
ازدهر الشعر بالکوفة ، وخاصّة فی العصر الأموی ، وأخذ الشعراء والأدباء یزدحمون فی مسجد الکوفة وفی غیره من المساجد والمحافل للمفاخرة والمناظرة ، فأصبحت الکوفة کسوق عکاظ (سوق عکاظ : کانت العرب تقیمه فی الجاهلیة فی صحراء ما بین نخله والطائف للمفاخرة فی الشعر والأدب والفضیلة ، ویتبادلون فیه ما یحتاجونه فی ذلک الوقت من لوازم وحاجیات.).
ومن جمله الشعراء الّذین عرفوا بالکوفة هم : المنازل بن الأحنف ، ومرداس بن حذام ، وعمر بن یزید بن هلال النخعى ، وحمّاد الراویة ، وعتاب بن قیس الطائی ، ومالک بن أسماء ، ومعن بن زائدة الشیبانی ، وأبو العتاهیة ، والطرماح بن حکیم الطائی ، ودعبل بن علیّ الخزاعی ، والکمیت ابن زید ، وأبو دلامة الأسدی ، وسلیمان بن صرد الخزاعی وأبو الطیب المتنبیّ وغیرهم کثیر (1).
قال أبو عیینة فی (قینة) أحبها بالکوفة (أبو عیینة : وهو اسماعیل بن عمّار بن عیینة بن الطفیل الأسدی ، شاعر من مخضرمی الدولتین الأمویّة والعباسیّة ، سکن الکوفة ، وکان کثیر التردد على دار ابن رامین لسماع القیان عنده ، ویتغزل فیهن )(2) :
لعمرى لقد أعطیت بالکوفة المنى / وفوق المنى بالغانیات النواعم
ونادمت أخت الشمس حسنا فوافقت / هوای ومثلی مثلها فلینادم
وأنشدتها شعری بدنیا فعربدت / وقالت : ملول عهده غیر دائم
فقلت لها یا ظبیة الکوفة اغفری / فقد تبت مما قلت توبة نادم
فقالت : قد استوجبت منّا عقوبة / ولکن سنرعى فیک روح ابن حاتم
الخطّ الکوفی :
عند ما انتقل مرکز الخلافة الاسلامیة الى الکوفة (کما ذکرت سابقا) انتقلت معه الخطوط المعروفة آنذاک (بالمدنیّة والمکیّة) الى الکوفة والبصرة ، ثمّ لم تلبث تلک الخطوط طویلا حتّى عرفت بالعراق (بالخطّ الحجازی) (3).وفی الکوفة اهتمّ المعنیّون بالخطّ ، فتمکّنوا من ابتکار نوع جدید من الخطّ یختلف عن بقیة الخطوط فی هندسة أشکاله وصوره عرف (بالخطّ الکوفی) ومن الکوفة انتشر ذلک الخطّ فی أرجاء العالم الاسلامی ، فکتبت به المصاحف الشریفة ، وزینت به جدران المبانی والمساجد ، ونقش على النقود وعلى شواهد القبور.
ما قیل فی الکوفة :
١ ـ قال الامام علیّ علیهالسلام وکان فی مسجد الکوفة : (یا أهل الکوفة ، لقد حباکم الله عزوجل بما لم یحب به أحدا ، ففضل مصلّاکم ، وهو بیت آدم ونوح ، وبیت ادریس ، ومصلّى ابراهیم الخلیل ، ومصلّى أخى (الخضر) ومصلای ، وإنّ مسجدکم هذا هو أحد المساجد (4)الأربعة الّتی اختارها الله عزوجل لأهلها ، وکأنی به یوم القیامة فی ثوبین أبیضین شبیه بالمحرم یشفع لأهله ، ولمن صلّى فیه ، فلا ترد شفاعته ، ولا تذهب الأیّام حتّى ینصب الحجر الأسود فیه (5)
ولیأتین علیه زمان یکون مصلّى (المهدى) من ولدى ، ومصلّى کلّ مؤمن ، ولا یبقى على الأرض مؤمن الّا کان به ، أو حنّ قلبه إلیه ، فلا تهجرنّ ، وتقربوا الى الله عزوجل بالصلاة فیه ، وارغبوا إلیه فی قضاء حوائجکم ، فلو یعلم الناس ما فیه من البرکة لأتوه من أقطار الأرض ، ولو حبوا على الثلج).
