من هو المواطن

الظواهر الاجتماعية في في کل زمان ومکان تختلف عن بعضها وتتکیف مع الظروف السیاسية الحاکمة علی المجتمع و الثابت في المعرفة الاجتماعية أن الفكر والعمل وكل نتاج انساني يغدو ظاهرة اجتماعية، تاريخية معقولة في التاريخ.
Sunday, February 4, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
من هو المواطن
من هو المواطن


الظواهر الاجتماعية في في کل زمان ومکان تختلف عن بعضها وتتکیف مع الظروف السیاسية الحاکمة علی المجتمع و الثابت في المعرفة الاجتماعية أن الفكر والعمل وكل نتاج انساني يغدو ظاهرة اجتماعية، تاريخية معقولة في التاريخ.
ويثور السؤال، هل ينفصل الفكر والعمل وإنتاج الظاهرة الاجتماعية المتضمنة السياسي والاقتصادي، والعلمي والتربوي... إلخ؛ عن المكان ومحل الفعل؟ بمعنى ألا تتشارك أفعال الإنسان وأماكن استقراره؟ وفي هذا التشارك توطّن نفسه وتستقر.
هذه المسألة تلحظ وتنبه إلى تشابك الإنسان مع المكان وتماهيه إلى درجة تجعله شاهداً على قضاياه. وهنا الارتباط ؛ المعاش، المحكي والمكتوب يجري توضيبه وتوظيفه في جغرافيا حضارية.
إلى ذلك، يألف الإنسان المكان، ويأوي إليه ويأطنه أي يتخذه وطناً. وأوطنت الأرض ووطنتها توطيناً واستوطنتها أي اتخذتها وطناً. ووطن المكان وأوطن أقام، وأوطنه اتخذه وطناً. يقال أوطن فلانٌ أرض كذا وكذا، أي اتخذها محلاً ومَسكناً يقيم فيه(1).
والوطن منزل الإنسان الذي يقيم فيه، وهو محل عيشه الذي يتمكن من خلاله، وبه وفيه، من تحقيق ذاته، فردياً وجماعياً.
إن المواطنة معناها، بل معنى معناها، يدعونا إلى إعادة النظر في مسألة التوصيف والتوظيف، تمهيداً لولادة مواطنة ينتجها الإنسان الوطني، العقلي، الأرضي.
يُعمل في عصرنا على جعل الإنسان، الذي ينتمي إلى قبيلة أو جماعة بشرية أحادية المجال والبعد، إنساناً منتمياً إلى قبيلة تقنية متنوعة المجالات والأبعاد، لا يعنيه المكان وما فيه، وبالتالي ينفك ارتباطه بالمضامين القائمة قانونياً وسياسياً واجتماعياً.
إذاً، البحث في مسألة المواطنة ينبغي أن يرتقي إلى البحث في المسائل التي تحاول قلب وظيفة المكان (الوطن) الذي يحتضن المعاش، بدءاً من إعادة توصيفه وتعيينه إلى قلب نظامه وتغيير ثقافته ولغته ولهجاته... الخ.
إذا كان الإنسان الفرد المرتبط بأرضه ووطنه هو مواطن، فإن مواطنته هذه تقوم على تعلقه بالأرض وانصهاره في سبل العيش فيها ومساهمته في إنتاج دورة حياتها الاجتماعية والثقافية، والاقتصادية والسياسية. وفي حال كان وعيه المسائل يقوم على قبوله بإعادة التوصيف والتوظيف لكل الأمور المرتبطة بمساره الفردي، حينئذ يلوذ ويستعيذ بما يقدمه له العالم التقني الآن من معايير تسوقه خارج ميدانه الثقافي والاجتماعي والسياسي والحقوقي. وبذلك يتفلت من مواطنيته التي يفترض أن تقوم على التفاعل مع الأرض والعلاقة مع المجتمع والانتظام في الإطار القانوني والثقافي والسياسي... الخ.
لا ريب أن النظام العالمي الجديد (العالم التقني أو نظام العولمة وما بعد العولمة) قوة ولدت ونمت وطورت عقلاً اعتراضياً انتقادياً تفكيكياً يقارع الثقافات باعتقادية تعتمد قوة الإعلام وآلة الحرب.
رفض سقراط (415-399 ق.م) تاريخياً الهرب من السجن، وآثر الحكم بالإعدام على الإخلال بالتزاماته تجاه مدينته أثينا. بعده وعى أرسطو (384-322 ق.م) جوهر الدولة، فوجده في القانون والنظام. وعليه فالإنسان الصالح لدولته، التي هي المدينة، هو المواطن الصالح(2)
تطورت الفكرة عند الرومان ليصبح على المواطن القيام بواجبات أساسية مثل الخدمة العسكرية وتسديد الضرائب وله حقوق أيضاً كحق الزواج من رومانية وحق التجارة...
وظلت فكرة المواطنة في أوروبا مع المسيحية تحت ظلال الدين. وعادت إلى داخل حدود المدينة دون أن تتجاوزها، بعدما كانت قد خرجت منها مع الرومان إلى حدود الدولة أو الإمبراطورية.
حينما جاء الإسلام، جُعلت مسألة الحقوق أولوية في الدولة الإسلامية. ووضعت موضع التنفيذ حقوق أهل الكتاب التي يشار إليها بحقوق أهل الذمة. وهي حقوق تصف معنى المواطنة وحق المواطن:
1- لم يمنع الإسلام مخالطة غير المسلمين في مجتمع واحد، وأهل الكتاب كانوا في منزلة المسلمين بالنسبة إلى رد العدوان الخارجي.
