عمرو بن العاص

كنت أعتقد أن الكلام على عمرو بن العاص قد يعتبر ترفاً لا حاجة إليه، ولكنني وكما أوضحت، فإن الاتجاه المحافظ الذي بقي وفياً لأساليب الدعاية الاُموية على مرّ العصور، لم يغادر شيئاً دون أن يلمسه بريشة التزييف، ومن تلك
Saturday, February 24, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
عمرو بن العاص
 عمرو بن العاص


كنت أعتقد أن الكلام على عمرو بن العاص قد يعتبر ترفاً لا حاجة إليه، ولكنني وكما أوضحت، فإن الاتجاه المحافظ الذي بقي وفياً لأساليب الدعاية الاُموية على مرّ العصور، لم يغادر شيئاً دون أن يلمسه بريشة التزييف، ومن تلك الأساليب في التزييف، قلب الحقائق حول الشخصيات التي أثّرت في مجريات الاُمور في تلك الفترة التي تحدثنا عنها، باظهار المحق مبطلا والمبطل محقاً! ومن تلك الشخصيات التي تناولتها أقلام المؤلفين -أصحاب الاتجاه المحافظ- شخصية لعبت أدواراً خطيرة استطاعت أن تؤثر بها على مجريات الأحداث في تلك الحقبة، وتقلب كثيراً من الأوضاع، ألا وهو عمرو ابن العاص، وزير معاوية وساعده الأيمن. فمن تلك المحاولات التجميلية ما قام به القاضي ابن العربي، حيث نقل عن الدارقطني قال:
وذكر سنداً عدلا (وساق الحديث): ربعي عن أبي موسى، أن عمرو بن العاص قال: والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحلّ لهما منه شيء لقد غُبِنا ونقص رأيهما! وأيم الله ما كانا مغبونين ولا ناقصي الرأي، ولئن كانا امرأين يحرم عليهما هذا المال الذي أصبناه بعدهما، لقد هلكنا، وأيم الله ما جاء الوهم إلاّ من قبلنا.
قال أحد محققي الكتاب:
أورد المؤلف هذا الخبر للدلالة على ورع عمرو ومحاسبته لنفسه وتذكيره بسير السلف!.
كما وعلّق الاستانبولي على الخبر أيضاً بقوله:
قال النبي (صلى الله عليه وآله) في الثناء على عمرو بن العاص(رضي الله عنه): "أسلم الناس وآمن عمرو ابن العاص".
قال شيخنا محدّث الديار الشامية في المصدر السابق: وفي هذا الحدقال: فناداه عمرو بن العاص من ناحية المسجد: اتق الله يا عثمان، فإنك قد ركبت نهابير وركبناها معك، فتُب الى الله نَتُب. قال: فناداه عثمان وإنك هناك يا ابن النابغة! قملت والله جُبّتك منذ تركتك من العمل! قال: فنودي من ناحية اُخرى: تُب الى الله وأظهر التوبة يكف الناس عنك. قال: فرفع عثمان يديه مدّاً واستقبل القبلة فقال: اللهم إني أول تائب إليك.
ورجع الى منزله، وخرج عمرو بن العاص حتى نزل منزله بفلسطين، فكان يقول: والله إن كنت لألقى الراعي فأحرّضه عليه!(1).
كما وأخرج المؤرخون والحفاظ أخبار عمرو بن العاص وكيفية التحاقه بمعاوية، قالوا - واللفظ للطبري أيضاً عن الواقدي- قال:
لما بلغ عمراً قتل عثمان(رضي الله عنه) قال: أنا أبو عبدالله، قتلته وأنا بوادي السباع! من يلي هذا الأمر من بعده؟ إن يلهِ طلحة فهو فتى العرب سَيباً، وإن يلهِ ابن أبي طالب فلا أراه إلاّ سيستنظف الحق، وهو أكره من يليه إليَّ! فبلغه أن علياً قد بويع له، فاشتدّ عليه، وتربص أياماً ينظر ما يصنع الناس، فبلغه مسير طلحة والزبير وعائشة، وقال: أستأني وأنظر ما يصنعون فأتاه الخبر أن طلحة والزبير قد قُتلا; فاُرتج عليه أمره، فقال له قائل: إن معاوية بالشام لا يريد أن يبايع لعلي، فلو قاربت معاوية. فكان معاوية أحب إليه من علي بن أبي طالب! وقيل له: إن معاوية يُعظم شأن قتل عثمان بن عفان، ويحرّض على الطلب بدمه. فقال عمرو: ادعوا لي محمداً وعبدالله، فدعيا له، فقال: قد كان ما قد بلغكما من قتل عثمان وبيعة الناس لعلي، وما يرصد معاوية من مخالفة علي، وقال: ما تريان؟ أما علي فلا خير عنده! وهو رجل يُدلّف بسابقته، وهو غير مشركي في شيء من أمره.
