لقد كانت الفرصة بيد عثمان لاصلاح الأوضاع، ولكنه لم يلتفت إليها، وانساق وراء مروان وبني اُمية الذين لم يخلصوا له النصيحة، وكانوا ينظرون الى مصالحهم الذاتية ويقدّمونها على مصلحة الاُمة، فأوردوه موارد الهلكة، بعد أن صمّ عثمان سمعه عن نصح الصحابة الذين حاولوا انقاذ الموقف قبل فوات الأوان.
لقد كان موضوع الكتاب - الذي من المؤكد أن مروان بن الحكم قد افتعله في غفلة من الخليفة- هو السبب الأخير الذي اشعل فتيل الأزمة وفجّر الوضع.
وقد دأب المؤلفون على تحميل الثوار مسؤولية ما حدث، والادعاء بأن كانت هناك أيد تعمل في الخفاء للإطاحة بعثمان، وانساق أكثرهم وراء أكاذيب سيف بن عمر الذي حاول أن يجسّد الفتنة كلها في شخص عبدالله ابن سبأ المزعوم.
لكننا عندما نبحث مواقف الثوار، نجدها إيجابية الى أبعد الحدود، فقد كانت مطالبهم عادلة، وهم لم يتعجلوا الإغارة على عثمان، بل إنهم تراجعوا الى بلدانهم بعد أن أخذوا من عثمان الوعود بتغيير سياساته الخاطئة، ولكنهم عادوا الى المدينة ثانية بعد اكتشافهم كتاب مروان المزوّر على لسان عثمان، وهنا لابد من الاشارة الى مسألة طالما تشبث بها بعض المؤلفين الذين انساقوا وراء رواية سيف الذي يروي محاججة علي بن أبي طالب للثوار من أهل الكوفة بكيفية وصول خبر الكتاب الذي وجده المصريون مع رسول عثمان اليهم، متهماً إياهم بأن في الأمر اتفاقاً سرياً بينهم دُبّر بالمدينة، لكننا عندما نتصفح الروايات نجد معظمها يؤكد على عودة المصريين أولا ومحاججتهم عثمان، مما يدل على أن الوفد المصري الذي وجد الكتاب قد عاد أولا الى المدينة، ثم أرسلوا الى اخوانهم من أهل الكوفة والبصرة الذين جاءوا على إثرهم واتحدوا معاً في محاصرة عثمان.
وعلى أية حال، فإن الثوار ورغم كل ذلك لم يتعجلوا أمرهم، وأعطوا عثمان فرصة جديدة بتخييره بين عدة اُمور، لكنه رفضها جميعاً وفوّت الفرصة، وكانت البداية أنهم بعثوا بكتاب الى عثمان، فيما أخرج الطبري عن جعفر باسناده قال:
كتب أهل مصر بالسقيا - أو بذي خشب- الى عثمان بكتاب، فجاء به رجل منهم حتى دخل به عليه، فلم يردّ عليه شيئاً; فأمر فاُخرج من الدار.
وكان أهل مصر الذين ساروا الى عثمان ستمائة رجل على أربعة ألوية لها رؤوس أربعة، مع كل رجل منهم لواء، وكان جماع أمرهم جميعاً الى عمرو بن بُديل بن ورقاء الخزاعي -وكان من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) - والى عبدالرحمان بن عديس التجيبي، فكان فيما كتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فاعلم أن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فالله الله، ثم الله الله، فإنك على دنيا، فاستقم إليها مع آخرة، ولا تلبس نصيبك من الآخرة، فلا تسوغ لك الدنيا، واعلم أنا والله لله نغضب، وفي الله نرضى، وإنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرّحة، أو ضلالة مجلّحة مبلجة، فهذه مقالتنا لك، وقضيتنا إليك، والله عذيرنا منك، والسلام.
وكتب أهل المدينة الى عثمان يدعونه الى التوبة، ويحتجّون ويقسمون له بالله لا يمسكون عنه أبداً حتى يقتلوه، أو يعطيهم ما يلزمه من حق الله(1).
