
كان ذلك العظيم - في مرحلة شبابه - في تلك البيئة الفاسدة للجزيرة العربية قبل الإسلام، معروفًا بالحياء والعفّة، وكان الجميع يقرّ بطهارته وعدم تلوّثه. كان كثير الأخلاق، ولم يمدَّ رجليه في حضور أحد، ولم يهن أحدًا على الإطلاق. كان شديد الحياء. عندما يلومه شخص على شيء كان يعتبره على حقّ - وفي التاريخ نماذج من ذلك - كان يُخفض رأسه إلى الأرض من شدّة الخجل والحياء .
بعض المال والطعام واللباس على سبيل المثال. وبعد هذا العطاء سأله: هل أنت راضٍ؟ وهل أحسنتُ إليك؟ وهل هذا مقبول؟ فأجاب انطلاقًا من تلك الخشونة الصحراويّة والصراحة وعدم المجاملة اللّتين يمتاز بهما هؤلاء الأشخاص وإحساسًا منه بأنّ ما أعطي له كان قليلًا وقال: أنت لم تنجز لي أيّ عمل، ولم تظهر أدنى محبّة، وما قدّمته ليس شيئًا يُذكر.
... كان لهذا التعاطي الخشن مع الرسول، وقعٌ مؤلمٌ وثقيلٌ في قلوب الأصحاب. غضب الجميع. نهض بعض الأصحاب وهم في حالة غضب، وأرادوا توبيخ الأعرابي والقيام بردّة فعل, إلّا أنّ الرسول رفض ذلك وطلب منهم الكفّ عنه وأنّه يمكنه بنفسه حلّ المسألة معه. ترك الرسول الأصحاب واصطحب الأعرابيّ إلى منزله - والواضح أنّ الرسول كان في ذاك الموقع لا يمتلك الشيء الكثير, وإلّا كان بإمكانه أن يقدّم له أكثر من ذلك - وأعطاه أمورًا أخرى كاللباس والطعام أو المال. ثمّ قال له: هل رضيت الآن؟ قال: نعم، وقد ظهر على هذا الرجل الرضا والخجل ممّا شاهده من إحسان وحُلمٍ عند الرسول.
... توجّه إليه الرسول قائلًا: أنت تحدّثتَ بكلامٍ قبل قليل أمام أصحابي، جعل قلوبهم حاقدةً عليك وكارهةً لك. هل ترغب أن نذهب إليهم وتحدّثهم بما قلته لي وتبيّن رضاك؟. قال: نعم، أنا جاهزٌ لذلك. ثمّ قام الرسول باصطحاب الأعرابي ليل ذاك اليوم أو في اليوم التالي إلى الأصحاب وخاطبهم مبيّنًا لهم أنّ هذا الأخ الأعرابي راضٍ عنّا، وسأله: إن كنتَ راضٍ، فتحدّث. وهنا تحدّث الأعرابي، مبيّنًا رضاه وسروره وشكره للرسول الأكرم, لما أظهره من محبّة له. تحدّث بذلك وذهب.
... رحل الأعرابيّ، فتوجّه الرسول إلى أصحابه ميبّنًا لهم أن مَثَل هذا الأعرابي، كالناقة التي انفصلت عن القطيع وأخذت تركض في الصحراء, وأوضح لهم أنّكم أيّها الأصحاب تهجمون على الناقة لتمسكوها وتعيدوها إليّ، وتتوجّهون إليها من كل جانب، وهذا يؤدّي إلى زيادة خوفها وازدياد خشونتها فيصبح الإمساك بها صعبًا. وأنا لم أسمح لكم بزيادة خوفه وابتعاده عنّا. بل توجّهت إليه بمحبّة وحنان وأعدته إلى جمعنا. هذه هي طريقة الرسول .
ما هو الشيء الذي كان يحكم الحركة العظيمة للرسول؟ التوحيد, فإلى جانب تلك العبادة والدعاء والبكاء وسط الليل، كانت مثل هذه المظاهر: مظهر العلم, مظهر الشجاعة, مظهر الجهاد, مظهر السياسة, فلو طالعتم التاريخ ستجدون نماذج من ذلك، في ذاك الزمان القصير من حياة الرسول. إنّ السنوات العشر من حياة الرسول، كانت حياةً عجيبة, وهي حقيقةً، مجموعة متراكمة لا يعلمها الكثيرون مع الأسف. إنّ الصدق، كان علامة تلك الرؤية التوحيديّة, حافظوا دائمًا على هذا الصدق في العمل
والقول... لا يمكن أن يكون لأيّ طريقة وأيّ أسلوب سياسي وأيّ مناورة سياسيّة تلك الجاذبيّة الموجودة في الصدق حيث تجذب القلوب إليها. في الحقيقة كان يمتلك هذه الخاصيّة .
