تشكل الظروف المعاشة في لبنان مدخلاً أساسياً لطرح حزب الله بدائل سياسية جديدة. غير أن هذه الظروف ليست وحدها الحاكم على هذه الطروحات بقدر ما ترتبط بأساس رؤيته الفكرية المسنودة أساساً إلى حرية اللبنانيين في الاختيار.
الظروف الموضوعية تتمثل باتفاق الطائف الذي فتح أفقاً في الحياة السياسية لا سيما وأنه حمل في العديد من بنوده ما كان يتطلع إليه وإن لم يكن بالحجم المطلوب ويمكن إدراجه بما يلي:
- البند المتصل بالسعي نحو إلغاء الطائفية السياسية كمشروع يمكن أن يراعي بعض متطلبات العدالة وينزع الإحساس بالظلم وهو مشروع حواري يفتح أفق المشاركة لا سيما وأن الرسالة المفتوحة حملت بعض المفردات التي تشير بصراحة إلى دعوة اللبنانيين لاختيار شكل النظام وفق إرادتهم.
- زوال تماهي السلطة مع الحزبية المارونية التي جسدها حزب الكتائب بعد التنازل عن بعض الصلاحيات وإرساء توازنات جديدة يمكن أن تخفض إلى حد ما الشعور بالتهديد الداخلي. بعدها صارت القرارات تتخذ بمشاركة المكونات التي تشكل أنصبة السلطة على غرار القرارات المتصلة بالقوات المسلحة، وبإصدار المراسيم والتشريعات.
- اعتراف الدستور الجديد بالمقاومة وبأن إسرائيل عدو، بعدما كانت السلطة وبفعل التوازن المفقود قد سعت إلى التماهي مع العدو الإسرائيلي وتجسد هذه التماهي في مفاعيل اتفاق السابع عشر من أيار قبل إلغائه بفعل انتفاضة القوى الوطنية.
لقد شكلت هذه الحيثيات عاملاً إضافياً لإعتماد خطاب جديد لحزب الله دون أن يغادر منطلقاته، وهو أي الحزب، وإن وجد في صيغة الطائف ما يعيد إنتاج الطائفية السياسية، ولكنه في الوقت نفسه وجد أن باب العمل التدرجي من داخل النظام مفتوح للعبور نحو بناء الدولة وفق منطق العدالة والمشاركة.
العوامل الذاتية
إن المقاربة لحيثيات طرح شعار الجمهورية الإسلامية في منتصف الثمانينات ومن ثم طرح صيغ أخرى تصب بمجملها في إصلاح النظام السياسي تفصح عن أن طرح الجمهورية الإسلامية لم يكن ليعبر عن قصور في الرؤية السياسية بقدر ما كان يعبر عن واقع الالتزام الفكري بالإسلام أولاً ومن ثم مزاوجة هذا الطرح مع مبدأ الالتزام بمبدأ حرية الأفراد في اختيار نظام سياسي معين.فشعار الجمهورية الإسلامية كما ورد في الرسالة المفتوحة لم يكن شعاراً جامداً وإنما طرح كأحد البدائل للحل وكدعوة تقوم على اختيار اللبنانيين وإلا فنظام الحكم الذي يريدون.
وقد جاء في صريح العبارة في الرسالة المفتوحة تحت عنوان أهداف الحزب في لبنان ما يلي:
- يتاح لجميع أبناء شعبنا أن يقرروا مصيرهم ويختاروا بكامل حريتهم شكل نظام الحكم الذي يريدونه، علماً بأننا لا نخفي التزامنا بحكم الإسلام، وندعو الجميع إلى اختيار النظام الإسلامي الذي يكفل وحده العدل والكرامة للجميع(1).
وبهذا المعنى يتضح من العبارة أسبقية الدعوة إلى اختيار شكل الحكم الذي يريده اللبنانيون ومن ثم طرح النظام الإسلامي كبديل من بين البدائل. ويعني ذلك أن الطرح الإسلامي غير مسنود إلى القوة والإجبار والإكراه، بل على عكس ذلك فإن مضمون العبارة يحمل معنى إقرار حزب الله بشكل النظام شرط خضوعه لاختيار اللبنانيين بكامل حريتهم.