2- أهل الكتاب في موقع الحماية من أي ظلم داخلي يطال أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
3- إنفاق بيت مال المسلمين على الفقراء والمساكين لا يقتصر على المسلمين وحدهم.
4- يتولى أهل الذمة وظائف عامة شريطة ألا تكون وظائف لها علاقة بالعقيدة الإسلامية من حيث المسؤولية والإدارة.
5- حرية المعتقد مصانة في إطار احترام الكرامة الإنسانية.
إن دراسة المركز القانوني لأهل الذمة قياساً على التزامات حق الجنسية في عصرنا تفيد إلى حد بعيد أنهم كانوا يتمتعون بهذا الحق(3).
المواطنة في المحصلة، فعل إنساني حيوي، يتراخى حقله أو يتمادى، يضيق أو يتسع، تارة تكون جغرافيا القبيلة هي حقله، وتارة تكون جغرافيا قبائل عديدة، أمة ومملكة ودولة... وهذه الجغرافيا متماسة وجغرافيات بشرية أخرى، قانونها التغالب والتنافس والتحارب، واستثناؤها التسالم والتعاطف والتحالف! المواطنة حاجة لدى كل فرد وجماعة، وهي في الوقت ذاته ممانعة ومقاومة لمشروع خارجي أو عدواني.
إن مفهوم المواطنة الذي يجري توصيفه بلا تعمق وتوظيفه بلا تمعن في الحقل اللبناني، هو في حقيقته العلمية مفهوم توليفي، يجري دائماً تفكيكه إما لتوصيف فكري وإما لتوظيف طائفي، أو سياسي، أو شعائري غالباً. برزت فكرة الجمهورية سنة 1858م، مع طانيوس شاهين (باسم الجمهورية، نعلنها جمهورية). كانت الفكرة فردية ولم تبصر النور، ولقد أعلن المندوب السامي الفرنسي عام 1920قيام دولة لبنان الكبير.
وفي عام 1943 أعلن استقلال الكيان الذي قام على التغالب الطائفي، حتى سار المسار السياسي متنافياً مع إمكانيات الانصهار الاجتماعي.
فمنذ ثورة طانيوس شاهين 1858م، مروراً بكل أشكال الكيانية وصولاً إلى الجمهورية وحتى ما بعد اتفاق الطائف، نلاحظ أن الفرد في المناطق المحتسبة من أراضي الدولة اللبنانية بقدر ما كانت تجري لبننته كان يجري دفعه غرباً للتماهي مع الغريب، وكان يوضع باستمرار بين خطاب دولته التي يفترض بها أن تخاطبه بوصفه كلاًّ، وعلى أساس أنه مواطن عام يتمتع بحقوقه، وبين خطاب الطائفة التي تُصادره باعتباره جزءاً منها، منفصلاً عن مجالاته الاجتماعية الأخرى، حتى التبس عليه معنى انتمائه.
إذاً، كيف يمكن أن يكون لبنان وطناً وأبناؤه منفصلون في المجالات الاجتماعية والجغرافيا على أساس طائفي ومذهبي، والدولة لا تبوح بعدد السكان المواطنين ولا بعدد الأجانب، ولا بعدد العاملين والعاطلين عن العمل، ولا بعدد الشبان ولا بعدد الأميين... الخ؟
كيف يشعر اللبناني أنه مواطن وهو يعيش في دولة بلا أعداد، لا نعرف كيف نقيس ترديها أو تقدمها الاجتماعي، ولا يمكن التأشير بعلم على معياريتها السياسية؟
الواضح أننا نعيش في دولة طائفية أنتجت مواطناً طائفياً، لبنانياً من طائفة سياسية، يعرف مسبقاً بحكم الولادة أنه غير مرشح لأية مساواة عضوية وظيفية في المجتمع، الدولة.

السید الصدر ورؤيته الوطن والإنسان

ألف- السید الصدر والمشروع الوطني
وصل الإمام السيد موسى الصدر إلى لبنان قادماً من قم في أواخر العام 1959 تلبية لدعوة من أبناء المرجع السيد عبد الحسين شرف الدين الذي كان قد توفي قبل أقل من عامين(4).
لم يكتف الإمام الصدر بالأعمال التقليدية لمعظم علماء الدين في ذلك الوقت والقيام بالوعظ والإرشاد وعقد القران والطلاق والصلاة على الميت، وإنما تجاوز ذلك إلى الربط بين الوعظ الديني وبين العمل الاجتماعي والسياسي.
أثار هذا الربط حفيظة مجموعة المتريسين الدينيين والسياسيين في لبنان وخصوصاً الشيعة منهم. كان بذلك يضع حجر الأساس لمشروع المشاركة في بناء الوطن، وكسر الاحتكار السياسي العائلي والإقطاعي.
تنقل الإمام بين قرى جبل عامل ومنطقة بعلبك – الهرمل، وعكار وجبل لبنان، وتعرف بشكل مباشر إلى مستوى الحرمان والبؤس الذي تعيشه. فجعل إزالة الحرمان أحد أهمّ أهدافه، وإلى جانب المطالبة بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، نبذ التفرقة وإلغاء الطائفية السياسية.
أخذ ببناء المؤسسات الاجتماعية والمهنية والثقافية والتربوية وشارك في تأسيس عشرات المشاريع الاجتماعية والجمعيات الخيرية، بين 1960 و1969م، وأنشأ مؤسسات لإيواء الأيتام وتعليمهم، منها مهنية جبل عامل في البرج الشمالي قرب مدينة صور إلى جانب مدرسة فنية للتمريض، ومدرسة داخلية خاصة بالفتيات، ومعهد للدراسات الإسلامية... وصولاً إلى حصوله عام 1967 على قرار من مجلس النواب اللبناني بتأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، لتنظيم شؤونالطائفة الشيعية(5).