ثمّ بعد ذلك، جاء وأعلن إسلامه تحت تأثير هذه الحادثة. وكذلك الأمر، بعد دعوة الإسلام، كان بعض المسلمين تارةً، نتيجة الغفلة أو الجهل، يوجّه إهانةً إلى الرسول حول قضيّة ما. في إحدى المرّات توجّهت إحدى زوجات الرسول - زينب بنت جحش وهي واحدة من أمّهات المؤمنين - إليه وقالت له أنت رسول، ولكنّك لا تعدل! تبسّم (فابتسم) النبيّ وسكت, فقد كانت تنتظر منه أمرًا في الحياة الزوجيّة دون أن يجيبها عليه. وفي بعض الأوقات كان يأتي بعض الأشخاص إلى المسجد حيث كانوا يجلسون ويمدّون أرجلهم ويطلبون منه تقليم أظافرهم! - حيث جاء الحثّ على تقليم الأظافر - وكان الرسول يتحمّل كلّ هذه الجرأة وقلّة الأدب بتواضع كامل .
الأخلاق الحكوميّة
وكبارهم مع ما امتازوا به من خلقيّات خشنة وأيدٍ مقتدرة، أو عندما كان في مقابلة عامة الناس الذين لم يكن لديهم نصيب من المعرفة، فلم يخف! كان يتحدّث بكلامه الحقّ، ويكرّر، ويوضّح ويتحمّل الإهانات ويتقبّل الصعوبات والآلام, حتّى تمكّن من إدخال الإسلام إلى جمعٍ كثير. لم يضعف الرسول لحظة واحدة في ساحة الدعوة والجهاد، وكان يتقدّم بقوّة بالمجتمع الإسلاميّ ليوصله إلى أوجّ العزّة والقوّة .
إنّ سيرة الأنبياء منذ البداية، هي الحركة والإقدام، ومنذ البداية، كانت تتحقّق تلك الشعارات الموجودة على ألسنتهم وفي أعمالهم. هذا ما حصل بالضبط في حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. منذ اللحظة الأولى، بدأ ذاك التعليم والتزكية وتلك الحركة في سبيل إقامة القسط. لذلك بدأ الصدام والمعارضة منذ اللحظة الأولى, منذ ذاك الزمان الذي بدأ فيه الرسول نشر دعوته على مستوى واسع استجابةً ل: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ ، واستمرّ الأمر إلى الوقت الذي شملت فيه الدعوة كافّة الناس وباتت علنيّة، وإلى زمان التحرّك نحو النظام الاجتماعي - الذي هو نظام العدل - وإقامته .
لم ينقض الرسول العهد في أيّ من هذه القضايا. حتّى إنّ الأعداء يذعنون أنّ الرسول لم ينقض العهد في هذه القضايا, همُ الذين كانوا ينقضون العهد.
لم يتخلّف عن عهوده ومعاهداته مع الناس والمجموعات التي كان يقيم معها عهدًا، حتّى مع أعدائه وحتّى مع كفّار مكة. لم ينقض الرسول
عهده واتّفاقه معهم, هم الذين كانوا ينقضون, أمّا الرسول فكان يقدّم جوابًا قاطعًا. لذلك كان يعلم الجميع أنّهم عندما يعقدون اتفاقًا مع هذا الشخص، يمكن الوثوق به .
لم يأتِ أنبياء الله، ﴿إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾ . لقد جاء النبيّ ليطيعه الناس. لم يأتِ النبيّ ليستمع إلى صاحب مسألة وليتحدّث بعدد من المسائل التي يستمع إليها البعض ولا يستمع آخرون. قد تصل الأمور إلى الحرب في سبيل تثبيت هذا الفكر الإلهي, ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ . كم تعرفون من الأنبياء الذين, ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ كان هناك أنبياء، إلا أنّنا لا نعرفهم ولا خبر لدينا عنهم. من أُولى المطالب التي وضعها الرسول في برنامجه منذ دخوله المدينة وتأسيس الحكومة الإسلاميّة، هو مطلب إظهار قوة الحكومة, وهذا يعني أنّ النبيّ عندما دخل، دخل حاكمًا, مع أنّ الناس لم يكونوا قد دعوه للحاكميّة, بل دعوه لقبول دينه. إنّ الخلفيّة الحكوميّة التي أرادها الرسول عبارة عن المحبّة والعقيدة والإيمان. هكذا حكومة، هي أكثر الحكومات قوّةً ورفعةً. أوجد الرسول حصارًا (طوقًا) أمنيًّا حول المدينة بالاعتماد على هؤلاء الناس. أنتم تعلمون أنّ القتل والإغارة من جملة الأمور التي كانت بسيطة وسهلة عند القبائل العربية. بدأ الرسول منذ العام الأول, في البداية كانت السرايا، ثم الغزوات الفلانيّة وكان يوجّه اللوم إلى الأشخاص اللامبالين اتجاه هذه الحركة أو الذين كان الخوف يتسلّل إليهم، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ .
في يوم من الأيام قيل لهم لا تخطئوا. أين؟ في مكة. كان ذاك اليوم، يوم "كفّوا أيديكم", ولكن عندما دخلتم المدينة اليوم، وأسّستم حكومة، هو يوم يجب فيه أن تعمل كلّ قواكم ومن جملتها قواكم الجسميّة (العضلات) وقوّة الحرب والتضحيات لإضفاء طابع القدرة على حاكميّة الإسلام. إنّ حاكميّة الإسلام هي من المعارف الإسلاميّة العالية .
"ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم عن النار إلّا وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به" . لقد أوضح الرسول الأكرم كافّة الأمور التي تؤدّي بالإنسان والمجتمع الإنساني إلى السعادة. لم يوضّح ذلك فقط، بل عمل به أيضًا. في زمان الرسول، جرى تأسيس الحكومة الإسلاميّة، والمجتمع الإسلامي، وتمّ تطبيق الاقتصاد الإسلاميّ وأقيم الجهاد الإسلامي، وأُخذت الزكاة الإسلاميّة, أصبح البلد إسلاميًّا والنظام إسلاميًّا.
وأمّا مهندس هذا النظام وقائد هذا القطار في هذا الخطّ، فهو النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والشخص الذي كان يخلفه .
الصبر على المشقّات وتحمّلها
هنا تحمّل الرسول الأعظم مع أصحابه المخلصين، ثلاثة عشر سنة من المشقّات والمرارات حتّى تجذّرت غرسة الإسلام. وهنا حصلت بيعة العقبة مع أهل يثرب والهجرة المباركة إلى مدينة الرسول وتأسّست الحكومة الإسلاميّة بعد سنوات من المعاناة اليوميّة في شُعَبِ أبي طالب، وبعد تعذيب الأصحاب أمثال بلال وعمار وياسر وسمية وعبد الله بن مسعود والآخرين وبعد رحلة طويلة وشاقّة وعديمة النتائج للرسول بين قبائل مكّة والطائف .
... أحاطت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من التهديدات من كافّة الجوانب. فاضطرب بعضُ الناس وانهار آخرون واشتكى البعض، ولام آخرون الرسول ودعوه للصلح, أمّا الرسول فلم يضعف للحظة واحدة في ساحة الدعوة والجهاد وتقدّم بالمجتمع الإسلاميّ بقوّة ليصل به إلى قمّة العزّة والقوّة. حيث تمكّن هذا النظام والمجتمع في السنوات اللاحقة أن يصبح القوة الأولى على مستوى العالم ببركة صمود الرسول في ساحات الحرب والدعوة .
خلاصة معنى ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ أن يعيش الناس في بيئةٍ عادلة ومجتمعٍ عادل ونظامٍ عادل, لهذا الأمر جاء الرسول, جاء لإيجاد عالَمٍ عادل ومجتمع ونظام عادلَين. طبعًا في النظام العادل يجد البشر الفرصة للوصول إلى التكامل والتعالي, ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. ويقول بعد ذلك: ﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ . هل يكفي مجرّد الحديث والموعظة وأن نقول للناس تعالوا لإقامة نظامٍ عادل؟ لو فرضنا أنّ النّاس تمكّنوا من إقامة نظام عادل، فهل سيسمح الذئاب والسارقون والمجرمون ببقاء هذا النظام العادل؟ لذلك أنزلنا الحديد. لماذا أنزلنا الحديد؟ عندما نرجع إلى كتب الحديث، نجد الإمام عليه السلام عندما فَسّر الآية، ووصل إلى ﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾، قال "السلاح", السيف، السهم، الأسلحة التي تُصنع من الحديد. يتحدّث الله تعالى عن السلاح، إلى جانب الحديث عن دعوة النبوة, يتحدّث عن الأسلحة والقوة القاهرة، إلى جانب الموعظة التي فرضها على الأنبياء، وإلى جانب تأسيس النظام التوحيدي والإلهي.
\
المشهد الآخر من حياة الرسول، سلوكه وتصرّفه مع الناس. لم ينس على الإطلاق الخُلق والطبع الشعبي والمحبّة والرفق بالناس والسعي إلى إرساء العدل بينهم. كان يعيش كما الناس وبينهم، كان يجلس وينهض معهم، كان صديقًا ورفيقًا للغلمان وطبقات المجتمع المتدنّية، كان يتناول الطعام معهم ويجالسهم، ويُظهر لهم المحبة والمداراة. لم تغيّره السلطة ولا الثروة الوطنية. لم يختلف سلوكه في المرحلة الصعبة عنه في مرحلة انتهاء الصعوبات. كان مع الناس ومن الناس في كافّة الأحوال! كان يرفق بهم ويريد لهم العدل .
المصادر :
من کتاب /الشخصية القياديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلّم / سلسلة في رحاب الولي الخامنئي دام ظلّه
العفو والتسامح:
ورد أنّ أحد الأعراب الذين اعتادوا العيش في الصحراء والذين لا معرفة لديهم عن الحضارة والمدنيّة وآداب المعاشرة والأخلاق المتداولة في الحياة، قَدِمَ المدينة مع ما يمتلك من خشونةٍ وطبعٍ صحراوي ودخل على رسول الله. كان الرسول في ذاك الوقت بين أصحابه, إمّا في المسجد أو في الطريق. طلب هذا الأعرابي من الرسول شيئًا، فساعده وأعطاهبعض المال والطعام واللباس على سبيل المثال. وبعد هذا العطاء سأله: هل أنت راضٍ؟ وهل أحسنتُ إليك؟ وهل هذا مقبول؟ فأجاب انطلاقًا من تلك الخشونة الصحراويّة والصراحة وعدم المجاملة اللّتين يمتاز بهما هؤلاء الأشخاص وإحساسًا منه بأنّ ما أعطي له كان قليلًا وقال: أنت لم تنجز لي أيّ عمل، ولم تظهر أدنى محبّة، وما قدّمته ليس شيئًا يُذكر.