فقال عبدالله بن عمرو: توفي النبي (صلى الله عليه وآله) وهو عنك راض، وتوفي أبوبكر(رضي الله عنه)وهو عنك راض، وتوفي عمر وهو عنك راض، أرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس على إمام فبايعته.
وقال محمد بن عمرو: أنت نابٌ من أنياب العرب، فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت ولا ذكر.
قال عمرو: أما أنت يا عبدالله فأمرتني بالذي هو خير لي في آخرتي وأسلم في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بالذي أنبه علي في دنياي وشرٌ لي في آخرتي.
ثم خرج عمرو بن العاص ومعه ابناه حتى قدم على معاوية، فوجد أهل الشام يحضّون معاوية على الطلب بدم عثمان، فقال عمرو بن العاص: أنتم على الحق، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم!! -ومعاوية لا يلتفت الى قول عمرو- فقال ابنا عمرو لعمرو: ألا ترى الى معاوية لا يلتفت الى قولك! انصرف الى غيره. فدخل عمرو على معاوية فقال: والله لعجب لك، إني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني، أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة، إن في النفس من ذلك ما فيها! حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنا إنما أردنا فصالحه معاوية وعطف عليه(2).
فمن هذه النصوص وغيرها نعلم أن عمراً كان أبعد من يحق له من الناس أن يدعي الطلب بدم عثمان، بل إنه هو أحد المطلوبين لهذا الدم، لأن التحريض على القتل قد يكون سبباً ودافعاً إليه، فيكون المحرّض كالقاتل سواء بسواء، ولم يكن معاوية غافلا عن ذلك، ولو أنه كان صادقاً في دعواه بالطلب بدم عثمان، لكان ينبغي عليه أن يحاسب عمراً قبل غيره وهو في قبضته، ولكن معاوية كان يرمي لأهداف اُخرى، ولم يكن عمرو بن العاص ساذجاً لتخفى عليه نوايا معاوية الحقيقية، ولقد عبّر عن رأيه صراحة أمام معاوية حين قال له: أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة، إن في النفس من ذلك ما فيها... ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا.
أما الدنيا بالنسبة لعمرو فقد كانت ولاية مصر، نعم مصر التي انتزعه عثمان عنها فبقيت في نفسه بعد أن ذاق حلاوتها، فقد روى الزبير بن بكار قال:
لما قلّد عمر عمرو بن العاص مصراً، بلغه أنه قد صار له مال عظيم من ناطق وصامت، فكتب إليه: أما بعد، فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك ولا كان لك مال قبل أن استعملك، فأنّى لك هذا؟! فوالله لو لم يهمني في ذات الله إلاّ من اختان في مال الله، لكثر همّي وانتثر أمري، ولقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك، ولكني قلدتك رجاءَ غنائك، فاكتب إليّ من أين لك هذا المال، وعجّل!
فكتب إليه عمرو: أما بعد، فقد فهمت كتاب أمير المؤمنين. فأما ما ظهر لي من مال، فإنّا قدمنا بلاداً رخيصة الأسعار، كثيرة الغزو، فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتصل بأمير المؤمنين نبؤها، ووالله لو كانت خيانتك حلالا ما خنتك وقد ائتمنتني، فإن لنا أحساباً إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك، وذكرت أن عندك من المهاجرين من هو خير مني، فإذا كان ذاك، فوالله ما دققتُ لك يا أمير المؤمنين باباً، ولا فتحت لك قفلا.
