مراحل تدوین التاریخ الاسلامی

من التصورات الخاطئة عند معظم القرّاء، أن التدوین - سواء فی مجال التاریخ أو الحدیث- لم یبدأ إلاّ بظهور المدوّنات التاریخیة والحدیثیة الکبرى، کتاریخ الطبری والبلاذری وغیرهما، أو الصحاح والسنن والمسانید وغیرها من
Wednesday, January 10, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
مراحل تدوین التاریخ الاسلامی
 مراحل تدوین التاریخ الاسلامی



 
 

من التصورات الخاطئة عند معظم القرّاء، أن التدوین - سواء فی مجال التاریخ أو الحدیث- لم یبدأ إلاّ بظهور المدوّنات التاریخیة والحدیثیة الکبرى، کتاریخ الطبری والبلاذری وغیرهما، أو الصحاح والسنن والمسانید وغیرها من کتب الحدیث، أی بعد أکثر من قرنین من بدء الهجرة النبویة الشریفة، وأن الروایات قد ظلت تتناقلها أجیال الرواة مشافهة طیلة هذه المدة حتى وصلت الى الطبری أو البخاری وغیرهما، حیث قاموا بتدوینها بعد ذلک، ولعل منشأ هذا الاعتقاد یعود الى إستعمال المؤرخین والمحدثین بعض الألفاظ التی تسبق الروایة کقولهم: "حدثنی أو حدثنا... الخ" مما یوحی للقارئ أن الحدیث قد وصل الى هذا المحدّث أو المؤرّخ مشافهة عبر سلسلة الرواة الذین یذکر أسماءهم، وهذا وهم شائع، إذ أن التدوین أقدم من ذلک التاریخ، حیث یحدد البعض بدء التدوین بنهایة القرن الأول أو بدایة القرن الثانی، وبالتحدید فی زمن الخلیفة الاُموی عمر بن عبدالعزیز المتوفى سنة 101 هـ، وإن کان هناک ما یثبت أن التدوین کان أقدم من ذلک التاریخ أیضاً، وأن الصحابة کانوا یدوّنون الکثیر من حدیث النبی (صلى الله علیه وآله) وسیرته، وأن بعضهم کانت له صحف أو دفاتر یدوّن فیها ذلک، وأن أبناء اُولئک الصحابة وتلامیذهم قد توارثوا تلک الدفاتر جیلا بعد جیل، وأن معظم هذه الدفاتر قد أصبحت فیما بعد هی الروافد التی صبّت فی نهایة الأمر فی تلک المجامیع والمدونات الکبرى. "أن بدایة التدوین والکتابة التاریخیة إنما بدأت أشد بکوراً بحوالی القرن على الأقل مما کان یظن الباحثون، وأن قضیة (العلم) العربی الذی ظل محفوظاً فی الصدور والذاکرة حتى أواسط القرن الثانی إنّما هی محض خرافة"(1).
ولأجل توضیح الصورة، فلابد لنا من الاشارة الى الطرق التی اتبعت فی تلقی الروایة ونقلها، والتی سمّیت (طرق التحمل)، حیث کان التلمیذ یتلقى من شیخه الروایة وینقلها بدوره الى الذین سیصبحون فیما بعد تلامیذه، وطرق التحمل هی:
1 - السّماع:
ویتضمن السماع من لفظ الشیخ املاءً من کتابه أو من حافظته، وفیه یقول السامع إذا روى: (حدثنا) و (أخبرنا) و (أنبأنا) و (قال لنا) و (ذکر فلان). قال الخطیب البغدادی: أرفع العبارات (سمعتُ) ثم (حدثنا) و(حدثنی)(2).
2 - القراءة على الشیخ:
وأکثر المحدثین یسمونها عرضاً، من حیث إن القارئ یعرض على الشیخ ما یقرؤه کما یعرض القرآن على المقرئ(3)، سواء کانت قراءة الطالب علیه من کتاب أو حفظ، وسواء حفظ الشیخ ما قرئ علیه أم لا، إذا أمسک أصله هو أوثقة غیره(4)، ومن أمثلة ذلک قول عبدالله بن عمر: رأیت مالک بن أنس یقرأ على الزهری، قال: فحدثت بذلک سفیان بن عینیة ففرح بذلک وجعل یقول: قرأ، قرأ(5).
