أموال الخلفاء

لقد أصبحت صورة النبي (صلى الله عليه وآله)، والتي حفظتها ذاكرة المسلمين جيلا بعد جيل، هي صورة الرجل الفقير الجائع الذي تمرّ عليه الأيام والليالي يبيت ويصبح فيها طاوياً لا يجد طعاماً يأكله، بينما نجد في مقابله صورة أبي
Thursday, March 1, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
أموال الخلفاء
أموال الخلفاء

لقد أصبحت صورة النبي (صلى الله عليه وآله)، والتي حفظتها ذاكرة المسلمين جيلا بعد جيل، هي صورة الرجل الفقير الجائع الذي تمرّ عليه الأيام والليالي يبيت ويصبح فيها طاوياً لا يجد طعاماً يأكله، بينما نجد في مقابله صورة أبي بكر، التاجر الغني الذي ينفق بغير حساب، ومن جملة نفقته أيضاً ما كان يصيب النبي (صلى الله عليه وآله) من أموال أبي بكر، حتى ليبدو وكأن النبي والمسلمين جميعاً ما كانوا ينفقون إلاّ من أموال أبي بكر، وأن دعوة الاسلام لم تقم إلاّ بأموال أبي بكر، حتى لا يجد النبي بداً من الاعتراف بذلك من فوق المنبر وعلى رؤوس الأشهاد، ويعترف لأبي بكر بمنّته عليه في صحبته وماله! وقد رسّخ هذا التفكير في أذهان المسلمين جملة من الروايات التي أخرجها المحدّثون تظهر حال النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يشكو الجوع والحرمان بشكل دائم، منها ما جاء عن عائشة قالت: ما أكل آل محمد (صلى الله عليه وآله) أكلتين في يوم إلاّ إحداهما تمر(1).
وعنها أيضاً، قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً، إنما هو التمر والماء، إلاّ أن نؤتى باللُّحيم(2).
وعنها أيضاً أنها قالت لعروة ابن اختها: إن كنا لننظر الى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله (صلى الله عليه وآله) نار. فقلت: ما كان عيشكم؟ قالت: الاسودان، التمر والماء، إلاّ أنه قد كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أبياتهم فيسقيناه(3).
هذه هي صورة النبي التي حفظتها الأجيال، وعلى العكس منها صورة أبي بكر التاجر الموسر، إلاّ أننا عندما ننظر الى الأمر بعين التحقيق التي لا تحابي ولا تجامل أحداً، نجد عكس الصورة التي تعودنا عليها دون تحقيق.
إن الله سبحانه وتعالى قد تكفّل بتوفير العيش الكريم لنبيه منذ البداية، وكانت من بين أوائل السور التي اُنزلت. قوله تعالى مخاطباً نبيه: (وَوَجَدكَ عائلا فَأَغنى)(4)
إذ يسّر له الزواج من خديجة التي عاش في كنفها ربع قرن من الزمان، مصون الكرامة غير محتاج الى أموال أحد من الناس بما كفاه الله من أموال زوجه خديجة، وحتى بعد وفاتها لم يحتج النبي (صلى الله عليه وآله) الى أموال أبي بكر أو غيره، ويدلك على ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) عندما أراد الخروج من مكة مهاجراً الى المدينة برفقة أبي بكر، أبى أن يركب البعير الذي قدّمه له أبو بكر دون ثمن، فعن عائشةقالت (وساق الحديث الى قوله...) قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): "بالثمن..."(5).
وعن ابن إسحاق: فلما قرّب أبو بكر( الراحلتين الى رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم)، قدّم له أفضلهما ثم قال: اركب فداك أبي واُمي، فقال رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم): إني لا أركب بعيراً ليس لي. قال: فهي لك يا رسول الله بأبي أنت واُمي، قال: لا، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال: كذا وكذا. قال: قد أخذتها به...(6)
فالنبي (صلى الله عليه وآله) لم يرض بركوب جمل أبي بكر إلاّ بدفع ثمنه، ولو كان فقيراً محتاجاً إلى أبي بكر لما اشترط ذلك، فضلا عما في طبع النبي (صلى الله عليه وآله) من أنفة وعزّة نفس وترفّع عما في أيدي الآخرين مهما كانت منزلتهم.