٢ ـ وقال الامام علیّ علیهالسلام أیضا (6) : (کأنّى بک یا کوفة ، تمدین مدّ الأدیم
العکاظی ، تعرکین بالتوازن وترکبین بالزلازل ، وإنّی لأعلم أنّه ما أراد بک جبّار سوءا إلّا ابتلاه الله بشاغل ، أو رماه بقاتل).
٣ ـ وقال الخلیفة عمر بن الخطاب : (أعیانى أهل الکوفة ...) إن استعملت علیهم لینا ، استضعفوه ، وإن ولیتهم القوی ، شکوه ، ولوددت أنّی وجدت قویّا ، أمینا ، مسلما ، استعملته علیهم) (7).
٤ ـ وقال صعصعة بن صوحان العبدی : (الکوفة : قبلة الاسلام وذروة الکلام ، ومصان ذوی الأرحام ، إلّا أنّ بها أجلافا تمنع ذوى الأمر والطاعة ، وتخرجهم عن الجماعة ، وتلک أخلاق ذوی الهیئة والقناعة) (8).
٥ ـ وقال ابن القریة یصف الکوفة أمام الحجّاج (9) : (الکوفة ارتفعت عن حرّ البحر ، وسفلت عن برد الشام ، وطاب لیلها ، وکثر خیرها).
٦ ـ وقارن الحجّاج بینها وبین البصرة أمام عبد الملک بن مروان فقال (... أمّا البصرة ، فعجوز شمطاء ، دخراء ، بخراء ، أتیت من کلّ حلی وزینة ، وأمّا الکوفة ، فشابّة حسناء ، جمیلة ، لا حلی لها ولا زینة). (10)
٧ ـ وقال ابن حوشب : (مدینة الکوفة ، قریبة من البصرة فی الکبر ، هواءها أصح وماؤها أعذب ، وهی على الفرات ، وبناؤها کبناء البصرة ، وهی خطط لقبائل العرب ، إلّا أنّها خراب بخلاف البصرة ، لأنّ ضیاع الکوفة قدیمة جدا وضیاع البصرة أحیاء موات فی الاسلام) (11).
٨ ـ والکوفة کما ذکرها الرحّالة ابن جبیر (12) : (هی مدینة کبیرة ، عتیقة البناء ، قد استولى الخراب على أکثرها ، فالغامر منها أکثر من العامر ، ومن أسباب خرابها قبیلة خفاجة المجاورة لها ، فهی لا تزال تضرّ بها ، وکفاک تعاقب اللیالی والأیّام).
٩ ـ والکوفة کما وصفها الرحّالة ابن بطوطة (13) : (والکوفة : هی احدى أمّهات المدن العراقیّة ، مثوى الصحابة والتابعین ومنزل العلماء والصالحین وحضرة علیّ بن أبى طالب أمیر المؤمنین ، الّا أنّ الخراب قد استولى علیها ، وفسادها من عرب خفاجة المجاورین لها ، فإنّهم یقطعون طریقها ، ولا سور علیها ، وبناؤها بالآجر ، وأسواقها حسان ، وأکثر ما یباع فیها التمر والسمک ، وجامعها الأعظم ، کبیر وشریف ... الخ).
(عمال الکوفة) أو (ولاة الکوفة) أو (أمراء الکوفة) کما أسمیتهم :
هذه التسمیات أو هذه المصطلحات ، أطلقت على الحکّام الّذین حکموا الکوفة وغیرها عبر العصور السالفة.
ولعلّ أقدم هذه التسمیات هی (العامل) (14) والّتی أخذت عن الروم ، فمنذ سنة (٥٣٦) (15) للمیلاد أصبح رئیس أو (شیخ القبیلة) أو (عامل) یسمى) heralyhP (وهذا اللقب العادی الذى یعرف به صاحب السلطة فی ولایة بلاد العرب (16). وکانت سلطة (العامل) آنذاک مقیّدة بسلطة الحکّام المدنیین والحربیین المعیّنین من قبل السلطة المرکزیة ، وکان من عادة الروم عند تعیینهم (العامل) أن تکون علیه مسحة من التمدّن ، وذلک لغرض حراسة حدودهم من إخوانهم سکان الصحراء (17).
