صدر الاسلام والغليان الشعبي

من المؤكد أن تصرف ولاة عثمان وعماله تجاه الناس -وفيهم بعض كبار الصحابة- كانت أهم الأسباب التي أدت الى إحداث حالة من الغليان الشعبي، بعدما تبين للجميع أن عثمان بن عفان كان متقاعساً في الأخذ على أيدي هؤلاء
Sunday, January 21, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
صدر الاسلام والغليان الشعبي
 صدر الاسلام والغليان الشعبي



 

من المؤكد أن تصرف ولاة عثمان وعماله تجاه الناس -وفيهم بعض كبار الصحابة- كانت أهم الأسباب التي أدت الى إحداث حالة من الغليان الشعبي، بعدما تبين للجميع أن عثمان بن عفان كان متقاعساً في الأخذ على أيدي هؤلاء الولاة، ومن ثم جاء حادثة تسيير أهل بعض الأمصار الى الشام لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير.
إن عدم مباشرة عثمان الاُمور بنفسه، وعدم تصديه لحلها، وإعراضه عن استشارة كبار الصحابة، بل والاعراض عن نصائحهم، واعتماده على ولاته في معاقبة المتذمرين - مع العلم ان اولئك الولاة كانوا على الأغلب، هم السبب في موجة التذمر السائدة- كانت كلها تزيد من تعقيد الوضع وتفاقم المشاكل- ففي الوقت الذي كان عثمان يبدي لولاته جانب اللين والتغاضي عن أعمالهم، وعدم الاهتمام بشكاوى الناس منهم، نجده يعالج مشكلة هؤلاء الناقمين بتسييرهم الى معاوية ليتولى تأديبهم بدلا من أن يباشر الخليفة معالجة الموقف بنفسه، بعد الاستماع الى شكاواهم مباشرة. ولقد كان تسيير أهل الأمصار الى الشام مع أفدح الأخطاء التي ارتكبها عثمان، وكان سبب المشكلة تافهاً وعلاجها بسيطاً، ولكن تصرف عثمان فيها جعلها تتضخم بشكل صارت معه خطراً حقيقياً على وحدة الصف الاسلامي.
وخلاصة هذه الحادثة - التي تعرضت هي الاُخرى للتزييف ومزايدات المؤلفين- يعرضها لنا القاضي ابن العربي من وجهة نظره التي تمثل وجهة نظر تيار بأكمله، قائلا: وأمثل ما روي في قصته، أنه - بالقضاء السابق- تألّب عليه قوم لأحقاد اعتقدوها ممن طلب أمراً فلم يصل إليه، وحسد حساده أظهر داءها، وحمله على ذلك قلة دين وضعف يقين، وإيثار العاجلة على الآجلة. وإذا نظرت اليهم، دلَّك صريح ذكرهم على دناءة قدرهم وبطلان أمرهم.
كان الغافقي المصري أمير القوم، وكنانة بن بشر التجيبي، وسودان بن حمران، وعبدالله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وحكيم بن جبلة من أهل البصرة، ومالك بن الحارث الأشتر في طائفة هؤلاء رؤوسهم، فناهيك بغيرهم.
وقد كانوا أثاروا فتنة، فأخرجهم عثمان بالاجتهاد! وصاروا في جماعتهم عند معاوية، فذكّرهم بالله وبالتقوى لفساد الحال وهتك حرمة الاُمة، حتى قال له زيد بن صوحان يوماً - فيما يروى- كم تكثر علينا من الإمرة وبقريش، فما زالت العرب تأكل من قوائم سيوفها وقريش تجاهد. فقال له معاوية: لا أُم لك، أُذكّرك بالاسلام، وتذكرني بالجاهلية! قبّح الله من كثر على أمير المؤمنين بكم، فما أنتم ممن ينفع أو يضر، أخرجوا عني.