وقد مرّ فيما سبق أن بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة وغيرهما قد تدخلوا حتى أرجعوا القوم وأقنعوهم بأن عثمان راجع عما يكرهون، وضمنوا لهم ذلك، ولكن كتاب مروان بن الحكم قلب الأوضاع من جديد، وجعلهم يرجعون الى المدينة ليفرضوا على عثمان شروطاً جديدة، فيما أخرج الطبري عن جعفر باسناده، من أن الثوار واجهوه بقولهم:
ألم نفارقك على أنك زعمت أنك تائب من إحداثك وراجع عما كرهنا منك واعطينا عهد الله وميثاقه؟! قال: بلى، أنا على ذلك. قالوا: فما هذا الكتاب الذي وجدنا مع رسولك، وكتبت به الى عاملك؟ قال: ما فعلت ولا علم لي بما تقولون. قالوا: بريدك على جملك، وكتاب كاتبك عليه خاتمك. قال: أما الجمل فمسروق، وقد يشبه الخط الخط، وأما الخاتم فانتُقش عليه، قالوا: فإنا لا نعجل عليك، وإن كنّا قد اتهمناك; اعزل عنا عمالك الفساق، واستعمل علينا من لا يُتهم على دمائنا وأموالنا، واردد علينا مظالمنا.
قال عثمان: ما أراني إذاً في شي إن كنت استعمل من هويتم واعزل من كرهتم، الأمر إذاً أمركم!
قالوا: والله لتفعلن أو لتُقتلن، فانظر لنفسك أو دَع.
فأبى عليهم وقال: لم أكن لأخلع سربالا سربلنيه الله.
فحصروه أربعين ليلة وطلحة يصلي بالناس(2).
من الانصاف القول بأن الثوار لم يكونوا يقصدون قتل عثمان بدءاً، بدليل أنهم حصروه مدة تقرب من أربعين يوماً، وكان في مقدورهم اقتحام بيته وقتله بسهولة، ولكنهم مع ذلك أعطوه فرصة كافية للتراجع عن موقفه، ولكنه أبى.
وقد جرت بين الطرفين في هذه الفترة مناظرات عديدة، وكل طرف يدلي بحجته، فقد أخرج الطبري عن الواقدي بسنده، قال:
أشرف عثمان عليهم وهو محصور وقد أحاطوا بالدار من كل ناحية فقال:
أنشدكم بالله عزّوجل، هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يخير لكم، وأن يجمعكم على خيركم، فما ظنكم بالله! أتقولونه: لم يستجب لكم، وهُنتم على الله سبحانه، وأنتم يومئذ أهل حقّه من خلقه، وجميع اُموركم لم تتفرق! أم تقولون: هان على الله دينه فلم يبال من ولاّه، والدين يومئذ يُعبد به الله ولم يتفرق أهله، فتوكلوا أو تخذلوا أو تُعاقبوا! أم تقولون: لم يكن أخذ عن مشورة، وإنما كابرتم مكابرة، فوكل الله الاُمة إذا عصته لم تشاوروا في الإمام، ولم تجتهدوا في موضع كراهته! أم تقولون: لم يدرِ الله عاقبة أمري، فكنتُ في بعض أمري محسناً ولأهل الدين رضاً، فما اُحدثت بعد في أمري ما يسخط الله، وتسخطون مما لم يعلم الله سبحانه يوم اختارني وسربلني سربال كرامته!
واُنشدكم بالله، هل تعلمون لي من سابقة خير وسلف خير قدّمه الله لي، واشهدنيه من حقه وجهاد عدوه حق على كل من جاء بعدي أن يعرفوا لي فضلها، فمهلا لا تقتلوني، فإنه لا يحل إلاّ قتل ثلاثة: رجل زنا بعد إحصانه، أو كفر بعد إسلامه، أو قتل نفساً بغير نفس فيُقتل بها، فإنكم إن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لم يرفعه الله عزّوجل عنكم الى يوم القيامة، ولا تقتلوني فإنكم إن قتلتموني لم تصلوا من بعدي جميعاً أبداً، ولم تقتسموا بعدي فيئاً جميعاً أبداً، ولن يرفع الله عنكم الاختلاف أبداً.
