
هو عمّار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين ابن الوذيم بن ثعلبة بن عوض بن حارثة بن عامر الأكبر بن يام بن عنس ابن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب (1) ، العنسي (2) ، الشامي ، الدمشقي ، وكنيته : أبو اليقظان.
ولّاه الخليفة عمر بن الخطاب إمارة الكوفة سنة ٢١ للهجرة ، وذلك بعد عزل زياد بن حنظلة ، وجعل عبد الله بن مسعود على بيت المال (3).
إنّ عمّار بن ياسر ، لم يكن أميرا من أمراء الكوفة ، الّذين نحن بصددهم ، وإنّما كان باستثناء (عليّ وابنه الحسن عليهماالسلام) أميرا بإيمانه ، وبصلاحه وتقواه.
جاء أبوه (ياسر) وعمّاه (الحارث ومالك) من اليمن إلى مكّة ، يبحثون عن أخ لهم قد فقدوه ، فرجع عمّاه (الحارث ومالك) إلى اليمن ، وبقي (ياسر) بمكّة فحالف أبا حذيفة المغيرة بن عبد الله ، ثمّ زوجه أبو حذيفة من أمة يقال لها (سمية بنت خباط) فولدت له عمّارا ، فأعتقه أبو حذيفة (4).
وكان عمّار من السابقين في الإسلام ، هو وأبوه وأمّه وكان إسلامه وإسلام صهيب في وقت واحد في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
وقد تحمّلت أمّه (سميّة) أنواع العذاب في سبيل إسلامها ، وقد قتلها أبو جهل ، فكانت حقّا أوّل شهيدة في الإسلام (5).
وكان الرسول الأكرم ، يذهب إلى المكان الّذي يعذّب فيه آل ياسر ، فيحييهم ، ويكبّر صمودهم وبطولتهم ، ويقول لهم : (صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنّة) (6).
وذهب إليهم الرسول الكريم ذات يوم (كعادته) فناداه عمّار قائلا : يا رسول الله ، لقد بلغ منّا العذاب كلّ مبلغ ، فناداه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : (صبرا .. أبا اليقظان صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنّة) (7).
وأخذ المشركون يعذبون عمّارا ذات يوم ، ولم يتركوه حتّى نال من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولمّا جاء الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يتفقده ، قال عمّار : (يا رسول الله ، والله ما تركوني حتّى نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخير). فقال له الرسول الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم : (فكيف تجد قلبك؟. فقال عمّار : مطمئن بالإيمان. فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : فإن عادوا فعد).
ثمّ نزلت الآية الشريفة : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(8) ، فالمقصود بالآية الشريفة هو عمّار بن ياسر (9).
وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يحبّ عمّارا ، حبّا عظيما ، ويباهي أصحابه بإيمانه وهديه ، حتّى قال عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : (إنّ عمّارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه) (10). وقيل : إلى أخمص قدميه.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : (من عادا عمّارا ، عاداه الله ، ومن أبغض عمّارا ، أبغضه الله) ، وعن أنس بن مالك : قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : (إنّ الجنّة تشتاق إلى ثلاثة : عليّ وعمّار وسلمان) (11).
وعن عائشة أنّها قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : (ما خيّر عمّار بين أمرين إلّا اختار أرشدهما) (12).
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : (واهتدوا بهدي عمّار) إلى كثير من الأحاديث الشريفة عنه.
وشارك عمّار في المعارك كلّها مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهاجر الهجرتين ، وروى عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الأحاديث الكثيرة ، وشهد قتال اليمامة في خلافة أبي بكر ، فذهب إلى صخرة ، ونادى : يا معشر المسلمين ، أمن الجنّة تفرّون؟ : اليّ ، إليّ ، أنا عمّار بن ياسر ، وقطعت أذنه ، وهو يقاتل قتال الأبطال (13).
وعند ما كان الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة ، ارتجز الإمام عليّ عليهالسلام أنشودة راح الكلّ يرددها (14) :
لا يستوي من يعمر المساجدا
يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن الغبار حائدا
وكان عمّار بن ياسر يعمل في جانب آخر من المسجد ، وهو يردّد الأنشودة حاملا الحجارة الثقيلة (15) من منحتها إلى محل البناء ، فيراه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فيقترب منه ، وينفض الغبار (بيده الشريفة) عن رأس عمّار ، ويتأمّل في وجهه ، ويقول على ملأ من الناس : (ويح ابن سميّة تقتله الفئة الباغية) (16).