وأخبره ابن الكوا بأهل الفتنة في كل بلد ومؤامرتهم; فكتب الى عثمان يخبره بذلك، فأرسل إليه بإشخاصهم إليه، فأخرجهم معاوية; فمروا بعبدالرحمان بن خالد بن الوليد، فحبسهم ووبخهم وقال لهم: اذكروا لي ما كنتم تذكرون لمعاوية، وحصرهم وأمشاهم بين يديه أذلاء حتى تابوا بعد حول.
وكتب الى عثمان يخبرهم، فكتب اليه أن سرحهم اليّ، فلما مثلوا بين يديه جددوا التوبة، وحلفوا على صدقهم، وتبرأُوا مما نسب إليهم، فخيّرهم حيث يسيرون، فاختار كل واحد ما أراد من البلاد: كوفة، وبصرة، ومصر.
فأخرجهم; فما استقروا في جنب ما ساروا حتى ثاروا وألّبوا، حتى انضاف اليهم جمع...(1).
فسبب تسيير هؤلاء الكوفيين الى الشام -كما يعرضه ابن العربي- هو أنهم كانوا قوماً حاسدين حاقدين، وكانوا من شرار الناس الأدنياء، وانهم كانوا قد أثاروا فتنة - لم يذكرها ابن العربي- مما اضطر عثمان الى نفيهم من بلادهم الى الشام -كما كان يفعل بكل المنفيين- حيث استقبلهم معاوية ووعظهم ونصح لهم، ولكنهم صمّوا آذانهم، واستشهدوا على دعاواهم باُمور جاهلية تدل على ضعف يقينهم وقلة ورعهم، مما اضطر معاوية - الذي لم يحتمل منهم ذلك- الى إخراجهم الى الخليفة نفسه، فمروا في طريقهم على عبدالرحمان بن خالد الذي قمعهم وأذلهم حتى تابوا، فعفا عنهم عثمان وأرجعهم الى بلادهم، إلاّ أنهم بدلا من أن يرتدعوا ويرعوا، راحوا يؤلبون الناس ويسعّرون نار الفتنة!
هذه الأحداث التي يذكرها ابن العربي، ما هي الاّ ملخص لما جاء في تاريخ الطبري الذي بدأها بقوله:
اختلف أهل السير في ذلك، فأما سيف فإنه ذكر فيما كتب به الى السري عن شعيب...الخ(2).
وقد تناقل معظم المؤرخين والمؤلفين الذين جاءوا بعد الطبري هذه الرواية عنه بدرجات متفاوتة.
وقد حاول ابن كثير التلفيق بين الروايات التي جاءت من طرق متعددة، ولكنه مال في النهاية الى تغليب رواية سيف من خلال الآراء والملاحظات التي أبداها أثناء نقله الروايات، حيث يقول - عند ذكره حوادث سنة ثلاث وثلاثين ـ:
وفيها سيّر أمير المؤمنين جماعة من قرّاء أهل الكوفة الى الشام. وكان سبب ذلك أنهم تكلّموا بكلام قبيح في مجلس سعيد بن عامر(3).
فكتب الى عثمان في أمرهم، فكتب إليه عثمان أن يجليهم عن بلده الى الشام، وكتب عثمان الى معاوية أمير الشام أنه قد خرج اليك قرّاء من أهل الكوفة فأنزلهم وأكرمهم وتألّفهم.
فلما قدموا أنزلهم معاوية وأكرمهم واجتمع بهم ووعظهم ونصحهم فيما يعتمدونه من اتّباع الجماعة وترك الانفراد والابتعاد، فأجابه متكلمهم والمترجم عنهم بكلام فيه بشاعة وشناعة، فاحتملهم معاوية لحلمه، وأخذ في مدح قريش - وكانوا قد نالوا منهم- وأخذ في المدح لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والثناء عليه، والصلاة والتسليم، وافتخر معاوية بوالده وشرفه في قومه، وقال فيما قال: وأظن أبا سفيان لو ولد الناس كلهم لم يلد الاّ حازماً. فقال صعصعة بن صوحان: كذبت، قد ولد الناس كلهم لمن هو خير من أبي سفيان، من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البر والفاجر، والأحمق والكيّس.