کما أنّ سلطة عمّال الروم کانت تتعدّى حدود ولایتهم ، فنرى أنّ الامبراطور (یوستینیان) قد رقّى الحارث بن جبلة (18) الى رتبة ملک ، وولّاه سلطة على قبائل عربیة أخرى ، وکان غرضه من ذلک أن یکون خصما فی وجه المنذر (19). وکان (العمّال الصغار) الّذین تحت أمرة (العامل الأکبر) یرجعون إلیه فی زمن الحرب ، کما ویرجعون إلیه فی زمن السلم ، وقد تحدث أو (تحصل) منازعات وحروب فیما بین (العمّال أنفسهم) ، ففى أواسط القرن السادس للمیلاد ، نشبت الحرب بین الحارث بن جبلة وبین (الأسود) (20) وهما عاملین من عمال الروم فی سوریا (21).
أما الأمیر : فهو زعیم الجیش أو الناحیه (الجهه) ونحو ذلک ممّن یولیه الامام (22) ، وأصله فی اللغة (ذو الأمر) وهو فعیل بمعنى فاعل ، فیکون أمیر بمعنى آمر ، سمیّ بذلک لامتثال قومه أمره ، فیقال : أمّر فلان إذا صار أمیرا ، والمصدر / الأمرة ، والإمارة بالکسر ، والتأمیر : (تولیه الأمور وهی وظیفة قدیمة) (23).
وعند ظهور الاسلام ، کان النبیّ صلىاللهعلیهوآلهوسلم هو رئیس الدولة ، وکانت بیده جمیع السلطات : (التشریعیة والقضائیة والتنفیذیة). فکان صلىاللهعلیهوآلهوسلم یؤمّ المسلمین فی الصلاة ، ویقود الجیوش فی الغزوات ، ویفصل فی المنازعات.
ثمّ اتّسع التنظیم فی حیاة الرسول الأکرم" صلىاللهعلیهوآلهوسلم" فأخذ ینیب عنه بعض (العمّال) والأمراء فی بعض المدن ، والقبائل الکبیرة فی کلّ من الحجاز والیمن ، وکانت وظیفة هؤلاء العمّال تنحصر فی : (24) الامامة فی الصلاة. (25) جمع الصدقات. (26) زکاة الأموال. ولم تکن لهؤلاء العمّال أیة صفة سیاسیة ، کما کان صلىاللهعلیهوآلهوسلم یختار من عمّاله ممن اشتهر وعرف بالصلاح والتّقوى والعلم والتفقّه بالدین (27).
وکان صلىاللهعلیهوآلهوسلم یحثّ أولی الأمر أن یولّوا على أعمال المسلمین ، أصلح وأکفأ من یجدونه لذلک العمل ، حتّى قیل عنه صلىاللهعلیهوآلهوسلم إنّه قال : (من ولی أمر المسلمین شیئا ، فولی رجلا ، وهو یجد من هو أصلح منه ، فقد خان الله ورسوله والمسلمین)
وهذا أبو ذرّ الغفاری الصحابی الجلیل ، قال للنبی صلىاللهعلیهوآلهوسلم : (ألا تستعملنی یا رسول الله؟). فضرب الرسول صلىاللهعلیهوآلهوسلم بیده الکریمة على منکب أبی ذرّ وقال له : (یا أبا ذرّ ، إنّک ضعیف وإنّها أمانة ، وإنّها یوم القیامة خزی وندامة ، إلّا من أخذها بحقّها).