فكتب إليه عمر: أما بعد، فإني لستُ من تسطيرك الكتاب وتشقيقك الكلام في شيء، ولكنكم معشر الاُمراء قعدتم على عيون الأموال، ولن تعدموا غدراً، وإنما تأكلون النار وتتعجلون العار، وقد وجّهت إليك محمد بن مسلمة، فسلّم إليه شطر مالك...(3)
فعمر بن الخطاب يتّهم عمراً بالخيانة صراحة، ولم تنفع اعذار عمرو في اقناع الخليفة ولا عدوله عن رأيه في مشاطرة عمرو أمواله، ولقد ظلت هذه الحسرات على فوات مصر وثرواتها من يد عمرو تنغّص عليه عيشه، وتدفعه للتأليب على عثمان الذي حرمه منها، فلما جاءت الفرصة على يد معاوية، خفَّ عمرو إليه وكلّه أمل في عودة مصر إليه، "ويكفي أن نشير الى حجم هذه الصفقة بين الرجلين، في انتقال ابن العاص المثير من موقع الساخط المتمرد على الخليفة السابق - معبراً عن ذلك بعد خروجه من الحجاز بقوله: كنت لألقى الراعي فاُحرّضه على عثمان- الى مطالب بدمه ومدافع عن قضيته تحت اللواء الاُموي في الشام!"(4).
لقد علم معاوية أن الأمر لا يتم له إن لم يبايعه عمرو، فقال له: يا عمرو اتّبعني.
قال: لماذا، للآخرة! فوالله ما معك آخرة، أم للدنيا؟ فوالله لا كان حتى أكون شريكك فيها! قال: فأنت شريكي فيها. قال: فاكتب لي مصر وكورها. فكتب له مصر وكورها، وكتب في آخر الكتاب: وعلى عمرو السمع والطاعة.
قال عمرو: واكتب أن السمع والطاعة لا ينقصان من شرطه شيئاً. قال معاوية: لا ينظر الناس الى هذا. قال عمرو: حتى تكتب. قال: فكتب، ووالله ما يجد بداً من كتابتها.
ودخل عتبة بن أبي سفيان على معاوية وهو يكلم عمرو في مصر، وعمرو يقول له: إنما اُبايعك بها ديني!! فقال عتبة: ائتمن الرجل بدينه، فإنه صاحب من أصحاب محمد. وكتب عمرو الى معاوية:
معاويَ لا اُعطيك ديني ولم أنل به منك دنيا فانظرن كيف تصنعُ
وما الدين والدنيا سواء وإنني لآخذ ما تعطي ورأسي مقنّعُ
فإن تعطني مصراً فأربحُ صفقة أخذتَ بها شيخاً يضرّ وينفعُ(5)
وقد أخرج المؤرخون والحفّاظ هذه القصة بتفصيلات أكثر، ولكنني أعرضت عنها روماً للاختصار، إذ أن هذه الشواهد تكفي لكي تكشف عن النوايا الحقيقية لكل من معاوية وعمرو بن العاص، وعن الصفقة الدنيوية التي باع بها عمرو دينه، ولقد كان الصحابة يعرفون بعضهم أفضل مما نعرف نحن أو ابن العربي أو ابن كثير وغيرهم، فهذا عمار بن ياسر، السبّاق المبشّر بالجنة، الموعود بالقتل بأيدي الفئة الباغية الداعية الى النار -كما أخبر النبي- يدنو من عمرو بن العاص فيقول له:(6)
يا عمرو بعت دينك بمصر، تباً لك! طالما بغيت في الاسلام عوجاً...(7)
كما وأخرج الطبري عن موسى بن عبدالرحمان المسروقي بسنده قال: سمعت عمار بن ياسر بصفين وهو يقول لعمرو بن العاص: لقد قاتلتُ صاحب هذه الراية ثلاثاً مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذه الرابعة، ما هي بأبرّ ولا أنقى(8).
