تغییر الانظمة السياسية قد یکون بطرق بسيطة وليس بالعنف والقتال و يمکن ان یکون بالمشارکة وطرح الافکار الافضل وجذب المتلقي الی ما یصبو الیه ، حیث ان المشارکة تتیح الفرصة للمشارک بان يطرح افکاره ومشاریعه بحرية بعیدا عن الاختفاء والاضطهاد والتعسف الحکومي القائم .
ويرى السيد محمد حسين فضل الله إمكانية تغيير النظام الحاكم باتجاه الإسلام، من خلال المشاركة السياسية، فضلاً عن تحقيق عدة أهداف، من مواجهة التشريعات الباطلة، ومواجهة المشاريع الظالمة، ويظهر هذا، من خلال أقواله التالية:
أولاً: أما في طريقة الحكم في العصور الحديثة، فإنها لا ترتكز على الشخص من حيث المبدأ، بل ترتكز على المؤسسات الديمقراطية، التي قد يملك فيها الإنسان، فرداً كان أو جهة، إمكانات الدخول إلى داخلها، والحصول على حرية الحركة فيها، من خلال الحصول على أكبر قدر ممكن من المقاعد في المجالس النيابية، أو من المواقع السياسية والاقتصادية، التي تفسح المجال للوصول إلى الضغط على الحكم وإضعافه، أو السيطرة عليه، في عملية احتواء له، كما يحدث -في بعض الحالات- من انتقال الحكم من حزب إلى حزب، من المؤسسات الحزبية المتحركة في داخل اللعبة، مما يمكن حدوثه لدى المؤسسات، التي تتحرك في مفاهيمها وتطلعاتها خارج نطاق اللعبة السياسية.
ثانياً: وفي ضوء ذلك، فإننا لا نجد أي مانع من اعتماد هذا الأسلوب من ناحية المبدأ، كأحد الأساليب الواقعية، في الوصول إلى النتيجة المطلوبة، في الوصول إلى مواقع الحكم، أو الاقتراب منه، أو التقدم في بعض الخطوات في حركة التغيير، وذلك بالتأكيد على صفة المعارضة، التي تعلن عن منهجها وأسلوبها في العمل، وتطلعاتها للتغيير، وتركيزها على إظهار سلبيات الحكم، ومواطن الضعف فيه، في محاولة دائمة لتحويل الأنظار عنه إلى الإسلام، في إيجابياته، من خلال مواطن القوة فيه، والعمل على اعتبار المؤسسات الديمقراطية موقعاً متقدماً من مواقع الإعلام والتحرك لمصلحة الإسلام في مواقعه التشريعية والسياسية على أكثر من صعيد.
ثالثاً: إن من الممكن للإسلاميين أن يعبّروا في داخل الندوة النيابية عن موقفهم الإسلامي في مجالات التشريع، بالعمل على منع التشريعات المضادة للتشريع الإسلامي، ومواجهة المشاريع الظالمة والطاغية، التي يراد من خلالها استعباد الأمة، واستغلالها واستعمارها، وتحويلها إلى أمة ضعيفة مستسلمة ذليلة، فيما يخطط له ممثلو الحكم الفاسد والاستكبار الغاشم ويعبرون - في الوقت نفسه - عن معارضتهم للتشريع كمبدأ، فيما لا يملكون أمر الخوض فيه، ويمكن لهم في الوقت نفسه أن يفسحوا في المجال للتشريعات الإسلامية أن تفرض نفسها على الساحة من خلال التحرك العملي، من أجل إقرارها في القانون، بطريقة وبأخرى، ويؤكد وجودها كحركة ضد الانحراف، عندما توحي بأن شرعية وجودها في الداخل منطلقة من المواقع الشرعية فيه... إن هذه الوسيلة قد تكون في بعض المراحل الوسيلة الأقرب، للوصول إلى المواقع المتقدمة للاتجاه الإسلامي في الساحة(1)
تقويم الطروحات في ضوء الأدلة الشرعية