قالوا له: أما ما ذكرت من استخارة الله عزّوجل الناس بعد عمر(رضي الله عنه) فيمن يولّون عليهم، ثم ولّوك بعد استخارة الله، فان كل ما صنع الله الخيرة، ولكن الله سبحانه جعل أمرك بلية ابتلى بها عباده، وأما ما ذكرت من قدمك وسبقك مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فانك كنت ذا قدم وسلف، وكنت أهلا للولاية، ولكنك بدّلت بعد ذلك وأحدثت ما قد علمت، وأما ما ذكرت مما يصيبنا إن نحن قتلناك من البلاء، فانه لا ينبغي ترك إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاماً قابلا.
وأما قولك إنه لا يحل الاّ قتل ثلاثة، فانا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سمّيت: قتل من سعى في الأرض فساداً، وقتل من بغى ثم قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شي من الحق ومنعه ثم قاتل دونه وكابر عليه. وقد بغيت ومنعت الحق وحُلت دونه وكابرت عليه، تأبى ان تقيد من نفسك من ظلمت عمداً، وتمسكت بالامارة علينا وقد جُرت في حكمك وقسمك، فان زعمت أنك لم تكابرنا عليه، وأن الذين قاموا دونك ومنعوك منا إنما يقاتلون بغير أمرك، فانما يقاتلون لتمسكك بالامارة، فلو أنك خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال دونك(3).
يتبين من هذه المناظرة بين عثمان والثوار، أن حجج عثمان لا تنهض أمام حجج الثوار الذين نقضوا كل ما استدل به على صحة موقفه، ومشكلة عثمان الكبرى كانت تتلخص في تمسكه بمنصبه رغم السخط الشعبي الذي يواجههه، والحقيقة فان قراءة التاريخ تثبت أن عثمان ومن ورائه بنو اُمية جميعاً كانوا ينظرون الى الخلافة نظرة المُلك، ويعتبرونها هبة من الله لا ينبغي التخلي عنها مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك. وقد تبين مما سبق هذا المعنى في كلام مروان بن الحكم حينما خرج الى الناس من دار عثمان واتهمهم بأنهم يريدون نزع ملكهم من أيديهم، وأنهم وبنو اُمية مستعدون لأن يقاتلوا دون هذا الملك بالسيف.
وقد سبق لأبي سفيان -عميد البيت الاُموي- أن صرّح بهذا القول دونما تحرج حين قال لعثمان في بداية توليه الخلافة، فيما أخرج ابن عبدالبر عن الحسن:
قد صارت اليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني اُمية، فانما هو المُلك، ولا أدري ما جنّة ولا نار!(4).
ونظرة أبي سفيان إلى الملك أبعد من ذلك التاريخ، فانه بعد أن أمنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قُبيل فتح مكة، أمر عمه العباس أن يحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمرّ عليه جنود الله، فلما رأى أبو سفيان كتائب المسلمين تترى أمام عينيه وفي آخرها كتيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخضراء من المهاجرين والأنصار في الحديد لا يُرى منهم إلاّ الحدق قال للعباس: "لقد أصبح ملك ابن اخيك عظيماً! فقال له العباس: ويحك، إنها النبوة. فقال: نعم إذاً..."(5).
فأبو سفيان لم يكن يصدّق أن النبوة ليست الاّ ملكاً، فكيف بالخلافة! والوليد بن عقبة حينما ولاه عثمان الكوفة قال لسعد المعزول عنها: إنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون. فقال له سعد: أراكم ستجعلونها مُلكاً.
ويبدو أن عثمان بن عفان وبنو اُمية جميعاً قد عملوا بنصيحة أبي سفيان فعلا، فتمسكوا بالخلافة على أنها مُلك شرعي لهم فيما يشبه ما اصطلح عليه الغربيون بنظرية (الحق الإلهي)، حتى دفع عثمان حياته ثمناً لها، ثم جاء معاوية وبنو اُمية فثبتّوا الخلافة على أساس الملك حتى النهاية.
