هو سعيد بن العاص بن أحيحة بن سعيد بن العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ، القرشيّ ، الأمويّ ، المدنيّ .ويلقب بعكة العسل. ولّاه الخليفة عثمان بن عفّان إمارة الكوفة سنة 30 للهجرة ، وذلك بعد عزل الوليد بن عقبة بن أبي معيط (1).
نشأ سعيد فقيرا في حجر عثمان بن عفّان ، وقيل في حجر عمر بن الخطاب ، ثمّ رحل إلى الشام عند معاوية بن أبي سفيان ، ثمّ دعاه الخليفة عمر بن الخطاب فزوّجه إحدى بنات سفيان بن عوف ، ثمّ تزوّج أيضا بإحدى بنات مسعود بن نعيم النهشلي .
وكتب عثمان بن عفّان إلى أهل الكوفة حين ولّاهم سعيد بن العاص فقال : (أما بعد ، فإنّي ولّيتكم الوليد بن عقبة ، غلاما حين ذهب شرخه ، وشاب حلمه وأوصيته بكم ، ولم أوصيكم به ، فلمّا أعيتكم علاميته ، طعنتم في سريرته ، وقد وليكم سعيد بن العاص ، وهو خير عشيرته ، وأوصيكم به خيرا ، فاستوصوا به خيرا) .
وعند ما خرج سعيد من المدينة إلى الكوفة ، أخذ يرتجز في طريقه فيقول :
ويل نسيات العراق منّي / كأنّي سمعمع من جنّ
ولمّا وصل سعيد إلى الكوفة ، ودخل المسجد ، أمر بغسل المنبر ، وقال : إنّ الوليد كان رجسا ، نجسا ، ولم يصعد المنبر حتّى غسلوه ، وذلك انتقاما من الوليد وانتقاصا من شخصيته ، لأنّ الوليد كان أسخى نفسا ، وألين جانبا ، وأرضى عند أهل الكوفة من سعيد ، وقال بعض شعراء الكوفة (2) :
فررت من الوليد إلى سعيد / كأهل الحجر إذ جزعوا فباروا
ولمّا صعد سعيد المنبر ، ذمّ أهل الكوفة ، متهما إيّاهم بالشقاق والخلاف ، وقال أيضا : (والله بعثت اليكم ، وإنّي لكاره ، ولكنّي لم أجد بدّ إذ أمرت .. ألا إنّ الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها ، ووالله لأخزينّ وجهها حتّى أقمصها أو تعييني وإنّي لرائد نفسي اليوم.
ومرّت الأيّام بسعيد في الكوفة ، فاستبدّ بالأموال ، وسبّب ضررا كبيرا لأهل الكوفة وظهرت منه أمور منكرة ، حتّى قال في بعض الأيّام : (إنّما هذا السواد بستان لأغيلمة من قريش).
مما جعل أهل الكوفة يشكوه إلى الخليفة عثمان بن عفّان ، فذهب سعيد إلى المدينة ، واستخلف على الكوفة (عمرو بن حريث) وقيل استخلف (ثابت بن قيس بن الخطيم الأنصاري) ، وذهب في نفس الوقت جماعة من أهل الكوفة فيهم الأشتر النخعي ، يطلبون من الخليفة عزل سعيد عن الكوفة ، فرفض عثمان طلبهم ، وأمر سعيد بأن يرجع إلى إمارته.
فرجع مالك الأشتر إلى الكوفة (قبل رجوع سعيد إليها) فاستولى عليها ، وصعد المنبر وخطب الناس قائلا : (هذا سعيد بن العاص ، قد أتاكم ، يزعم أنّ هذا السواد ، بستان لأغيلمة من قريش ، والسواد : مساقط رؤوسكم ، ومراكز رماحكم ، وفيؤكم ، وفيء آبائكم ، فمن كان يرى الله عليه حقّا ، فلينهض إلى الجرعة ، وبايعوني على أن لا يدخل سعيد للكوفة ، فبايعه عشرة آلاف من أهل الكوفة) (3).