بعد عرض الأدلة الشرعية والسياسية للمعارضين والمؤيدين للمشاركة السياسية في الحكم مع الأنظمة الوضعية... أسعى إلى مناقشة المؤيدين من خلال الأدلة الشرعية والسياسية التالية:أولاً: في مسألة فتوى الإمام ابن تيمية في إجازته تولي منصب سياسي في دولة ظالمة، ينبغي أن ننتبه إلى أن هذه الدولة هي دولة تُطبق فيها شريعة الإسلام وأن حاكمها مسلم وإن تلبّس في الظلم في حين من الأحيان، وبالتالي فإن تولّي هذا المنصب أو تلك الوظيفة في هذه الدولة بهدف تخفيف المظالم على الناس يصبح من الواجب الشرعي، وهذا ما أكدته فتوى الإمام ابن تيمية رحمه الله... ولكن هذا الأمر لا يمكن أن ينسحب على دولة غير إسلامية وحاكمها ليس بمسلم، لأن الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(2)
ثانياً: لقد اجتهد أبو الأعلى المودودي وحدد أن الوصول إلى دولة الإسلام ممكن من خلال النظام الديمقراطي والانتخابات، وجرَّب الرجل مع الجماعة الإسلامية في باكستان هذا الطريق، فلم يصل إلى ما يريد، ولهذا وبعد معاناة شديدة وعَنَت كبير في هذا السبيل، فقد غيَّر الرجل رؤيته للأمور بعد حين من الزمن، فيقول في ذلك "كذلك الدولة، الدولة الإسلامية فإنها لا تظهر دولة إسلامية بطريقة خارقة للعادة، بل لا بد لإيجادها وتحقيقها من أن تظهر أولاً حركة شاملة مبنية على نظرية الحياة الإسلامية وفكرتها، وعلى قواعد وقيم خلقية وعملية توافق روح الإسلام وتوائم طبيعته... ثم تأخذ هذه الحركة في النمو صُعداً، مع ما لها من السيادة الفكرية والعقلية في مكافحة ومقاومة للنظام الباطل المعوج السائد في المجتمع الإنساني، لأنه في مثل هذا الكفاح والمقاومة يُمتحن القائمون بالدعوة وحاملو لوائها بأنواع من المصائب والشدائد، فيقاسون الآلام والأهوال ضرباً وقتلاً، وإجلاءً عن الوطن، ويبذلون مهجهم وأرواحهم بكل صبر وجلد وإخلاص وعزم قوي.. فكذلك شأن الانقلاب الإسلامي فإنه لا تثمر شجرته ولا تؤتي أُكلها إلا إذا قامت حركة شعبية على أساس الأحكام القرآنية ودعامة سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الطاهرة، تقوم هذه الحركة الشعبية وتنهض وتقوى حتى تغيِّر بجهادها المستمر العنيف أُسس الجاهلية"(3)
ثالثاً: بيَّن الشيخ حسن البنا أهمية دخول الدعوة إلى البرلمان، لأن فيه نخبة الأمة، ولا بد من إسماع صوت الإسلام لها، وأنه لا حرج على المسلم في ذلك، لأن الدستور المصري ينصّ على أن دين الدولة هو الإسلام... أقول نعم، بل إن دساتير(4) معظم بلاد المسلمين تنصّ كذلك على أن دين هذه البلاد الإسلام
... ولكن أين الإسلام الذي يُطبق في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية والخلقية، وقد بات من المؤكد أن هذه الأنظمة تعتمد الديمقراطية سياسياً والرأسمالية من الناحية الاقتصادية؟ ولقد سعى الشيخ حسن البنا ومنذ أربعينات القرن الماضي إلى أسلمة النظام المصري، واستخدم من أجل ذلك كل الأساليب السلمية، القمينة بالوصول إلى هذا الهدف الكبير، إلا أنها لم تجدِ نفعاً، واستشهد البنا وعدد لا يستهان به من إخوانه على هذا الطريق، ولوحِقت قيادات وعناصر الإخوان، وزج بهم في السجون والمعتقلات، وعومِلوا من قبل الحكام بكل شدة وإرهاب وعنف، ولا يزالون، على رغم أنهم لم يرفعوا السيف، حتى الآن، في وجه الحاكم!.