3 - الاجازة:
وهی أنواع متعددة، أعلاها أن یجیز معیّن لمعیّن کقوله: أجزت لک الکتاب الفلانی، أو ما اشتملت علیه فهرستی هذه. وهذه الاجازة المجردة من المناولة، وقد قال بجوازها جماهیر أهل العلم(6).
4 - المناولة:
مع الاجازة، کأن یدفع له الشیخ أصل سماعه، أو فرعاً مقابلا به ویقول له: أجزت لک روایته عنی(7)، وهی أعلى أنواع الاجازة على الإطلاق(8)، أما المناولة من غیر إجازة، بأن یناوله الکتاب مقتصراً على قوله: هذا سماعی، ولا یقول له: اروه عنی، ولا أجزت لک روایته(9).
5 - المکاتبة:
بأن یکتب إلیه بشیء من حدیثه، فإن أذن له فی روایته عنه فهو کالمناولة المقرونة بالاجازة وإن لم تکن معها اجازة(10)، وهو المشهور بین أهل الحدیث، وکثیر من مصنفاتهم: (کتب إلیّ فلان، قال: حدثنا فلان). والمراد هذا، وهو عندهم معمول به معدود فی الموصول. وقال السمعانی: هی أقوى من الاجازة، ویکفی معرفة خط الکاتب، وشرط بعضهم البیّنة، وهو ضعیف(11).
6 - الإعلام:
وهو أن یُعلم الشیخ الطالب أن هذا الکتاب روایته أو سماعه مقتصراً على ذلک، فجوّز الروایة به کثیر من أصحاب الحدیث والفقه والاُصول والظاهر(12).
7 - الوصیة:
وهی أن یوصی الراوی عند موته أو سفره لشخص بکتاب یرویه(13).
وقد ترخّص بعض السلف فی روایة الموصی له بذلک الکتاب عن الموصى، وشبهوا ذلک بالمناولة والاعلام بالروایة(14)، وقال السیوطی: وهو غلط، والصواب أنه لا یجوز(15).
8 - الوجادة:
وصورتها أن یجد حدیثاً أو کتاباً بخط شخص باسناده، فله أن یرویه عنه على سبیل الحکایة(16)، فله أن یقول: وجدت بخط فلان، أو قرأت أو ما أشبههه(17)، ویسوق الاسناد والمتن، وهذا الذی استمر علیه العمل قدیماً وحدیثاً، وهو من باب المنقطع، وفیه شوب اتصال، وجازف بعضهم فأطلق فیها: حدثنا وأخبرنا، واُنکر علیه(18).
هذه طرق تحمل الروایة، ذکرتها بشیء من الاختصار، وهدفی من ذلک هو توضیح بعض الاُمور التی قد تُشکل على القارئ، لأن بعض الباحثین یصورون له أن الروایات التاریخیة قد کتبت فی العصر العباسی، لذا نجد فیها تحاملا على الاُمویین، ولإزالة ما قد یعلق بذهن القارئ من مقولات بعض الباحثین الذین صوروا له أن منشأ الزیف فی التاریخ الإسلامی یعود الى أن هذا التاریخ قد کتب فی عصور متأخرة مما یجعله مشحوناً بالتحامل على الفترات التی سبقت تدوینه، ومن هؤلاء الباحثین الذین یدعون مثل ذلک: الشیخ محب الدین الخطیب الذی یقول:
إن التاریخ الاسلامی لم یبدأ تدوینه إلاّ بعد زوال بنی اُمیة وقیام دول لا یسرّ رجالها التحدث بمفاخر ذلک الماضی ومحاسن أهله، فتولى تدوین تاریخ الإسلام ثلاث طوائف: طائفة کانت ترى العیش والجدة من التقرب الى مبغضی بنی اُمیة بما تکتبه وتؤلفه، وطائفة ظنت ان التدیّن لا یتم، ولا یکون التقرب الى الله إلاّ بتشویه سمعة أبی بکر وعمر وعثمان وبنی عبد شمس جمیعاً، وطائفة ثالثة من أهل الانصاف والدین -کالطبری وابن عساکر وابن کثیر- رأت أن من الإنصاف أن تجمع أخبار الأخباریین من کل المذاهب والمشارب- کلوط بن یحیى الشیعی المحترق، وسیف بن عمر العراقی المعتدل- ولعل بعضهم اضطر الى ذلک إرضاء لجهات کان یشعر بقوتها ومکانتها، وقد أثبت أکثر هؤلاء أسماء رواة الأخبار التی أوردوها لیکون الباحث على بصیرة من کل خبر بالبحث عن حال راویه. وقد وصلت الینا هذه الترکة، لا على أنها هی تاریخنا، بل على أنها مادة غزیرة للدرس والبحث یستخرج منها تاریخنا، وهذا ممکن ومیسور إذا تولاّه من یلاحظ مواطن القوة والضعف فی هذه المراجع، وله من الالمعیة ما یستخلص به حقیقة ما وقع ویجردها عن الذی لم یقع، مکتفیاً باُصول الأخبار الصحیحة من الزیادات الطارئة علیها...(19).
