
کانت حادثة مقتل الهرمزان اُولى المشاکل التی اعترضت عهد عثمان وفی أول یوم من خلافته، ولعل هذه الحادثة لم تکن من الاُمور المهمة جداً، أو من الأسباب الرئیسیة التی أدت الى وقوع الفتنة، لأن الحادثة وقعت فی بدایة عهد عثمان، قبل أن تحدث التغیرات السیاسیة التی وقعت فیما بعد، الاّ أن هذه الحادثة قد کشفت عن جوانب الخلل الکبیر فی سیاسة عثمان وإدارته للاُمور.
وهذه الحادثة قد تعرضت هی الاُخرى الى عملیة تزییف وتشویه للحقائق لأغراض خاصة، لذا ارتأیت ایرادها ومناقشتها وبیان وجه الخلل فی الأعذار التی افتعلت لعثمان فی کیفیة معالجته هذه القضیة، فالحادثة وإن کانت ثانویة إلاّ أنها تتعلق بحد من حدود الله، فضلا عن مساسها بحیاة المجتمع الاسلامی.
وخلاصة القصة -کما ذکرها المؤرخون -: أن عبید الله بن عمر قتل جُفینة والهرمزان وبنت أبی لؤلؤة، وجعل عبیدالله یقول: والله لأقتلن رجالا ممن شرک فی دم أبی -یعرّض بالمهاجرین والأنصار- فقام إلیه سعد فنزع السیف من یده وجبذه بشعره حتى أضجعه وحبسه، فقال عثمان لجماعة من المهاجرین:
أشیروا علیَّ فی هذا الذی فتق فی الإسلام ما فتق.
فقال عمرو بن العاص: یا أمیر المؤمنین، إن الله قد أعفاک أن یکون هذا الحدث ولک على المسلمین سلطان، وإنما تم هذا ولا سلطان لک.
قال عثمان: أنا ولیُّهم وقد جعلتها دیة احتملتها من مالی(1).
وقد تباینت وجهات النظر حول الحادثة ونتائجها من تصرف عثمان فی الأمر.
فأما القاضی ابن العربی، فقد حاول -کعادته- نسف القضیة فی البدایة، ثم عاد فحاول أن یجد الأعذار لعثمان، اعتماداً على روایة فی تاریخ الطبری، وقد تناقلها المؤرخون من بعده، فقال:
وأما امتناعه (عثمان) عن قتل عبیدالله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان، فإن ذلک باطل.
وإن کان لم یفعل والصحابة متوفرون والأمر فی أوله.
وقد قیل: إن الهرمزان سعى فی قتل عمر، وحمل الخنجر وظهر تحت ثیابه.
وکان قتل عبیدالله له وعثمان لم یلِ بعد.
وأیضاً فإنّ أحداً لم یقم بطلبه.
فکیف یصح مع هذه الاحتمالات کلها أن ینظر فی أمر لم یصح(2).
أما موقف الصحابة، فقد أعلن عدد منهم عن رأیه، فأشار بعضهم على عثمان بقتل عبیدالله، فقد ذکر الیعقوبی أن الناس قد أکثروا فی دم الهرمزان وإمساک عثمان عبیدالله بن عمر، فصعد عثمان المنبر فخطب الناس ثم قال: ألا إنی ولیّ دم الهرمزان، وقد وهبته لله ولعمر وترکته لدم عمر.
فقام المقداد بن عمرو فقال: إن الهرمزان مولى لله ولرسوله، ولیس لک أن تهب ما کان لله ولرسوله، قال: فننظر وتنظرون.