رابعاً: لقد لاحظ الشيخ محمد أبو زهرة الظلم النازل بالإخوان المسلمين، من قبل النظام الحاكم، ولهذا رأيناه وتحت ضغط الواقع، يفتي ويشجع الإخوان على دخول البرلمان، من أجل حماية أنفسهم أولاً، وإدخال الدعوة الإسلامية إليه ثانياً، وإغناء الحياة السياسية في مصر ثالثاً، إلا أن النظام الحاكم كان يأبى ذلك، لعوامل داخلية وخارجية "إن عبد الناصر كان يريد أن يرفع الشعار الإسلامي للسيطرة على جماعة الإخوان المسلمين، والاستيلاء على القواعد الجماهيرية التي قامت عليها شعبية الجماعة، وصارت مصدر قوتها، ويظهر أن فشله في ذلك هو الذي جعله يحاول القضاء عليها، وقد شجعه على ذلك أن السياسة الأمريكية نفسها كانت منزعجة من نمو نفوذها، وأنه تم الاتفاق بينه وبين المخابرات الأمريكية في أوائل 1952م قبل تنفيذ الانقلاب، على أن من أهداف الانقلاب العسكري "استبعاد الثورة الشعبية" التي كان يسعى لها بجد الإخوان المسلمون. أما أن السياسة الأمريكية كانت منزعجة من نمو حركة الإخوان المسلمين، فذلك راجع إلى أن هذه الجماعة رغم ما أصابها من ضربات من قبل، في عام 1948م/1949م انتهت بمقتل مؤسسها، إلا أنها عادت وسيطرت على الموقف الداخلي في مصر سيطرة كاملة في أواخر عام 1951م بسبب تزعمها للحركة الفدائية ضد القوات الإنكليزية في القنال، حتى خشيت الدوائر الغربية أن تتحول هذه الحركة الفدائية إلى ثورة شعبية ضد المصالح الغربية عامة، وضد إسرائيل بصفة خاصة(5)
خامساً: يشير الشيخ ابن باز إلى أن وصول رجال صالحين إلى البرلمان يعملون على دعم الحق وأهله من الأهمية بمكان، ولكنه لم يحدد كيف يمكن أن تتم هذه العملية داخل البرلمان، حيث إنه بات من المعروف أن النظام الديمقراطي يعتمد أكثرية الأصوات في فرض قراراته، وبالمحصّلة أقول أنّى للإسلاميين أن يكون لهم أكثرية الأصوات في نظام ديمقراطي؟!
سادساً: أما الأستاذ مصطفى مشهور، فيرى أن وجود الإخوان في مجلس الشعب هو من أجل التصدي لقرارات الباطل وإلغاء مواد الدستور البعيدة عن الإسلام... أقول إن النظام الحاكم في مصر وبتعاقب حكوماته منذ أربعينات القرن الماضي، يعمل على استئصال حركة الإخوان تحت عناوين سياسية شتّى، فهل نتوقع من هذا النظام أن يغيّر توجهاته السياسية، ويسمح للإخوان بأن يدخلوا الحياة السياسية في مصر من أبوابها العريضة!.
سابعاً: يوضح الدكتور حسن الترابي قناعته بأنه لا يرجو إمكانية تحول النظام الحاكم إلى الإسلام، ويعتبره غير شرعي وغير مرضي(المقصود أن هذا النظام لا يرضى عنه الشعب المسلم في السودان.)، ويبيّن أن مشاركته هذه إنما كانت من أجل اغتنام فرصة هنا أو فرصة هناك، من أجل القيام بالتغيير الجذري(وقد جاءت الفرصة بانقلاب جبهة الإنقاذ الوطني على الحكم في السودان عام (1989)، والتي كان الدكتور الترابي من أركانها.)
ثامناً: ويرى الدكتور فتحي يكن رحمه الله أن مبررات وجود الإسلاميين في مجلس النواب، هي رفع الظلم والغبن عن المسلمين، وتحصيل حقوقهم، وتدعيم مواقعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويوضح أن مشاركة المسلمين بالحكم لا تعني مشاركة الإسلام!... ونردّ على قوله بالتالي:
1- لقد دخل البرلمان، وعاش التجربة البرلمانية بكل مفرادتها وتفاصيلها، وكان له جولات وصولات في تقديم المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والخلقية، يدعو إلى الإصلاح في جوانب الحياة السياسية، ويطالب بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمسلمين(6).. فماذا كانت النتيجة والمحصّلة العملية في تحقيق الأهداف المرجوة؟!.
2- إن المسلمين يعرفون حقيقة الإسلام من خلال تطبيقه في واقع الحياة، وإن مشاركة رموز الحركات الإسلامية وذوبانهم في مؤسسات النظام الوضعي يعطي انطباعاً لدى المسلمين بأن هذا النظام شرعي، ولكن يحتاج إلى بعض الإصلاحات، ومن أجل ذلك فإن هذه الرموز تشارك وتقوم بدورها في تحقيق هذه الإصلاحات، وينتج عن ذلك عدم الوضوح في الرؤية الشرعية والسياسية لدى المسلمين، في حقيقة المشروع الإسلامي، في إقامة الحكم الإسلامي، وبالتالي لا يمكن الفصل في وعي عامة المسلمين -لا خاصتهم- بين ما يرونه من عمل سياسي للرموز الإسلامية، وبين مشروع إقامة الحكم الإسلامي، فيتميّع المشروع الإسلامي في أذهان العامة، لما يرونه أمامهم من ذوبانه في مشاريع الآخرين.