... كان لهذا التعاطي الخشن مع الرسول، وقعٌ مؤلمٌ وثقيلٌ في قلوب الأصحاب. غضب الجميع. نهض بعض الأصحاب وهم في حالة غضب، وأرادوا توبيخ الأعرابي والقيام بردّة فعل, إلّا أنّ الرسول رفض ذلك وطلب منهم الكفّ عنه وأنّه يمكنه بنفسه حلّ المسألة معه. ترك الرسول الأصحاب واصطحب الأعرابيّ إلى منزله - والواضح أنّ الرسول كان في ذاك الموقع لا يمتلك الشيء الكثير, وإلّا كان بإمكانه أن يقدّم له أكثر من ذلك - وأعطاه أمورًا أخرى كاللباس والطعام أو المال. ثمّ قال له: هل رضيت الآن؟ قال: نعم، وقد ظهر على هذا الرجل الرضا والخجل ممّا شاهده من إحسان وحُلمٍ عند الرسول.
... توجّه إليه الرسول قائلًا: أنت تحدّثتَ بكلامٍ قبل قليل أمام أصحابي، جعل قلوبهم حاقدةً عليك وكارهةً لك. هل ترغب أن نذهب إليهم وتحدّثهم بما قلته لي وتبيّن رضاك؟. قال: نعم، أنا جاهزٌ لذلك. ثمّ قام الرسول باصطحاب الأعرابي ليل ذاك اليوم أو في اليوم التالي إلى الأصحاب وخاطبهم مبيّنًا لهم أنّ هذا الأخ الأعرابي راضٍ عنّا، وسأله: إن كنتَ راضٍ، فتحدّث. وهنا تحدّث الأعرابي، مبيّنًا رضاه وسروره وشكره للرسول الأكرم, لما أظهره من محبّة له. تحدّث بذلك وذهب.
... رحل الأعرابيّ، فتوجّه الرسول إلى أصحابه ميبّنًا لهم أن مَثَل هذا الأعرابي، كالناقة التي انفصلت عن القطيع وأخذت تركض في الصحراء, وأوضح لهم أنّكم أيّها الأصحاب تهجمون على الناقة لتمسكوها وتعيدوها إليّ، وتتوجّهون إليها من كل جانب، وهذا يؤدّي إلى زيادة خوفها وازدياد خشونتها فيصبح الإمساك بها صعبًا. وأنا لم أسمح لكم بزيادة خوفه وابتعاده عنّا. بل توجّهت إليه بمحبّة وحنان وأعدته إلى جمعنا. هذه هي طريقة الرسول .
الأمانة:
بلغت أمانته إلى حدّ أنّه كان يُطلق عليه في الجاهليّة اسم "الأمين" وكان الناس يأتون إليه بأماناتهم المهمّة جدًا، كانوا يودعونها عنده ويطمئنّون أنّها ستعود إليهم سليمة. وقد استمرّ هذا الأمر بعد بداية الدعوة الإسلاميّة واشتعال نيران العداء مع قريش، في هذه الأجواء، كان الأعداء إذا رغبوا وضع شيء أمانةً عند شخص، كانوا يأتون إلى الرسول! لذلك سمعتم أنّ الرسول عندما هاجر إلى المدينة، ترك فيها عليًّا ليعيد الأمانات إلى أصحابها. يتّضح من خلال ذلك أنّ هناك بعض الأمانات كانت عنده في ذاك الوقت. ولم تكن أماناتٌ للمسلمين، بل أماناتٌ للكفّار والأشخاص المُعادين له .المحبّة:
كان سلوكه مع الناس حَسَنًا، كان بشوشًا بين الناس. تظهر همومه وأحزانه وآلامه عندما يكون وحيدًا، ولا يبديها أمام الناس، بل كان بينهم بشوشًا. كان يسلّم على الجميع. وإذا آذاه شخص كان يظهر ذلك على وجهه إلا أنّ لسانه لا يفصح عن ذلك. كان لا يسمح بالتعرّض لشخص في حضوره أو توجيه إهانة إليه. كان يلاطف الأطفال, ويعطف على النساء, وكان حَسَنَ التصرّف مع الضعفاء، كان يمزح مع أصحابه ويشاركهم مسابقة الفروسيّة .الصدق والصلاح:
كان تعامله مع الناس على أساس الصدق والصفاء والصداقة .ما هو الشيء الذي كان يحكم الحركة العظيمة للرسول؟ التوحيد, فإلى جانب تلك العبادة والدعاء والبكاء وسط الليل، كانت مثل هذه المظاهر: مظهر العلم, مظهر الشجاعة, مظهر الجهاد, مظهر السياسة, فلو طالعتم التاريخ ستجدون نماذج من ذلك، في ذاك الزمان القصير من حياة الرسول. إنّ السنوات العشر من حياة الرسول، كانت حياةً عجيبة, وهي حقيقةً، مجموعة متراكمة لا يعلمها الكثيرون مع الأسف. إنّ الصدق، كان علامة تلك الرؤية التوحيديّة, حافظوا دائمًا على هذا الصدق في العمل
والقول... لا يمكن أن يكون لأيّ طريقة وأيّ أسلوب سياسي وأيّ مناورة سياسيّة تلك الجاذبيّة الموجودة في الصدق حيث تجذب القلوب إليها. في الحقيقة كان يمتلك هذه الخاصيّة .
