استطاع الاسلاميون ان يصلوا الی سدة الحکم في کثیر من الاماکن والفترات الزمنية والسؤال ، هل يستطيع الإسلام أن يكفل حياة مدنية للإنسان على الطريقة الغربية، أو بالطريقة غير الغربية، كما أن للاشتراكية مفهومها الخاص حول طريقة تنظيم حياة الإنسان الذي يختلف عن الرأسمالية؟ إن للإسلام مفهومه حول طريقة تنظيم حياة الإنسان الذي يختلف عن الاشتراكية والرأسمالية معاً، ولكنه في الوقت نفسه يستطيع أن يحقق للإنسان التقدم في كل مجالات الحياة، وفي كل المجالات الإنسانية العامة.
ونحن هنا لسنا في صدد التعمق أكثر، ولكن نؤكد أن الإسلام استطاع في مدى مئة سنة منذ انطلاق الدعوة الإسلامية، أن يصنع حضارة علمية وفكرية وإنسانية عالمية اعتُبرت كما يقول رئيس وزراء الهند السابق الراحل، جوهر لال نهرو "أم الحضارات الحديثة".
وإذا كان الإسلام قد استطاع أن يصنع حضارة متقدمة أغنت الحضارة الغربية، وأعطتها قوة دفع وانطلاق، فإنه قادرٌ على صناعة هذه الحضارة في شكل أفضل بعد التقدم الإنساني، الذي لا يتنكر له الإسلام، بحال من الأحوال.
هذا، وعندما نريد أن ندرس الديمقراطية من خلال قاعدتها الفكرية، فإننا نجد أنها تختلف اختلافاً كبيراً عن الإسلام، لأن المفهوم الذي تختزنه الديمقراطية في مضمونها الفكري هو أنّ شرعية أي قرار ينطلق من تصويت الأكثرية عليه وليست هناك أية شرعية لأي عنوان آخر في هذه الدائرة.
وفي ضوء هذا يستمد الإسلام شرعيته في حركة الواقع، من خلال اختيار الناس له لا من خلال كونه وحياً يحمل في ذاتيته معنى الشرعية، بل أعلى أنواع الشرعية، وانطلاقاً من هذا، فلو أنّ الناس رفضوا الإسلام لفقد شرعيته في حركة الواقع وفي الوعي السياسي العام. إنّ المسألة قد لا تكون لها انعكاسات عملية بالمعنى السياسي، لأنّ بعضهم قد يقول: ما همك إذا استطعت أن تحكم إسلامياً باسم الديمقراطية، بين أن يفكر بعض الناس بأنّ شرعيتك منطلقة من اختيار الأكثرية أو أن شرعيتك منطلقة من الله سبحانه وتعالى؟
ولكن على الرغم من أن حركة الواقع تفرض الإسلام، إلاّ أنّنا نلاحظ أنّه عندما يختار الإسلاميون عنوان الديمقراطية لحركتهم السياسية فإن معنى ذلك أنهم يلتزمون كل مضامينها وإيحاءاتها، الأمر الذي ينعكس سلباً على خطوط الثقافة الإسلامية في وعي الأمة، كما ينعكس على التزامات الإسلاميين بالنتائج السلبية أو الإيجابية للنهج الديمقراطي في مواجهتهم للنادي السياسي الذي يتحركون فيه. لذلك فإننا نتصور أن المسألة تحمل سلبية في الجانب الفكري والإيحائي ثم تتطور بعد ذلك، لتستطيع أن تطرح إمكانية تغيير هذا الحكم أو ذاك. لكننا إذا أردنا أن ننطلق من واقع الديمقراطية، بعيداً عن العنوان الفكري أو العنوان السياسي الذي يكون واجهة لحركتنا السياسية، فإنّ من الممكن عندما نعيش في مجتمع ديمقراطي أن نستفيد من هذا المجتمع، وأن ننطلق لنشارك في العمل على الدخول إلى كل مواقعه من خلال الفرصة العامة التي يفرضها اختيار الأكثرية عندما نؤمن بأننا نملك الأكثرية أو حتى عندما لا نملك الأكثرية، فإنّ التحرك في هذه الدائرة للحصول على أكبر قدر ممكن من الأصوات يمنحنا حضوراً سياسياً في الواقع السياسي العام، الأمر الذي يؤدي إلى إيجابيات كبيرة.