تاسعاً: أما فيما يتعلق بعرض الدكتور يوسف القرضاوي بشأن الديمقراطية التي ناضلت من أجلها الشعوب وضحَّت حتى وصلت إليها!... فأقول للدكتور الفاضل الأمور التالية:
1- ما دام الله قد أغنانا بالشريعة الشاملة التي تنظم حياتنا العقدية والتعبدية والتشريعية ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ - ونعرف أن لدينا نظاماً سياسياً قد طبقته الأمة، وعاشت في كنف عدالته مدة 1354 سنة، ونعلم كذلك أن في هذا النظام من الصفات والمزايا ما لم تعرفه البشرية ونظمها السياسية عبر تجاربها المتعثرة في مجال تنظيم حياة الإنسان ورعايته سياسياً، - أمام هذه الثروة الهائلة من التشريع السياسي، وأمام التطبيقات السياسية الواسعة، الممتدة في الزمان والمكان، عبر هذه المدة الطويلة من تاريخ الأمة - فإننا لسنا بحاجة إلى ديمقراطيتهم في الوصول إلى تأمين الأمن والعدل والعدالة والسعادة للإنسان، لأن الذي بين أيدينا يغنينا عن الركام الذي بيدهم ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾
2- ولما كان لسان الحال أبلغ في البيان من لسان المقال، أقول إن الديمقراطية التي فُتِن بها وطبقها بعض أبناء جلدتنا قد جلبت إلينا المآسي والكوارث في المجالات التشريعية والاقتصادية والاجتماعية.
ويرى السيد محمد حسين فضل الله أن النظام الديمقراطي يتيح للإسلاميين إمكانية إلغاء تشريعات الباطل، ومواجهة السياسات الظالمة، وإمكانية تغيير النظام باتجاه الإسلام...من خلال حديثه یمکن الاشارة الی الأمور التالية:
1- إن أكثر التشريعات والقوانين التي يبت بها في مجلس النواب، هي منافية للشريعة والتوجهات الإسلامية، إن من الناحية الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الخلقية.وبما أن إقرارها، أو عدمه، يعتمد على كثرة الأصوات في المجلس، ولهذا فإن النتيجة معروفة سلفاً، لأن أكثر التوجهات النيابية السياسية في لبنان، هي عَلمانية. وحتى عندما كانت الكتلة النيابية الإسلامية في البرلمان الأردني هي الأقوى، فإنها لم تستطع مواجهة قرار الاعتراف بإسرائيل، رغم أن أكثر النواب في الأردن مسلمون، ويتعاطفون مع طروحات الكتلة الإسلامية، إلا أنه، عندما تأتيهم التوجهات العليا للسلطة الحاكمة، نراهم يميلون حيث تميل رياح مصالحهم السياسية والاقتصادية.
2- إن التجارب الإسلامية في مجال المشاركة السياسية، ليست جديدة في ساحة العالم الإسلامي، لا على المستوى البرلماني ولا على المستوى الوزاري، وهذه التجارب ماثلة أمامنا بكل حصادها المر (باكستان، مصر، تونس، الكويت، الجزائر وتركيا)، وحيث إن مؤشر هذه السياسة التي اعتمدها الإسلاميون، طيلة سبعين سنة، يتجه نزولاً لا صعوداً، في سلّم تحقيق الأهداف الإسلامية المرحلية، ناهيك عن الأهداف الإسلامية العامة، أرى أن هذه التجارب ينبغي أن تُدرس بالعمق، حتى نتوقف عند محطاتها الرئيسة، لكي نخرج بالعبر الفكرية والسياسية الجديدة، وعلى أضوائها نعيد الحسابات في خطتنا العامة أو المرحلية، في كيفية التعاطي مع الواقع السياسي الداخلي والخارجي، فنصوِّب مسيرتنا الإسلامية، نحو إقامة دولة الإسلام، وإعادة وحدة وعزة ومجد أمتنا الإسلامية.