أما علي بن أبي طالب، فقد أبدى رأيه في كل من معاوية ووزيره عمراً، في جواب الكتاب الذي بعثه إليه محمد بن أبي بكر. من تهديد معاوية له وإرساله عمراً بجيش كبير الى مصر لانتزاعها منه، فكان مما كتب إليه:
... وقد قرأتُ كتاب الفاجر ابن الفاجر معاوية، والفاجر ابن الكافر عمرو، المتحابّين في عمل المعصية، والمتوافقين المرتشيين في الحكومة، المنكرَين في الدنيا، قد استمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم...(9)
كما وأشار علي بن أبي طالب - في كتاب له الى أهل العراق- الى هذه الصفقة بين معاوية وعمرو. فكان مما قال فيه: لقد اُنهي إليّ أن ابن النابغة لم يبايع معاوية حتى أعطاه، وشرط عليه أن يعطيه إتاوة هي أعظم مما في يديه من سلطانه، ألا صفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا، وتربت يد هذا المشتري نصرة غادر فاسق بأموال المسلمين...(10)
هذه بعض من سيرة عمرو بن العاص كما أوردها الأئمة الأعلام من المؤرخين والحفّاظ، ولقد تجنبت ذكر المثالب والمطاعن فيه من جهة نسبه أو غير ذلك، لاعتقادي بأن تلك الاُمور ليست بذات أهمية بالقياس الى السيرة الذاتية للمرء، خاصة وأن عمرو قد التحق بمعاوية في أواخر عمره، وبعد أن صار على أعتاب قبره، إلاّ أن حب الدنيا قد ظل مغروساً في أعماقه، وبدلا من أن يقضي ما تبقى من عمره في العبادة والاستغفار بعد أن أكرمه الله تعالى بالاسلام وصحبة نبيّه (صلى الله عليه وآله)، نراه يعرض عن كل ذلك ويستقبل الدنيا من جديد مؤثراً مرافقة البغاة وصحبتهم على صحبة من هم خير منهم وأقرب للتقوى، ولو أن عمرو بن العاص قد شكّ في معرفة الحقيقة أفلا اعتزل الأمر كما فعل غيره من الصحابة -وذلك أضعف الإيمان- ولكنه أبى إلاّ النباهة في الدنيا والخسران في الآخرة.
لقد أوردت هذا الشيء اليسير من سيرة عمرو بن العاص رداً على ادعاءات أصحاب الاتجاه المعروف، الذين يضفون عليه سيما التقوى والورع ومحاسبة النفس في اعترافه بأكل أموال المسلمين بغير حق، وقد تبين لكل ذي بصيرة أن عمرو بن العاص قد باع دينه - معترفاً بنفسه على نفسه بذلك- في مقابل ولاية مصر، فهل يبقى بعد ذلك كلام لعاذر!
ولقد أحسن ابن عباس القول لعمرو في مرضه الذي مات فيه، فقال له:
كيف أصبحت يا أبا عبدالله؟ قال: أصلحت من دنياي قليلا وأفسدت من ديني كثيراً، فلو كان الذي أصحلتُ هو الذي أفسدت، والذي أفسدت هو الذي أصلحت لفزتُ، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبتُ، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت، فصرتُ كالمنجنيق بين السماء والأرض، لا أرقى بيدين، ولا أهبط برجلين، فعظني بعظة انتفع بها يا ابن أخي.
فقال له ابن عباس: هيهات يا أبا عبدالله! صار ابن أخيك أخاك. ولا تشاء أن أبكي إلا بكيت، كيف يؤمن برحيل من هو مقيم!
فقال عمرو: على حينها من حين ابن بضع وثمانين سنة تقنّطني من رحمة ربي! اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك، فخُذ مني حتى ترضى. قال ابن عباس: هيهات يا أبا عبدالله! أخذتَ جديداً وتعطي خلقاً! فقال عمرو: مالي ولك يا ابن عباس، ما أرسل كلمة إلاّ أرسلت نقيضها!(11).
فعمرو بن العاص قد ظل سادراً في غيّه، حتى إذا داهمه الموت واقتربت منيّته، صار يتمنى على الله الأماني، بعد أن انقطع رجاؤه من الدنيا، وأدرك أنها قد فاتته، وقد أذن موعد الرحيل عنها، ولات ساعة ندم.
المصادر :
1- الطبري 4: 360، أنساب الأشراف 6: 192، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 143، الكامل في التاريخ 2: 283، الفائق للزمخشري 4: 35، البداية والنهاية 7: 196، تاريخ ابن خلدون 2: 597.
2- الطبري 4: 560، الاستيعاب 3: 266، الاصابة 3: 381.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 174.
4- من دولة عمر...: 127.
5- العقد الفريد لابن عبد ربه 4: 144.
6- وهو الكلام الذي حذفه ابن كثير.
7- الطبري 5: 39، صفين: 337، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8: 21، تذكرة الخواص:92.
8- الطبري 5: 40.
9- الطبري 5: 102، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 84.
10- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 99.
11- الاستيعاب في معرفة الاصحاب 3: 269.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.