إذاً نحن نستطيع أن نستفيد من الديمقراطية في المجتمع المتنوع - كما يستفيد غيرنا أيضاً - من دون أن نتبنّاها كخط فكري، وفي هذا الجانب لا بد لنا من أن نحرك خطابنا السياسي عندما ننجح أو عندما نخسر بأسلوب ومنهجية لا يجعلان حركتنا السياسية - في وعي الناس الآخرين - حركة الإتجاه الذي يمنع الآخرين حرياتهم، كما لاحظنا في تجربة بعض البلدان الإسلامية التي استطاعت أن تحصل على قدر كبير من الاختيار الشعبي. إننا لاحظنا أنّ الخطاب السياسي، الذي تحرك في هذه الدائرة، أوجد إرباكاً في الجو السياسي والإعلامي لمصلحة خصوم الإسلام، ما جعلهم يهاجمون نتائج التجربة الشعبية من خلال طبيعة مفردات الخطاب السياسي الذي لم يكن مدروساً سواءً على مستوى خطوطه أو على مستوى توقيته.
هذا العرض الذي تحدّثنا عنه يتصل بالديمقراطية في شكل عام، ولكننا قد نستطيع أن نسأل في هذا المجال أننا عندما نعيش في مجتمع إسلامي هل يمكن أن نتبنى الديمقراطية؟ من الطبيعي أننا لن نستطيع أن نضعها في الوعي السياسي كمنهج فكري إذا أردنا أن نتحرك سياسياً في إطارها الشكلي، ولكننا نستطيع أن نحصنها بأن نطلق مسألة خيار الشعب بعد أن نضع الحدود للممارسة الديمقراطية من حيث الشروط التي لا بد من أن يتميز بها المرشح بما ينسجم مع الخطوط الإسلامية أو طبيعة الظروف الموضوعية للمسألة الإسلامية وشروطها الشرعية. وبذلك نستطيع أن نجمع بين أصالة الخط الإسلامي، لنكفل له عدم الانحراف في اتجاه آخر ونكفل مشاركة الأمة في القرارات التي تتحرك في حياة مجتمعاتها أو أفرادها من أجل إعطاء المسألة بعداً تلتزم فيه الأمة بخطوطها الشرعية في التزامها بالأشخاص والتزامها بالنظام، بحيث يمكن أن يحقق للدولة الإسلامية العمق السياسي الذي يطل على العالم، بالطريقة التي تقول إنّ الإسلام لا يلغي الأمّة عندما يتحرك في كل إدارته لشؤونها التفصيلية ولكنه يجمع بين الإسلام الذي هو خيار الأمة، باعتباره دينها، وبين رأي الأمة في المصالح والتفاصيل. إننا بذلك يمكن أن نحصل على مشاركة الأمة في كل القرارات السياسية التي لم يجعل الإسلام لها خطوطاً تشريعية تعبدية حاسمة في ما شرّعه الله، سبحانه وتعالى، أو في ما بيّنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبذلك يمكن أن نجمع بين الأمرين.
ولعلنا في هذه المسألة نستوحي تشريع البيعة. إننا نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسله الله، سبحانه وتعالى، رسولاً للناس لتكون شرعيته من خلال إرسال الله له لا من خلال الناس، إننا نلاحظ أنّ البيعة التي تحدّث عنها القرآن في بيعة النساء والرجال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تعطي معنى الحاجة إلى أن يلتزم الناس العقيدة على مستوى الإيمان، من خلال أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو رسول الله، وأن يلتزموا السير في الواقع العملي لحركة العقيدة والشريعة في تفاصيلها في الالتزام بولي الأمر وبالخطوط التفصيلية للإسلام، على أساس أن يكون خيارهم من خلال إيمانهم والتزامهم. ربما كانت البيعة إشارة إلى ضرورة التزام الأمة القيادة والتعبير عن رأيها فيها حتى تلك التي تمثل قيادة معيّنة من الله، سبحانه وتعالى، ولن يكون رأي الأمة في القيادة هو الذي يعطيها شرعيتها ولكن ليعمق التزامها به وواقعية الحركة في هذا الاتجاه.