3- إذا عدنا إلى تجربة أمتنا الإسلامية في إيران، نجد أن الإمام الخميني ( قدس سره الشریف) قد استفاد من حصيلة دراسته للسنّة النبوية المطهرة وحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومواقفه تجاه الطاغوت القُرشي، وأنه استقرأ التجارب السياسية الإسلامية السابقة، في مجال التعاطي مع الساحة السياسية الداخلية والخارجية، لواقع الأمة، ولهذا نراه قد أصّل من الناحية الشرعية مسألة المفاصلة السياسية، تجاه الطاغوت في الداخل والخارج، ولذلك فقد اعتمد في حركته الشرعية والسياسية والجهادية، في مواجهة أعتى نظام طاغوتي في هذا العصر، على ثوابت ثلاثة:
أ- أيقظ الإمام الخميني ( قدس سره الشریف) الشعب المسلم في إيران من سباته العميق، وأشركه في تحمل مسؤولياته الشرعية والسياسية والجهادية، حيث إن الجميع قد عرفوا (فقهاء وعلماء ودعاة وسياسيين وتجاراً ومهندسين وأطباء وأساتذة وطلبة وعمالاً وفلاحين ورجالاً ونساء) أنهم سيقفون أمام الله عز وجل وسيُسألون عن أمانة حملهم للإسلام والشريعة والدعوة إلى الله تعالى... "أعدوا أنفسكم للقتل... وللذهاب إلى السجون... أعدوا أنفسكم لتحمل المآسي التي ستحل بكم في طريق الدفاع عن الإسلام والاستقلال... واستقيموا "(7)...﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا﴾"(8)
ب- ركّز الإمام الخميني( قدس سره الشریف) في خطابه الشرعي والسياسي، على كشف دور الغرب الصليبي، في إلغاء دور الإسلام وإبعاده عن واقع الحياة، والعمل على تذويب شخصية الأمة الإسلامية، والسعي إلى إلحاقها بالغرب ثقافياً وسياسياً وحضارياً، وأبرز دور النظام الحاكم الطاغوتي لشاه إيران، في تنفيذ هذه السياسة الغربية، وما نتج عنها من خراب ودمار ثقافي وسياسي واقتصادي واجتماعي وخلقي... "لا يمكنكم تغيير أحكام الله وليس لكم الحق في ذلك... ولا يحق لأحد أياً كان أن يتدخل في مثل هذه الأحكام... فالأحكام الإلهية جاء بها الأنبياء من عند الله للناس، وإن العلماء الأعلام على مرّ العصور حافظوا عليها وبينوها للشعب وهذا هو واجبهم المقدس... ولسنا بحاجة إلى توجيهات الحكام الظلمة... لأنهم كالشياطين ولا ينفذون سوى أحكام وأوامر أسيادهم المستعمرين... ونحن لا يخفى علينا أمرهم أبداً، بل نعرف بالتفصيل ماذا يبيتون من مؤامرات ضد القرآن الكريم وتعاليمه القيمة وكيف أنهم يريدون إزاحته عن سدّة القيادة والحكم والاستعاضة عنه بالكتب والأنظمة الضالة... لقد سمعنا صوتهم القبيح من الإذاعة وعلى شاشة التلفزيون، ذلك الصوت الحانق الحقود، صوت الجاهلية والردة، سمعناهم يقولونها بكل وقاحة "نحن لا نريد الإسلام! الإسلام للعرب فليطبلوا وليزمروا!! نحن رفضنا أحكام الله! فماذا تريدون؟!"... نعم، هذا هو صوت الطغمة الحاكمة البغيض المليء بالكفر والمروق عن شرعة الإسلام الخالدة. نحن لا نستغرب صدور هذا الكلام المفضوح عنهم، لأننا نعرفهم حق المعرفة: عملاء للاستعمار وأذناباً له في بلادنا. وقد اكتوى الشعب بنار إجرامهم منذ أمد بعيد، ولكننا إنما نقولها هنا، فذلك من أجل إيقاظ جماهير الشعب وأبناء أمتنا العزيزة ونطلعهم على هذه الحقائق الأليمة. لنكون قد بلَّغنا الرسالة وأتممنا الحجة وأدينا الواجب"(9)
ج- استطاع الإمام الخميني ( قدس سره الشریف) أن يكسب العلماء العاملين في حركة الجهاد السياسية ضد الطاغوت، لأنه كان في مقدمة الناس في مجال المواجهة والمكابدة والمعاناة، الأمر الذي جعل الشعب المسلم في إيران يندفع ويتجاوب معه في كل حركاته وسكناته، حيث اعتبر أن أوامره هي أوامر شرعية واجبة التنفيذ "إن إطلاق سراحي جاء بعد أن وجد رجال السلطة أنهم عاجزون عن تحمل أعباء الضغط المتزايد عليهم من جميع الأقطار الإسلامية... وشعروا بوطأة موجة الاستنكار والسخط وتعالي صيحات الاعتراض التي تصاعدت ضدهم... نعم عندما شعروا بتلبد الأجواء الخارجية والداخلية ضدهم وبعد تلك الفضائح بدأت ترتعد فرائصهم بسبب نظرة الشعوب الأجنبية المريبة إزاءهم، لا سيما حلول موسمي الحج ومحرم الحرام وجهلهم بتطورات الأحداث خلال هذين الموسمين والشعور بقرب فقدانهم حتى مواطئ أقدامهم لدى الشعوب، ولدى تلك الدول، لذلك أطلقوا سراحي"(10)
لقد تجاوب المسلمون في إيران مع قيادتهم، وهم يعلمون أنهم يسيرون ويجاهدون من أجل إسقاط الطاغوت وإقامة دولة الإسلام...
