
لقد اتبع عثمان سیاسة مغایرة لسیاسة سلفیه أبا بکر وعمر اللذان لم یکونا یولّیان من أقاربهما إلاّ عدداً ضئیلا جداً، أو لم یکونا یولیان أحداً منهم بتاتاً، وذلک بالقیاس الى العدد الکبیر الذی استعمله عثمان من أقاربه وعشیرته، "فمن بین إحدى عشرة ولایة، لم یکن لاُمیة سوى ولایة واحدة، ولم یکن لقریش سوى ثلاث ولایات، ولم یکن لعدی - فرع عمر- ولایة واحدة من هذه الولایات"(1).
إلاّ أن ذلک کلّه تغیّر بعد استلام عثمان مهام الخلافة بفترة قصیرة، فبدأ یعزل ولاة عمر - من غیر الاُمویین- وکان فیهم بعض الصحابة، کسعد بن أبی وقّاص الذی عزله عثمان عن ولایة الکوفة، وعمرو بن العاص الذی عزله عن ولایة مصر، فقد "کان هناک فی عهد عثمان انعکاس تام للأوجه الأساسیة فی سیاسة سلفه العظیم، ذلک انه لم یکتف بعزل الأکفاء الذین ولاّهم عمر على الولایات فحسب، بل إنّه عهد الى تعیینات جدیدة إرضاء لمطالب أقاربه"(2).
لقد کان عثمان یحب أفراد عشیرته حقاً، ولکن الحب قد یتحول الى ضعف یؤدّی بدوره الى عواقب وخیمة، وهذا ما حدث فعلا. فقد استسلم عثمان لرغبات أقاربه الذین کانوا یلحّون علیه -فیما یبدو- لتسلیطهم على الولایات والأمصار المهمة، مما یتیح لهم التحکم فی البلاد واکتساب النفوذ والمال والجاه، وإرضاء لشهوة السلطة عندهم.
لم یقتصر مروان بن الحکم على مخالفة السنّة النبویة الشریفة فحسب، بل تعداه الى قتل الصحابة أیضاً، إلاّ أن من المستغرب أن یحاول بعض المؤلفین تبرأة مروان من هذا الفعل، فقد قال القاضی ابن العربی، فی معرض حدیثه عن أحداث معرکة الجمل:
وقد روی أن مروان لما وقعت عینه فی الاصطفاف على طلحة قال: لا أطلب أثراً بعد عین، ورماه بسهم فقتله. ومن یعلم هذا إلاّ علاّم الغیوب، ولم ینقله ثبت! وقد روی أنه أصابه سهم بأمر مروان، لا أنه رماه(3).
ویمکننا ملاحظة بعض الاُمور على مقولة ابن العربی، وهی ادعاؤه أولا أن هذا الخبر لم ینقله ثبت، وثانیاً: محاولته تبریر عمل مروان بأنه لم یباشر قتل طلحة بنفسه، بل أمر من یرمیه بسهم قاتل. ولا أدری ما الفرق بین أن یباشر المرء القتل بنفسه وبین أن یوکله الى من ینفذه نیابة عنه!
أما محب الدین الخطیب، فیعلق على الخبر بقوله:
آفة الآخبار رواتها، وفی العلوم الاسلامیة علاج آفة الکذب الخبیثة، فإن کل راوی خبر یطالبه الاسلام بأن یعین مصدره على قاعدة من أین لک هذا؟
ولا تعرف اُمة مثل هذه الدقة فی المطالبة بمصادر الأخبار کما عرفه المسلمون، ولا سیّما أهل السنّة منهم، وهذا الخبر من طلحة ومروان لقیط، لا یُعرف أبوه ولا صاحبه، وما دام لم ینقله ثبت بسند معروف عن رجال ثقات، فإن للقاضی ابن العربی أن یقول بملء فیه: ومن یعلم هذا إلاّ علام الغیوب(4).