ثم أخرج عثمان عبیدالله بن عمر من المدینة الى الکوفة، وأنزله داراً، فنسب الموضع إلیه (کوفیة ابن عمر)، فقال بعضهم:
أبا عمرو وعبیدالله رهن / فلا تشکک بقتل الهرمزان(3)
أما البلاذری فذکر أن عثمان صعد المنبر فقال:
أیها الناس، إنا لم نکن خطباء، وإن نعش تأتکم الخطبة على وجهها إن شاء الله. وقد کان من قضاء الله أن عبیدالله بن عمر أصاب الهرمزان، وکان الهرمزان من المسلمین ولا وارث له الاّ المسلمون عامة، وأنا إمامکم وقد عفوت، أفتعفون؟ قالوا: نعم. فقال علی: أقِد الفاسق فإنه أتى عظیماً، قتل مسلماً بلا ذنب، وقال لعبیدالله: یا فاسق، لئن ظفرت بک یوماً لأقتلنک بالهرمزان(4).
وعند ابن أبی الحدید أنه لما بلغ خبر عفو عثمان عن عبیدالله، علی بن أبی طالب، تضاحک وقال: سبحان الله، لقد بدأ بها عثمان، أیعفو عن حق امرئ لیس بولیه! تالله إن هذا لهو العجب.
قالوا: فکان ذلک أول ما بدأ من عثمان مما نُقم علیه(5).
أما عمرو بن العاص فقد جعل عثمان فی حل من أمر عبیدالله لأنه لم یکن قد ولی الخلافة بعد، وهو الرأی الذی مال الیه القاضی ابن العربی.
ولا أدری کیف یکون ابن العربی قاضیاً، واُولى مهمات القضاء رد المظالم وإقامة الحدود على الجناة، ولکنا نجده هنا یتسامح مع عبیدالله بن عمر تجاوباً مع رأی ابن العاص، وتبریراً لموقف عثمان.
إن الأخذ برأی عمرو بن العاص یعنی أن کل وال لیس مطالباً باقامة الحدود إذا وقعت الجرائم قبل تولیه منصبه. فلو تأخر تنصیب الخلافة -تبعاً لهذا الرأی- بضعة أیام، واستغل بعض أصحاب النفوس المریضة الفرصة وارتکبوا جرائم قتل وانتهاک حرمات المسلمین، فالخلیفة ینبغی أن لا یکون مسؤولا عن رد المظالم ومعاقبة الجناة وإقامة حدود الله لأنها وقعت قبل تولیه الخلافة، فتذهب الدماء والحقوق هدراً.
إننا ونحن ننقل رأی عمرو بن العاص هذا، نذکر المتحمسین له، بأن قتل عثمان بن عفان قد وقع قبل تولی علی بن أبی طالب الخلافة، فلماذا لم یعتذر عمرو بن العاص بهذا العذر لعلی ویقنع معاویة بذلک، بدلا من أن ینظم الى فئته ویشن الحرب على علی ویریق دماء عشرات الاُلوف من المسلمین بدم عثمان.
ومثل هذا یقال أیضاً لاُم المؤمنین عائشة وطلحة والزبیر، وهم الذین خرجوا یطالبون علیاً بإقامة الحدّ على قتلة عثمان، ولم یعذروه بأن الحادثة وقعت قبل تولیه مهام الخلافة!
بقی أن نناقش الروایة التی أورد ابن العربی طرفاً منها حول تآمر الهرمزان على قتل الخلیفة عمر، وقضیة الخنجر المزعوم الذی وجد تحت ثیابه... الخ، ومعرفة مصدرها، وکیف یتشبث البعض بها لتزییف الحقیقة، وهی الروایة التی أوقع واضعها نفسه فی تناقضات مضحکة، وکذلک الذین جاءوا بعده وأخذوا بها.
نقل محب الدین الخطیب روایة عن سعید بن المسیب: أن عبد الرحمان بن أبی بکر الصدیق قال غداة طعن عمر: مررت على أبی لؤلؤة عشی أمس ومعه جفینة (وکان نصرانیاً من أهل الحیرة ظئراً لسعد بن أبی وقاص)، والهرمزان وهم نُجّى، فلمّا رهقتهم ثاروا، وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه فی وسطه... فانظروا بأی شیء قتل؟ وخرج فی طلبه رجل من بنی تمیم، فرجع الیهم التمیمی، وکان قد ألظّ بأبی لؤلؤة منصرفه عن عمر حتى أخذه، وجاء بالخنجر الذی وصف عبدالرحمان بن أبی بکر، فسمع بذلک عبیدالله بن عمر، فأمسک حتى مات عمر، ثم اشتمل على السیف فأتى الهرمزان فقتله(6).