ومن هنا يمكننا أن نستوحي نهجاً يشبه النهج الديمقراطي في النتائج وهو أن يكون للأمة عملية الاختيار في سياستها بالتعاون مع النظام السياسي الحاكم، الذي قد يأخذ شرعيته من نظرية ولاية الفقيه أو من الشورى أو من أي شيء آخر.
هذا عندما نتحدث عن الديمقراطية كخط سياسي، فإذا أردنا أن نتحدث عن الديمقراطية من خلال إيحاءاتها الأخلاقية، عندما يُقال فلان إنسان ديمقراطي أو هذه طريقة ديمقراطية أو روحية ديمقراطية لتكون نفياً للديكتاتورية وللاستبداد، فإنّ الإسلام ديمقراطي بكل ما للكلمة من المعنى الإيحائي والسلوكي للديمقراطية بعيداً عما هو المنهج الفكري الذي أشرنا إليه.
وحول النظام السياسي المتصل بالعقيدة والشريعة نود أن نوضح أن المنظومة الإسلامية تنطلق من مفهومين: مفهوم يتصل بالعقيدة وآخر يتحرك في الشريعة. أما المفهوم الذي يتصل بالعقيدة فهو أن الملك لله ولذلك فإن الحكم لله من موقع أنه خالق؛ فهو الذي يملك منا ما لا نملك من أنفسنا وهو الذي يهيمن على الأمر كله وفي كل وجودنا وهو الذي يعلم من نفوسنا ويعلم كل ما يصلحنا وما يُفسدنا ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾( الملك: 14)
وعلى هذا الأساس، فإن الحكم عندما يكون حركة في تسيير المحكوم بكل مواقعه، فإن من الطبيعي أن يكون الله هو المهيمن على ذلك كله،لأنه إلهنا وربنا ونحن عباده، ولا يملك العبد، فيما هو مفهوم العبودية الحقة، أيّ موقف أمام سيده، فكيف إذا كان ذلك السيد هو الله؟
لذلك فإن الحاكمية بالمعنى التكويني الذي يعني خضوع وجودنا لإرادة الله، وبالمعنى الحركي الذي يقتضي انفتاح تحركنا على إرادة الله سبحانه وتعالى فيما يريدنا من ذلك، توحي بمفهوم الحاكمية لله من خلال العقيدة، وهذا هو الذي يرتبط بمعنى التوحيد ونفي الشرك. فلا يملك أحد غير الله أن يتصرف في وجودنا ومن ثم في شؤؤننا.
أما المفهوم الذي يتحرك في خط الشريعة فإنه ينطلق من الآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾( الأحزاب: 36) وقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65 )وقوله تعالى:﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾( الجاثية: 18) إلى غير ذلك من الآيات التي تتحدث عن أن الحكم لله وعن الكفر والفسق والظلم، كصفات حركية في الجانب السلبي لمن لا يحكم بما أنزل الله.
إن ذلك يعني أن الله أرادنا أن نتحرك في خط شريعته من موقع طاعته وتجسيد معنى العبودية في الحياة أمامه. لأن الله يريد للحياة الإنسانية أن تنسجم مع الحياة الكونية، لتتحرك تلك بإرادة الله في التكوين وتتحرك هذه بإرادة الله في التشريع، ليكون هناك تكامل بين
الإنسان الذي يطيع الله في أوامره ونواهيه وبين الكون الذي يعيش الإنسان في داخله ويخضع في وجوده التكويني لقوانينه، ليطيع الله في حركة السنن الكونية. فليس لأحد أن يشرّع في مقابل شريعة الله وليس لأحد أن يتجاوز الخطوط التي وضعها الله، تعالى، في مسألة الحكم والحاكم وفي تفاصيل القانون الذي ثبت أنه وحي من الله.