أسوة بباقي الطوائف في لبنان، وانتخب عام 1969م رئيس له(6).
هكذا أصبح المشروع الوطني للإمام الصدر يتمظهر شيئاً فشيئاً. وكان البيان الذي أصدره بعيد انتخابه رئيساً للمجلس الشيعي قد كشف البعد الشمولي لمشروعه، وقد ركز فيه على الأمور الآتية:
تنظيم شؤون الطائفة وتحسين أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية.
القيام بدور إسلامي كامل، فكراً وعملاً وجهاداً.
عدم التفرقة بين المسلمين، والسعي للتوحيد الكامل.
التعاون مع الطوائف اللبنانية كافة وحفظ وحدة لبنان.
ممارسة المسؤوليات الوطنية والقومية، والحفاظ على استقلال لبنان وحريته وسلامة أراضيه.
محاربة الجهل والفقر والتخلف والظلم الاجتماعي والفساد الخلقي.
دعم المقاومة الفلسطينية والمشاركة الفعلية مع الدول العربية الشقيقة لتحرير الأراضي المغتصبة.
أحدث الإمام، فيما دعا إليه ومارسه، هزة كبيرة زعزعت المفاهيم الثابتة والتقليدية في الفكر السياسي والثقافي اللبناني، كما أنه في فكره وبفكره كان حجة للفكر الإسلامي المعاصر. وهو فيما عمله وتوصل إليه مثّل خلاصة تجارب انطلق منها في التجديد الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والتاريخي أيضاً.
أقام الإمام في اجتهاده وجهاده توازناً نوعياً مع الحاجة التاريخية لمجتمعنا المعاصر، في الوطنية والقومية والإنسانية، في مرحلة تعد من أشد المراحل صعوبة في لبنان، مدركاً تبعات موقف التوازن الذي يقفه الفقيه بين الشريعة والواقع الاجتماعي المعاصر. وقامت رؤيته على شرط اعتبار أن الإيمان بالإنسان هو البعد الأرضي للإيمان بالله، وهذا يعني حضوراً ساخناً للإنسان في المشروع الوطني العام إلى جانب مشروعه الديني.
يظهر هذا الأمر جلياً في كلام الإمام في كنيسة الكبوشيين في بيروت عام 1975 بقوله: "بقدر ما صُنا طاقات الإنسان ونميناه بقدر ما كرمناه وخلدناه" تلك هي النقطة الأساس التي يرتكز عليها مشروع الإمام ونظرته. وإذا ما رجعنا إلى منطلقاته الفكرية وإلى الأبعاد الاجتماعية لهذه المنطلقات، وطنياً وإنسانياً، نستطيع أن نستشرف منطقة الضوء التي تنبعث منها اجتهاداته نحو عالمنا المعاصر، أي نحو التعامل مع حاجات الناس في عصرنا.
"كان الإمام الصدر يحاضر في جماعة كثيرها مسيحي. كان يخاطب الإنسان. ولا أذكر أنه استشهد بآية قرآنية آنذاك. ولم أكن قد سمعت أو قرأت شيئاً من هذا عند علماء المسلمين... ثم سمعته مرة يقول: ما أقوله في المسجد أستطيع ترداده في كل مكان، أي أنه كان واعياً لوحدة الكلام البشري بسبب من وحدة الناطق وصدقه".
يبتعد الإمام موسى الصدر في كلامه وتجربته عن الذين حبسوا الزمن في قصورهم ليؤسس لمرحلة جديدة من تاريخ لبنان، مرحلة تأسيسية ثالثة، مرحلة اجتماعية اقتصادية، تعمل لتحرر الوطنية من الطائفية.
في حركته أتاح الإمام لجمهور الناس أن يعبروا عن احتياجاتهم بعيداً عن لعبة التوازن والتفاوت الطائفي والمناطقي. كشف لهم آفاق الإيمان والثقافة والاجتماع والسياسة، مندفعاً باتجاه تحريرهم من جملة ما يعانونه من استلاب وتهميش وحرمان عن طريق تأصيل أدوارهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية... "المرض في لبنان يتلخص في أربعة هي:
غياب العدالة في حقل التنمية والفرص.
تأجيل القضايا الوطنية الكبرى، وعدم البحث في حلها أو عدم اتفاق المواطنين على الحد الأدنى من الإتفاق حولها.
أسلوب العمل السياسي في لبنان.
ابتلاؤنا بعدو يشن حروباً متنوعة ضد لبنان أهمها الحرب النفسية.
على هذا الأساس بإمكاننا القول إن الدواء واضح، فإذا بدأنا بتحقيق العدالة، وليس إنجازها، ضمن مخطط واضح يطمئن إليه المواطن، وإذا حاولنا من خلال ما يسمى بالمصالحة والمصارحة الوطنية، حيث تجتمع الفئات وتطرح القضايا الأساسية، وتتفق على الأسس وتضع اتفاقاً جديداً حول الحياة في لبنان".
هنا يضع الإمام الصدر الخطاب الإيماني مقابل الخطاب الطائفي. الإيمان بالإنسان وبقدراته مهما كان دينه مسلماً أم مسيحياً ومهما كان مذهبه وفي أي منطقة من لبنان سكن. عنده أن اللبنانيين جميعاً ينبغي أن يشعروا بالانتماء إلى الوطن، إلى لبنان، إلى الدولة الحق التي تؤمن لهم العدالة، والتي تشعرهم بوجودهم الإنساني الوطني لا الطائفي.