إن من أشد الاُمور أسفاً وإیلاماً، هی أن یدّعی مؤلف أنه یدافع عن الاسلام ثم یسیء الى الاسلام إساءة عظیمة بمخادعة المسلمین واستغفالهم، لأن هذه الادعاءات إن کان مصدرها جهل الخطیب بالموضوع -ولا أظن ذلک- فلیس له أن یخالف شرطه ویتصدى للکتابة قبل استکمال عدته، وأما إن کان عالماً بالموضوع -وهذا هو ظنی- فهذا أکبر عیب علیه، لأن عمله هذا لیس إلاّ خداعاً مفضوحاً للمسلمین، فإن الادعاء بأن خبر قتل مروان لطلحة لم ینقله ثبت، لا أساس له من الصحة! فإن الخبر قد نقله الاثبات، وأخرجه المحدثون فی کتبهم بروایات لا مغمز فیها، فقد أخرج الحاکم النیسابوری قال:
1 - أخبرنی محمد بن یعقوب الحافظ، ثنا محمد بن إسحاق الثقفی، ثنا عباد بن الولید العنزی، ثنا صبان، ثنا شریک بن الحباب، حدثنی عقبة بن صعصعة بن الأحنف، عن عکراش، قال: کنا نقاتل علیاً مع طلحة ومعنا مروان، قال: فانهزمنا، قال فقال مروان: لا أدرک بثأری بعد الیوم من طلحة. قال: فرماه بسهم فقتله.
2 - حدثنا أبو العباس محمد بن یعقوب، ثنا العباس بن محمد الدوری، ثنا أشهل بن حاتم، عن ابن عون، قال: قال نافع: طلحة بن عبیدالله قتله مروان ابن الحکم.
3 - حدثنا علی بن حماد العدل، ثنا محمد بن غالب، ثنا یحیى بن سلیمان الجعفی، ثنا وکیع، عن اسماعیل بن أبی خالد، عن قیس بن أبی حازم قال: رأیت مروان بن الحکم حین رمى طلحة بن عبیدالله یومئذ، فوقع فی رکبته، فما زال یسبح الى أن مات.
4 - حدثنی محمد بن ظفر الحافظ، وأنا سألته، حدثنی الحسین بن عیاش القطان، ثنا الحسین، ثنا یحیى بن عیاش القطان، ثنا الحسین بن یحیى المروزی، ثنا غالب بن جلیس الکلبی أبو الهیثم، ثنا جویریة بن أسماء عن یحیى بن سعید، ثنا عمی قال:
لما کان یوم الجمل، نادى علی فی الناس: لا ترموا أحداً بسهم، ولا تطعنوا برمح، ولا تضربوا بسیف، ولا تطلبوا القوم، فإنّ هذا مقام من أفلح فیه أفلح یوم القیامة.
قال: فتوافقنا، ثم إن القوم قالوا بأجمع:یا ثارات عثمان، قال: وابن الحنفیة أمامنا بربوة معه اللواء، قال: فناداه علی، قال: فأقبل علینا یعرض وجهه فقال:
یا أمیر المؤمنین، یقولون یا ثارات عثمان، فمد علی یدیه وقال: اللهم أکب قتلة عثمان الیوم بوجوههم. ثم إن الزبیر قال للأساورة، کانوا معه، قال: ارموهم برشق، وکأنه أراد أن ینشب القتال، فلما نظر أصحابه الى الانتشاب لم ینتظروا، فحملوا فهزمهم الله، ورمى مروان بن الحکم طلحة بن عبیدالله بسهم فشک ساقه بجنب فرسه، فقبض به الفرس حتى لحقه فذبحه فالتفت مروان الى أبان بن عثمان وهو معه فقال: لقد کفیتک أحد قتلة أبیک(5).
فهذه أربع روایات مسندة سکت الذهبی عن ثلاث منها واعترف بصحة واحدة، وکما أخرج عدد من الحفاظ روایات اُخرى مسندة تعترف بقتل مروان لطلحة، فقد روى عمر بن شبة، عن عبدالرحمان بن أبی لیلى، قال: قال لی عبدالملک بن مروان: أشهدت الدار؟ قلت: نعم، فلیسل أمیر المؤمنین عما أحب.