ولكن ليس معنى ذلك أن لا حكم للإنسان أو أن الإنسان لا يستطيع، في الدائرة الواسعة التي أوكل الله أمرها إليه ضمن ضوابط معينة أو التي أباح الله له أمر التحرك فيها وتحديد تفاصيلها، ليس معنى ذلك أن الإنسان يتجمد وأننا نطلق كلمة الحاكمية لله، لنظل نحدّق في البعيد من دون أن ننطلق في حياتنا من خلال أصولها العملية التي تمثل التفاصيل الحياتية للإنسان. إن الله تعالى يحكم من خلال الإنسان، فقد حكم الله من خلال أنبيائه وأوليائه ومن خلال كل الناس الذي ينسجمون مع الخط العريض للإسلام. ولذلك فإنه لا بد للناس من أن يحكمهم الناس. ولكن القضية هي أن الناس الذين يحكمون أو الذين يحكّمهم الناس في أنفسهم وفي الواقع لا بد من أن تكون لهم الصفات التي يرضاها الله سبحانه وتعالى للذين يتولّون مسؤولية الحياة، ومسؤولية الناس.
ومن هنا، فإننا عندما ندرس نظرية الحكم في الإسلام، سواء كان ذلك على مستوى نظرية الإمامة أو نظرية الخلافة أو نظرية الشورى التي ربما تتحرك في إطار أوسع من شروط الإمامة والخلافة، بحسب الضوابط الموجودة لدى الفقهاء أو المفكرين المسلمين، عندما ندرس ذلك نجد أن مسألة حاكمية الله لا تعني أن الحكم في الحياة يكون إلهياً، بمعنى أن يكون الحاكم ظل الله في الأرض من دون أية ضوابط وحدود؛ بحيث تكون المسألة هي ذاتية الحاكم في موقعه، لا موضوعية الخط الذي جعله الله له في حركته.
إننا نجد أن الله حدّد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو النموذج الأعلى للإنسان الذي جعله الله نبياً وخليفةً للناس، حدد له الحدود وقنّن له القوانين؛ فلا يستطيع النبي أن يحكم بمزاجه وإن كنا نفترض أن مزاجه لا ينفصل عن إرادة الله فيما أودعه الله في نفسه من القداسة ومن العصمة ومن الانفتاح على كل مواقع رضاه، ولكن الله لم يجعل ذلك منطلقاً من الذات بل من الخط. ومن هنا رأينا الله يتحدث معه كما يتحدث مع أي مسلم، ويتحدث مع الأنبياء كما يتحدث مع أي إنسان. ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾( الزُّمر: 65.) و ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ﴾( الحاقَّة: 44-45).
ومن هنا، فإن مسألة الحكم ليست إلهية، بالمعنى الذي يفهم بعض الناس منه الحكم الإلهي، أي الإنسان الذي لا يسمح لأحد أن يناقش أو يسأل، والإنسان الذي يتحرك بمزاجه وبإرادته الذاتية، بعيداً عن الضوابط التي تحمي الناس منه أو تحميه من نفسه. ولذلك فإن الله أمر نبيه أن يشاور الناس مع أن النبي مرتبط بالوحي، فقال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ (آل عمران: 159). لذلك إن الحكم في الإسلام ينطلق من حالة موضوعية، تتحرك فيها الذات القائدة بالضوابط التي يمكن للناس أن يرصدوا من خلالها حركة الحكم في انسجامها مع هذه الضوابط أو عدم انسجامها. فهو ليس الحكم الإلهي المطلق، ولكنه الحكم الإنساني الذي يستمد شرعيته من الخطوط التي جعلها الله تعالى للحكم ولحركته.
ولهذا لاحظنا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو المعصوم من قبل الله في التبليغ وفي حركته في الواقع، ولذلك نرى أن السنّة هي قوله وفعله وتقريره. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقف، فيما ترويه كتب السيرة، أمام المسلمين في آخر لحظات حياته، ليقول لهم: "إنكم لا تمسكون عليّ بشيء وإنني ما أحللت إلا ما أحلّ القرآن وما حرّمت إلا ما حرم القرآن"، وفي رواية "إني ما أحللت إلا ما أحلّ الله وما حرمت إلا ما حرم الله". كأنه يريد أن يقول لهم ادرسوا كل تاريخي معكم في حركة الدعوة والممارسة والحكم واعرضوا ذلك على شريعة الله التي بلَّغتكم إياها، لتجدوا أن أقوالي وأفعالي وعلاقاتي منسجمة مع هذا الخط، وهذا ما نقرأه في بعض كلمات الأنبياء ﴿وَمَا أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْه﴾ أو ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾.