الإنفاق:
قدّموا إلى الرسول في تلك الأيّام، شاةً فذبحها. اجتمع الفقراء والمستحقّون للحصول على نصيبهم من اللحم. وكان الرسول يُقَطِّع اللحم من الشاة التي ذبحها لنفسه ويوزّعه عليهم، فبقي منها الكتف فقط. وحيث إنّه لم يبقى شخص لم يحصل على اللحم، أخذ الكتف إلى المنزل ليطبخ ويُعَدّ للأكل. قالت إحدى زوجات الرسول: يا رسول الله، وُزِّعت الشاة بأكملها ولم يبق سوى هذا الكتف. عندها قال الرسول، لا، لقد بقيت بأكملها إلّا أنّ الكتف هو الذي سنفقده, لأنّنا سنتناوله ولن يبقى منه شيء، أمّا الذي أنفقناه فهو الذي يبقى لنا .المعاملة الخالية من التكبّر:
كان هذا سلوك الرسول مع الناس, المعاملة الإنسانيّة الحسنة. التصرّف كالناس، من دون تكبّر ومن دون تجبّر. مع أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان ذا هيبة إلهيّة وطبيعيّة بحيث كان الناس يرتبكون في حضوره إلّا أنّه كان لطيفًا وحسن الأخلاق معهم .الشجاعة:
كان شجاعًا ولم تتمكّن أيّ من جبهات العدو العظيمة من إخافته وترهيبه... كان يمكن رؤية هذه الخصوصيّات طيلة حياة ذاك العظيم منذ مرحلة الشباب إلى وفاته طيلة ثلاث وستّون سنة .التواضع:
بلغ تواضعه أنّه كان يتحمّل سماع الأشياء التي لا يتحمّل الآخرون سماعها. كان أعداؤه في مكّة يتصرّفون معه أحيانًا بأسلوب يجعل أبي طالب يغضب ويستلّ سيفه عندما يسمع شيئًا من هذا القبيل، لا بل كان يصطحب غلامه ويقصد الذين تجرّؤوا على الرسول ويهدّدهم بقطع أعناقهم، أمّا الرسول فقد كان يتحمّل ذلك المشهد بتواضع بالغ. في إحدى المرّات جرى حوار مع أبي جهل فوجّه أبو جهل إهانة إلى الرسول, إلّا أنّه اختار السكوت وظهر عليه التواضع. خرج أحد الأشخاص ليخبر الحمزة بما فعله أبو جهل مع ابن أخيه. خرج الحمزة غاضبًا حيث قصد أبي جهل وضربه بالقوس على رأسه فسالت منه الدماء.ثمّ بعد ذلك، جاء وأعلن إسلامه تحت تأثير هذه الحادثة. وكذلك الأمر، بعد دعوة الإسلام، كان بعض المسلمين تارةً، نتيجة الغفلة أو الجهل، يوجّه إهانةً إلى الرسول حول قضيّة ما. في إحدى المرّات توجّهت إحدى زوجات الرسول - زينب بنت جحش وهي واحدة من أمّهات المؤمنين - إليه وقالت له أنت رسول، ولكنّك لا تعدل! تبسّم (فابتسم) النبيّ وسكت, فقد كانت تنتظر منه أمرًا في الحياة الزوجيّة دون أن يجيبها عليه. وفي بعض الأوقات كان يأتي بعض الأشخاص إلى المسجد حيث كانوا يجلسون ويمدّون أرجلهم ويطلبون منه تقليم أظافرهم! - حيث جاء الحثّ على تقليم الأظافر - وكان الرسول يتحمّل كلّ هذه الجرأة وقلّة الأدب بتواضع كامل .