هذه الروایة التی یذکرها الخطیب، سندها فی الطبری: کتب الی السری، عن شهیب، عن سیف، عن یحیى بن سعید، عن سعید بن المسیب!
ولا أجد حاجة لمناقشة هذا السند الذی أصبح یعرفه القارئ، وهی محاولة فاشلة من سیف لتبرأة عبید الله ومن خلفه عثمان، وإلقاء اللوم على الهرمزان. وإضافة لما تقدم، فقد حاول البعض نفی اسلام الهرمزان مقدمة لاهدار دمه لأنه لا یقتل مسلم بکافر، کما أخبر النبی (صلى الله علیه وآله)، فقد قال الذهبی: ویروى أن الهرمزان لما عضّه السیف قال: لا إله الاّ الله(7).
ولکن الذهبی کان قد قال فی ترجمة الهرمزان -قبل ذلک بقلیل-:
والهرمزان هو ملک تُستر، وقد تقدم إسلامه، قتله عبیدالله بن عمر لما اُصیب عمر، فجاء عمار بن یاسر فدخل على عمر فقال: حدث الیوم حدث فی الاسلام.
قال: وما ذاک؟ قال: قتل عبیدالله الهرمزان. قال: (إنّا للهِ وإنّا إلیهِ راجعون)، علیَّ به، وسجنه(8).
فهذا یثبت اسلام الهرمزان، خصوصاً إذا تذکرنا قول المقداد وعلی بن أبی طالب وردهما على عثمان فیما أوردنا عن البلاذری والیعقوبی.
کما وتثبت هذه الروایة عدم صحة إدعاء سیف بن عمر أن عبیدالله تریث الى أن توفی عمر ثم باشر قتل الهرمزان.
ولم یکتف الشیخ الخطیب بکل ما سبق، بل استشهد بروایة غریبة عجیبة -کما أوردها الطبری عن سیف- وتخالف کل ما أخرج المؤرخون من روایات، قال سیف فیها نقلا عن أحد شیوخه: سمعت القماذبان یحدّث عن قتل أبیه... قال: فلما ولی عثمان دعانی فأمکننی منه (أی من عبیدالله بن عمر بن الخطاب)(9).
ثم قال: یا بنی، هذا قاتل أبیک، وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله.
فخرجت به وما فی الأرض أحد الاّ معی، الاّ أنهم یطلبون إلی فیه; فقلت لهم: إلیَّ قتله؟ قالوا: نعم. وسبّوا عبیدالله، فقلت: أفلکم أن تمنعوه؟ قالوا: لا، وسبّوه. فترکته لله ولهم، فاحتملونی، فوالله ما بلغت المنزل إلاّ على رؤوس الرجال وأکفّهم.
قال الخطیب: هذا کلام ابن الهرمزان، وان کل منصف یعتقد (ولعل ابن الهرمزان کان یعتقد) أن دم أمیر المؤمنین عمر فی عنق الهرمزان، وأن أبا لؤلؤة لم یکن إلاّ آلة فی ید هذا الفارسی، وأن موقف عثمان واخوانه أصحاب رسول الله (صلى الله علیه وآله) من هذا الحادث لا نظیر له فی تاریخ العدالة الانسانیة(10).