وبعد الهجرة النبوية وبدء الغزوات والتعرض لأموال المشركين، فرض الله سبحانه وتعالى نصيباً معلوماً من الغنائم بقوله عزّ من قائل: (يَسأَلونكَ عَن الأَنفالِ قُل للهِ والرَّسولِ فاتَّقوا اللهَ وَأَصلِحوا ذاتَ بَينكم وَأَطيعُوا اللهَ وَرَسولهُ إنْ كُنتم مُؤمنينَ)(7)
فأعطاه حق التصرف في الأنفال، وفرض له نصيباً معلوماً من الخمس في قوله تعالى: (وَاعلموا أَنَّما غَنِمتُمْ مِنْ شَيء فإنَّ للهِ خُمُسَهُ وَللرَّسولِ وَلِذي القُربى وَاليتامى وَالمساكينَ وَابنَ السَّبيلِ إنْ كُنتُم آمَنتُم باللهِ وَما أَنزَلنا على عَبدِنا يَومَ الفُرقانِ يَومَ التقى الجمعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شي قَديرٌ)(8).
ثم زاد الله سبحانه وتعالى من أنعامه على نبيه الكريم فأفاء عليه أموال بني النضير في قوله تعالى: (وَما أَفاءَ اللهُ على رَسولهِ مِنْهُم فَما أَوجَفتُم عَليهِ من خَيل وَلا رِكاب وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شيء قَديرٌ)(9).
يقول ابن كثير في تفسير الآية:
كانت أموال بني النضير مما أفاء الله الى رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خالصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته.. وما بقي جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله عزّوجل(10).
فهذا يثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يدخر لأهله ما يقوتهم سنة كاملة، والفائض من المال كان يشتري به الخيل والسلاح للجهاد، أما أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يعاني من ضيق في العيش أحياناً، فمرده الى كرم النبي (صلى الله عليه وآله) وجوده، إذ ما جاءه سائل إلاّ أعطاه، فعن أبي سعيد الخدري(رضي الله عنه): إن اُناساً من الأنصار سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده فقال: "ما يكون عندي خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبّر يصبّره الله، وما اُعطيَ أحدٌ عطاءً خيراً أو أوسع من الصبر"(11).
فاذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يحث أصحابه على التعفف، أفلا يكون قدوة لهم في ذلك. هذا مع العلم أنه لم تصلنا سوى رواية عن عائشة تقول:
أرسل أبو بكر قائمة شاة ليلاً، فقطعتُ وأمسك عليَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو قطع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمسكتُ عليه.
فقيل لها: على غير مصباح؟ قالت عائشة(رضي الله عنه): لو كان عندنا مصباح لإئتدمنا به...(12)
وقد تبيّن ابن تيمية هذا الخلل الفاحش، فحاول تبرير الرواية بقوله:
إن إنفاق أبي بكر لم يكن نفقة على النبي في طعامه وكسوته، فان الله قد أغنى رسوله عن مال الخلق أجمعين، بل كان معونة له على إقامة الدين، فكان إنفاقه فيما يحبه الله ورسوله، لا نفقة على نفس الرسول(13).
لكن هذا لا ينقذ الموقف، لأن فحوى الحديث المزعوم لا تدل على هذا الاستنتاج، ومن جهة اُخرى فان الروايات التي جاءت عن إنفاق بعض الصحابة الآخرين، تفوق كثيراً ما ورد في إنفاق أبي بكر، كالروايات التي تذكر أن عثمان بن عفان قد جهّز جيش العسرة بعشرة آلاف دينار أو بكذا أوقية ذهب... الخ، وفيها من الفضائل لعثمان بن عفان ما ليس لأبي بكر عُشرها، فكان ينبغي للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يعتبر عثمان بن عفان أمنّ الناس عليه بدلا من أبي بكر.