ثم بذل لهم النصح مرة اُخرى، فإذا هم يتمادون في غيهم، ويستمرون على جهالتهم وحماقتهم، فعند ذلك أخرجهم من بلده ونفاهم من الشام لئلا يشوشوا عقول الطغام، وذلك أنه كان يشتمل مطاوي كلامهم على القدح في قريش، كونهم فرّطوا وضيّعوا ما يجب عليهم من القيام به من نصرة الدين وقمع المفسدين.
وكانوا عشرة، وقيل تسعة، وهو الأشبه(4).
وقد ناقض ابن كثير ابن العربي حين وصف اولئك المسيّرين بأنهم جماعة من قرّاء الكوفة، في الوقت الذي يوحي وصف ابن العربي لهم بما يدعو الى النفور منهم، الاّ أن ابن كثير سرعان ما يعود فيناقض نفسه، فيصفهم بأهل الجهالة.
وقد أوضح ابن كثير معنى قول ابن العربي (وقد كانوا أثاروا فتنة)، بأنهم قد تكلموا في حضرة واليهم سعيد بن العاص بكلام قبيح، دون أن يذكر ابن كثير شيئاً من ذلك الكلام حتى يمكن الحكم على مدى قبحه، الاّ أن ابن كثير قد بنى استنتاجه هذا على ما ورد عن الطبري برواية سيف الذي قال:
كان سعيد بن العاص لا يغشاه الاّ نازلة أهل الكوفة ووجوه أهل الأيام وأهل القادسية وقراء أهل البصرة والمتسمّتون. وكان هؤلاء دخلته إذا خلا، فأما إذا جلس للناس فإنه يدخل عليه كل أحد.
فجلس للناس يوماً; فدخلوا عليه، فبينا هم جلوس يتحدثون، قال خنيس ابن فلان: ما أجود طلحة بن عبيدالله.
فقال سعيد بن العاص: إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جواداً، والله لو أن لي مثله لأعاشكم الله عيشاً رغداً.
فقال عبدالرحمان بن خنيس - وهو حدث- والله لوددت أن هذا الملطاط لك -يعني ما كان لآل كسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة-.
قالوا: فض الله فاك! والله لقد هممنا بك.
فقال خنيس: غلام فلا تجازوه.
فقالوا: يتمنى له سوادنا!
قال: ويتمنى لكم أضعافه.
قالوا: لا يتمنى لنا ولا له. قال: ما هذا بكم. قالوا: أنت والله أمرته بها، فثار اليه الأشتر وابن ذي الحبكة وجندب وصعصعة وابن الكواء وكميل بن زياد وعمير بن ضابي، فأخذوه، فذهب أبوه ليمنع منه، فضربوهما حتى غشي عليهما، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطراً.
فسمعت بذلك بنو أسد، فجاءوا وفيهم طليحة! فأحاطوا بالقصر، وركبت القبائل فعاذوا بسعيد وقالوا: أفلتنا وخلصنا...(5).
فرواية الطبري عن سيف هذه، تظهر سعيد بن العاص - والي عثمان على الكوفة بعد الوليد بن عقبة- بمظهر الرجل الطيب الذي يختار جلساءه من القرّاء والصلحاء، لكن اُولئك النفر الذين أثاروا تلك الفتنة لم يكونوا من اُولئك، بل كانوا من العوام، بينما نجد ابن كثير يختار - رغم تعصبه لعثمان ومعاوية كما سوف يتبين أكثر فيما بعد- يصفهم بقراء أهل الكوفة، وهو الوصف الذي ورد عند البلاذري الذي يقول: فكان يجالس قراءها ووجوه أهلها ويسامرهم، فيجتمع عنده منهم: مالك بن الحارث الاشتر النخعي، وزيد وصعصعة ابنا صوحان العبديان، وحرقوص بن زهير السعدي، وجندب ابن زهير الأزدي وشريح بن أوفى، وكعب بن عبدة النهدي، وكان يقال لعبدة ابن سعد: ذو الحبكة، وكان كعب ناسكاً... وعدي بن حاتم الجواد(6).