قال: أین کان علی؟ قلت: فی داره. قال: فأین کان الزبیر؟ قلت: عند أحجار الزیت. قال: فأین طلحة؟ قلت: نظرت فإذا مثل الحرة السوداء، فقلت ما هذا؟
قالوا: طلحة واقف، فإن حال حائل دون عثمان قاتله. فقال: لولا أن أبی أخبرنی یوم مرج راهط أنه قتل طلحة، ما ترکت على وجه الأرض من بنی تیم أحداً إلاّ قتلته(6).
فها هو ابن مروان یخبر بأن أباه قد اعترف بقتل طلحة یوم الجمل، والاعتراف سید الأدلة کما یقال(7).
وقال ابن حجر: روى ابن عساکر من طرق متعددة أن مروان بن الحکم هو الذی رماه فقتله. منها: وأخرجه ابو القاسم البغوی بسند صحیح عن الجارود بن أبی سبرة، قال: لما کان یوم الجمل، نظر مروان الى طلحة فقال: لا أطلب ثاری بعد الیوم، فنزع له بسهم فقتله(8).
وقال محدث الدین الطبری: المشهور أن مروان بن الحکم هو الذی قتله، رماه بسهم وقال: لا أطلب ثأری بعد الیوم، وذلک أن طلحة زعموا أنه کان ممن حاصر عثمان واشتد علیه(9).
وقال ابن عبدالبر: لا یختلف العلماء الثقات فی أن مروان قتل طلحة یومئذ، وکان فی حزبه(10).
وقال ابن حجر العسقلانی: وعاب الاسماعیلی على البخاری تخریج حدیثه، وعدّ من موبقاته أنه رمى طلحة، أحد العشرة المبشرة یوم الجمل وهما جمیعاً مع عائشة فقُتل، ثم وثب على الخلافة بالسیف(11).
ومن الاُمور التی أثارت الرأی العام على عثمان هو أمر الحمى.وهذا الأمر أیضاً قد اختلفت فیه وجهات النظر، فأما ابن العربی فقال: أما أمر الحمى، فکان قدیماً، فیقال: إن عثمان زاد فیه لما زادت الرعیة.
وإذا جاز أصله للحاجة إلیه، جاءت الزیادة لزیادة الحاجة(12).
أما محب الدین الخطیب، فیعلق على الأمر بذکر روایة عن ابن عمر:
أن النبی (صلى الله علیه وآله) ضمن النقیع للخیل..
قال حماد بن خالد راوی هذا الحدیث عن عبدالله بن عمر العمری: یا أبا عبدالرحمان، خیله؟
قال: خیل المسلمین (أی المرصودة للجهاد، أو ما یملکه بیت المال).
والنقیع هذا فی المدینة على عشرین فرسخاً منها، ومساحته میل فی ثمانیة أمیال، کما فی موطأ مالک بروایة ابن وهب.
ومعلوم أن الحال استمر فی خلافة أبی بکر على ما کان علیه فی زمن النبی (صلى الله علیه وآله)، لأن أبا بکر لم یخرج عن شیء کان علیه الحال فی زمن النبی (صلى الله علیه وآله)، لا سیّما وأن حاجة الجهاد الى الخیل والابل زادت عن قبل.
وفی زمن عمر اتسع الحمى فشمل (سرف) و (الربذة)، وکان لعمر عامل على الحمى، هو مولىً له یدعى هنیاً.
وفی کتاب الجهاد من صحیح البخاری من حدیث زید بن أسلم عن أبیه نص وصیته أمیر المؤمنین عمر لعامله هذا على الحمى، بأن یمنع الأثریاء کعبدالرحمان بن عوف وعثمان بن عفان، وأن یتسامح مع رب الغنیمة ورب الصریمة لئلا تهلک ماشیتهما.
وکما اتسع عمر فی الحمى عما کان علیه فی زمن النبی (صلى الله علیه وآله) وأبی بکر لزیادة سوائم بیت المال فی زمنه، اتسع عثمان بعد ذلک لاتساع الدولة وازدیاد الفتوح، فالذی أجازه النبی (صلى الله علیه وآله) لسوائم بیت المال، ومضى على مثله أبو بکر وعمر، یجوز مثله لبیت المال فی زمن عثمان، ویکون الاعتراض علیه اعتراضاً على أمر داخل فی التشریع الاسلامی.