وبقدر ما يعبر التزم مبدأ الحرية كقيمة في خطاب حزب الله فهو يعبر أيضاً عن الإيمان بالتعددية وبالتنوع الموجود في المجتمع اللبناني وهذا التنوع هو تنوع إرادات بمعزل عن الالتزام الديني، وثانياً هو اعتراف بالتنوع الديني بحد ذاته. نجد دلالات هذا التنوع في العبارات التي وردت في الرسالة المفتوحة برسم المسيحيين، حيث فصلت العبارة بين رسالة السيد المسيح وأعمال الكتائبيين ومن خلال دعوتهم إلى الحوار الديني: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة... وهي دعوة مسبوعة بآية أخرى وردت في رسالة تقوم على قاعدة "لا إكراه في الدين" ومتنوعة بتفصيل التأكيد على الدعوة إلى الإسلام دون فرضه بالقوة(2).
ضرورة قيام الحكومة الإسلامية
استناداً الى ما تختزنه أطروحة ولاية الفقيه من آليات لتشكيل السلطة ولحدودها، وقد سبقت الاشارة اليها في الفصل الأول، لا بد من الوقوف على ما تقدمه هذه الاطروحة إزاء المجتمعات المتنوعة، فهل يجب إقامة الحكومة الاسلامية بمعزل عن الظروف والعومل المساعدة أم أن المؤمنيين بها هم مكلفون بحسب اقتدارهم وبحسب طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه؟يعتقد الإمام الخميني قدس سره أن الإسلام شريعة صالحة للتطبيق في كل عصر وزمان، ولا يجوز تعطيل أحكام هذه الشريعة في عصر الغيبة (غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف) ويجب على المسلمين السعي في سبيل تأسيس هذه الدولة وتأمين مقدماتها، حتى لو توقف ذلك على مقارعة الظالمين. ومن أبرز من يجب عليهم القيام بهذه المهمّة هم الفقهاء العدول، وعلى سائر الناس مساندتهم في هذا الأمر المهم وتأييدهم إياه(3).
في تبريرنا لمقصود الإمام قدس سره من هذا القول نرى أنه إعادة تأكيد صلاحية الإسلام لكل عصر وزمان وهذا ليس محل خلاف من حيث المبدأ بين فقهاء المسلمين ولكنه يأتي في مقابل بعض الأفكار التي سادت لدى بعض الفقهاء عبر ربطهم قيام الحكومة بوجود الإمام المهدي صاحب العصر والزمان وهي أفكار بررت القعود عن تشكيل الحكومة الإسلامية لقرون مديدة. كما يأتي في مقابل الدعوة التي راجت جراء التأثر بالغرب انطلاقاً من مقولة فصل الدين عن الدولة.
وإذ يشكل فهم الإمام هذا دعوة لتولي الفقهاء مسؤولياتهم بمواجهة الحكام الظالمين والمفسدين، وعودة ليتبوأ الإسلام موقعه ورسالته الحضارية بين الأمم، كذلك يركز على وجوب مساندة المسلمين لهم في هذا الأمر وهو بالطبع يقصد المسلمين دون غيرهم وبالتالي فليس ثمة إلزام للمسيحيين بالعمل على تشكيل الحكومة الإسلامية.
الولاية والتنوع
أما فيما يتصل بإشكالية العلاقة المعقّدة بين طرح حكومة الولي الفقيه وانطباقها على مجتمع متنوّع كلبنان، فقد كان أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله واضحاً في عبارته هذه "إن ولاية الفقيه تقول لنا إن لبنان بلد متنوّع متعدد يجب أن تحافظوا عليه".وهذا القول هو بمثابة الأحكام الإفتائية التي تُحمل على معنى الوجوب وليس الاستحباب، وهو بمثابة فتوى تقع ضمن الأحكام الولائية التي تأخذ متغيري الزمان والمكان بعين الاعتبار التي يقابلها الأحكام الأولية أو الثابتة التي لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة(4)
وهذه الفتوى تقع أيضاً ضمن الأحكام الثانوية المستندة إلى أبعاد اجتماعية وحكومية أكثر منها فردية وهي وسائل ناجعة يمكن أن يستعين بها الحاكم الإسلامي في حل أغلب مشاكل المجتمعات الإسلامية. وحتى لا يُظن أن الأحكام الثانوية تقع في الدرجة الثانية يقول الإمام: "ليس هناك من فارق بين دور الأحكام الثانوية بعد تشخيص الموضوع بواسطة العرف وبين دور الأحكام الأوليّة، وذلك لأن كلا الحكمين من أحكام الله"(5)