أما سبب خلافهم مع سعيد بن العاص، فهو كما رواه البلاذري وغيره، من أن هؤلاء الذين ذكرناهم، قد جلسوا عند سعيد كعادتهم "فإنهم لعنده وقد صلّوا العصر، إذ تذاكروا السواد والجبل، ففضلوا السواد وقالوا: هو ينبت ما ينبت الجبل، وله هذا النخل. وكان حسان بن محدوج الذهلي الذي ابتدأ الكلام في ذلك، فقال عبدالرحمان بن خنيس الاسدي صاحب شرطه: لوددت أنه للأمير وأن لكم أفضل منه، فقال له الأشتر: تمنَّ للأمير أفضل منه ولا تمنَّ له أموالنا.
فقال عبدالرحمان: ما يضرك من تمنّي حتى تزوي ما بين عينيك؟ فوالله لو شاء كان له.
فقال الأشتر: والله لو رام ذلك ما قدر عليه.
فغضب سعيد وقال: إنما السواد بستان لقريش!
فقال الأشتر: أتجعل مراكز رماحنا وما أفاء الله علينا بستاناً لك ولقومك! والله لو رامه أحد لقُرع قرعاً يتصأصأ منه.
ووثب بابن خنيس فأخذته الأيدي.
فكتب سعيد بن العاص بذلك الى عثمان وقال: إني لا أملك من الكوفة مع الأشتر وأصحابه الذين يدعون القراء - وهم السفهاء- شيئاً.
فكتب إليه أن سيّرهم الى الشام(7).
فسبب الخلاف هو سعيد بن العاص نفسه الذي استفزّ مشاعر القوم حينما ادعى أن أرض السواد ليست إلاّ بستاناً لقريش - يعني بذلك بني أُمية- لأن سعيداً قد وجد أن معظم الولايات قد أصبحت في أيديهم، فكان لابد والحال هذه من أن تتطلع نفسه الى ماهو أبعد من ذلك.
وليس من شك في أن جميع ولاة عثمان الاُمويين كانوا يحملون نفس التصور للأمر، ولقد مرّت بنا مقولة الوليد بن عقبة لسعد بن أبي وقاص حينما ولاّه عثمان الكوفة.
ومن أغرب الأكاذيب التي لفّقها سيف بن عمر في روايته هذه، أنه ذكر اسم طليحة الذي خرج على رأس بني أسد، مع العلم أن طليحة الأسدي هذا - وهو المتنبي- قد "قُتل في خلافة عمر بن الخطاب"(8).
ويستكمل الطبري سرد حادثة تسيير أهل الكوفة كما جاءته عن سيف، قائلا: ولما انقطع رجاء اُولئك النفر من ذلك، قعدوا في بيوتهم، وأقبلوا على الاذاعة حتى لامه أهل الكوفة في أمرهم، فقال: هذا أميركم وقد نهاني أن اُحرك شيئاً، فمن أراد منكم أن يحرك شيئاً فليحركه.
فكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم الى عثمان في إخراجهم، فكتب: إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فالحقوهم بمعاوية.
فأخرجوهم، فذلّوا وانقادوا حتى أتوه -وهم بضعة عشر- فكتبوا بذلك الى عثمان، وكتب عثمان الى معاوية: إن أهل الكوفة قد أخرجوا اليك نفراً خُلقوا للفتنة، فرعهم وقم عليهم، فإن آنست منهم رشداً فاقبل منهم، وإن أعيوك فآرددهم عليهم. فلما قدموا على معاوية، رحب بهم وأنزلهم كنيسة تسمى مريم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري بالعراق، وجعل لا يزال يتغذى ويتعشى معهم، فقال لهم يوماً: إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالاسلام شرفاً وغلبتم الاُمم وصوبتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً، وإن قريشاً لو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم. إن أئمتكم لكم الى اليوم جُنّة(جُنّة: أي وقاية)
فلا تشذوا عن جُنّتكم، وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم ثم لا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاء لهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد موتكم.