لا شک أن ذلک الموقف بالغ العظمة لو صدقت الروایة التی جاءت عن شیخ الوضاعین سیف، فضلا عن أن الخطیب نسی أنه ینقض أقوال استاذه ابن العربی الذی کان من جملة تبریراته لعمل عثمان، أن الهرمزان لم یکن له ولی یطلب بدمه ـ وکما أکد عثمان نفسه على المنبر - فمن أین جاء هذا القماذبان الذی لم تذکره روایة اُخرى، مما یثبت أن القماذبان لیس له وجود إلاّ فی خیال سیف الواسع.
إن هذه الروایة التی یوردها سیف بن عمر، تؤکد أن سیف نفسه کان مقتنعاً بخطأ موقف عثمان، فحاول أن یصححه بوضع هذه الروایة، ولقد ذکر ابن الاثیر هذه الروایة، وردّها، فقال بعد ایرادها:
والأول أصح، فی اطلاق عبیدالله، لأن علیاً لما ولی الخلافة أراد قتله، فهرب الى معاویة بالشام، ولو کان اطلاقه بأمر ولی الدم، لم یتعرض له علی(11).
بقی لنا أن نناقش الحساب اولئک الذین أهدروا دم الهرمزان (لأنه لیس له ولی)،أو کما قال ابن العربی: (أن أحداً لم یقم بطلب دمه)، والذی یعنی أن کل ضعیف فی المجتمع الإسلامی، لیس له ولی، فلا ینبغی النظر فی مظلمته إذا تعرض للقتل، طالما أن لیس هناک من یطلب بدمه.
ولا أدری کیف یسمح القاضی ابن العربی لنفسه أن یصدر مثل هذا الحکم الذی یضع فی أیدی أعداء الإسلام ومنتقدیه سلاحاً ماضیاً للطعن فی قوانینه وشرائعه، والتی من اُولى مهامها ردّ المظالم، وهو الأمر الذی یشکل مصدر فخر للمسلمین، مع العلم أن القانون الذی یطلب ابن العربی تطبیقه، تأنف منه حتى القوانین الوضعیة التی لا یرتضیها الاسلام، فکیف یرضى بهذا القانون!
فعثمان بتعطیله إقامة الحد على عبیدالله، قد فتح الباب للمجترئین على الشریعة، ولم یکتف بذلک، بل قام بتهریب عبیدالله الى الکوفة وأنزله داراً فیها، حتى نسب الموضع إلیه -کما ذکر الیعقوبی ـ.
"فعبیدالله لم یعاقب على شیء مما أتى، وإنما احتمل العقوبة عنه عثمان حین أدى الدیّة من ماله هو، ولو قد عفا فحقن دم عبیدالله، ثم فرض علیه وعلى اُسرته دیّة القتلى، لأقام الحدّ فی غیر ریبة، ولما استطاع أحد أن ینکر من قضائه شیئاً.
ولو أنه إذ أدى الدیّة من ماله رفقاً بآل الخطاب، أمسک عبیدالله فی السجن تعزیراً له وتأدیباً حتى یتوب الى الله من إثمه ویندم على إراقة الدم فی غیر حقه، وعلى الاستخفاف بالسلطان استجابة للحفیظة الجاهلیة، لو قد فعل ذلک لکان له مخرج من هذا الحرج، ولأعلم فتیان قریش من أمثال عبیدالله أن دماء المسلمین والذمیین أعظم حرمة عندالله وعند السلطان من أن تراق بغیر الحق، ثم لا یعاقب من اراقها عقاباً یسیراً أو خطیراً(12).
وهذا الذی طالب الدکتور طه حسین، هو فی الحقیقة أضعف الإیمان، ولکن عثمان لم یعمل به، على الأقل تثبیتاً لهیبة الخلافة فی أول یوم من تولیه ناصیتها، وهکذا ذهب دم الهرمزان -کما قال سعید بن المسیب- هدراً(13).