فشلت المفاوضات بين عثمان والثوار أيام الحصار، ولم يتمكن الثوار من إقناع عثمان بالتزحزح عن موقفه، ومن ثم حدثت اُمور اُخرى عجّلت في دفع الاُمور الى النهاية، مما دفع الثوار الى تغيير موقفهم من الاكتفاء بمحاصرة عثمان الى إرادة قتله، فقد روى الطبري عن جعفر بن محمد باسناده، قال:
لما مضت أيام التشريق، أطافوا بدار عثمان وأبى إلاّ الاقامة على أمره، وأرسل الى حشمه وخاصته فجمعهم، فقام رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) يقال له نيار بن عياض - وكان شيخاً كبيراً- فنادى: يا عثمان، فأشرف عليه من أعلى داره، فناشده الله وذكّره لما اعتزلهم. فبينا هو يراجعه الكلام، إذ رماه رجل من أصحاب عثمان فقتله بسهم، وزعموا أن الذي رماه كثير بن الصلت الكندي، فقالوا لعثمان عند ذلك: إدفع إلينا قاتل نيار بن عياض فلنقتله به، فقال: لم أكن لأقتل رجلا نصرني وأنتم تريدون قتلي.
فلما رأوا ذلك ثاروا الى بابه فأحرقوه، وخرج عليهم مروان بن الحكم من دار عثمان في عصابة، وخرج سعيد بن العاص في عصابة، وخرج المغيرة ابن الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة في عصابة فاقتتلوا قتالا شديداً.
وكان الذي حداهم على القتال أنه بلغهم أن مدداً من أهل البصرة قد نزلوا صراراً -وهي من المدينة على ليلة- وأن أهل الشام قد توجهوا مقبلين، فقاتلوهم قتالا شديداً على باب الدار، فحمل المغيرة بن الأخنس الثقفي على القوم وهو يقول مرتجزاً:
قد علمت جارية عطبول / لها وشاح ولها حجولُ
أني بنصل السيف خنشليلُ
فحمل عليه عبدالله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وهو يقول:
إن تكُ بالسيف كما تقولُ / فاثبت لقرن ماجد يصولُ
بمشرفي حدّه مصقولُ
فضربه عبدالله فقتله، وحمل رفاعة بن رافع الأنصاري ثم الزرقي على مروان بن الحكم فضربه فصرعه، فنزل عنه وهو يرى أنه قتله، وجرح عبدالله ابن الزبير جراحات، وانهزم القوم حتى لجأوا الى القصر فاعتصموا ببابه، فاقتتلوا عليه قتالا شديداً، فقتل في المعركة على الباب زياد بن نعيم الفهري في ناس من أصحاب عثمان، فلم يزل الناس يقتتلون حتى فتح عمرو بن حزم الأنصاري باب داره وهو الى جنب دار عثمان بن عفان، ثم نادى الناس فأقبلوا عليه من داره، فقاتلوهم في جوف الدار حتى انهزموا، وخُلّي لهم عن باب الدار، فخرجوا هراباً في طرق المدينة، وبقي عثمان في اُناس من أهل بيته وأصحابه فقتلوا معه، وقتل عثمان(رضي الله عنه)(6). فالأمر الذي عجل بالنهاية وجعل الثوار يقررون قتل عثمان هو -كما ورد فيما سبق- مجيء قوات عسكرية كان قد استنفرها عثمان من عمّاله على الأمصار للدفاع عنه أيام الحصار، فقد ذكر الطبري عن جعفر بسنده قال:
لما رأى عثمان ما قد نزل به وما انبعث عليه من الناس، كتب الى معاوية ابن أبي سفيان وهو بالشام: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة، فابعث الي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول.
فلمّا جاء معاوية الكتاب تربّص به، وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد علم اجتماعهم; فلما أبطأ أمره على عثمان، كتب الى يزيد بن أسد بن كرز، والى أهل الشام يستنفرهم ويعظّم حقه عليهم، ويذكر الخلفاء وما أمر الله عزّوجل به من طاعتهم ومناصحتهم، ووعدهم أن ينجدهم جند أو بطانة دون الناس، وذكّرهم بلاءه عندهم وصنيعه إليهم، فإن كان عندكم غياث فالعجل العجل فإن القوم معاجلي.
