
استُعملت كلمة "الأمَّة" في معانٍ كثيرة، ولعلَّ أبرزها أحد استعمالات القرآن الكريم، التي عبَّر عنها بجماعة المسلمين الذين يؤمنون بالإسلام بصرف النظر عن مكان ولادتهم أو إقامتهم أو لغتهم، فهم يشكلون "الأمة الإسلامة"، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(1). وقال: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾(2). فالجامع للأمة الإسلامية هو إيمانها بالإسلام.
ويمكن إطلاق كلمة "أمة" على قواسم مشتركة أخرى، كأن تُطلق على قوم يتحدثون لغة واحدة فنقول:"الأمة العربية"، ونقصد بها من يتحدث اللغة العربية، أو نُطلقها على سكان بلد ما، فنقول "الأمة الفرنسية"، ونقصد بها من يعيشون في داخل الوطن الفرنسي، وهكذا نستفيد من لفظة الأمة بحسب القيد الذي يحدد معناها، وعليه فعندما نقول "الأمة الإسلامية" فإننا نقصد أولئك الذين يؤمنون بالإسلام.
لم تكن الحاجة موجودة سابقاً للتفريق بين مصطلح "الأمة الإسلامية" و "الوطن الإسلامي"، بسبب حكم الإسلام على امتداد العالم الإسلامي، فكان المصطلحان يؤديان معنىً واحداً، ولكن مع تفكك الدولة الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي بانتهاء الخلافة العثمانية، ثم تقسيم العالم الإسلامي إلى دول متعددة، واختيار هذه الدول لأنظمة حكم غير إسلامية، أكانت رأسمالية أو شيوعية أو خليطاً إستنسابياً من هنا وهناك، أصبحنا أمام واقع جديد وهو انتشار المسلمين في بلدان مختلفة، ووجود أنظمة حكم متباينة، ووجود خلاف بين المسلمين حول العودة إلى الإسلام أو القبول بنظام الحكم القائم في البلد أو الإيمان بأنظمة أخرى، كما تمايزت البلدان بين كون سكانها من مذهبٍ واحد أو طائفة واحدة أو مذاهب وطوائف متعددة.
أصبحنا أمام أوطان لها حدود جغرافية، يقطنها مواطنوها، وتحكمها دساتير وقوانين تم تثبيتها بظروف خاصة بكل بلد، فلكل وطن نظام يحكمه، والمواطنون في داخله لهم حقوق وواجبات على أساس هذا النظام.
نظرتنا الى الوطن
الوطن تعبير عن دولة يعيش فيها شعب ضمن حدود جغرافية، وتتبنى نظام حكمٍ له دستور وقوانين، بصرف النظر عن كيفية تثبيت هذا النظام في بداية تَشَكُّل الدولة أو في مراحلها المختلفة، بحيث يعيش الناس تحت سقف هذا النظام، سواء وافقوه أو اعترضوا عليه، ولكن لا يملك أحد صلاحية أن ينكر مواطنية من وُلِد في هذا الوطن، فهو حقُّ قهري لا يمكن انتزاعه، والوطن لأبنائه.روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حب الوطن من الإيمان"(3).
فالوطن أرضٌ حضنت ولادتنا، وفيها ذكريات وتضحيات الآباء والأجداد، ومنها الخيرات، وفيها السكن وتربية الأولاد، فهي المستقر الدنيوي مع الأهل والأحبة وتمضية الحياة، وهذا ما يولِّد علاقة عاطفية مشروعة، وبالتالي فإن الفطرة الإنسانية تدفع لحب الوطن والدفاع عنه. والإسلام يحثنا على ذلك، فلا تعارض بين حب الوطن والإيمان بالإسلام، ولا تنافر بين الوطن والعلاقة مع الأمة. فإذا ما اعتدى الأعداء على وطننا أو أرادوا أن يخرجونا منه ليحتلوه، فإنَّ علينا واجب الدفاع عنه لمنعهم وطردهم، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(4)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ الله عزَّ وجل يُبغض رجلاً يُدْخل عليه في بيته ولا يقاتل"(5)، فالقتال والتضحية بالنفس دفاعاً عن الأرض دفاعٌ مشروع عن الحق، ويندرج تحت عنوان "سبيل الله تعالى".