ولمّا رجع سعيد بن العاص من المدينة إلى الكوفة ، منعوه من دخولها ، ولم يمهلوه حتّى لشراء ما يحتاجه من طعام وعلف ، وهدّدوه بالقتل إن لم يرجع في الحال ، فرجع سعيد والتحق بعثمان ، وبقي معه إلى أن حوصر عثمان فدافع عنه. ثمّ كتب مالك الأشتر إلى عثمان : (إنّنا والله ما منعنا عاملك من الدخول إلى الكوفة لنفسد عليك عملك ، ولكن لسوء سيرته فينا ، وشدّة عذابه ، فابعث إلى عملك من شئت)
وقيل إنّهم عينوا أبا موسى الأشعري" أميرا عليهم" وبعثوا إلى عثمان ابن عفّان يخبرونه بذلك ، ويطلبون موافقته ، كان ذلك سنة 34للهجرة وقال عتبة بن الوعل ـ شاعر أهل الكوفة :
تصدّق علينا يابن عفّان واحتسب / وأمّر علينا الأشعري لياليا
فقال عثمان : نعم ، وشهور ، وسنين ، إن أنا بقيت
وعند ما آل الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان عيّن سعيد بن العاص أميرا على" المدينة" بعد عزل مروان بن الحكم ، وفي تلك الفترة ، حصل نزاع وخلاف بين عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت الأنصاري ، وبين عبد الرحمن ابن الحكم بن العاصي ، حتّى تشاتما وتفاحشا ، ولمّا علم معاوية بذلك ، كتب إلى سعيد بن العاص ، يأمره أن يجلد كلّ واحد منهما مائة سوط ، غير أنّ سعيدا لم ينفّذ الأمر ، لأنّ ابن حسّان كان صديقا له وابن الحكم هو ابن عمّه.
وعند ما عزل سعيد بن العاص عن المدينة ، وأعيد مروان بن الحكم اليها ، أمر بضرب ابن حسّان مائة سوط ، ولم يضرب أخاه ، فكتب ابن حسّان إلى النعمان بن بشير الأنصاري في الشام" وكان من المقرّبين من معاوية" بقصيدة طويلة نقتطف منها الأبيات الآتية :
ليت شعري أغائب ليس بالشا / م خليلي أمّ راقد نعمان!!
أية ما يكون فقد يرجع الغا / ئب يوما ويوقظ الوسنان
إنّ عمرا وعامرا أبوينا / وحراما قدما على العهد كانوا
إنهم مانعوك أمّ قلّة الك / تّاب أمّ أنت عاتب غضبان؟
أم جفاء أمّ أعوزتك القراطي / س أمّ أمري به عليك هوان؟
فنسيت الأرحام والودّ والصح / بة فيما أتت به الأزمان
إنّما الرمح فاعلمنّ قناة / أو كبعض العيدان لو لا السنان
فذهب النعمان بن بشير إلى معاوية وقال له : (يا أمير المؤمنين ، إنّك أمرت سعيد بن العاص بأن يضرب ابن حسّان وابن الحكم مائة سوط ، إلّا أنّه لم ينفذ أمرك ، ثمّ ولّيت أخاك ، فضرب ابن حسّان ، ولم يضرب أخاه ، فقال معاوية : وماذا تريد؟ قال النعمان : أن تكتب إلى مروان بن الحكم ، لينفذ أمرك في أخيه ، كما نفذه في ابن حسّان. فكتب معاوية إلى مروان أن يضرب أخاه مائة سوط ، فضربه مروان خمسين سوطا ، وأرسل إلى ابن حسّان" حلّة" وطلب منه أن يعفو عن خمسين ، فأشاع ابن حسّان في أهل المدينة بأنّ مروان ضربه" حد الحر" مائة سوط ، وضرب أخاه" حد العبد" خمسين سوطا. وسرعان ما انتشرت هذه الكلمة بين الناس ، حتّى وصلت إلى عبد الرحمن بن الحكم ، ذهب إلى أخيه مروان ، وقال له : لا حاجة لي فيما عفا عنه ابن حسّان ، فبعث إليه وضرب أخاه خمسين سوطا بحضوره (4).