إتمام الصلاة
من الاُمور الثابتة، أن عثمان بن عفان کان أول من أتمّ الصلاة فی السفر، خلافاً لما کان علیه فی زمن رسول الله (صلى الله علیه وآله) وزمن الخلیفتین أبی بکر وعمر.فعن ابن عباس: إن أول ما تکلم الناس فی عثمان ظاهراً، أنه صلّى بالناس بمنى فی ولایته رکعتین، حتى إذا کانت السنة السادسة أتمّها. فعاب ذلک غیر واحد من أصحاب النبی (صلى الله علیه وآله) وتکلم فی ذلک من یرید أن یکثر علیه، حتى جاءه علیٌّ فیمن جاءه فقال: والله ما حدث أمر ولا قدم عهد، ولقد عهدت نبیک (صلى الله علیه وآله) یصلی رکعتین، ثم أبا بکر، ثم عمر، وأنت صدراً من ولایتک، فما أدری ما ترجع إلیه!
فقال: رأی رأیته(14).
ولقد أورث عثمان الفقهاء مشکلة، وهم یحاولون أن یخرّجوا عمله الذی هو مخالفة صریحة للسنة النبویة المتواترة، ولا یمکن الادعاء أن عثمان قد اطّلع على ما لم یطّلع علیه غیره من سنة النبی (صلى الله علیه وآله)، لأن صلاة النبی فی الموسم کانت مشهودة من عشرات الاُلوف من المسلمین، فضلا عن أن استمرار أبی بکر وعمر، بل وحتى عثمان نفسه شطراً من خلافته على قصر الصلاة یثبت ذلک.
وأمام هذه الحقیقة، لم یجد بعض العلماء من عذر لعثمان سوى دعوى الاجتهاد، ومن القائلین بذلک، أبو بکر بن العربی، إذ قال:
وأما ترک القصر، فاجتهاد، إذ سمع أن الناس افتتنوا بالقصر، وفعلوا ذلک فی منازلهم، فرأى أن السنّة ربما أدت الى إسقاط الفریضة، فترکها مصلحة خوف الذریعة، مع أن جماعة من العلماء قالوا: إن المسافر مخیّر بین القصر والاتمام، واختلف فی ذلک الصحابة(15).
لکن هذه الأعذار التی یسوقها ابن العربی لا تبرر عمل عثمان، وهی کلها من التأویلات التی استحدثت فیما بعد تصحیحاً لموقف عثمان، إذ ما وجه الاجتهاد أمام سنة نبویة لا تقبل شکاً ولا جدلا، وخوف عثمان من إفتتان الناس بالقصر - لو صح ذلک- لا یبرر تغییر هذه السنّة، بل کان فی مقدوره أن یجمع الناس فی الموسم ویلقی علیهم خطبة یبین فیها الوجه الصحیح، ویؤیده الصحابة فی ذلک، وفیه الکفایة، وهذا هو فی الحقیقة واجب الخلیفة الذی قام مقام النبی (صلى الله علیه وآله).
وموقف الصحابة من عثمان یکفی لاثبات خطئه،وإن کانت هذه المواقف قد تعرضت لبعض التزییف أیضاً، کما سوف یتبین بعد قلیل.
لقد اعترض علی بن أبی طالب على عثمان الذی لم یجد تبریراً لعمله سوى أنه کما قال: رأی رأیته، وقد جابهه عبدالرحمان بن عوف أیضاً بما یدحض حججه، قائلا له:
ألم تصلِّ فی هذا المکان مع رسول الله (صلى الله علیه وآله) رکعتین؟ قال: بلى. قال: أفلم تصلِّ مع أبی بکر رکعتین؟ قال: بلى. قال: أفلم تصل مع عمر رکعتین؟ قال: بلى. قال: ألم تصلِّ صدراً من خلافتک رکعتین؟ قال: بلى.
قال: فاسمع منی یا أبا محمد، انی أخبرت أن بعض من حج من أهل الیمن وحفاة الناس قد قالوا فی عامنا الماضی: إن الصلاة للمقیم رکعتان، هذا إمامکم عثمان یصلی رکعتین، وقد اتخذت بمکة أهلا، فرأیت أن أُصلی أربعاً لخوف ما أخاف على الناس. واُخرى، قد اتخذتُ بها زوجة، ولی بالطائف مال، فربما اطلعته فأقمت فیه بعد الصدر.