شجَّعنا أمير المؤمنين علي عليه السلام على الاهتمام ببلدنا، فاعتبر خير البلاد بالنسبة إلينا ما حَمَلنا، قال عليه السلام: "ليس بلدٌ بأحق بك من بلد، خيرُ البلاد ما حَمَلك"(6)
وإنما تعمر البلاد بالحب، قال عليه السلام: "عمرت البلاد بحب الأوطان"(7)
ومع أن العصبية مذمومة، لكنَّها تختلف عن حب المرء لقومه، فحب القوم ليس من العصبية بل المطلوب أن يحب المرء قومه. سئل الإمام زين العابدين عليه السلام عن العصبية، فقال: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبَّ الرجل قومه، ولكن العصبية أن يُعين قومه على الظلم"(8)
وفي توجيه أمير المؤمنين علي عليه السلام أثناء خلافته لواليه على مصر مالك الأشتر، أمره بأن يتعامل مع الناس على أساس وجودهم كرعيةٍ في بلد واحد، يشتركون في الحقوق والواجبات، ولا يحق له أن يعاملهم على أساس انتمائهم الديني، فقال: "وأشعِر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنَّهم صنفان: إمَّا أخٌ لك في الدين، وإمَّا نظيرٌ لك في الخلق، يفرطُ منهم الزَّلل، وتعرضُ لهم العِلل، ويُؤتى على أيديهم في العمد والخطأ. فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنَّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاَّك"(9)
ينظر حزب الله الى الوطن كأرضٍ للآباء والأجداد والأجيال الآتية، وأنَّ جميع أبنائه معنيون به، فهو لهم جميعاً، وهذا ما بيَّنه في وثيقته السياسية التي أعلنها الأمين العام للحزب سماحة السيد حسن نصر الله في مؤتمر صحفي، بمناسبة المؤتمر الثامن للحزب وانتخاب الشورى الجديدة: "إنّ لبنان هو وطننا ووطن الآباء والأجداد، كما هو وطن الأبناء والأحفاد وكل الأجيال الآتية، وهو الوطن الذي قدّمنا من أجل سيادته وعزته وكرامته وتحرير أرضه أغلى التضحيات وأعزّ الشهداء. هذا الوطن نريده لكل اللبنانيين على حد سواء، يحتضنهم ويتسع لهم ويشمخ بهم وبعطاءاتهم.
ونريده واحداً موحَّداً، أرضاً وشعباً ودولةً ومؤسسات، ونرفض أي شكل من أشكال التقسيم أو "الفدرلة" الصريحة أو المقنَّعة. ونريده سيداً حراً مستقلاً عزيزاً كريماً منيعاً قوياً قادراً، حاضراً في معادلات المنطقة، ومساهماً أساسياً في صنع الحاضر والمستقبل كما كان حاضراً دائماً في صنع التاريخ(10)
الولاء للوطن: الولاء للوطن يعني التمسك به، وعدم التخلي عنه، والدفاع عنه في مواجهة الأعداء والمحتلين، فالولاء محبةٌ وارتباط، وليس آمرية وطاعة، فالجغرافيا لا تأمر وتنهى. أمَّا الإيمان وما يتفرع عنه فهو التزامٌ بمسار في الحياة فيه آمرية وطاعة. وبالتالي لا يمكن الحديث عن تعارض أو تضاد بين الولاء للوطن وبين الإيمان الإسلامي أو الولاء للدين أو الولاية للفقيه أو أي قناعة أخرى يحملها المواطن، لأننا أمام سنخيّتين يتم الجمع بينهما بسهولة على ضوء رؤيتنا وإيماننا، فولاية الفقيه جزءٌ من ايمانٍ بمنهج، وهي ليست مقابل الولاء للوطن.