وعند ما كان سعيد بن العاص أميرا على الكوفة كان الشعراء ينشدون في مجلسه ، فهذا ينشد من شعره ، وذاك يقرأ شعر غيره ، والحطيئة جالس مطرق برأسه لا يتكلّم ، وأخيرا تكلّم الحطيئة فقال : (والله ما أصبتم جيد الشعر ، ولا شاعر الشعراء). فقال له سعيد : ومن هو أشعر العرب يا هذا؟ فقال الّذي يقول :
لا أعدّ الإقتار عدوا ولكن / فقد من قد رزئته الإعدام
من رجال من الأقارب باتوا / من جذام هم الرؤوس الكرام
سلط الموت والمنون عليهم / فلهم في صدى المقابر هام
وكذاكم سبيل كلّ أناس / سوف حقا تبليهم الأيّام
فقال سعيد : ويحك ، من أنت؟!! قال : الحطيئة. فقال سعيد : لعمر الله ، لأنت عندي أشعر منهم فأنشدني ، فقال الحطيئة :
سعيد وما يفعل سعيد فإنّه / نجيب ، فلاه في الرباط نجيب
سعيد فلا يغررك قلّة لحمه / تخدّر عنه اللحم فهو صليب
إذا غاب عنّا غاب عنا ربيعنا / ونسقى الغمام الغرّ حين يؤوب
فنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره / إذا الريح هبّت والمكان جديب
فأعطاه سعيد عشرة آلاف درهم.
ودخل الفرزدق يوما على سعيد بن العاص ، وكان عنده الحطيئة فقال (5) :
إليك فررت منك ومن زياد / ولم أحسب دمي لكما حلالا
فإن يكن الهجاء حلّ قتلي / فقد قلنا لشاعركم وقالا
نرى الغرّ الجماجم من قريش / إذا ما الأمر في الحدثان عالا
قياما ينظرون إلى سعيد / كأنّهم يرون به هلالا
وعند ما كان الفرزدق مقيما في المدينة قال:
هما دلتاني من ثمانين قامة / كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلمّا استوت رجلاي في الأرض قالتا / أحيّ فيرجى؟ أمّ قتيل تحاذره؟
فقلت : ارفعا الأسباب لا يشعروا بنا / وأقبلت في اعجاز ليل أبادره
أحاذر بوّابين قد وكّلا بنا / وأسود من ساج نصرّ مسامره
فلمّا سمع أهل المدينة هذه الأبيات ، ذهبوا إلى مروان بن الحكم ، وقالوا له : إنّ هذا الشعر ، قد أساء إلى أزواج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإنّ الفرزدق بشعره هذا ، قد أوجب عليه" الحدّ" فأمر مروان بإخراج الفرزدق من المدينة ، ولمّا سمع الفرزدق ، هرب وذهب إلى سعيد بن العاص ، وكان عنده الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر "عليهمالسلام" فأخبرهم بقصته ، فأعطاه كلّ واحد منهم مائة دينار ، ثمّ ذهب إلى البصرة (6).
وعند ما كان سعيد بن العاص أميرا على الكوفة كتب إلى عثمان بن عفّان يخبره بأن جماعة من أهل الكوفة : (يعيبوني ، ويعيبوك ، ويطعنون في ديننا ، وقد خشيت أن يكثروا فيثبت أمرهم). فكتب إليه عثمان : (سيّرهم إلى معاوية) ، وكان معاوية آنذاك أميرا على الشام ، فسيّرهم سعيد إلى معاوية ، وكانوا تسعة أشخاص فيهم : مالك الأشتر ، وثابت بن قيس بن منقع ، وكميل بن زياد النخعي ، وصعصعة بن صوحان.