في الوقت الذي كان فيه لبنان يعيش في الطور الثاني من تاريخه، طور الطائفية السياسية ومرحلة الاستقلال القائم على الصيغة والنظام الطائفيين، كان الإمام الصدر يسير باللبنانيين نحو شكل من أشكال الديمقراطية وتأسيس طور جديد في الحياة اللبنانية، طور الإيمان بالوطن والإنسان بصفته الإنسانية.
"الإيمان، ثم طموح الشعب اللبناني،... طموح لبنان وطموح أبنائه يفوق أحياناً التصور... إننا نؤمن بالوعي والنضوج عند أفراد الشعب...".
ينظر الإمام إلى اللبناني بوصفه طموحاً واعياً وناضجاً اجتماعياً وسياسياً، وبهذا الوعي والنضوج يستطيع أن يمارس وجوده وطموحه بل وأيضاً يستطيع أن يفهم معنى وجوده ضمن المكون الثقافي والديني المتنوع في لبنان أيضاً.
من المؤكد أن وجود الطوائف في المجتمع اللبناني لا يتنافى مع قيام الدولة، وهذا ما كان يشير إليه الإمام ويتحدث عنه بقوله إن "الطوائف في لبنان نعمة والطائفية نقمة" وإن وجود الطوائف لا يؤثر ولا يضر بوجود الدولة، وإنما ما يؤثر بهذا الوجود وما هدد الدولة سابقاً، ويمكن أن يهددها اليوم وغداً، هو الممارسة الخاطئة للسلطة والإدارة. وعلى هذا كان سعي الإمام الدائم لإقامة الحوار بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني لتحقيق العيش المشترك وتأمين استمراره، باعتباره ضمانة استمرار لبنان الوطن الجامع، واعتبار أن المواطن اللبناني مسؤول عن صيانة وطنه وأن "مسؤولية المواطن هي مسؤولية تاريخية". يرمي هذا الكلام للإمام موسى الصدر، إلى إحياء القضية الوطنية والانتماء الوطني، مقابل الصراع والصدام والعنف، ويُظهر بالتالي إشكالية الوطن والمواطن ودور كل منهما حيال الآخر.
إلى جانب ذلك فإن المشروع الوطني للإمام الصدر كان يرى في وجود إسرائيل وجوداً للشر المطلق. وكان يلحظ خطر هذا الكيان على لبنان والمنطقة بأسرها. واعتبره التحدي الأكبر على الصعيدين الوطني والقومي، وأن هذا الخطر يتمثل إضافة إلى الأبعاد السياسية والعسكرية، يتمثل في الأبعاد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، بمعنى أنه يتمثل في البعد الحضاري، وبات يشكل عائقاً أمام عمليات التطور والتقدم والنمو في البلدان العربية، ويشكل خطراً داهماً ومستمراً ومباشراً على لبنان ومجتمعه.
ضمّن الإمام الصدر مشروعه كيفية مواجهة هذا الخطر على المستوى اللبناني الخاص وعلى المستوى العربي العام، فدعا إلى توسيع المشاركة في القتال ضد إسرائيل وعدم اقتصارها على الفلسطينيين وإلى تربية الأجيال على هذا القتال، فنادى بإنشاء مخيمات التدريب للبنانيين وإلى تسليح أهل الجنوب وإلى مشاركة الجميع في القتال ضد إسرائيل. وأعلن في المهرجان الشعبي في بعلبك بتاريخ 17/3/1974 "أن المعركة لم تنته، نريد أن نستعد، نريد أن نربي جيلاً يتمكن من حمل السلاح... نحن بحاجة ملحة إلى التدريب العسكري... نحن مضطرون إلى تدريب أولادنا وتسليحهم كي نحفظ كرامة بيوتنا... ونؤدي دورنا في صيانة الوطن"(7).
لم يكن الصراع مع إسرائيل بنظره محدوداً لا في المكان ولا في الزمان. كان صراعاً مفتوحاً على المدار الحضاري والتاريخي. وبرأيه المعركة مع إسرائيل "ذات وجوه كثيرة، فهي معركة حضارية طويلة الأمد متعددة الجهات، وطنية، قومية، دينية، إنها معركة الماضي والمستقبل، معركة المصير، وهذا يعني أن المطلوب منا الاستعداد لعشرات السنين وعلى جميع الجهات وبكل المستويات ومع جميع الطاقات"(8).
مواجهة الخطر الإسرائيلي برأيه يعني ليس فقط رد عدوان عسكري وإنما الحفاظ على لبنان الوطن ووحدته. وكان يكرر دائماً "إن دعمنا للمقاومة... ينطلق من المبدأ نفسه الذي ينطلق منه السعي للحفاظ على الوطن والدفاع عنه"(9).