ولكن ألا يمكن أن تصدر توجهات عامة عن الولي الفقيه تتعارض مع الولاء للوطن؟
نعود إلى تفسير الولاء للوطن، فمحوره هو التمسك به، وهذا جزء من الإيمان بوجوب الدفاع عن الأرض وحمايتها. لكن إذا وسَّعنا التفسير، لنتحدث عما يمكن أن يسميه بعضهم "مصلحة الوطن"، سنكون أمام مجموعة من الأسئلة تتوجه إلى جميع القوى:
1- من يحدِّد مصلحة الوطن؟
2- وهل توجد مرجعية سياسية تحسم تحديد المصلحة والأولويات عند الاختلاف ؟
3- وما هي المقاييس الموحدة التي تحدِّد هذه المصلحة؟
الواضح أن تقدير المصلحة مرتبط بالمواقف السياسية من القضايا المطروحة، فهي المقياس لتحديد الإتجاه. وهنا تتباين القوى السياسية في تحديد مصلحة الوطن انسجاماً مع مواقفها، فمن يدعو إلى المقاومة ويعمل لها يعتبرها مصلحة للوطن ولأبنائه، ويطرح مبرراته للدفاع عن موقفه، ومن يرفض وجود المقاومة ويدعو إلى العمل الدبلوماسي يعتبر ذلك مصلحة للوطن ولأبنائه. بعضهم يدعو إلى علاقة مميزة مع دولة ما لنا مصالح مشتركة معها وننتفع منها ويرى ذلك مصلحة للوطن، وبعضٌ آخر يشدِّد على تقييد هذه العلاقة ويتطلَّع إلى دولٍ أخرى معتبراً مصلحة الوطن في الاحتماء بهذه الدول مقابل هذه الدولة. من منهما يحدد مصلحة الوطن؟ أو من يحسم هذا الاختلاف؟ وهل يمكن العودة إلى مقاييس محددة لحسم الموقف الذي يؤدي إلى مصلحة الوطن؟
فلنحصر الحديث عن مصلحة الوطن بشكل أضيَق ومحدَّد، فإنَّ مصلحة الوطن أن لا يُستخدم لمصلحة أو خدمة أوطان أخرى أو جهات خارجية. وهنا أيضاً تتباين القوى السياسية في مواقفها، وتنظِّر لها على أساس أنها مصلحة للوطن، رافضة أي اتهام لها بأنَّها تعمل لخدمة أوطان أخرى أو جهات خارجية، وتسوِّق موقفها على أنَّه المصلحة الأكيدة لوطنها.
اختلفت القوى بشكل حاد في لبنان بين موالاة ومعارضة، فرأت الموالاة أنَّ تدخُّل أمريكا في مفردات الوضع اللبناني، وعملها للهيمنة على القرار السياسي اللبناني، ونصرة فريق على آخر من الموقع الدولي، وصرف المال الخليجي دعماً لها، هو لمصلحة لبنان وليس لمصلحة المشروع الأمريكي الشرق أوسطي، أو لجعل لبنان تحت الوصاية الأمريكية. كما رأت المعارضة أنَّ دعم إيران وسوريا لحق لبنان في المقاومة، ووقوفهما إلى جانبه، ليس تدخلاً في الشأن اللبناني، بل لو قدَّمت دولٌ أخرى هذا النموذج من الدعم لقبلته، لأنَّ لبنان هو المستفيد الحقيقي من تحرير أرضه ومنع الوصاية عليه، وهذه هي مصلحة لبنان. من منهما يحدد مصلحة الوطن؟
بما أنَّ تقدير المصلحة مرتبطٌ بالمواقف السياسية من القضايا المطروحة، فسيبقى التباين قائماً في تقديرها بين القوى السياسية المختلفة ما دامت المواقف مختلفة.