وهذا (العبّاس) عمّ النبیّ صلىاللهعلیهوآلهوسلم طلب منه أن یعیّنه (أیضا) عاملا على تلک الأعمال المفتوحة (وقد نالها من هو دونه) فقال له صلىاللهعلیهوآلهوسلم برفق وحنان : (والله یا عمّ ، إنّا لا نولی هذا الأمر أحدا یسأله ، أو أحدا یحرص علیه)
وقد طبّق الرسول الکریم صلىاللهعلیهوآلهوسلم الأسلوب الاستشاری فی قیادتة لشؤون الدولة ، فکان صلىاللهعلیهوآلهوسلم یستشیر أهل الرأی والبصیرة ، ومن شهد لهم بالعقل والفضل ، امتثالا لأمر الله سبحانه وتعالى حیث قال : (وَشاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ)
وأمّا فی زمن الخلفاء الراشدین ، فقد سار أبو بکر على ما کان علیه الرسول صلىاللهعلیهوآلهوسلم فأبقى العمّال الّذین عینهم النبیّ صلىاللهعلیهوآلهوسلم والأمراء الّذین أمرهم ، وأضاف الیهم غیرهم ، ثمّ قسّم الجزیرة العربیة الى اثنتی عشرة ولایة وهی : ١- مکّة ٢-المدینة ٣- الطائف ٤-صنعاء ٥- حضرموت ٦- خولان ٧- زبید ٨-مرقع ٩- الجند ١٠- نجران ١١-جرش (فی الیمن) ١٢- البحرین.
أمّا القادة الّذین وجّههم أبو بکر الى فتح العراق والشام ، فکان کلّ منهم یولّى على الأراضی الّتی یفتحونها
وأمّا الإدارة فی زمن عمر بن الخطاب ، فقد اتسعت الدولة الإسلامیة اتّساعا کبیرا (نتیجة للفتوحات الإسلامیة) فقسم الدولة إلى أقسام إداریة کبیرة (لیسهل حکمها والإشراف علیها) ، فأنشأ الدواوین ، وعیّن الولاة والقضاة ، وأوجد نظام الحسبة ، وأنشأ الجیش النظامی وأوجد السجن ، وغیر ذلک من التنظیمات الّتی تتطلبها أیّة دولة عصریّة.
وکانت لعمر طرقه الخاصّة فی اختیار (العمّال) فکان لا یعیّن أمیرا إلّا بعد اختیارات واسعة ، سریّة وعلنیّة ، وبعد أن یسأل عنه ویتأکد من کفاءته وصلاحیته ، وکان یحاسب (العمّال) أو یحصی أموالهم قبل أن یعیّنهم ، وعند عودتهم یحاسبهم عن الأموال الزائدة (عمّا کانت علیه سابقا) ، فإن وجد فیها زیادة أخذها منهم.
وکان عمر یشترط أیضا فی (الوالی) توافر الشروط الإنسانیّة ، کالعطف والرحمة ، فقد عزل أحد (الولاة) لأنّه لم یرحم أولاده (28). کما کان عمر : یبعث العیون والرقباء على (العمّال) لیخبروه عن تصرفات (الولاة) ویقبل کلّ شکایة تصل إلیه عن الولاة مهما کان مرکزهم الاجتماعی ، وتکون تلک الشکایة سببا لعزل الوالی ، وکان دائما یقول ویکرّر : (من ظلمه عامله بمظلمة ، فلا إذن له علیّ ، إلّا أن یرفعها الیّ حتّى أقصّه منه) (29٢).
کما أنّه کان لا یتقبّل أیّ شیء یقدّمه (الوالی) إلیه ولو کان على سبیل الهدیّة ، فقد دخل داره ذات مرّة ، فوجد فیها (سجّادة صغیرة) فسأل زوجته (عاتکة) (30) (من أین لک هذه السجّادة؟). قالت : أهداها لنا أبو موسى الأشعری. فأوعز عمر بإحضار الأشعری ، وجیء به فی الحال ، فقال له عمر : (ما یحملک على أن تهدی إلینا ، خذها فلا حاجة لنا فیها) (31) ، ثمّ ضرب رأس الأشعری بها.