ولما أجاب عثمان على مسألة الحمى، عندما دافع عن نفسه على ملأ من الصحابة، أعلن أن الذین یلون له الحمى اقتصروا فیه على صدقات المسلمین یحمونها لئلا یکون بین من یلیها وبین احد تنازع، وأنهم ما منعوا ولا نحوا منها أحداً، وذکر عن نفسه أنه قبل أن یلی الخلافة کان أکثر العرب بعیراً وشاةً، ثم أمسى ولیس له غیر بعیرین لحجه، وسأل من یوف ذلک من الصحابة: أکذلک؟ قالوا: اللهم نعم(13).
إن المتبادر الى الذهن من أقوال ابن العربی والخطیب ومن تابعهما، أن عثمان بن عفان قد سار بنفس سیرة النبی (صلى الله علیه وآله) والشیخین أبی بکر وعمر فی مسألة الحمى، فإذا کان الأمر کذلک، فما سبب اعتراض الناس إذاً، أیعقل أن یعترضوا على تخصیص الحمى لرعی خیل الجهاد؟ ولماذا لم یعترضوا على عمر بن الخطاب عندما توسع فی الحمى!
إن الروایة التی استشهد بها الخطیب، والتی تتضمن وصیة عمر بن الخطاب بمنع سوائم کل من عبدالرحمان بن عوف وعثمان بن عفان من الحمى، تؤکد صدق حدس عمر بن الخطاب فی عثمان وقلقه من أن یستغل عثمان هذا الحمى لماشیته وماشیة أقربائه.
وأورد ابن أبی الحدید المعتزلی جملة من الاُمور التی نقمها الناس على عثمان وکان منها: أنه "حمى المراعی حول المدینة کلها من مواشی المسلمین کلهم الاّ عن بنی اُمیة"(14).
والحقیقة، فإن المعروف من سیرة عثمان تؤکد صحة هذه المقولة.
أما الروایة التی یستشهد بها الخطیب فی احتجاج عثمان على ملأ من الصحابة حول موقفه من الحمى، وأنه لم یبق له من أمواله غیر بعیرین لحجّه، فهی روایة سیف بن عمر فی الطبری، والشواهد کلها تکذبها، فقد أخرج جمع من المؤرخین - واللفظ لابن سعد- عن عبدالله بن عتبة قال:
کان لعثمان بن عفان عند خازنه یوم قُتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، وخمسون ومائة الف دینار انتهبت وذهبت، وترک ألف بعیر بالربذة، وترک صدقات کان تصدق بها ببرادیس وخیبر ووادی القرى قیمة مائتی ألف دینار(15).
ومعلوم أن الربذة کانت من مواطن الحمى، وترک عثمان ألف بعیر بها یدل على أنه کان یرعى ماشیته فی حمى المسلمین.
1- الخلافة ونشأة الأحزاب السیاسیة، محمد عمارة: 96.
2- مختصر تاریخ العرب: 66.
3- العواصم من القواصم: 160.
4- العواصم من القواصم: 160.
5- المستدرک على الصحیحین 3: 370، وسکت الذهبی عن الروایات الاولى والثانیة والرابعة، وقال عن الثالثة: صحیح.
6- تاریخ المدینة 2: 1170.
7- أنساب الاشراف 3: 29، تاریخ الاسلام للذهبی 3: 486، طبقات ابن سعد 3: 223
8- الاصابة 2: 30، تاریخ دمشق 25: 112 رقم 8983، مختصر تاریخ دمشق 11: 207.
9- الریاض النضرة 4: 230.
10- الاستیعاب رقم 1280.
11- تهذیب التهذیب 10: 82.
12- العواصم من القواصم: 84.
13- العواصم من القواصم: 85 هامش.
14- شرح نهج البلاغة 1: 199، 3: 39، السیرة الحلبیة 2: 78.
15- الطبقات الکبرى: ترجمة عثمان بن عفان.