وكان نصر الله المبين، بسبب وجود القائد الواعي القدوة، ووجود الأعوان من العلماء المخلصين، ووجود الشعب المضحي في سبيل الله.
الخلاصة الشرعية والسياسية العامة
هذا ما جنته الأنظمة الديمقراطية على أمتنا من دمار وخراب، تشريعي وفكري واقتصادي واجتماعي وخلقي، وبكلام آخر، أقول إن الأنظمة الديمقراطية في بلاد المسلمين هي المعول الذي يسعى الغرب من خلاله لاستئصال الإسلام في أبعاده العقدية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والخلقية.
بعد عرض الآراء والأدلة الشرعية والسياسية للمعارضين للمشاركة السياسية في الحكم ومناقشة المؤيدين للمشاركة السياسية مع الأنظمة الحاكمة، من خلال الأدلة الشرعية والفكرية والسياسية، أخلص إلى نتيجة شرعية مفادها: أنه لا تجوز المشاركة السياسية مع الأنظمة الحاكمة، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: إن الأنظمة الحاكمة، التي تعتمد الديمقراطية في حياتها التشريعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا تحتكم إلى شريعة الله عز وجل، وتحتكم إلى شرع البشر.
ثانياً: من خلال عرض الوقائع التشريعية والاقتصادية والاجتماعية لواقع الأنظمة الحاكمة نعلم أنها تسعى بشكل
دؤوب إلى تغريب الأمة الإسلامية وإبعادها عن دينها وتاريخها وأخلاقها وحضارتها.
ثالثاً: إن المشاركة السياسية للإسلاميين مع الأنظمة الحاكمة تؤدي إلى تمييع المشروع الإسلامي في أذهان المسلمين.
رابعاً: إن المشاركة السياسية تؤدي إلى دعم النظم الحاكمة، بعناصر وكفاءات الإسلاميين، وتساعد على بقائها واستمرارها.
خامساً: إن المشاركة السياسية من قبل الإسلاميين تعطي غطاءً شرعياً للأنظمة الحاكمة، وكان من الواجب أن يتم تعريتها أمام المسلمين.
سادساً: إن هذه المشاركة تلغي "عملياً" المشروع الإسلامي، في إقامة دولة الإسلام، من خلال ذوبان الإسلاميين في دوائر ومؤسسات الأنظمة الحاكمة.
المصادر :
1- السيد محمد حسين فضل الله - الحركة الإسلامية هموم وقضايا - ص46-49.
2- المائدة: 51.
3- أبو الأعلى المودودي - منهاج الانقلاب الإسلامي - ص21-24.
4- انظر نبيل الصائغ - الأحكام الدستورية للبلاد العربية.
5- د. محمد صادق - الدبلوماسية والميكافيلية في العلاقات العربية الأمريكية - ص290.
6- انظر فتحي يكن - أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان - ج/1 - ص235-330.
7- صاحب حسين الصادق - الثورة والقائد - ص70.
8- فصّلت: 30.
9- الإمام الخميني( قدس سره الشریف) - دروس في الجهاد والرفض - ص33-34.
10- الإمام الخميني( قدس سره الشریف) - المرجع نفسه - ص62.