إننا نفهم من ذلك أن الحكم في الإسلام هو حكم إنساني، يستمد شرعيته من الله في حدود الضوابط التي جعلها الله للحكم وللحاكم.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية، عندما تُطلُّ على بعض جوانب المعنى الإلهي في الدولة. فهي دولة مدنية لأن للحاكم فيها ضوابط معينة يستمر فيها ما استمر مع هذه الضوابط ويبتعد عنها ما ابتعد عن هذه الضوابط، بحيث إن الأمة إذا رأت أن هذا الحاكم فقد الضوابط الشرعية التي تجعله في موقع الشرعية للحكم فإن عليها أن تبتعد عنه. وهكذا نجد أن لهذه الدولة قانوناً شاملاً لكل المجالات العملية التي يعيشها الإنسان بحيث تستطيع الأمة أن تواجه الحاكم بالقانون، كما يستطيع الحاكم أن يواجه الأمة في أعماله أو في ما يريده منها من خلال القانون.
وعلى هذا الأساس، فإن الدولة ليست دولة الحاكم المطلق الذي يحكم باسم الله من خلال مزاجه أو أفكاره الذاتية الخاصة ولكنها الدولة التي يحكم فيها الحاكم باسم شريعة الله؛ فإذا كان معصوماً فإنه ينطلق من خط العصمة في ما تبلّغه وفي حكمه ولكن بالمستوى الذي يسمح فيه للآخرين بأن يثيروا أمامه علامة الاستفهام حول طبيعة حركته في الموقع. ولذلك لاحظنا مثلاً أن الإمام علياً كان يواجه الناس، ليطلب منهم أن ينقدوه وكان يقول لهم "فلا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة، ولا تظنوا بي استثقالاً لحق يُقال لي أو لعدل يُعرض عليّ فإن مَن استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يُعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بفوق أن أخطىء".
إن الحاكم هنا، الذي يعتقد فريق من المسلمين بعصمته في هذا المجال، يغري الناس بنقده وبمراقبة كل أفعاله، وبأن يقولوا له كلمة الحق ولو كانت قاسية وأن يشاوروه بكلمة العدل، مهما كانت طبيعتها ويغريهم بذلك على أساس أن يقول لهم "إني لست بفوق أن أخطىء". إن معنى ذلك أن الحاكم الإسلامي هو حاكم مدني مسؤول يغري الناس بأن ينقدوه بدل أن يعظموه أو يمدحوه أو يرفعوه إلى الدرجات الذاتية العليا. إنه كان يقول لهم: "ليس أمري وأمركم واحد، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم".
إننا عندما ندرس شخصية الحاكم الإسلامي في شخصية النبي عندما يحكم، وفي شخصية كل الخلفاء والأئمة الذين يمثلون الشرعية عند المسلمين، نجد أن الحاكم كان يحدث الناس عن الشريعة وعن كتاب الله وعن أسس الحكم، ولهذا فإننا نستطيع أن نقول: إنّ الحكومة الإسلامية هي حكومة مدنية تتحرك في الخط الإلهي، أي الوحي الذي يحدد للحاكم شرعية الحكم وشرعية وقوفه في موقع الحكم، ليحدد له شرعية كل التفاصيل في نطاق القانون الشرعي أي الشريعة.
أما الحديث عن النموذج الغربي للديمقراطية باعتباره الأنسب والأصلح للواقع العربي فإنني لا أعتقد أن عملية إسقاط هكذا نموذج، نتج من ذهنية تعيش في أجواء محددة، يمكن أن تنجح بشكل آلي في مجتمعاتنا العربية. وأكاد أقول إن مجتمعاتنا تعيش الذهنية الشرعية، ذهنية "البطل" ولا تنسجم مع عقلية المؤسسة إلا من خلال المؤسس؛ الأمر الذي يجعل تأثير البطل في الواقع الشرعي أكثر من تأثير أية مسألة أخرى، ولهذا نجد هذا الالتزام الديني بالأشخاص في كل الأديان الشرقية يتقدم على الالتزام بالدين نفسه، ولذلك فإن التطور الديني الشعوري يحوّل مسألة الالتزام بالأشخاص إلى نوع من العبادة وإلى حالة تقرب من الحالة الوثنية فتستغرق في الشخص أكثر من الاستغراق في قيمه ومفاهيمه.