نحن نؤمن بأنَّ ما يُصدره الولي الفقيه من توجيهات عامة ومن موقعه الديني الشرعي يشكل مصلحة أكيدة للمؤمنين في أوطانهم وقضاياهم، وبالتالي لا محلَّ للسؤال إن كان التوجيه يتعارض مع مصلحة الوطن! بل السؤال المطروح على الآخرين: ما هي الضمانات كي لا تؤدي رؤيتكم أو مواقفكم إلى التعارض مع مصلحة الوطن؟ وعندما يعبِّر الحزب عن مواقفه فهو يتصرف من منطلق رؤيته، وبناءً لتقديره للمصلحة، فإذا كان الأمر يتعارض مع توجهات ومواقف قوى أخرى فهو خلافٌ في تقدير المصلحة والموقف السياسي، وفي النهاية يعود الحكم للناس ليقبلوا أو يرفضوا أي موقف من المواقف.
المشترك بين الأوطان: يتجاوز الإيمان بالمبدأ أو المنهج الأوطان، إذ يشترك المؤمنون به بقناعاتهم ونظرتهم إلى الأمور بشكل متشابه، فترى في كثير من الأحيان موقفاً واحداً من القضايا ذات الاهتمام المشترك، يظهر في التعبير عنه نظرياً وعملياً. ولا تمنع الحدود الجغرافية للوطن من الاشتراك عبر الأوطان برؤية موحدة، فالمسألة مرتبطة بالفكر والقناعات، ومَنْ ذا الذي يقول إنَّ هذا الاشتراك ضد مصلحة الوطن؟ وبما أننا نختلف فكرياً في داخل الوطن الواحد، وتتغاير مواقفنا من بعض القضايا، فإنَّ المشكلة هي في التباين الحاد والتغاير الذي يؤدي إلى التناقض، وليست في الاشتراك الفكري مع الآخرين عبر الأوطان، فالأساس هو الموقف السياسي الذي يتخذه كل فريق، ومدى تأثير الاختلاف الداخلي على مسار الدولة وتنظيم علاقات الناس مع بعضهم.
لا يوجد أي تعارض بين اشتراك المختلفين في المنهج في أرضٍ واحدة ووطنٍ واحد يعيشون فيه كمواطنين، وبين الاشتراك والاتفاق بين مواطنين من بلدان مختلفة في حمل المنهج الواحد، والتماهي في الإيمان المشترك بينهم، ومناصرة بعضهم بعضاً في قضاياهم العادلة، بحسب ظروفهم الموضوعية، وذلك في كثير من الأحيان وبسبب الظروف المتشابهة، من وجودٍ للاستكبار العالمي يريد قهرنا والسيطرة على بلداننا ومقدراتها، ووجود أزمات مشتركة تتشابه فيها بلداننا، بحيث تتلاقى متطلبات وطننا مع متطلبات أمتنا، ويستفيد الوطن والأمة من المشتركات، ويتضرر الوطن والأمة من الأخطار والعدوان، كما في حالة إسرائيل التي لم تُبقِ وطناً في المنطقة إلاَّ وتضرَّر منها، فأوجدت لنا أزمة مفتوحة على الأمة الإسلامية، والأمة العربية، والأوطان المنتشرة حولها.
المصادر :
1- الأنبياء: 92.
2- المؤمنون: 52.
3- الريشهري، ميزان الحكمة، ج4، ص: 3566.
4- الحج: 39-40.
5- الريشهري، ميزان الحكمة، ج4، ص: 3568.
6- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص: 208.
7- النمازي الشهرودي، مستدرك سفينة البحار، ج10، ص: 375.
8- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص: 309.
9- نهج البلاغة، ص: 672.
10- الوثيقة السياسية لحزب الله، الفصل الثاني،لبنان، نُشرت في الصحف بتاريخ 1/12/2009.