وحينما حاصر المسلمون (الهرمزان) (الهرمزان : قائد عسكري فارسي ، اشترك في معركة القادسيّة ، وحوصر في (تستر) ثمّ استسلم وجيء به أسيرا إلى الخليفة عمر ، ثمّ استسلم. قتله عبيد الله بن عمر عند ما قتل أبوه.) سنة ٢٠ للهجرة في مدينة (تستر) لعدّة شهور ، كان (أبو سبرة) قائدا لجيش الكوفة والبصرة ، ولم يتمكن من احتلالها (لأنّها كانت محصّنة) ثمّ ذهب أبو موسى الأشعري مع جند من أهل البصرة لمساعدة (أبي سبرة) واشتدّ القتال وطال الحصار ، ولكنهم لم يتمكّنوا من احتلال المدينة ، فكتب أبو موسى الأشعري إلى الخليفة عمر يخبره بذلك ، فكتب عمر إلى عمّار بن ياسر (أمير الكوفة آنذاك) يأمره بالذهاب إلى (تستر) لمساعدة الجيوش الإسلامية المتواجدة هناك ، وأن يستخلف على الكوفة عبد الله بن مسعود (17).
وعند ما وصل عمّار إلى (تستر) استبشر المسلمون خيرا ، ولم تمض سوى سويعات ، حتّى دخل المسلمون (تستر) واستولوا عليها ، وعلى ما فيها من أموال ، استسلم (الهرمزان) وجيء به أسيرا إلى المدينة (18).
وخطب عمّار يوما فأوجز في خطبته ، فقيل له : لو زدتنا يا أبا اليقظان ، فقال : (أمرنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بإطالة الصلاة ، وقصر الخطب) (19).
ثمّ نقم أهل الكوفة على عمّار بن ياسر وأبغضوه ، حتّى اجترأ عليه (عطارد) وقال له : (أيّها العبد الأجدع). وشكوه إلى الخليفة عمر ، وقالوا : (إنّه لا يحتمل ما هو فيه ، وإنّه ليس بأمين ، وإنّه غير كاف ، وغير عالم بالسياسة ، ولا يدري على ما استعملته) (20). فعزله عمر سنة ٢٢ للهجرة ، ودعاه إلى المدينة ، وقال له : هل أساءك العزل يا عمّار؟ فأجابه عمّار : (ما سرّني حين استعملت ، ولكن ساءني حين عزلت) (21). ثمّ عيّن أبو موسى الأشعري أميرا على الكوفة خلفا لعمّار ، بناء على رغبة أهل الكوفة (22).
وكان عمّار بن ياسر (أمير الكوفة) قدوة لكل أمير ، فقد ازداد ورعا ، وزهدا ، وتواضعا ، حتّى قال فيه ابن أبي الهذيل : (رأيت عمّار بن ياسر ، وهو أمير الكوفة ، يشتري من قيثائها ، ثمّ يربطها بحبل ، ويحملها فوق ظهره ، ويمض إلى داره) (23).
وتمرّ الأعوام ، فتظهر الفتن والحروب ، وتتعدد اتجاهات الصحابة ، ويتمرد معاوية بن أبي سفيان في الشام على الخليفة الجديد (عليّ بن أبي طالب) وأخذ ينازعه حقّه في الخلافة والأمر ، فانحاز قسم من الصحابة إلى جانب معاويه ووقف قسم آخر إلى جانب عليّ (صاحب البيعة ، وخليفة المسلمين) (24).
أمّا عمّار : فقد وقف إلى جانب عليّ ، لا متحيّزا ولا متعصّبا ، بل للحقّ مذعنا ، وللعهد حافظا.
وجاء يوم صفّين ، وخرج الإمام عليّ عليهالسلام ، يواجه الموقف ، الّذي اعتبره تمرّدا يحمل هو مسؤوليته ، وخرج معه عمّار ، وكان عمره يومئذ ٩٣ سنة ، وكان عمّار قد أبدى وجهة نظره في هذه الحرب فقال : (أيّها الناس ، سيروا بنا نحو هؤلاء القوم ، الّذين يزعمون أنّهم يثأرون لعثمان ، والله ما قصدهم الأخذ بثأره ، ولكّنهم ذاقوا الدنيا واستمرأوها ، وعلموا أنّ الحقّ بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم ، ودنياهم ، وما كان لهؤلاء سابقة في الإسلام ، يستحقون بها طاعة المسلمين لهم ، ولا الولاية عليهم ، ولا عرفت قلوبهم من خشية الله ما يحملهم على اتّباع الحقّ ، وأنهم ليخادعون الناس بزعمهم أنّهم يثأرون لدم عثمان ، وما يريدون إلّا أن يكونوا جبابرة وملوكا) (25).
ثمّ أخذ الراية بيده ورفعها عاليا فوق الرؤوس ، وصاح في الناس قائلا : (والّذي نفسي بيده ، لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وها أنذا أقاتل بها اليوم ، والّذي نفسي بيده ، لو هزمونا ، حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر (26) ، لعلمت أنّنا على الحقّ ، وأنّهم على الباطل) (27). ولقد تبع الناس عمّارا ، وآمنوا بصدق قوله.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي : (شهدنا مع عليّ عليهالسلام" صفّين" ، فرأيت عمّار بن ياسر ، لا يأخذ ناحية من نواحيها ، ولا من أوديتها ، إلّا ورأيت أصحاب محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم يتبعونه كأنّه علم لهم) (28).