وهذا علیّ بن أبی طالب علیهالسلام کتب إلى عمّاله على الخراج یقول : (... فانصفوا الناس من أنفسکم ، واصبروا لحوائجهم ، فإنّکم خزّان الرعیّة ، ووکلاء الأمّة ، وسفراء الأئمّة ، ولا تحمسوا (أحدا عن حاجته ، ولا تحبسوه عن طلبته ، ولا تبیعنّ للناس فی الخراج کسوة شتاء ولا صیف ، ولا دابّة یعتملون علیها ، ولا عبدا ، ولا تضربنّ أحدا سوطا لمکان درهم ، ولا تمسنّ مال أحد من الناس مصلّ ولا معاهد ، إلّا أن یدع ذلک فی أیدی أعداء الإسلام فیکون شوکة علیه)
وهذا کتاب آخر للإمام علیّ علیهالسلام کتبه للأشتر النخعی ، عند ما ولّاه مصر ، ویعتبر من محاسن الکتب ، نقتبس منه ما یلی :
(بسم الله الرحمن الرحیم ، هذا ما أمر به عبد الله علیّ أمیر المؤمنین (مالک بن الأشتر) فی عهده إلیه ، حین ولّاه مصر ، جبایة خراجها وجهاد عدوها ، واستصلاح أهلها ، وعمارة أرضها ...
(... ثمّ اعلم یا مالک ، أنّی وجهتک إلى بلاد ، قد جرت علیها دول قبلک ، من عدل وجور ، وأن الناس ینظرون من أمورک فی مثل ما کنت تنتظر فیه الولاة قبلک ، ویقولون فیک ، ما کنت تقوله فیهم ، وإنّما یستدل على الصالحین بما یجزی الله على ألسن عباده ، فلیکن أحبّ الذخائر الیک ، ذخیرة العمل الصالح ، فاملک هواک ، وشحّ بنفسک عمّا لا یحلّ لک ، فإنّ الشحّ بالنفس الاتّصاف منها ، فیما أحبّت أو کرهت ، واشعر قلبک بالرحمة للرعیة ، والمحبّة لهم ، واللّطف بهم ، ولا تکوننّ علیهم سبعا ضاریا ، تغتنم أکلهم ، فإنّهم صنفان / إمّا أخ لک فی الدین ، أو نظیر لک فی الخلق ، یفرط منهم فی الزلل ، وتعرض لهم العلل ، ویؤتى على أیدیهم فی العمد والخطأ ، فاعطهم من عفوک وصفحک ، مثل الّذی تحبّ أن یعطیک الله من عفوه وصفحه ، فإنّک فوقهم ، وولی الأمر علیک فوقک ، والله فوق من ولّاک ، وقد استکفاک أمرهم ، وابتلاک بهم ، ولا تنصبنّ نفسک لحرب الله ، فإنّه لا یدی لک بنقمته ، ولا غنى بک عن عفوه ورحمته ، ولا تندمنّ على عفو ، ولا تبجحنّ بعقوبة.
(... وتفقد أمر الخراج بما یصلح أهله ، فإن من صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم ، لأن الناس کلهم عیال على الخراج وأهله ، ولیکن نظرک فی عمارة الأرض ، أبلغ من استجلاب الخراج ، لأن ذلک لا یدرک إلّا بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغیر عمارة ، أخرب البلاد ، وأهلک العباد ، ولم یستقم إلّا قلیلا.
(.. وإیّاک والإعجاب بنفسک ، والثقة بما یعجبک منها ، وحبّ الإطراء ، فإنّ ذلک من أوثق فرص الشیطان فی نفسه ، لیمحق ما یکون من إحسان المحسنین.
(.. وإیّاک والمنّ على رعیتک ، أو التزید فیما یکون من فعلک ، أو إن تعدهم فتتبع موعدک بخلفک ، فإنّ المنّ یبطل الإحسان والتزیّد یذهب بنور الحقّ ، والخلف یوجب المقت عند الله والناس ، قال الله تعالى : (کبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (32).
هکذا کان الخلفاء الراشدون (رضیاللهعنهم) لا تأخذهم فی الله لومة لائم ، همّهم أن یکون الوالی قدوة حسنة ، لأنّ الوالی یمثّل الخلیفة فی ولایته ، فإذا کان الوالی لا یطبّق أحکام الله فی ولایته ، فحریّ به أن یتنحّى عن الولایة ، وکان على الخلیفة حریّ به أن یعزله.
