادر عن الجامعة نفسها حول المؤتمر ، ص69.
3- هیثم مناع، المواطنة فی التاریخ العربی الاسلامی، القاهرة – مرکز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، ط 1997م، ص. 5و6.
4- جاک قبانجی، بیروت- دار الفارابی والجمعیة اللبنانیة لعلم الاجتماع، ط 2009، ص 61 – 62.
5- شاوول ، مصدر سابق، ص 62 – 63.
6- اشکالیة الدولة والمواطنة والتنمیة فی لبنان ، بیروتدار ا لفارابی ط 2009، م.س ، ص 19 – 51.
7- ماری الین باریزو، مصدر سابق.
8- انظر المصدر السابق.
9- أدونیس العکرة، التربیة على المواطنة وشروطها فی الدولة المتجهة نحو الدیمقراطیة، بیروت - دار الطلیعة، ط ،2007، ص 1835
10- عبد الله العروی، مفهوم الدولة ، بیروت المرکز الثقافی العربی الطبعة السادسة (1998)، خصوصاً ص59 حتى86..
11- انظر للتعریفات ذات الطابع القانونی والسیاسی : عصام سلیمان ، مدخل إلى علم السیاسة، بیروت(دون دار نشر)،
12- الغرب والعالم (القسم الأول) تاریخ الحضارة من خلال موضوعات، ترجمة عبد الوهاب المسیری ، الکویتسلسلة عالم المعرفة، رقم 90، (یونیو، 1985) ص 10.
13- جورج قرم ، نقلاً عن ملحم شاوول، إشکالیة الدولةم. س.،ص67
14- شرح ملحم شاوول انطلاقاً من کتابات جورج قرم حول عدم المساواة القانونیة والاجتماعیة للرعایا المنتمین إلى جماعات مختلفة داخلالنطاق الإمبراطوری: شاوول ، إشکالیة الدولة، م.س. ، ص 66 و67.
15- راجع النقاش العلمی الدقیق والواسع الذی یقدمه طارق البشری حول هذه المسألة فی : المستشار طارق البشری، بین الجامعة الدینیة والجامعة الوطنیة فی الفکر السیاسی، القاهرةدار الشروق، الطبعة الأولى 1998، ص 8 حتى 39
16- رایان کریب ، النظریة الاجتماعیة من بارسونز إلى هابرماس،الکویت- سلسلة عالم المعرفة،العدد 244، ص 303 وما بعدها.
17- نیقولا تیما شیف: نظریة علم الاجتماع, دار المعارف, مصر 1980. وامیل بوترو: العلم والدین فی الفلسفة المعاصرة, ترجمة: د. أحمد فؤاد الأهوانی, الهیئة العامة للکتاب, القاهرة, 1973.
18- ملحم شاوول (وآخرین) فی : اشکالیة المواطنة والدولة والتنمیة فی لبنان – بیروت الجمعیة اللبنانیة لعلم الاجتماع ص 61.
19- مثل کتاب الأخلاق البروتستانتیة وروح الرأسمالیة أبرز کتابات فیبر فی هذا الإطار: ماکس فیبر، الأخلاق البروتستانتیة وروح الرأسمالیة، ترجمة محمد علی مقلد، بیروت – مرکز الإنماء القومی، 1998.
20- روتلدج وکیغان بول، ط 1974، ویصل الباحث إلى حد التأکید أن العلمانیة فی الإسلام إن حدثت فستکون مختلفة عن العلمانیة فی المسیحیة، وأن من ینظر إلیها نظرة حتمیة وکونیة هو مخطىء ،لأنه یتجاهل الطابعالسوسیولوجی للعلمانیة وتفاوت تطورها نسبة إلى اختلاف الأنماط الثقافیة والاقتصادیةللمجتمعات.انظر صفحات:159 حتى 163.
21- کافین رایلی، الغرب والعالم - القسم الثانی،م. س.ص 35.
22- تبدو ثقافة الواسب (wasp) ،رغم کونها قیم البیض البروتستانت الذین لم یعودوا الأغلبیةفی المجتمع الامریکی، المرجعیة التی تحدد من هو الأمیرکی الوطنی ومن هو من الاقلیات، وهی القیم والثقافة ذات النفوذ والشرعیة والسلطة داخل مؤسسات الدولة والمجتمع. انظر، دنیس کوش، مفهوم الثقافة فی العلوم الاجتماعیة، بیروت -المنظمة العربیة للترجمة، ط 2009،ص 156 – 157.
23- - براین تیرنر، فیبر والإسلام (دراسة نقدیة)، لندن - بوسطن
24- ملحم شاوول، م. س.، ص 65، حیث یشیر إلى تبلور المرحلة الثالثة من عقد "المواطنة"من خلال العبور من الکیانیة الهویاتیة إلى المواطنة العابرة للقومیات.