ركز الإمام الصدر على الوحدة الوطنية في مواجهة العدو الإسرائيلي ومخاطره وأطماعه، وعدم ترك الجنوب وحيداً في هذه المواجهة، ولذلك أطلق وبنتيجة علاقاته القوية والمميزة مع رؤوساء الطوائف الروحيين في لبنان ما عرف، "بهيئة نصر الجنوب"، والتي ضمت النسيج الوطني اللبناني، لأنه كان يعتبر أن الدفاع عن الجنوب دفاع عن لبنان وأن هذا الأمر واجب كل مواطن لبناني وعربي. تشكلت الهيئة من: "المطران أنطونيوس خريش، المطران باسيلوس خوري، المطران يوسف الخوري، المطران جورجيوس حداد، المطران أثناسيوس الشاعر، المطران بولس الخوري، القس إبراهيم داغر، الشيخ محمد سليم حمود، الشيخ أحمد الزين، الشيخ رؤوف القادري، الشيخ نجيب قيس، الشيخ سليم جلال الدين، الشيخ علي الفقيه، الشيخ عبد الأمير قبلان". أصدرت هذه الهيئة بياناً لها بتاريخ 20/5/1970 تلاه الإمام الصدر ومما جاء فيه: "لا يخالنَّ خائل إذا سقط الجنوب أن سياجاً من السحر يسوء لبنان... انهضوا لنصرة الجنوب، ونصرة لبنان،... إن ساعة النفير تدق، لتجميع وتجنيد سائر الطاقات والإمكانيات المالية والمادية والمعنوية والخدمات لمجابهة هذا الخطر الذي يهب من الجنوب ويهدد كل لبنان"(10).
لقد حدد الإمام الصدر الأخطار التي تهدد وجود لبنان بخطرين أساسيين: الأول الخطر الداخلي وهو الأساسي بالنسبة إليه، وهو خطر الميوعة، خطر الذوبان، خطر الفساد، والثاني هو الخطر الخارجي المتمثل بإسرائيل. واعتبر حركته، ومن يؤيده ويناصره، قوة مواطنية تقف في مواجهة هذه الأخطار.
عمل الإمام لمواجهة هذين الخطرين ضمن المستويين السياسي والاجتماعي، إذ كان يرى أن تحسين الأوضاع الاجتماعية وسبل العيش وتأمين العدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة وإصلاح النظام والانتقال من مرحلة الطائفية السياسية إلى مرحلة الدولة العادلة هي وسائل أساسية لمواجهة أي خطر يتعرض له لبنان، سواء أكان خطراً داخلياً أم خطراً خارجياً.
في إطار حركته الاجتماعية والسياسية تلك يمكن أن نلحظ مرحلتين أساسيتين، المرحلة الأولى هي منذ وصوله إلى لبنان عام 1959 وحتى عام 1970 بعدما نزحت المقاومة الفلسطينية إلى الأردن إثر معاركها مع الجيش الأردني إلى لبنان، واستقرت في جنوبه، والمرحلة الثانية هي من 1970 (تاريخ زيارة التحولات الإقليمية التي جعلت الجنوب أكثر سخونة) إلى آب 1978 وتغييبه في ليبيا أثناء زيارة رسمية كان يقوم بها تلبية لدعوة تلقاها من القذافي.
في المرحلة الأولى تركز عمل الإمام وخطابه التعبوي على المطالبة والدفع من أجل رفع الحرمان عن المناطق اللبنانية، ورفع الغبن السياسي والاجتماعي والتربوي والصحي والإداري "... ووضع أهدافاً كان يقول إنها تتعدى نطاق الطائفة الشيعية والمناطق التي يسكنها الشيعة، مثل مكافحة الأمية، مكافحة التشرد، تحسين الأماكن والأوضاع، محاربة الفساد، تحسين الوضع الاجتماعي ورفع الحرمان، محاربة المرض وتأمين الصحة للمناطق، الاستفادة من طاقات الشباب..."(11).
قام خطابه في تلك المرحلة على ثنائية التعبئة والمطالبة، فهو يتوجه إلى جمهور الناس يعبئهم ضد الظلم الاجتماعي والسياسي اللاحق بهم، لكي يستعيدوا ثقتهم بأنفسهم وينهضوا للمطالبة بحقوقهم، وفي الوقت عينه يتوجه إلى الدولة ومسؤوليها وأركان السلطة، مطالباً بتحسين أوضاع اللبنانيين والمناطق والاستعداد للدفاع عن لبنان، بالتجنيد الإلزامي وتسليح الجيش وإرساله إلى الجنوب.
وكانت ثنائية أخرى تطبع هذا الخطاب، الجانب الاجتماعي – السياسي، والجانب المقاوم. فقد رأى أن خطر الحرمان لا يقل أهمية عن الخطر الإسرائيلي، وكلاهما يهدد وجود لبنان، فكان مطلبه رفع الحرمان وتصحيح النظام والعمل السياسي، والاستعداد للمواجهة، والدفاع عن لبنان انطلاقاً من الجنوب. برأيه الدفاع عن الجنوب، هو دفاع عن الوطن و"الدفاع عن الوطن، عن الإنسان، وعن كرامة الإنسان، عن حرية الإنسان، دفاع عن الله"(12)
في المرحلة الثانية، وهي مرحلة ما بعد 1970. وقد تميزت بالنشاط السياسي الذي يركز على دعم المقاومة الفلسطينية والاستفادة من علاقات الإمام الخارجية والداخلية لذلك، انطلاقاً من رؤيته لمخاطر الاحتلال الإسرائيلي.
عمل الإمام الصدر على دعم المقاومة الفلسطينية في قتالها ضد إسرائيل، ودافع عن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
ورأى أن التأييد للمقاومة الفلسطينية يتلازم مع إعداد مقاومة لبنانية مهمتها مواجهة الأخطار المحدقة بلبنان.
شكل هذا الأمر أولوية قصوى في المشروع الوطني للإمام وعنونه بشعارين كبيرين (إسرائيل شر مطلق، والتعامل مع إسرائيل حرام). بهذين الشعارين لم يحصر الإمام مسألة المواجهة والصراع مع إسرائيل بالأرض والحدود، فالخطر الإسرائيلي يهدد الإنسان أكثر من الأرض، ويهدد الفكر والثقافة والدين والتاريخ إلى جانب الجغرافيا.