وكان عمّار ، وهو يجول في المعركة ، يؤمن أنّه واحد من شهدائها ، وكانت نبوة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم أمام عيينة : (تقتل عمّارا الفئة الباغية) ، لذلك نراه يندفع في المعركة ، وصوته يغرّد : (اليوم ألقى الأحبّة محمّدا وصحبه) ، ثمّ يتوجّه نحو معاوية وهو يقول (29) :
نحن ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحقّ إلى سبيله
عندها اندفع أصحاب معاوية نحو عمّار (كالذئاب الكاسرة مكشرين أنيابهم) فأحاطوا به من كلّ جانب ، وأردوه قتيلا ، فذهب إليه الإمام عليّ عليهالسلام فحمله على صدره ، ثمّ صلّى عليه ، ودفنه بثيابه ، كان ذاك سنة ٣٧ للهجرة (30) ، وكان أهل الشام يسمّون يوم قتل عمّار : (فتح الفتوح).
وفي قتله قال الحجّاج بن عزية الأنصاري قصيدة نقتطف منها الأبيات التالية (31) :
يا للرجال لعين دمعها جاري / قد هاج حزني أبو اليقظان عمّار
أهوى إليه أبو حوا فوارسه / يدعو السكون وللجيشين اعصار
فاختلّ صدر أبي اليقظان معترضا / للرمح ، قد وجبت فينا له الدار
الله عن جمعهم لا شكّ كان عفا / أتت بذلك آيات وآثار
من ينزع الله غلّا من صدورهم / على الأسرة لم تمسسهم النار
قال النبيّ له : تقتلك شرذمة / سيطت لحومهم بالبغي فجّار
فاليوم يعرف أهل الشام أنّهم / أصحاب تلك وفيها النار والعار
عندها عرف المسلمون من هي الفئة الباغية ، ومن هي الّتي تقتل عمّارا والّتي أنبأهم بها الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، إنّها فئة معاوية.
المصادر :
1- النووي ـ تهذيب الأسماء. ج ٢ / ٢٣٤ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ٢٠ / ٣٥.
2- وبنو عنس من القحطانيّة ، القلقشندي ـ نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب. ص ٣٩٧.
3- ابن حبان ـ الثقات. ج ٢ / ٢٣٤ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ٤ / ١١٥.
4- ابن سعد ـ الطبقات. ج ٣ / ٢٤٦ والمنتخب من ذيل المذيل ـ تاريخ الطبري. ص ٥٠٨.
5- المزي ـ تهذيب الكمال. ج ٢١ / ٢١٦.
6- خالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ٨٧.
7- الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١ / ١٥٠.
8- سورة النحل. الآية ١٠٦.
9- ابن سعد ـ الطبقات. ج ٣ / ٢٤٩ وخالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ٩٠.
10- ابن الجوزي ـ صفة الصفوة. ج ١ / ٢٣٦ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ٢ / ٣٨.
11- ابن الجوزي ـ صفة الصفوة. ج ١ / ٢٣٦.
12- النووي ـ تهذيب الأسماء واللغات. ج ٢ / ٣٨.
13- النووي ـ تهذيب الأسماء. ج ٢ / ٣٨.
14- ابن عبد ربه ـ العقد الفريد. ج ٤ / ٣٤٢ وخالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ٩٢.
15- وقيل إنّ عمّارا كان يحمل من الحجارة ، ضعف ما يحمله الآخرون.
16- تاريخ الطبري. ج ٥ / ٤١ وابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ٢١٢ ورجال السيد بحر العلوم. ج ٣ / ١٧٦ وخالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ١٠٠.
17- أبو حنيفة الدينوري ـ الأخبار الطوال. ص ١٣٠.
18- تاريخ خليفة بن خياط. ج ٢ / ١٤٢.
19- الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ١ / ٣٠٣.
20- تاريخ الطبري. ج ٤ / ١٦٣.
21- تاريخ ابن خباط. ج ١ / ١٤٩ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٣ / ٤٢.
22- تاريخ الطبري. ج ٤ / ١٦٣ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٣ / ٢٤٢.
23- خالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ٩٥.
24- خالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ١٠٢.
25- المصدر السابق. ج ٢ / ١٠٥.
26- هجر : مدينة في البحرين يكثر فيه النخيل.
27- نصر بن مزاحم ـ وقعة صفّين. ج ٤ / ٣٨٧.
28- ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٠ / ١٠٤.
29- تاريخ الطبري. ج ٥ / ٣٩ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٠ / ١٠٤ وباقر القرش ـ حياة الإمام الحسن ابن عليّ. ج ١ / ٤٥٤.
30- خليفة بن خياط ـ الطبقات. ص ٢١.
31- المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٨٢.