بلسم آلام البشريّة:
إنّ ما ندّعيه من أنّ بعثة خاتم الأنبياء عيدٌ للبشريّة، صحيح, لأنّه أصبح بالإمكان، في هذه المرحلة ومن خلال تعاليم الإسلام، مداواة كافّة الآلام البشريّة بأفضل العلاجات وقد تحدّث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حول الرسول قائلًا: "طبيب دوّارٌ بطبّه قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه" ،.الأخلاق الحكوميّة
العبوديّة والطاعة المحضة لله:
عندما تريدون ذكر اسم رسول الله أثناء التشهّد في الصلاة وعندما تريدون احترامه تقولون "وأشهد أنّ محمدًا عبده", فإنّكم تذكرون العبوديّة أوّلًا ثمّ تقولون بعد ذلك "ورسوله". العبوديّة أعلى من الرسالة، العبوديّة أساس وجوهر العمل .الأساس هو العبوديّة لله:
تتجلّى قيمة والد فاطمة (صلوات الله عليهم) عند الله في العبوديّة، مع الإشارة إلى أنّ فاطمة هي مبدأ ومنبع فضائل كافّة المعصومين، لكنها وأمير المؤمنين عليهما السلام (بمثابة) قطراتٌ من بحر وجود الرسول. "أشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله", في البداية كانت عبوديّته ثم كانت رسالته وقد أُعطي مقام الرسالة له - وهو مقامٌ عالٍ - بسبب العبوديّة, فالله تعالى يعرف صنيعة يديه ومخلوقه .الدعوة إلى الحقّ والحقيقة:
إنّ العمل المهمّ لرسول الله، هو الدعوة إلى الحقّ والحقيقة والجهاد في سبيل هذه الدعوة. لم يكن الرسول الأكرم مشوَّشًا في مواجهة العالم المظلم في زمانه, سواء عندما كان وحيدًا في مكة، أو عندما كان يحيط به قلّة من المسلمين في مواجهة قادة العرب المتكبّرين وصناديد قريشوكبارهم مع ما امتازوا به من خلقيّات خشنة وأيدٍ مقتدرة، أو عندما كان في مقابلة عامة الناس الذين لم يكن لديهم نصيب من المعرفة، فلم يخف! كان يتحدّث بكلامه الحقّ، ويكرّر، ويوضّح ويتحمّل الإهانات ويتقبّل الصعوبات والآلام, حتّى تمكّن من إدخال الإسلام إلى جمعٍ كثير. لم يضعف الرسول لحظة واحدة في ساحة الدعوة والجهاد، وكان يتقدّم بقوّة بالمجتمع الإسلاميّ ليوصله إلى أوجّ العزّة والقوّة .
الجهاد في سبيل الدعوة إلى الحقّ:
لقد بدأ هذا المخلوق الإلهي الفريد، وهذا الإنسان الكامل الذي وصل إلى هذه المرحلة من الكمال قبل نزول الوحي الإلهي، ومنذ اللحظات الأولى للبعثة، جهادًا مركّبًا وصعبًا من كافّة الجهات فأمضى فيه ثلاثًا وعشرين سنة في غاية الصعوبة. كان جهادًا في داخله، وجهادًا مع الناس الذين كانوا لا يمتلكون أيَّ إدراك للحقيقة وجهادًا مع تلك الأجواء المظلمة بالمطلق... لقد ملأت صفحة التاريخ المظلمة، جوانب الحياة البشريّة. وقد بدأ جهاد الرسول مع تلك القدرة العظيمة والسعي المتواصل الذي لا توقف فيه منذ الساعات الأولى للبعثة وتلقّي الوحي الإلهي فكان ينزل الوحي الإلهي على قلبه المقدّس كالماء الزلال الذي ينزل على الأرض المستعدّة فيضفي عليه قوّةً, ليستعمل كافّة قواه لإيجاد تحوّل كبير في هذه الدنيا, وقد نجح في ذلك .إنّ سيرة الأنبياء منذ البداية، هي الحركة والإقدام، ومنذ البداية، كانت تتحقّق تلك الشعارات الموجودة على ألسنتهم وفي أعمالهم. هذا ما حصل بالضبط في حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. منذ اللحظة الأولى، بدأ ذاك التعليم والتزكية وتلك الحركة في سبيل إقامة القسط. لذلك بدأ الصدام والمعارضة منذ اللحظة الأولى, منذ ذاك الزمان الذي بدأ فيه الرسول نشر دعوته على مستوى واسع استجابةً ل: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ ، واستمرّ الأمر إلى الوقت الذي شملت فيه الدعوة كافّة الناس وباتت علنيّة، وإلى زمان التحرّك نحو النظام الاجتماعي - الذي هو نظام العدل - وإقامته .
الوفاء بالعهود:
من جملة أخلاقه الحكوميّة أنّه كان وفيًا للعهد. لم ينقض عهدًا على الإطلاق. لم توفِ قريش بعهودها معه إلّا أنّه لم يقابلها بالمِثل. كذلك لم يوفِ اليهود بعهودهم مراتٍ عديدة, أمّا هو فلم يفعل ذلك .لم ينقض الرسول العهد في أيّ من هذه القضايا. حتّى إنّ الأعداء يذعنون أنّ الرسول لم ينقض العهد في هذه القضايا, همُ الذين كانوا ينقضون العهد.
لم يتخلّف عن عهوده ومعاهداته مع الناس والمجموعات التي كان يقيم معها عهدًا، حتّى مع أعدائه وحتّى مع كفّار مكة. لم ينقض الرسول
عهده واتّفاقه معهم, هم الذين كانوا ينقضون, أمّا الرسول فكان يقدّم جوابًا قاطعًا. لذلك كان يعلم الجميع أنّهم عندما يعقدون اتفاقًا مع هذا الشخص، يمكن الوثوق به .