هكذا نجدنا مع الإمام الصدر نقف وجهاً لوجه أمام إشكالية الصراع مع إسرائيل، هل يمكن التوصل إلى تسوية مع الكيان الغاصب لفلسطين والطامع بأراضٍ عربية أخرى؟ أم أن الصراع أبعد من أن ينتهي بالمفاوضات والاتفاقيات؟ ذهب الإمام إلى أن هذا الصراع حضاري، وهو مسألة عقائدية مبدئية، وتالياً فهو لا ينتهي إلا بزوال إسرائيل ونهاية وجودها.
بين الحقل الجغرافي والحقل الحضاري، ينتصب عقل الاعتقاد لإبراز معاني الصراع العربي الإسرائيلي في فلسطين ولبنان وسوريا وغير منطقة عربية. لقد ظهرت مع الأحداث والمواجهات اليومية في فلسطين وما كان يحصل في لبنان أثناء الاحتلال، الوقائع التي تؤكد صدقية رؤية الإمام الصدر لإسرائيل.
في حديث صحافي للإمام الصدر مع الصحافي من جريدة الأنوار اللبنانية يشرح فيه دوافعه لتأسيس حركة المحرومين، وموقفه من الإقطاع، يتحدث الإمام الصدر عن التهديد الإسرائيلي للجنوب، وللبنان عامة، ويقترح الإمام خطة دفاعية عن لبنان هي.
"أولاً: يجب الشروع فوراً بحملة دبلوماسية إعلامية مركزة وتشمل العالم كله لعرض الأوضاع والأخطار من خلال الاعتداءات المتواصلة، ومن خلال التهديدات الإسرائيلية المتكررة.
ثانياً: تجنيد طاقات الشعب اللبناني في الداخل وفي بلاد الاغتراب، والاستعانة بعلاقاتهم الشخصية وبنفوذهم الواسع في العالم، تلك الطاقات التي ما استثمرت حتى الآن لخدمة الوطن، ولا أدري لماذا جمدت ولأي يوم آخر ادخرت أو وفرت.
ثالثاً: العمل العسكري الذي لا بديل عنه على صعيد شعبي، وذلك بتدريب الشبيبة في الجنوب أولاً في المناطق الأخرى للراغبين والمتطوعين، وفي الدرجات اللاحقة للآخرين، تدريبهم وتسليحهم، وتحضيرهم لحرب الشوارع والدفاع عن قراهم ومدنهم.
رابعاً: تكليف الجيش الانتقال إلى الجنوب، ضمن خطة عسكرية سليمة، وفي مواقع معينة والدفاع المستميت عن الوطن.
كما أن الاستعانة بالأسلحة التي تقدم إلى الجيش اللبناني من أي مصدر كان، ضرورة حتمية ومشروعة في ساعات الدفاع. أما الاستعانة بالجيوش العربية، فإنني رغم قناعتي بأن حق الدفاع عن النفس وعن الوطن يفرضها، فإنني أترك التقدير للقيادة العسكرية والسياسية للبلد، لاختيار وقتها وتفاصيلها ومراعاة ملابساتها وردود فعلها"(13)
يُعتبر الإمام الصدر أول من أطلق المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي فكراً وعملاً، انطلاقاً من جنوب لبنان. وينسجم هذا العمل مع ما يختزنه جبل عامل من تراث عقائدي وسياسي وتاريخ حافل بالتمرد على الظلم والاستبداد.
أعلن الإمام الصدر عن ولادة هذه المقاومة في صيف 1975 بعد حادث الانفجار في معسكر التدريب في عين البنية في منطقة بعلبك، نافياً أي دور لها في الصراع الداخلي. بتاريخ 4/7/1975 حصل الانفجار في حقل التدريب وأدى إلى استشهاد 26 شاباً وجرح 47 آخرين من مجموع 101 شاب كانوا يتدربون على لغم ضد الدبابات بإشراف مدرب خبير من المقاومة الفلسطينية. وبتاريخ 6/7/1975 عقد الإمام الصدر مؤتمراً صحفياً أعلن فيه ولادة حركة "أمل" وهي اختصار لـ "أفواج المقاومة اللبنانية".
في هذا المؤتمر قال الإمام: "هذه الباقة الحمراء من أزهار الفتوة والفداء هم الطلائع من أفواج المقاومة اللبنانية "أمل" الذين لبوا نداء الوطن الجريح الذي تستمر إسرائيل في الاعتداء عليه من كل جانب وبكل وسيلة... إن هؤلاء الشباب أرادوا أن يثبتوا أن الوطنية ليست شعارات ولا أرباحاً ومكاسب ولا متاعاً للمساومة وللعرض والطلب، بل إن الوطن هو أبعاد وجود الإنسان وأساس كرامته... إنهم أرادوا أن يثبتوا أن مكان السلاح في الجنوب وليس في بيروت وضواحيها... أناشد الشباب اللبنانيين من كل منطقة وفي كل طائفة، ولا سيما المحرومين منهم، أناشدهم جميعاً أن ينخرطوا في أفواج المقاومة اللبنانية"(14)
يبدو أن الإمام لم يكن يريد الإعلان عن حركة أمل جناحاً عسكرياً لحركة المحرومين التي كان الإمام قد أعلن عن إنشائها في العام 1974
حركة مطلبية إصلاحية، والتي ضمت قيادات ونُخباً سياسية وشعبية من كافة الطوائف. لكن ما حصل في عين البنية من انفجار واستشهاد المقاومين هو الذي دفع إلى الإعلان عن الحركة المقاومة والتي كان يعمل للبقاء سرية.