وکان الخلفاء الراشدون یجلسون مع المسلمین على الأرض ، ویتحدّثون معهم ، فلا کراسی عالیة ، ولا عروش ، ولا تیجان ولا طیلسان ، وهذا ضرار بن ضمرة الکنانی یصف علیا علیهالسلام فی مجلس معاویة ابن أبی سفیان فیقول : (... وکان فینا کأحدنا ، یجیبنا إذا سألناه ، ویبتدئنا إذا أتیناه ، ویأتینا إذا دعوناه) (33).
وکانت الغنائم فی عهد الرسول صلىاللهعلیهوآلهوسلم وفی عهد خلفائه الراشدین توزّع على المقاتلین ، وعلى أصحاب الحقوق ، وعلى تعمیر البلاد المفتوحة لا خزائن خاصّة ، ولا بیوتات سوى (بیت مال المسلمین) الّذی تخزن فیه أموال الناس ، لتعود علیهم مرة ثانیة ، لا لتذهب فی جیوب الملوک والأمراء ، والحفدة والشعراء.
وأما الأمراء فی العصر الأموی ، فهم على دین ملوکهم ، فهذا معاویة ابن أبی سفیان ، هو أول خلیفة ، بل هو أول (ملک) من ملوک بنی أمیّة ، فقد ترک السنة النبویة ، وسیرة الخلفاء الراشدین (بحجج واهیة طلاها على خلیفة زمانه ، فتشبّه بملوک إلافرنج فی مأکلهم ومشربهم ، وعاداتهم ، وفی جلوسهم على العروش ، وجعل له حجّابا یمنعون الناس من الدخول علیه إلّا بإذنه ، کما وأمر بسبّ الإمام علیّ (أمیر المؤمنین ، وخلیفة المسلمین) على منابر المسلمین ، والنیل منه بشتّى الأسالیب والأکاذیب ، حتّى جعل ذلک فرضا فی کلّ خطبة. وقد استنکر ذلک کثیر بن کثیر بن المطلب السهمی فقال (34) :
لعن الله من یسبّ علیا / وحسینا من سوقة وإمام
أیسبّ المطّهرون جدودا / والکرام الأخوال والأعمام
یأمن الطیر والحمام ولا / یأمن آل رسول الله عند المقام
طبت بیتا وطاب أهلک أهلا / أهل بیت النبیّ والإسلام
رحمة الله والسلام علیهم / کلّما قام قائم بسلام
وبقی السبّ والشتم ردحا من الزمن ، إلى أن قیّض الله له عمر بن عبد العزیز ، فرفع الشتم عنه ، وفی ذلک قال الشاعر (35) :
ولیت فلم تشتم علیا ولم تخف / بریا ولم تتبع مقالة مجرم
تکلمت بالحقّ المبین وإنّما / تبیّن آیات الهدى بالتکلم
فصدّقت معروف الّذی قلت بالذی / فقلت فأضحى راضیا کلّ مسلم
هذا ناهیک عن الجرائم الّتی ارتکبها معاویة من قتل النفوس البریئة بل النفوس المسلمة المؤمنة ، فقد قتل حجر بن عدی (36) الکندی وجماعته ، وقد استنکر کافّة المسلمین ذلک العمل الشنیع ، بما فیهم عائشة (أم المؤمنین) حیث قالت لمعاویة : (أین کان حلمک یا معاویة) أو (أین غرب حلمک عنهم) (37).
کما وکان معاویة المسبّب فی مقاطعة کثیر من أصحاب رسول الله علیهالسلام وحرمانهم من أعطیاتهم ، وکان المسبّب فی نفی الصحابی الجلیل (أبی ذر الغفاری) إلى الربذة ، وموته فیها ، بعیدا ، ووحیدا ، وبعد أن مسّه الجوع ، والفقر المدقع.
وهکذا کان سلوک (الملوک) الّذین جاءوا بعد معاویة ، بل الأمر أدهى وأمرّ ، فقد جاء بعده ابنه (یزید) فقتل الحسین ابن بنت رسول الله صلىاللهعلیهوآلهوسلم وسبى عیاله ، واستباح المدینة (مدینة الرسول صلىاللهعلیهوآلهوسلم). (38)
وهذا الولید بن یزید بن عبد الملک ، فتح القرآن الکریم ، فقرأ الآیة : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ کُلُّ جَبَّارٍ عَنِیدٍ مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَیُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِیدٍ)(39).