نحن نتصور أن الديمقراطية الغربية ليست هي النموذج الأمثل للمرحلة العربية من خلال طبيعة التركيبة الذهنية. ونحن لا نعارض وجود فئات تعيش قلق الحرية ومعنى التعددية في تفكيرها، ولكن هذه الفئات بالذات، إذا نزلت إلى الأرض واستطاعت أن تمسك بزمام الحكم، فإنّ أصحابها يتخلّون عنها بسهولة، ولعل أفضل دليل على ذلك هو ديمقراطية الجزائر فقد لاحظنا أن الأسلوب الديمقراطي الذي ساهم في نجاح جبهة الإنقاذ (في الجزائر) قد انتفض عليه وعلى نتائجه بدعوى أن الديمقراطية لا يمكن أن تحتضن غير الديمقراطيين.
أما عن الإسلام والأقليات الدينيّة، فقد انطلق التشريع حول هذه المسألة في خطين عريضين:
الخط الأول: هو خط أهل الكتاب الذين ينتمون في صفتهم الدينية إلى كتاب منزلٍ كاليهود والنصارى والمجوس - في قول مشهور - والصابئة، فهؤلاء تنتهي مسألة القتال بين المسلمين وبينهم بالإسلام أو بدفع الجزية التي يفرضها وليّ الأمر الذي يتغلب عليهم، لتكون الجزية في مقابل الحماية الإسلامية لهم من دون أن يلتزموا أي التزام عسكري في حماية ثغور المسلمين، هذا إضافة إلى حقوقهم الدينية في عباداتهم وطقوسهم وتقاليدهم في نطاق النظام العام للدولة من دون انتقاص إنسانيتهم، وذلك على أساس عقد الجزية الذي يخضع فيه الطرفان للالتزامات المتبادلة في المفاوضات في هذا الميثاق، وهذا هو الذي يطلق عليه عنوان "عقد الذمة" باعتبار أن هؤلاء يدخلون في ذمام المسلمين وفي مسؤوليتهم الأمنية والسياسية.
وإذا كان بعض الناس يثير هذه المسألة بطريقة سلبية على أساس أنها تنتقص عن حقوقهم الإنسانية، فإننا ندعوهم إلى دراسة المسألة في شكل دقيق بعيداً من الأساليب الاستهلاكية السياسية، ليروا أنها كانت تمثل أسلوباً حضارياً يحمي الأقليات ويمنحها حقوقها الدينية والاجتماعية والسياسية في نطاق النظام العام، ويبعدها عن الإحراج في إدخالها في الحرب التي قد تشنّها الدولة الإسلامية ضد الفئات التي تلتقي مع هذه الأقليات في انتمائها الديني، أو الحرب التي تتحرك للدفاع عن الإسلام الذي لا يؤمن به أتباع الأقليات ولا يرون مبرراً للتضحية بأنفسهم في سبيله.
إننا لا نريد الدخول في تفاصيل "عقد الذمة" أو عقد "الجزية" الذي يمثل حالة إنهاء الحرب مع أهل الكتاب، لأن البحث لا يستهدف الدخول في التفاصيل، فلذلك مجال آخر، بل يستهدف إعطاء الأفكار العامة في نظرة الإسلام إلى الأقليات.
الإسلام وغير أهل الكتاب
الخط الثاني: هو خط غير أهل الكتاب، كالملاحدة والمشركين والأديان الأخرى غير السماوية، كالبوذية ونحوها.ويرى الفقهاء المسلمون - من خلال الكتاب والسنّة في الاجتهاد المعروف فيما بينهم - أنه يُقبل منهم الإسلام حتى في صورته الشكلية التي لا تنطلق من قناعة ذاتية، لأن المطلوب - في هذه الحالة - إخضاعهم للسلطة الإسلامية، وإخراجهم من أجواء العداوة للإسلام والمسلمين، وإدخالهم في المجتمع الإسلامي كما لو كانوا جزءاً منه، لأن ذلك هو السبيل الأقرب لاندماجهم في الجو الإسلامي وانفتاحهم على حقائق الإسلام من خلال الوضع المنفتح على الحقيقة الإسلامية بهدوءٍ بعيداً عن حال التشنج العدواني الذي كانوا يعيشون فيه سابقاً.