يمكن القول إن الإمام زاوجَ بين مشروع الإصلاح الداخلي ومشروع المقاومة، خاصة وأن الفساد والحرمان والاحتلال برأيه تهدد وجود الوطن.
بتاريخ 28 تموز 1976م. شرح الإمام الصدر أهداف حركة أمل في مقالة له (لماذا نقاتل؟) قال فيها:
"نقاتل في سبيل الله...
نقاتل في سبيل الإنسان: الوطن هو إنسان الجماعة، نقاتل لحمايته من الاعتداء، الوطن، وهو الجنوب، الحق الذي يتعرض لتجاوزات إسرائيل وهي الباطل بعينه.
نقاتل من أجل الوطن ودفاعاً عنه وعن إنسانه... ومن أجل وحدة لبنان، من أجل منع قيام إسرائيل أخرى، أو إسرائيليات تدعم إسرائيل الأم.
نقاتل لكي نمنع تصنيف الإنسان وتحقيره وتشويهه تحت كابوس الفكر الإسرائيلي... ولأجل الحفاظ على الشعلة الإنسانية الحقة والعادلة ولأجل المقاومة الفلسطينية ضد الشر المطلق إسرائيل"(15)
إن مضمون المسألة هنا يتجلى في سعيه لصيانة الوطن وحفظه ووضعه خطة ونهجاً دفاعياً مقاوماً في مواجهة الشر المطلق الذي يتهدد الإنسان تاريخاً وحضارة وجغرافيا.
ب- المواطنة في مشروع الإمام
لا تنحصر مسألة المواطنة في نص محدد للإمام، فالالتزام بالوطن ليس نصاً مكتوباً أو محكياً، بل هو أكثر من ذلك: إنه عمل، عطاء وإيثار. هنا يبدو العقل الوطني، عقل إيمان وجهد أنضج عالماً كثيفاً من الرؤى والمواقف الكاشفة للأبعاد الوطنية، وإمكانية تجاوز السدود التي تعيق تشارك اللبنانيين في صناعة تاريخ لبنان.
لقد واجه الإمام الصدر بجرأة نادرة عدداً من المشكلات ذات الحساسية المفرطة في الحياة اللبنانية، وأعلن إيمانه بأن "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، وأن الطائفية نقمة والطوائف نعمة، وأن التعايش الإسلامي المسيحي ثروة يجب التمسك بها".
لقد أوجد الإمام أملاً مشتركاً يجمع بين اللبنانيين، يلعب دوراً أساسياً وإلى أبعد الحدود في تجديد حياتهم، أوجد لهم بداية تكشف القيمة الحقيقية لأفعالهم وانتمائهم.
لقد أراد الإمام إجراء قفزة انتقالية بالفكر اللبناني من الأسطوري إلى العقلي، من التخيلي والوهمي إلى الواقعي، قفزة تولد المعنى، تفصل بين الوهم والحقيقة، تجدد الفكر السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي. على أن ذلك لا يعني إلغاء التاريخ ورفض الماضي، وإنما إعادة تقويم لثقافة الماضي والحاضر وما تتضمنه، إعادة تقويم للسلوك الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، إعادة النظر في الخطاب السياسي اللبناني بعيداً عن التوظيفات الفكرويّة التي تحاول اختصار الأصول وماهيتها في معانٍ محددة.
"أعتقد أن الوحدة الوطنية لها معنى أعمق من توحيد المصالح أو واجب احترام الميثاق الوطني والإيمان بالعيش المشترك، الوحدة الوطنية في الحقيقة هي وحدة الأفكار والقلوب. إنها وحدة الأهداف ووحدة كل المواطنين في الأهداف والمعايير العامة لوجود الإنسان"(16).
قام الإمام الصدر بتحليل الواقع السياسي اللبناني وواقع الحياة اللبنانية، فقدم مشروعه الذي ينظر في الواقع ويفهمه، بمعزل عن لعبة المصالح والتسويات والمحاصصة، والاعتقادات، والتوظيف السلطوي للحقلين الاجتماعي والديني، لقد وضع وبدقة مفهوماً للوطنية من منظار الإيمان بالوطن والإنسان. حوّل الإنسان اللامعياري في لبنان إلى معيار لكل المسالك الاجتماعية والسياسية والفكرية الوطنية. بكلام آخر رفع الإنسان من عزلته الطائفية ومن داخل شرنقة الخوف الطائفي من الآخر، وتسامى به فوق واقع التشرذم والخلاف، ويعود ذلك إلى قوة الإيمان بهذا الإنسان وقدراته. "يجب على المواطنين أن يحترموا بعضهم (بعضاً) ويحترم كل منهم وجود ورأي وماضي ومعتقدات الآخرين... يجب على كل مواطن أن يقتنع أنه من أجل تحقيق الوحدة الوطنية يجب عليه أن يكون صادقاً، أولاً مع نفسه، وفيما بعد مع الآخرين... هكذا نخلق جواً مناسباً للتفاهم وننطلق نحو الوحدة الوطنية الحقيقية"(17)
استطاع الإمام الكشف عن وضعية الانشطار السياسي والثقافي الاجتماعي اللبناني كشفاً حقيقياً، فأصبح بإمكانه تقديم الأطروحة التي تستطيع أن تؤسس للبنان جديد يمتلك التاريخ ولا يمتلكه التاريخ، لبنان طوائفي لا طائفي، لبنان الانتماء لا اللجوء والتوازن، لبنان الوطن. الواضح أنه عند الإمام هناك فرد تاريخي. ووطن تاريخي، لا طائفي، آمن به وتصرف معه على هذا الأساس. لقد أعطى للإنسان وللوطن علاقة فريدة ومميزة في واقعهم وحاضرهم.