فغضب الولید ، ومزق المصحف الشریف وقال (40)
أتوعد کلّ جبّار عنید / فها أنا ذاک جبّار عنید
إذا لاقیت ربک یوم حشر / فقل یا ربّ مزّقنی الولید
وذاک الحجّاج بن یوسف الثقفی (أحد أمراء بنی أمیّة على الکوفة) فقد قتل الشیوخ والأطفال والنساء ، وقتل الکثیر من العباد والفقهاء ، أمثال سعید بن جبیر ، وکمیل بن زیاد وغیرهما ، وقیل : إنّ عدد القتلى الّذین قتلهم الحجّاج قد جاوز المائة وعشرین ألفا ، ما عدا الّذین قتلوا فی حروبه (41).
کما أنّه (أی الحجّاج) ضرب الکعبة بالمنجنیق عند محاصرة عبد الله ابن الزبیر فقتل عبد الله فی البیت الحرام وقتل معه الکثیر من المسلمین (42).
ونتیجة لانشغال ملوک بنی أمیّة بالترف والملذّات ، وإعطاء المبالغ الطائلة للحفدة والشعراء ، أمروا (ولاتهم) بجمع الأموال من الناس بشتى الطرق ومن یتخلف عن ذلک یکون مصیره الهلاک ، وإذا تخلّف (الوالی) عن جمع المال فمصیره العزل ، وهذا خالد بن عبد الله القسری ، عزل عن إمارة الکوفة لعجزه عن تسدید ما طلب منه من الأموال ، ثمّ بیع (43) إلى یوسف بن عمر بمبلغ خمسین ألف ألف درهم ، فأخذه یوسف فقتله بعد أن عذّبه أشدّ عذاب .
وعند ما سمع یوسف بن عمر (أثناء تولیته الکوفة) بأن الولید قرّر عزله عن الکوفة ، ذهب إلى الشام وحمل معه الأموال الطائلة ، والهدایا النفیسة ، وعند ما رأى الولید ذلک قال لیوسف : (إذهب إلى عملک) أو (ارجع إلى عملک).
1- البراقی ـ تاریخ الکوفة ص ٤٤٣ ـ ٤٥٦.
2- الزرکلی ـ الأعلام. ج ١ / ٣١٧.
3- محمود شکر الجبوری ـ الخطّ العربی والزخرفة الإسلامیة. ص ٤٧.
4- المساجد الأربعة : هی المسجد الحرام والمسجد النبوی الشریف والمسجد الأقصى فی فلسطین ومسجد الکوفة.
5- الحجر الأسود : ذهب أبو طاهر القرمطی وأصحابه إلى مکّة سنة (٣١٧) للهجرة فنهبوا أموال الحجّاج ، وقلع (الحجر الأسود) ونقله إلى هجر فی البحرین ، وقد دفع لهم (بجکم الترکی) خمسین ألف دینار لقاء إعادته إلى الکعبة ، فرفضوا وقالوا : (أخذناه بأمر ونعیده بأمر). وفی سنة (٣٣٩) للهجرة جاء القرامطة إلى الکوفة ومعهم (الحجر الأسود) فنصبوه فی المسجد حتّى رآه الناس ، ثمّ ذهبوا إلى مکّة ، ونصبوه فی مکانه ، ثمّ قالوا (أخذناه بأمر ، وعدناه بأمر). ابن الأثیر ـ الکامل ج ٨ / ٢٠٧ و٤٨٦ والبراقی ـ تاریخ الکوفة ص ٨٣.
6- محمّد عبدة ـ شرح نهج البلاغة. ج ١ / ٩٧.
7- خالد محمّد خالد ـ بین یدى عمر. ص ٦٩.
8- راضى آل یاسین ـ صلح الحسن ص ٦٤.
9- ابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ٣٤٥.
10- المسعودى ـ مروج الذهب. ج ٣ / ١٥١ وعبّاس کاظم مراد ـ المزارات المعروفة بالکوفة. ص ٧.