فقال عبد الرحمان بن عوف: ما من هذا شی لک فیه عذر.
أما قولک: اتخذت أهلا، فزوجتک بالمدینة تخرج بها إذا شئت، وتقدم بها إذا شئت; إنما تسکن بسکناک.
وأما قولک: ولی بالطائف مال، فإن بینک وبین الطائف مسیرة ثلاث لیال، وأنت لست من أهل الطائف.
وأما قولک: یرجع من حج من أهل الیمن وغیرهم فیقولون: هذا إمامکم عثمان یصلی رکعتین وهو مقیم، فقد کان رسول الله (صلى الله علیه وآله) ینزل علیه الوحی والناس یومئذ الإسلام فیهم قلیل، ثم أبو بکر مثل ذلک، ثم عمر. فضرب الاسلام بجرانه، فصلى بهم عمر حتى مات رکعتین.
فقال عثمان: هذا رأی رأیته.
فخرج عبدالرحمان فلقی ابن مسعود، فقال: أبا محمد غیر ما یعلم. قال: لا، قال: فما أصنع؟ قال: اعمل أنت بما تعلم.
فقال ابن مسعود: الخلاف شر، قد بلغنی أنه صلى أربعاً فصلیت بأصحابی أربعاً، فقال عبدالرحمان بن عوف: قد بلغنی أنه صلى أربعاً، فصلیت بأصحابی رکعتین. وأما الآن فسوف یکون الذی تقول -یعنی نصلی معاً أربعاً(16).
یمکن أن نلاحظ مما سبق، أن عبدالرحمان بن عوف قد أسقط جمیع الحجج التی تذرع بها عثمان لإتمام صلاته، الاّ أن الغریب فی هذه الروایة، هو المقطع الأخیر منها، والذی لاشک أنه قد زید علیها، إذ ما معنى أن یصلی ابن مسعود بأصحابه، وعبدالرحمان بن عوف بأصحابه، فهل کان کل صحابی یصلی (فی موسم الحج) بمجموعة من الناس کأنهم أتباع له؟
وماذا کان یفعل عثمان إذاً، وبمن کان یصلی؟!
إن من المعلوم لدى الجمیع، أن المسلمین قدیماً والى یومنا هذا یصلّون جمیعاً خلف أمیر الحج، الذی یکون إما الخلیفة - من بعد النبی- أو من ینوب عنه بأمره، حیث یأتم المسلمون جمیعاً وبکافة طوائفهم ومذاهبهم - التی ظهرت فیما بعد- بأمیر الحج هذا، ویصلون صلاة واحدة قصراً، کما کانت على عهد النبی (صلى الله علیه وآله)، ولم نعلم أن کل مجموعة من المسلمین تصلی بمفردها ویؤمّها شخص ما غیر أمیر الحج!
المصادر:
1- تاریخ الاسلام للذهبی 3: 306، تاریخ الطبری 4: 204، الکامل لابن الأثیر 3: 75.
2- العواصم من القواصم: 116.
3- تاریخ الیعقوبی 2: 163
4- أنساب الأشراف 6: 130.
5- شرح نهج البلاغة 9: 55.
6- هامش 139 من کتاب العواصم من القواصم.
7- تاریخ الاسلام 3: 307.
8- تاریخ الإسلام 3: 306.
9- هذا التعلیق من الخطیب.
10- العواصم من القواصم: الهامش 137.
11- الکامل فی التاریخ 3: 76.
12- الفتنة الکبرى: 263 ضمن المجموعة.
13- الاصابة 3: 619، طبقات ابن سعد 5: 108.
14- تاریخ الطبری: 4 ـ 267.
15- العواصم من القواصم: 90.
16- الطبری 4: 267.