فلما قرئ كتابه عليهم قام يزيد بن أسد بن كرز البجلي ثم القسري، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر عثمان فعظّم حقه، وحثّهم على نصره، وأمرهم بالمسير إليه، فتابعه ناس كثير، وساروا معه حتى إذا كانوا بوادي القرى، بلغهم قتل عثمان(رضي الله عنه)، فرجعوا.
وكتب عثمان الى عبدالله بن عامر: أن اندب إلي أهل البصرة، نسخة كتابه الى أهل الشام.
فجمع عبدالله بن عامر الناس; فقرأ كتابه عليهم، فقامت خطباء من أهل البصرة يحضونه على نصر عثمان والمسير إليه، فيهم مجاشع بن مسعود السلمي، وكان أول من تكلم وهو يومئذ سيد قيس بالبصرة، وقام أيضاً قيس ابن الهيثم السلمي فخطب وحض الناس على نصر عثمان، فسارع الناس الى ذلك; فاستعمل عليهم عبدالله بن عامر بن مجاشع بن مسعود فسار بهم، حتى إذا نزل الناس بالربذة ونزلت مقدمته عند صرار - ناحية من المدينة- أتاهم قتل عثمان(7).
كما روى البلاذري عن المدائني بسنده الى الشعبي قال: كتب عثمان الى معاوية أن أمدني، فأمده بأربعة آلاف مع يزيد بن أسد بن كرز البجلي، فتلقاه الناس بمقتل عثمان، فرجع من الطريق وقال: لو دخلت المدينة وعثمان حي، ما تركت بها محتلماً الاّ قتلته، لأن الخاذل والقاتل سواء(8).
فوصول الامدادات العسكرية من قبل ولاة عثمان كانت السبب المباشر في التعجيل بقتله، وكما روى الطبري عن الواقدي بسنده قال: ما زال المصريون كافّين عن دمه وعن القتال، حتى قدمت امداد العراق من البصرة ومن الكوفة ومن الشام، فلما جاءوا شجعوا القوم، وبلغهم أن البعوث قد فصلت من العراق ومن مصر من عند ابن سعد، ولم يكن ابن سعد بمصر قبل ذلك، كان هارباً قد خرج الى الشام، فقالوا: نعاجله قبل أن تقدم الامداد(9).
ولا شك أن تصرف عثمان بطلب الامداد من عماله كان خاطئاً، ولم ينقذه ولا أنقذ الموقف المتأزم، بل على العكس من ذلك، فإنه كان الضربة القاضية لكل الجهود التي بذلت لحل الأزمة، وكان على عثمان بدلا من المراهنة على عماله حتى آخر لحظة، أن يراهن على مساعي الصحابة الأخيار الذين لم يألوا جهداً لحل الأزمة، لولا أن عثمان أعرض عن كل ذلك، وظل متمسكاً بمواقفه التي كانت هي السبب في اشتعال الأزمة منذ البداية.
وعلى الرغم من تظافر الروايات على محاولة عثمان حسم الموقف عسكرياً، فإن بعض المؤلفين يصرون على التعامي عن ذلك، إذ قال ابن العربي عن عثمان: ما نصب حرباً ولا جيّش عسكراً..!(10).
تزييف الوقائع
لا شك أن هذه الفترة العصيبة - الحصار ثم قتل عثمان- قد تعرضت هي الاُخرى الى الكثير من محاولات التشويه والتزييف، وكانت حصة الثوار الذين أطاحوا بعثمان هي الأكبر فيما ناله التشويه، فقد قام بعض المؤلفين- وبخاصة سيف بن عمر- بتشويه صور اولئك الثوار ونال منهم أقبح نيل، لذا نجد الاتجاه العام عند جمهور المسلمين هو توجيه الطعن الى اولئك الثوار، وقد تعودنا منذ الصغر على كراهية اولئك (البغاة الخارجين على الإمام) كما كان يقال لنا دائماً ونقرأ في الكتب التي ألفها البعض حول موضوع الفتنة، ومردّ ذلك كله الى الانطباع السيء الذي تركته روايات سيف بن عمر التي وردت عند الطبري، والتي تظهر هؤلاء الثوار دائماً بمظهر الوحوش الكاسرة المجردة من كل القيم والأخلاق الانسانية، لذا أجد من المناسب أن أستعرض بعض الحوادث في هذه الفترة والكشف عن الزيف الذي تعرضت له تلك الحوادث وانسحاب كل ذلك على النظرة التي ينظر بها الجمهور الى اولئك الثوار.