ولسوف یتبیّن للقارئ أن الشیخ محب الدین الخطیب لم یلتزم بهذه التوجیهات القیّمة التی أسداها للآخرین.
فأما إدعاؤه أن المؤرخین قد کتبوا ما کتبوه فی العصر العباسی ذماً لبنی اُمیة، فلیس صحیحاً تماماً لأسباب:
أولها: إننا حینما أوردنا طرق تحمل الروایة، کنا نستهدف لفت إنتباه القراء الى أن الروایات التی دونت فی العصر العباسی، إنما جاءت من طریق الرواة الذین دونوها فی العصر الاُموی على أیدی کتاب السیرة والتاریخ - کالزهری وعروة بن الزبیر وغیرهم- ثم انتقلت هذه الروایات بتلک الطرق الى المؤرخین الکبار کالطبری فی العصر العباسی، حیث تم تجمیعها فی تلک المدونات الکبیرة.
یقول فؤاد سزگین: إذا أراد الباحث إذاً تقدیر قیمة المواد المتعلقة بالقرنین الأول والثانی للهجرة فی المصادر التی وصلت إلینا اعتماداً على الاسناد، فعلیه أن یتحرر من الآراء القائلة بأن هذه الأخبار ظلت تتداول شفاهاً على مدى مائة وخمسین عاماً، أو أن المحدثین قد اخترعوا الاسناد فی نهایة القرن الثانی للهجرة وأضافوه الى الأخبار فدونت به بعد ذلک، وعلیه أن ینظر الى هذه المؤلفات باعتبارها کتباً مجموعة من مصادر مدونة تعود بدورها الى مصادر مدونة أقدم، فالأسماء الواردة فی الأسانید تعطی -فی مجموعها أو معظمها- أسماء المؤلفین، أو أسماء عدد من الرواة والمؤلف، وعلى کل حال فإننا نجد فی کل خبر من الأخبار مصدراً مدوناً واحداً على الأقل. وهکذا فلیست کل الأسماء الواردة فی الاسناد التالی المذکور عن الطبری أسماء مؤلفین: "حدثنا حمید، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنی محمد بن إسحاق، قال: حدثنی الزهری ویزید بن رومان عن عروة بن الزبیر". فالنص الذی نقله الطبری بهذا الاسناد یرجع آخر الأمر الى کتاب المغازی لعروة، وهذا النص کان قد نقله الطبری عن الواقدی وابن هشام(20).
فیتبین من هذا أن أصل روایة الطبری هذه قد جاءت عن عروة بن الزبیر المتوفى سنة (94 هـ)، أی أنه قد عاش الشطر الأکبر من عمره وکتب وتوفی فی العصر الاُموی، وفیه دوّن هذه الروایة التی تناقلها عنه الرواة حتى وصلت الى الطبری فی العصر العباسی.
ثانیها: أن الکثیر من المؤرخین والکتّاب الذین عاشوا فی العصر الاُموی قد أطْروا عصرهم هذا وذکروا لهم الفضائل الکثیرة، وبقیت کتبهم متداولة الى العصر العباسی دون اعتراض، فقد ذکر المسعودی -وهو من المؤرخین الذین عاشوا فی العصر العباسی کما هو معلوم -أسماء بعض المؤرخین- فی معرض تعداده لهم - فأثنى على أحدهم وذکر أنه کتب فی "أخبار الاُمویین ومناقبهم وذکر فضائلهم وما أتوا به من غیرهم وما أحدثوه من السیرة فی أیامهم، تألیف أبی عبدالرحمان خالد بن هشام الاُموی"(21).