فقال رجل من القوم: أما ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوّفنا، وأما ما ذكرت من الجُنة فإن الجُنة إذا اخترقت خُلص إلينا.
فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم، ولا أرى لك عقلا، اُعظم عليك أمر الاسلام واُذكرك به، وتذكرني الجاهلية! وقد وعظتك، وتزعم لما يُجنّك أنه لا يُخترق، ولا يُنسب ما يخترق الى الجُنة... أخزى الله أقواماً اعظموا أمركم، ورفعوا الى خليفتكم. إفقهوا - ولا أظنكم تفقهون- إن قريشاً لم تعز في جاهلية ولا إسلام الاّ بالله عزّوجل، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحساباً وأمحضهم أنساباً، وأعظمهم أخطاراً، وأكملهم مروة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضاً الاّ بالله الذي لا يُستذل من أعز، ولا يوضع من رفع، فبوأهم حرماً آمناً يُتخطف الناس من حولهم. هل تعرفون عرباً أو عجماً أو سوداً أو حمراً الاّ قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولته، الاّ ما كان من قريش، فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد الاّ جعل الله خده الأسفل، حتى أراد الله أن يتنقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحاباً فكان خيارهم قريشاً.
ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك الاّ عليهم، فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم بالله; افتراه لا يحوطهم وهم على دينه وقد حاطهم في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم، اُف لك ولأصحابك. ولو أن متكلماً غيرك تكلم; ولكنك ابتدأت، فأما أنت يا صعصعة، فإن قريتك شر قرى عربية، أنتنها نبتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشر، وألأمها جيراناً. لم يسكنها شريف قط ولا وضيع الاّ سُبَّ فيها، وكانت عليه هجنة، ثم كانوا أقبح العرب ألقاباً، وألأمه أصهاراً، نزاع الاُمم، وأنتم جيران الحظ وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) ونكبتك دعوته، وأنت نزيع شطير في عمان، لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي (صلى الله عليه وآله)، فأنت شرّ قومك، حتى إذا أبرزك الاسلام، وخلعك بالناس، وحملك على الاُمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين الله عوجاً، وتنزع الى اللآمة والذلة، ولا يضع ذلك قريشاً ولن يضرهم، ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم. إن الشيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشر من بين اُمتكم، فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم. لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء قضاه الله، ولا أمراً أراده الله، ولا تدركون بالشر أمراً أبداً، الاّ فتح الله عليكم شراً منه وأخزى.
ثم قام وتركهم، فتذامروا، فتقاصرت إليهم أنفسهم، فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال: إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم، لا والله لا ينفع الله بكم أحداً ولا يضره، ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، ولكنكم رجال نكير. وبعد، فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم، وليسعكم ما وسع الدهماء، ولا يبطرنكم الانعام، فإن البطر لا يعتري الخيار، إذهبوا حيث شئتم، فإني كاتب الى أمير المؤمنين فيكم. فلما خرجوا دعاهم فقال: إني معيد عليكم. إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان معصوماً فولاّني. وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر فولاّني، ثم استخلف عمر فولاّني، ثم استخلف عثمان فولاّني، فلم ألِ لأحد منهم ولم يولني الاّ وهو راض عني: وإنما طلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين والغَناء، ولم يطلب لها أهل الاجتهاد والجهل بها والضعف عنها، وإن الله ذو سطوات ونقمات، يمكر بمن مكر به، فلا تعرضوا لأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون، فإن الله غير تارككم حتى يختبركم ويبدي للناس سرائركم، وقد قال عزّوجل: (آلم * أحسبَ النّاسُ أنْ يُتركوا أنْ يَقولوا آمنّا وهُمْ لا يُفتَنونَ)(9).