"الشعور بمعنى الأرض والوطن موجود، يحتاج إلى تنمية وإبراز، وهذا يحصل عن طريق العدالة الاجتماعية وإشعار المواطن بأنه يتمتع بوطنه عزيز في أرضه... إن المواطن اللبناني لا يطلب من المسؤولين إبداع المعجزات... لكنه يرفض التمييز بين المناطق والفئات والمواطنين، فإذا تأمن له ذلك،... فقد صنعنا مواطناً يستأهل أن يكون بلده لبنان، وطن الجمال والجلال، بلد السيف والعلم".
حاول المشروع الوطني للإمام، والمتسم بما وصفناه سابقاً، أن يقرب المواطن من الوطن، هذا يعني أن المواطنية، الانتماء للوطن في علاقة إيمانية لطيفة، يصعب وصفها على غير شاهدها ومعانيها، وسيتواصل تفتحها بقدر تفتح الجماعة البشرية المنضوية بثقافتها في علاقة المواطنة.
كل إيمان وطني ينطلق من إطار اجتماعي للمعرفة ويولد في مدار حضاري ولادة تاريخية عقلية. والإيمان الوطني بكل تلاوينه وتطبيقاته، شكل معرفي يعبر عن مستوى وعي تاريخي معين.
يذهب الإمام الصدر إلى تقديم الإيمان بالوطن على أنه واجب وحق "ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وإن الحق دون واجب صفة للمزرعة، وإن الواجب دون حق استعمار محض وكلا الأمرين مرفوض"
ينبه الإمام إلى أن اختلال العدالة وازدياد الفروق، وتقنن الظلم، وانحياز الموازنة والوظائف والنشاطات والمشاريع والقوانين، وممارسة الحكام للتوازن الطائفي جعل الوطن كله جامداً خائفاً"
ويضيف "إن المأساة المعاشة يومياً والتي تقضي على مستقبل لبنان وتقلب كل طموح إلى التقهقر بل تقضي على مجرد وجود لبنان
وتؤكد فشل التجربة الحضارية في مرحلة بناء الوطن.. وأخطر من هذا فإن النظام الطائفي الممارس بهذا الشكل قد ابتلع العلاج أيضاً... والحل في حركة وطنية متآلفة دافئة تتخطى الحواجز المصطنعة بين أبناء هذا الوطن، حركة تكون قوية، أبوية، موثوقة، مضحية، موضوعية، حركة تعتمد على جذور عميقة من الإيمان بالله، وبالوطن وبالإنسان... والعلاج في تكوين دولة الحق وتحمل مسؤولياتها الكاملة، حتى يشعر المواطن بأن الانتماء إلى الوطن هو البديل الكافي عن الانتماءات الأخرى لحمايته، ولصيانة حريته وقوته وكرامته"
ويربط الإمام بين تحرك المواطنين وقيام الدولة موضحاً بذلك مسار التحول في المعرفة الوطنية، فالمواطنة لا تكتمل إلا بطلبها والعمل بها. وهي تحرس الوطن وهو يحرسها.
ويبدو أن مفهوم المواطنة عند الإمام يتصل بالسعي له من قبل جمهور الناس لإخراجه من الظلمة إلى النور، ومن قبل الدولة بالعدالة الاجتماعية، وبقدر ما يستند عند بعض الناس إلى مصادرات اعتقادية، في التاريخ وما بعده، يدور عند الإمام داخل التاريخ المعاش، حول نواة المفاهيم المركزية التي تشكل غلافاً فكرياً لفضاء الحكم. من تلك المفاهيم العدالة الاجتماعية، المساواة بين المناطق والمواطنين، صيانة الوطن وحفظه.(18)
المصادر:
1- ابن منظور، لسان العرب، مصطلح وطن.
2- مقلد، ربيع – موسوعة العلوم السياسية، جامعة الكويت، ج1، الكويت، 1993-1994، ص320.
3- السيد حسين، عدنان، تطور مفهوم المواطنة، مجلة الغدير، العدد 43، صيف 2008، مركز الدراسات والتوثيق، المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، لبنان، ص13.
4- توفي السيد شرف الدين في صور جنوبي لبنان، في 31/12/1957.
5- راجع الجريدة الرسمية عدد 103 تاريخ 25/12/1967.
6- راجع مسيرة الإمام السيد موسى الصدر، يوميات ووثائق 1969- 1970 م. المجلد الثاني، بيروت، 2000، ص19
7- الصحف اللبنانية بتاريخ 18/3/1974.
8- مؤتمر صحفي للإمام نشرته الصحف في 20/11/1969.
9- المصدر نفسه.
10- الصحف اللبنانية، 20/5/1970.
11- راجع حواره مع عادل مالك في برنامج "سجل مفتوح" على تلفزيون لبنان، 20/6/1969. راجع جريدة "الجريدة" بتاريخ 21/6/1969 "نص الحوار".
12- مؤتمر صحفي للإمام الصدر في مكتب الجامعة العربية في بون – ألمانيا، بتاريخ 10/8/1970.
13- جريدة الأنوار، 22/1/1975.
14- راجع النص في جريدة النهار 7/7/1975.
15- مجلة أمل ورسالة، 27/7/1976م.
16- راجع حوار الإمام مع عادل مالك – تلفزيون لبنان، ونص جريدة "الجريدة" 21/6/1969، مرجع سابق.
17- المصدر نفسه.
18- راجع العدد الخاص لصحيفة النهار لسنة 1974، صدر في نهاية السنة، تضمن لقاءً صحفياً مع الإمام الصدر.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.