هذا فضلا عن أن کثیراً من المؤرخین فی العصر العباسی قد أثنوا على الاُمویین فی مؤلفاتهم، "ولقد ظن الکثیرون أن سبب طمس تاریخ بنی اُمیة وتشویه الکثیر من آثارهم یعود الى الحزبیة فما قولک بأنساب الأشراف الذی یعدّ من أدق ما عندنا عن بنی اُمیة، مع أن مؤلفه البلاذری عاش فی العصر العباسی وبقرب خلیفة متعصب هو المتوکل"(22).
ثالثها: ان عمر بن عبدالعزیز هو أحد خلفاء بنی اُمیة من الفرع المروانی، وقد نال الحظ الأوفر من الثناء والمدیح، حتى وصفوه بخامس الخلفاء الراشدین، ولم یختلف فی مدحه والثناء علیه المؤالف والمخالف، فلو کان الموقف من الاُمویین على عمومه الذی ذکره الشیخ محب الدین الخطیب، لکان الموقف من عمر بن عبدالعزیز کالموقف من غیره من خلفاء بنی اُمیة.
رابعها: أن بعض المؤرخین الذین ألّفوا فی العصر العباسی، کانوا على درجة من الشجاعة والجرأة، بحیث أنهم ذکروا بعض مثالب العباسیین بکل صراحة، وتحمل البعض منهم العقاب الألیم بسبب ذلک، فقد ذکر ابن الندیم فی ترجمة الجهمی (أحمد بن محمد بن حمید) أنه: "وقع بینه وبین قوم من العمریین والعثمانیین شر، فذکر سلفهم بأقبح ذکر، فقال له بعض الهاشمیین فی ذلک، فذکر العباس بأمر عظیم، فأُنهی خبره الى المتوکل، فأمر بضربه مائة سوط"(23).
والحقیقة: فإن موقف العباسیین من الاُمویین قد مرّ بأدوار متعددة، وذلک لأسباب سوف أذکرها فی مباحث قادمة، ومع کل ذلک فإنه "لا ینکر أثر العباسیین، ولکن هؤلاء لم یقیدوا الکتابة أو یوجههوها کما یظن، بدلیل أنهم أنفسهم رُسمت لهم صورة لا تقل عبوساً فی کثیر من نواحیها"(24).
المصادر :
1- التاریخ العربی والمؤرخون، شاکر مصطفى 1: 79.
2- الباعث الحثیث: 104، تدریب الراوی 2: 8، مقدمة ابن الصلاح فی علوم الحدیث: 62، جامع الاُصول 1:70، قواعد التحدیث: 203، المنهل الروی: 80.
3- مقدمة ابن الصلاح: 64.
4- قواعد التحدیث: 203.
5- جامع بیان العلم 2: 414.
6- مقدمة ابن الصلاح: 272، المنهل الروی: 84، الباعث الحثیث: 114، جامع بیان العلم: 414، تدریب الراوی 2: 29، قواعد التحدیث: 203.
7- قواعد التحدیث: 203.
8- مقدمة ابن الصلاح: 79، تدریب الراوی 2: 44.
9- قواعد التحدیث: 204، الکفایة: 322.
10- الباعث الحثیث: 120، تدریب الراوی 2: 55.
11- المنهل الروی: 90، الکفایة: 342.
12- المنهل الروی: 90، الباعث الحثیث: 121، تدریب الروای: 58، الکفایة: 353.
13- المنهل الروی: 91.
14- الباعث الحثیث: 121.
15- تدریب الراوی 2: 60، قواعد التحدیث: 204.
16- الباعث الحثیث: 122.
17- المنهل الروی: 91.
18- تدریب الراوی 2: 61، مقدمة ابن الصلاح
19- العواصم من القواصم: 179 هامش: 309.
20- تاریخ التراث العربی 2: 8.
21- مروج الذهب 1: 15.
22- مقدمة فی تاریخ صدر الاسلام: 13.
23- الفهرست: 141.
24- مقدمة فی تاریخ صدر الاسلام: 13.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.