وكتب معاوية الى عثمان: إنه قدم عليَّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أثقلهم الاسلام، وأضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجة، إنّما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم، ثم فاضحهم ومخزيهم، وليسوا بالذين ينكون أحداً الاّ مع غيرهم، فآنْهَ سعيداً ومن قبله عنهم، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير(10).
فمعاوية كان يتحدث باسم قريش ويفاخر بها، في الوقت الذي يذم هؤلاء النفر ويصفهم بأقبح الأوصاف، بينما ادعى ابن كثير أنه كان ينصحهم ويتألفهم، وأنهم هم الذين كانوا يتكلمون بكلام فيه بشاعة، وذلك كله اتفاقاً مع وصف سعيد بن العاص لهم بالسفهاء، ووصف معاوية لهم بأنهم يتكلمون بألسنة الشياطين، في الوقت الذي نجد المؤرخين الآخرين يصفون هؤلاء النفر بغير هذه الأوصاف، وادعاء سيف - في رواية الطبري- أن أهل الكوفة هم الذين أرسلوا الى عثمان في إخراجهم لا أساس له من الصحة، إذ من الواضح أن سعيد بن العاص وبطانته هم الذين كان يهمهم إبعاد هؤلاء النفر، بينما نجد خيار أهل الكوفة يعارضون إخراجهم من بلدهم.
أورد البلاذري خبر إرسال بعض قرّاء أهل الكوفة الى عثمان يطلبون منه ردّ هؤلاء النفر الى بلادهم كتاباً قالوا فيه: أن سعيداً أكثر على قوم من أهل الورع والفضل والعفاف، فحملك في أمرهم على مالا يحل في دين، ولا يحسن في سماع.
وإنّا نذكرك الله في اُمّة محمّد، فقد خفنا أن يكون فساد أمرهم على يديك، لأنك قد حملت بني أبيك على رقابهم، واعلم أن لك ناصراً ظالماً، وناقماً عليك مظلوماً، فمتى نصرك الظالم ونقم عليك الناقم، تباين الفريقان واختلفت الكلمة، ونحن نُشهد عليك الله وكفى به شهيداً، فإنك أميرنا ما أطعت الله واستقمت، ولن تجد دون الله ملتحداً ولا عنه منتقداً.
ولم يُسمِّ أحد منهم نفسه في الكتاب، وبعثوا به مع رجل من عنزة يكنى أبا ربيعة، وكتب كعب بن عبدة كتاباً من نفسه تسمى فيه ودفعه الى أبي ربيعة.
فلما قدم أبو ربيعة على عثمان، سأله عن أسماء القوم الذين كتبوا الكتاب، فلم يخبره، فأراد ضربه وحبسه، فمنعه علي من ذلك وقال: إنما هو رسول ادّى ما حمل.
وكتب عثمان الى سعيد أن يضرب كعب بن عبدة عشرين سوطاً، ويحوّل ديوانه الى الري ففعل(11).
فعثمان بن عفان لم يكن يكتفي باطلاق أيدي عماله في الولايات بالمظالم، بل كان يقرّهم على أفعالهم، ويشجعهم على التمادي بانزال العقوبة بمخالفيهم، بدلا من محاسبة هؤلاء العمال والولاة، ورد المظالم الى أهلها، فكانت تلك من أقوى مظاهر ضعف سياسة عثمان وتخبطه في الادارة، مما كان له الأثر الكبير في تعجيل النقمة والانتقاض عليه.