وإذا جمعنا الرواية المزعومة تلك، الى الرواية الاُخرى التي احتج بها ابن العربي وهي قول النبي (صلى الله عليه وآله) -فيما تدعي الرواية- "إني بعثت إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت..."، لما وجدنا صعوبة في معرفة أن كل ذلك قد كان في حق زوج النبي (صلى الله عليه وآله) خديجة، وباعتراف ضرّتها عائشة التي قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا ذكر خديجة أثنى فأحسن الثناء، قالت: فغرتُ يوماً فقلت: ما أكثر ما تذكر حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيراً منها. قال: "ما أبدلني الله خيراً منها، قد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس"(14).
وفوق هذا وذاك، فان تلك الروايات التي تدعي ثراء أبي بكر لا تتفق مع الحقيقة، "فهو -أي الخليفة الأول- لم يشارك سابقاً في التحالف التجاري المعروف بـ (حلف المطيبين)، وهذا أول ما يعني أنه لم يكن من فريق الثروة العظمى في مكة الذي قاده الامويون مع بني نوفل...(15)
وبعد غزوة بني النضير، قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأموال على المهاجرين لأنهم كانوا فقراء، قال ابن سعد: "وكانت بنو النظير صفياً لرسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم)، خالصة له حبساً لنوائبه، ولم يخمسها ولم يسهم منها لأحد، وقد اعطى ناساً من أصحابه ووسّع في الناس منها، فكان ممّن ممّن اُعطي سمّي لنا من المهاجرين: أبو بكر الصدّيق (بئر حجر)، وعمر بن الخطاب (بئر جرم)...(16)
كما أن الشواهد الاُخرى لا تثبت لأبي بكر كرماً ولا إنفاقاً، فقد أخرج البخاري، أن أبا هريرة كان يقول: الله الذي لا إله إلاّ هو، إن كنتُ لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله،ما سألته إلاّ ليشبعني، فمرّ ولم يفعل! ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلاّ ليشبعني فمرّ فلم يفعل... الحديث(17)
فأبو بكر قد بخل على أبي هريرة بلقمة تسدّ رمقه، فأين كانت أمواله وأين كان إنفاقه على النبي والمسلمين حتى يعترف النبي (صلى الله عليه وآله) له بالمنة والفضل! ولا أدري أي منّة هذه لأبي بكر وهو يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وزوجه عائشة ابنة أبي بكر يتضوران جوعاً، فلا يرسل لهم طعاماً يشبعون منه إلاّ مرّة واحدة فقط.
فأبو بكر لم يرسل للنبي (صلى الله عليه وآله) غير قائمة شاة واحدة ولمرّة واحدة، وأين عمله هذا من عمل بعض الصحابة الآخرين، إذ ذكر مخرمة بن سليمان قال: وكانت جفنة سعد تدور على رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم)منذ يوم نزل المدينة في الهجرة إلى يوم توفي! وغير سعد بن عبادة من الأنصار يفعلون ذلك...!(18)
المصادر :
1- صحيح البخاري 8: 121 باب كيف كان عيش النبي وأصحابه.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- الضحى: 8.
5- صحيح البخاري 5: 75 باب هجرة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)وأصحابه الى المدينة.
6- السيرة النبوية لابن هشام 3: 131.
7- سورة الأنفال: 1.
8- سورة الأنفال: 41.
9- سورة الحشر: 6.
10- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4: 359.
11- صحيح البخاري 2: 151 باب الاستعفاف عن المسألة.
12- الطبقات الكبرى 1: 400.
13- منهاج السنّة النبوية 4: 289.
14- مجمع الزوائد 9: 224 وقال: رواه أحمد وإسناده حسن، مسند أحمد 6: 117، الاستيعاب ترجمة خديجة، البداية والنهاية 3: 128.
15- من دولة عمر...: 22.
16- الطبقات الكبرى 2: 58، مغازي الواقدي 1: 379، السيرة الحلبية 2: 268، تاريخ الخميس 1: 463، فتوح البلدان: 31، معجم البلدان 5: 290.
17- صحيح البخاري 8: 119 - 120 باب كيف كان عيش النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه وتخليهم عن الدنيا.
18- الطبقات 1: 400، الاصابة 2: 30، اُسد الغابة 2:
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.