وربما كان الأساس في ذلك هو أن الإسلام لا يعتبر الإلحاد والشرك فكراً محترماً يفرض احترام انتماء الناس إليه، بل يراه نهجاً منحرفاً عن طبيعة الأشياء منطلقاً من الجهل والتخلف والعصبية، ولذلك عبّر القرآن الكريم عن الكافرين والمشركين بأنهم ﴿الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ للإيحاء بأنهم كفروا من موقع جهل، لا من موقع فكرٍ مضاد.
وإذا كانت المسألة تتحرك في هذا الاتجاه، فإن من الطبيعي أن لا يحترم الإسلام الجهل في طبيعته ونتائجه، فيضغط على الذين يختارونه لينتقلوا منه إلى المواقع التي تتيح لهم إمكانات المعرفة المنفتحة على حقائق الغيب في آفاق الإيمان بالله.
سُبل العيش بين المسلمين وغيرهم
وليس هذا هو السبيل الوحيد للتعايش بين المسلمين وغير المسلمين من أهل الكتاب والكافرين والمشركين، فهناك سبيل آخر يمكّن للأقليات الدينية وغير الدينية - من الفئات المضادة للدين - من أن تتعايش مع المسلمين في داخل المجتمع الإسلامي، أو في بلدانها الخاصة المستقلة، من خلال الدخول في المعاهدة أو المهادنة أو المعاقدة مع المسلمين حسب الشروط التي تتفق عليها مع أولياء الأمر من المسلمين، تبعاً للمصلحة الإسلامية العليا التي تفرض على المسلمين إنهاء الحرب مع الآخرين أو تجميدها، والدخول إلى مواقع السلام مع الشعوب الأخرى التي لا تدين بالإسلام، سواء كان السبب في ذلك قوة الكافرين في عددهم وعدّتهم ومواقعهم السياسية أو الاقتصادية، بحيث لا يملك المسلمون الدخول معهم في حرب متعادلةٍ، ما قد يدفع المسلمين إلى طلب الدخول في محادثات سلام أو معاهدة معهم أو إلى قبول ذلك إذا قدّم الكافرون الطلب بمبادرة منهم، أو كان السبب وجود مصلحة عليا للمسلمين للتعايش مع الآخرين في سلام عادل متوازن من خلال طبيعة الأجواء الدولية التي تربط كل دول العالم في ميثاق شامل للصداقة أو عدم الاعتداء على طريقة ميثاق الأمم المتحدة، ما يجعل المسلمين في عهد شامل مع كل دول العالم، إلا الدول التي تنقض العهد وتعلن الحرب عليهم، أو الدول التي لا تملك أية شرعية سياسية لدى المسلمين، كإسرائيل.وهذا الخط -خط المعاهدة- يختلف عن الخطين الآخرين، وهو الذي يمكن أن يزيل الكثير من السلبيات التي قد يثيرها بعضهم حول المنهج الإسلامي في نظرته إلى الآخرين ليكون السيف هو كل شيء في المسألة، ليفرض الإسلام أو الجزية أو القتل، مما يبتعد به المسلمون عن إمكان التعايش مع الشعوب الأخرى التي تختلف عنهم في الانتماء الديني أو عن إمكان التعامل بإنسانية وعدالة مع الأقليات الدينية الأخرى التي لا تريد الدخول في الإسلام ولا تحب دفع الجزية، ولا تعرّض نفسها للحرب الدائمة.
وفي ضوء ذلك، يمكن لنا أن نتصور أن المجتمع الإسلامي في نطاق الدولة الإسلامية يحتوي على المواطنين الذين يتنوّعون في أديانهم مع مساواتهم في الحقوق المدنية أو السياسية العامة التي لا تتنافى مع الخصوصيات الذاتية للإسلام.
المصدر:
راسخون 2017