أما ما يمكن استخلاصه من رواية سيف - التي تبناها معظم المؤلفين- فهو ظهور معاوية بن أبي سفيان بمظهر الرجل الذي تحركه روح الإسلام وتعاليمه، في الوقت الذي نجد هؤلاء النفر من أهل الكوفة يظهرون بمظهر أهل جاهلية ضعاف الأحلام، إلا أن الرواية الاُخرى التي أوردها الطبري بغير طريق سيف - والتي نقل ابن كثير طرفاً منها- تظهر لنا معاوية على حقيقته، فنجده يفخر بمآثر آبائه الذين أفنوا أعمارهم في الشرك، فيمجد أباه الذي كان رأس المشركين وقائدهم في مناصبة المسلمين الحرب بكل أشكالها، ولم يسلم الاّ عام الفتح، فلم تكن له قدم في الاسلام ولا سابقة، بل هو من الطلقاء الذين منَّ عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا أدري هل كان معاوية حاضراً يوم فتح مكة، وهل سمع النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: "إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظّمها بالآباء"(12).
الاّ أن معاوية قد تعظّم بأبيه -كما يفعل الجاهليون- بينما نجد صعصعة بن صوحان يرد عليه رداً يتفق مع روح الاسلام حين يخبره أن آدم (عليه السلام) قد ولد الناس جميعاً - برهم وفاجرهم- وهو قطعاً أفضل من أبي سفيان!
وصعصعة هذا كان متكلم القوم والناطق باسمهم، ورواية الطبري عن سيف تظهره بأقبح صورة على لسان معاوية، بينما نجد أخباره - بغير طريق سيف- تؤكد عكس ذلك، كما تبين في أقوال العلماء الذين ترجموا له، فقد قال ابن عبدالبر: كان مسلماً على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لم يلقه ولم يره، صغر عن ذلك، وكان سيداً من سادات عبدالقيس، وكان فصيحاً خطيباً عاقلا لَسِناً ديّناً، فاضلا بليغاً، يُعد في أصحاب علي(علیه السلام).
وصعصعة هذا هو القائل لعمر بن الخطاب حين قسم المال الذي بعث به إليه أبو موسى... وكان ألف ألف درهم... وفضلت منه فضلة، فاختلفوا عليه حيث يضعها، فقام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس، قد بقيت لكم فضلة بعد حقوق الناس، فما تقولون فيها؟
فقام صعصعة بن صوحان -وهو غلام شاب- فقال: يا أمير المؤمنين، إنما تشاور الناس فيما لم ينزل الله فيه قرآناً، أما ما أنزل الله به القرآن ووضعه مواضعه، فضعه في مواضعه التي وضع الله تعالى فيها.
فقال: صدقت، أنت مني وأنا منك، فقسمه بين المسلمين(13).
فهذه الحادثة تؤكد وفور عقل صعصعة وصواب رأيه الذي أخذ به الخليفة عمر بن الخطاب ومدحه عليه.
أما أخوه زيد بن صوحان -وهو أيضاً من الذين سيّرهم عثمان الى معاوية- فهو: "ممن أدرك النبي (صلى الله عليه وآله) " بسنّه مسلماً، وكان فاضلا ديّناً سيداً في قومه، هو وإخوته.
وروي من وجوه أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان ميسرة له، فبينما هو يسير، إذ هوَّم فجعل يقول: "زيد وما زيد! جندب وما جندب!". فسئل عن ذلك فقال:
"رجلان من اُمتي، أما أحدهما فتسبقه يده، أو قال: بعض جسده الى الجنة، ثم يتبعه سائر جسده. وأما الآخر فيضرب ضربة يفرق بها بين الحق والباطل". قال أبو عمرو: اُصيبت يد زيد يوم جلولاء، ثم قتل يوم الجمل مع علي( عليه السلام)..."(14).
المصادر :
1- العواصم من القواصم: 121.
2- تاريخ الطبري: 4 ـ 317.
3- الصحيح سعيد بن العاص.
4- البداية والنهاية 7: 165.
5- الطبري 4: 317.
6- أنساب الأشراف 6: 152.
7- أنساب الأشراف 6: 152.
8- بيعة علي: 306.
9- العنكبوت: 1 و 2.
10- الطبري 4: 317.
11- أنساب الاشراف 6: 153.
12- سنن أبي داود: ح 5116.
13- الاستيعاب 2: 717.
14- أسد الغابة 3: 714.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.