روى ابن كثير - في معرض حديثه عن تلك الوقائع التي اعقبت محاصرة عثمان - نقلا عن الطبري برواية سيف، قال:
وجاءت اُم حبيبة راكبة بغلة وحولها حشمها وخدمها، فقالوا: ما جاء بك؟ فقالت: إن عنده وصايا بني اُمية لأيتام وأرامل، فأحببت أن أذكره بها. فكذبوها في ذلك، ونالها منهم شدة عظيمة، وقطعوا حزام البغلة وندّت بها وكادت أو سقطت عنها، وكادت تُقتل لولا تلاحق بها الناس فأمسكوا بدابتها، ووقع أمر كبير جداً، ولم يبق يحصل لعثمان وأهله من الماء إلاّ ما يوصله اليهم آل عمرو بن حزم في الخفية ليلا، فإنّا لله وإنا إليه راجعون. ولما وقع هذا أعظمه الناس جداً ولزم أكثر الناس بيوتهم، وجاء وقت الحج، فخرجت اُم المؤمنين عائشة في هذه السنة الى الحج، فقيل لها: إنك لو أقمت كان أصلح لعل هؤلاء القوم يهابونك، فقالت: إني أخشى أن أشير عليهم برأي فينالني منهم من الأذية ما نال اُم حبيبة، فعزمت على الخروج...(11).
لكن البلاذري أورد القصة وليس فيها ذلك التهويل الذي يخلقه ابن كثير عن موقف الثوار من اُم حبيبة واجترائهم عليها بذلك الشكل المشين الذي لا يتناسب مع أبسط قواعد الإسلام، ولا يفعله حتى المنافق مع زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث ينقل عن أبي مخنف والواقدي، أن اُم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، أتت عثمان بأداوة وقد اشتد عليه الحصار، فمنعوها من الدخول فقالت: إنه كان المتولي لوصايانا وأمر أيتامنا، وأنا اُريد مناظرته في ذلك، فأذنوا لها، فأعطته الأداوة(12).
كما أن ادعاء ابن كثير أن عمرو بن حزم كان يأتي عثمان بالماء -وهو ما تدعيه رواية سيف- فلا أساس له من الصحة، فقد مرّ بنا في الرواية التي ينقلها الطبري عن جعفر بن محمد أن عمرو بن حزم الأنصاري هو الذي فتح باب داره الملاصق لبيت عثمان ليدخل الثوار منه على عثمان!!
أما موقف اُم المؤمنين عائشة من عثمان في تلك الأزمة وذهابها الى الحج وعدم محاولتها الذب عن عثمان بحجة الخوف من أن ينالها ما نال اُم حبيبة، فهو غير صحيح أيضاً، ولكني سأؤجل الحديث عن موقف اُم المؤمنين عائشة الى فرصة اُخرى.
المصادر :
1- الطبري 4: 369.
2- الطبري 4: 371.
3- الطبري 4: 395.
4- الاستيعاب 4: ترجمة أبي سفيان، وانظر النزاع والتخاصم للمقريزي: 20، تهذيب تاريخ دمشق 6: 409.
5- تاريخ الطبري 3: 54، الكامل لابن الاثير 2: 245.
6- الطبري 4: 381.
7- الطبري 4: 368.
8- أنساب الأشراف 6: 189.
9- الطبري 4: 394 - 395.
10- العواصم من القواصم: 72.
11- البداية والنهاية 7: 187
12- أنساب الأشراف 6: 195