تأسيس الحكومة الإسلاميّة
بادر الرسول عند قدومه المدينة، إلى تأسيس الحكومة. ماذا تعني الحكومة؟ لم يذهب ويجلس في زاوية، ثمّ يقول للناس: بما أنّ أذى كفار قريش بات بعيدًا، فلهم الخيار في المجيء والحضور إليه إذا ما واجهتهم مسألة ما - أو أن يقول لهم: إذا أردتم تعلّم الصلاة، اذهبوا إلى فلان أو تعالوا إليّ لأعلّمكم. في البداية أسّس حكومة ورئاسة, هذا هو العمل الأوّل في الإسلام. ثمّ مباشرةً، بدأت هذه الحكومة ممارسة أعمالها القادرة: الحرب، الجهاد، وبعد ذلك إرسال الرسائل إلى هذا الجانب وذاك، وحلّ وفصل الأمور الأخرى. في مقابل هذه الحقيقة، فمن ذا الذي كان بإمكانه تقديم مفهوم مغاير لمفهوم اتحاد الدين والسياسة في الإسلام .لم يأتِ أنبياء الله، ﴿إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾ . لقد جاء النبيّ ليطيعه الناس. لم يأتِ النبيّ ليستمع إلى صاحب مسألة وليتحدّث بعدد من المسائل التي يستمع إليها البعض ولا يستمع آخرون. قد تصل الأمور إلى الحرب في سبيل تثبيت هذا الفكر الإلهي, ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ . كم تعرفون من الأنبياء الذين, ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ كان هناك أنبياء، إلا أنّنا لا نعرفهم ولا خبر لدينا عنهم. من أُولى المطالب التي وضعها الرسول في برنامجه منذ دخوله المدينة وتأسيس الحكومة الإسلاميّة، هو مطلب إظهار قوة الحكومة, وهذا يعني أنّ النبيّ عندما دخل، دخل حاكمًا, مع أنّ الناس لم يكونوا قد دعوه للحاكميّة, بل دعوه لقبول دينه. إنّ الخلفيّة الحكوميّة التي أرادها الرسول عبارة عن المحبّة والعقيدة والإيمان. هكذا حكومة، هي أكثر الحكومات قوّةً ورفعةً. أوجد الرسول حصارًا (طوقًا) أمنيًّا حول المدينة بالاعتماد على هؤلاء الناس. أنتم تعلمون أنّ القتل والإغارة من جملة الأمور التي كانت بسيطة وسهلة عند القبائل العربية. بدأ الرسول منذ العام الأول, في البداية كانت السرايا، ثم الغزوات الفلانيّة وكان يوجّه اللوم إلى الأشخاص اللامبالين اتجاه هذه الحركة أو الذين كان الخوف يتسلّل إليهم، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ .
في يوم من الأيام قيل لهم لا تخطئوا. أين؟ في مكة. كان ذاك اليوم، يوم "كفّوا أيديكم", ولكن عندما دخلتم المدينة اليوم، وأسّستم حكومة، هو يوم يجب فيه أن تعمل كلّ قواكم ومن جملتها قواكم الجسميّة (العضلات) وقوّة الحرب والتضحيات لإضفاء طابع القدرة على حاكميّة الإسلام. إنّ حاكميّة الإسلام هي من المعارف الإسلاميّة العالية .
الاهتمام الجديّ بتأمين مصالح المسلمين
الأخلاق الحكوميّة لذاك العظيم هي: اليقظة في مقابل وساوس الأعداء، والتواضع أمام المؤمنين والإطاعة المحضة والعبوديّة بالمعنى الحقيقي في مقابل أوامر الله والسرعة في العمل والتحرّك نحو مصالح المسلمين. هذه خلاصة عن شخصيّة ذاك العظيم ."ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم عن النار إلّا وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به" . لقد أوضح الرسول الأكرم كافّة الأمور التي تؤدّي بالإنسان والمجتمع الإنساني إلى السعادة. لم يوضّح ذلك فقط، بل عمل به أيضًا. في زمان الرسول، جرى تأسيس الحكومة الإسلاميّة، والمجتمع الإسلامي، وتمّ تطبيق الاقتصاد الإسلاميّ وأقيم الجهاد الإسلامي، وأُخذت الزكاة الإسلاميّة, أصبح البلد إسلاميًّا والنظام إسلاميًّا.
وأمّا مهندس هذا النظام وقائد هذا القطار في هذا الخطّ، فهو النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والشخص الذي كان يخلفه .
الصبر على المشقّات وتحمّلها
هنا تحمّل الرسول الأعظم مع أصحابه المخلصين، ثلاثة عشر سنة من المشقّات والمرارات حتّى تجذّرت غرسة الإسلام. وهنا حصلت بيعة العقبة مع أهل يثرب والهجرة المباركة إلى مدينة الرسول وتأسّست الحكومة الإسلاميّة بعد سنوات من المعاناة اليوميّة في شُعَبِ أبي طالب، وبعد تعذيب الأصحاب أمثال بلال وعمار وياسر وسمية وعبد الله بن مسعود والآخرين وبعد رحلة طويلة وشاقّة وعديمة النتائج للرسول بين قبائل مكّة والطائف .
... أحاطت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من التهديدات من كافّة الجوانب. فاضطرب بعضُ الناس وانهار آخرون واشتكى البعض، ولام آخرون الرسول ودعوه للصلح, أمّا الرسول فلم يضعف للحظة واحدة في ساحة الدعوة والجهاد وتقدّم بالمجتمع الإسلاميّ بقوّة ليصل به إلى قمّة العزّة والقوّة. حيث تمكّن هذا النظام والمجتمع في السنوات اللاحقة أن يصبح القوة الأولى على مستوى العالم ببركة صمود الرسول في ساحات الحرب والدعوة .