11- البراقی ـ تاریخ الکوفة ص ١١٤.
12- رحلة ابن جبیر ص ١٦٨ ، وقد وصل ابن جبیر إلى الکوفة فی یوم الجمعة فی الثامن والعشرین من شهر محرم الحرام سنة (٥٨٠) للهجرة.
13- رحلة ابن بطوطة ص ٢٣١.
14- ذکر الأستاذ مجدلاوی ص ٢١١ ـ الإدارة الإسلامیة فی عهد عمر بأن لقب العامل أخذ من القرآن الکریم لقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساکِینِ وَالْعامِلِینَ عَلَیْها ...) الخ وأنا لا أوافقه على ذلک فإنّ لقب (العامل) معروف سابقا عند الرومان ، وقبل نزول القرآن.
15- سنة ٥٣٥ للمیلاد أی ٤٤ سنة قبل الهجرة.
16- بلاد العرب : هی بلاد حوران والبلقاء.
17- المستشرق الألمانی نولدکه ـ أمراء غسان ص ٩.
18- الحارث بن جبلة الغسانی هو أول أمراء آل جفنه ، وآل جفنه استولوا على الحکم فی سوریا بعد انتصارهم على (الضجاعمة) من قبائل (سلیح) الّذین یرجعون إلى سلالة (زوکوموس) الّذی عاش فی أواخر القرن الرابع المیلادی وکان هذا عاملا لدى الروم فی سوریا. (نولدکه ـ أمراء غسان ص ١١).
19- المنذر : وهو أحد ملوک المناذرة فی (الحیرة) الخاضع للنفوذ الفارسی آنذاک ، وقد حدثت معرکة بینه وبین الحارث بن جبلة سنة (٥٥٤) للمیلاد ، انتهت بمقتل المنذر.
20- الأسود : أحد أمراء کندة.
21- نولدکه ـ أمراء غسان ص ١٧.
22- القلقشندى ـ صبح الأعشى ج ٥ / ٤٤٩.
23- نفس المصدر أعلاه.
24- مجدلاوی ـ الادارة الاسلامیة فی عهد عمر. ص ١٤٩.
25- رواه الحاکم فی صحیحه
26- نجدة خماش ـ الإدارة فی العصر الأموی. ص ٢٩٢.
27- خالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ١ / ١٦.
28- نوّاف کنعان ـ القیادة الإداریة. ص ٧٢.
29- المصدر السابق ص ٣٣.
30- عاتکة : بنت زید بن عمرو بن نفیل.
31- خالد محمّد خالد ـ بین یدی عمر. ص ٩٢.
32- ومن أراد الإطلاع على النص الکامل لهذا الکتاب مراجعة ج ١٧ / ٣٠. شرح النهج لأبن أبی الحدید.
33- أبو علیّ القالی ـ أمالی القالی. ج ٢ / ١٤٧ والنمری ، القرطبی ـ بهجة المجالس. ج ٢ / ٥٠١.
34- باقر القرشیّ ـ حیاة الإمام الحسن. ج ٢ / ٣٤٥.
35- ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ٣٩٤ وتاریخ الیعقوبی. ج ٢ / ٣٠٥.
36- حجر بن عدی : سوف نتکلم عنه ، وعند ترجمة زیاد بن أبیه.
37- تاریخ الیعقوبی. ج ٢ / ٢٣١.
38- البسوی ـ المعرفة والتاریخ. ج ٢ / ٢٣١.
39- سورة إبراهیم. الآیة / ١٥.
40- ابن أعثم الکوفی ـ الفتوح. ج ٨ / ١٣٨ والمسعودی ـ المروج. ج ٣ / ٢١٦ وأبو الفرج الأصبهانی ـ الأغانی. ج ٣ / ٣٤٩.
41- البراقی ـ تاریخ الکوفة. ص ٢٣٠.
42- مقدمة ابن خلدون. ص ٣٥٢.
43- فقال خالد القسری : (ما عهدنا العرب تباع) ابن قتیبة ـ الإمامة والسیاسة. ج ٢ / ١٤٥.