وعند ما ذهب طلحة والزبير وعائشة ومؤيدوهم إلى البصرة كان سعيد بن العاص معهم فخطب فيهم وقال : (أما بعد فإنّ عثمان عاش حميدا ، وذهب فقيرا ، شهيدا ، وقد زعمتم أنّكم خرجتم تطلبون بدمه ، فإن كنتم تريدون ذا ، فإنّ قتلته على هذه المطيّ فميلوا عليهم). فقال مروان بن الحكم : لا بل نضرب بعضهم ببعض.
وقال المغيرة بن شعبة : الرأي ما قاله سعيد.
ولمّا رأى سعيد بن العاص إصرارهم على الذهاب إلى البصرة ، تركهم وذهب إلى" الطائف" مع من تبعه من أهل مكّة ، إلى أن انتهت معارك الجمل وصفّين.
وعند ما صار الأمر إلى معاوية ، وصفا له الجوّ ، ذهب سعيد إليه ، فرحّب به معاوية ، وأعطاه مالا كثيرا ، ثمّ عيّنه أميرا إلى أن مات .
وعند ما كان سعيد بن العاص أميرا على المدينة أمره معاوية أن يهدم دار مروان بن الحكم ، فكان سعيد يحتفظ بالكتاب ، ولا ينفّذه ، حتّى كثرت كتب معاوية بهذا الشأن ، ثمّ إنّ معاوية عزل سعيد بن العاص عن المدينة ، وولى مكانه مروان بن الحكم ، فكتب إليه معاوية يأمره بهدم دار سعيد بن العاص ، ولمّا سمع سعيد بذلك ، جاء بجميع الكتب الّتي سبق وأرسلها إليه معاوية ، والّتي يأمره بهدم دار مروان فسلمها إلى مروان ، عندها كتب مروان إلى معاوية قائلا (7) :
كتبت اليّ تأمرني بعق / كما قبلي كتبت إلى سعيد
فلمّا عصاك أردت حملي / على ملسا وتزلف بالصعيد
لأقطع واصلا وأخا حفاظ / فرأيك ليس بالرأي السديد
وقيل قال عمر بن الخطاب لسعيد بن العاص ذات يوم : (مالي أراك معرضا عني ، كأنّك ترى أنّي قتلت أباك ؟ ما أنا قتلته ، ولكنه قتله عليّ ابن أبي طالب ، ولو قتلته ، ما اعتذرت من قتل مشرك ، ولكنني قتلت خالي" العاصي بن هشام بن المغيرة" بيدي".
فقال له سعيد : (يا أمير المؤمنين ، لو قتلته ، كنت على حقّ ، وكان على باطل) .
مات سعيد بن العاص في قصره" بالعرصة" على بعد ثلاثة أميال من المدينة سنة 58 للهجرة ، وقيل سنة 59 .
ولمّا مات سعيد بن العاص ، ذهب ابنه" عمرو الأشدق" إلى معاوية بن أبي سفيان ، فباعه قصر أبيه الّذي في" العرصة" بثلثمائة ألف درهم ، وقيل بألف ألف درهم (8).
المصادر :
1- تاريخ الطبري. ج ٤ / ٢٧١ وتاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٤٢ وباقر القرشي ـ حياة الإمام الحسن. ج ١ / ٢٤٠.
2- أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٥ / ١٤٥ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ١٠٨.
3- المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٣٨.
4- أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٣٨.المصدر السابق. ج ١٦ / ٣٩.
5- الشريف المرتضى : غرر الفوائد ودرر القلائد. ج ١ / ٢٩٧.
6- ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٤ / ٩٠.
7- عبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ ابن عساكر. ج ٦ / ١٤٢.
8- الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٤٤٨.