إيجاد النظام في المجتمع
كانت إدارته الاجتماعيّة والعسكريّة في أعلى مستوياتها، فكان يلاحق كافّة الأمور. طبعًا كان المجتمع صغيرًا, المدينة وأطرافها، وبعد ذلك أضيف إليه مكّة ومدينة أو مدينتان أخريان, إلّا أنّه كان مهتمًّا بأمور الناس وكان منظّمًا ومرتّبًا. وقد أجرى في ذاك المجتمع البدوي، والإدارة والحساب والمحاسبة والتحفيز والتنبيّه بين الناس. هذه هي الحياة الاجتماعيّة للرسول التي يجب أن نقتدي بها جميعًا، من مسؤولي البلد وأفراد الشعب .العمل لإيجاد العدل بين الناس
النقطة الأخرى في الدعوة الإسلاميّة، عبارة عن إيجاد العدل بين الناس. من جملة خصوصيّات الجاهليّة، أنّها نظامٌ ظالم. كان الظلم، عرفًا رائجًا... فعمل الإسلام على النقطة المقابلة، جاء بالعدل, ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ . فهو من خصوصيّات المجتمع الإسلاميّ والعدل وليس مجرد شعار، بل يجب على المجتمع الإسلاميّ أن يتحرّك نحو العدل، وإذا كان العدل مفقودًا عليه أن يوجده. فإذا ما كان في العالم نقطتان متقابلتان إحداهما العدل والأخرى الظلم، وكلتاهما غير إسلاميّة، فالإسلام يُظهر موافقته على نقطة العدل تلك، حتّى لو كانت غير إسلاميّة. الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أرسل المهاجرين إلى الحبشة، أي إنّه هو الذي أرسلهم ليكونوا في حماية ملكٍ (غير مسلم)، وذلك بسبب العدل. بعبارةٍ أخرى أبعد الناس عن البيئة التي يعيشون فيها وعن مكان حياتهم بسبب الظلم الذي كان يمارَس عليهم .خلاصة معنى ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ أن يعيش الناس في بيئةٍ عادلة ومجتمعٍ عادل ونظامٍ عادل, لهذا الأمر جاء الرسول, جاء لإيجاد عالَمٍ عادل ومجتمع ونظام عادلَين. طبعًا في النظام العادل يجد البشر الفرصة للوصول إلى التكامل والتعالي, ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. ويقول بعد ذلك: ﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ . هل يكفي مجرّد الحديث والموعظة وأن نقول للناس تعالوا لإقامة نظامٍ عادل؟ لو فرضنا أنّ النّاس تمكّنوا من إقامة نظام عادل، فهل سيسمح الذئاب والسارقون والمجرمون ببقاء هذا النظام العادل؟ لذلك أنزلنا الحديد. لماذا أنزلنا الحديد؟ عندما نرجع إلى كتب الحديث، نجد الإمام عليه السلام عندما فَسّر الآية، ووصل إلى ﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾، قال "السلاح", السيف، السهم، الأسلحة التي تُصنع من الحديد. يتحدّث الله تعالى عن السلاح، إلى جانب الحديث عن دعوة النبوة, يتحدّث عن الأسلحة والقوة القاهرة، إلى جانب الموعظة التي فرضها على الأنبياء، وإلى جانب تأسيس النظام التوحيدي والإلهي.
\
المداراة
عاش الناس معه عشر سنوات ليل نهار, ذهبوا إلى منزله وزارهم في منازلهم، وكانوا معًا في المسجد وفي الطريق، وسافروا معًا وناموا وجاعوا وفرحوا... إنّ هؤلاء الناس الذين عاشوا معه عشر سنوات، كانت تتعمّق في قلوبهم محبّته والاعتقاد به يومًا بعد يوم. عندما تخفّى أبو سفيان، أثناء فتح مكة، ودخل معسكر النبيّ بحماية وتشجيع من العباس - عم النبيّ - ليحصل على الأمان، شاهد النبيّ يتوضّأ صباحًا، والناس مجتمعون حوله لالتقاط قطرات الماء التي تنزل من وجهه ويديه! قال حينها: إنّه رأى كسرى وقيصر - الملكين الكبيرين والقويّين في العالم - إلّا أنّه لم يشاهد فيهما هذه العزّة .المشهد الآخر من حياة الرسول، سلوكه وتصرّفه مع الناس. لم ينس على الإطلاق الخُلق والطبع الشعبي والمحبّة والرفق بالناس والسعي إلى إرساء العدل بينهم. كان يعيش كما الناس وبينهم، كان يجلس وينهض معهم، كان صديقًا ورفيقًا للغلمان وطبقات المجتمع المتدنّية، كان يتناول الطعام معهم ويجالسهم، ويُظهر لهم المحبة والمداراة. لم تغيّره السلطة ولا الثروة الوطنية. لم يختلف سلوكه في المرحلة الصعبة عنه في مرحلة انتهاء الصعوبات. كان مع الناس ومن الناس في كافّة الأحوال! كان يرفق بهم ويريد لهم العدل .
المصادر :
من کتاب /الشخصية القياديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلّم / سلسلة في رحاب الولي الخامنئي دام ظلّه