الحقوق الفردية عند الإمام
يقول الإمام الخميني قدس سره في صحيفة النور:لقد وضع الإسلام مجموعة من الضوابط والمقررات التي تحكم العلاقة بين الحاكم والدولة من جهة، والأمّة من جهة أخرى. وإذا تم الالتزام بهذه الضوابط والمقررات لا يمكن أن تكون جهة من الجهتين متسلّطة ومستبدّة على الجهة الأخرى، وإن لكل فرد من أفراد الأمّة الحق في مساءلة الحاكم وانتقاده، ويجب على الأخير أن يقدّم أجوبة مقنعة، وإذا لم يستطع الحاكم تبرير سلوكه وفق قواعد الشريعة فإنه يعزل من مقامه(6)
يستفاد من حديث الإمام تلك العلاقة التلازمية بين الحاكم أو الولي الفقيه وبين الأمّة، والأمّة هذه هي الأمة الإسلامية دون غيرها. وملاك الاستدلال في ذلك هو أن مساءلة الحاكم إنما تكون جرَّاء موافقة سلوكه أو عدمه لقواعد الشريعة، وبهذه الحال لا يمكن لغير المسلمين الذين لا يلتزمون إلا بشريعتهم ومعتقدهم مساءلة الحاكم وفق أصول مغايرة لمعتقدهم ومن هنا يقتضي القول إن حكومة الولي الفقيه مرتبطة بحيثية الوجود الاجتماعي لأفراد الأمّة الإسلامية.
علاقة الفقيه بالدستور
وإذ يؤكد الإمام الخميني قدس سره على ضرورة التزام الفقيه بالقانون حيث يقول: "إن الفقيه في الواقع ليس حاكماً بل هو مراقب ومشرف على حسن سير السلطة ومراقبة مدى التزامها بالقانون"(7). يعتبر أن على الفقيه نفسه أن يكون مقيداً بمراعاة القوانين. فالإمام يرى أن القانون يسري حتى على الفقهاء فهو يقول: "فالقانون مجعول ومشرع ليلتزم به جميع الناس الفقهاء وغير الفقهاء، الخاصة والعامّة، ولم تسنّ القوانين للعامة وحدهم".يستفاد من قول الإمام انطباق هذا الأمر على الجمهورية الإسلامية ما يعني أن التزام الفقيه القوانين ومراعاته لها إنما يكون ذلك في القوانين الناتجة عن رسم الجهات الحكومية لسياستها الداخلية والخارجية وعبر أجهزة الدولة التي لا بد لها من مراعاة القانون الدولي في علاقة الجمهورية الإسلامية بغيرها من الدول عبر الدبلوماسيات المعتمدة بحسب العرف والقانون الدولي.
إستنتاجات
يتبين لنا من خلال المقاربة لاشكالية العلاقة بين أطروحة ولاية الفقيه وأطروحة حزب الله حول الحكم جملة من الاستنتاجات يمكن ايرادها وفق الآتي:
في ولاية الفقيه:
- إن أطروحة ولاية الفقيه هي أطروحة في الحكم تستمد أصولها من مسوغات اعتقادية، وقوامها حاكمية الدين الإسلامي، وتشريعاته الاجتماعية والسياسية التي وردت في القرآن الكريم، وعالمية الدين، وخاتميته، ومن ثم الفهم الشيعي لاستمرارية تمامية التشريع من خلال الإمامة المعصومة ومرجعية التقليد للفقيه في زمن غيبة الإمام المهدي وهو الأمر الذي جعلها محل نقاش حول امكانية تعميمها في ظل سيادة رؤى مغايرة لمفهوم الدولة، والسيادة، والمواطنة الحاضنة للتنوع.
- إن هذا النقاش يبقى مشروعاً حين يخرج عن طبيعة الجدال والمساجلات السياسية إلى النقاش الفكري الهادئ، فحينذاك سوف نجد ومن خلال المقاربة البحثية للأطر النظرية لولاية الفقيه ولتجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن ثمة كثيراً مما يرد حولها سوف تضيق دائرته إذا ما تبين لنا استناد هذه الأطروحة إلى الكثير من المفاهيم التي تجعلها تتمتع بمرونة كافية تؤذن بالتعاطي معها بموضوعية.
- إن اقترانها بمبدأ حرية الأفراد في اختيار الحاكم الجامع للشرائط ومن ثم اقصائه عن الحكم بحال ارتكابه ما يخالف الشروط يعني استنادها على حرية الشعب واختيار وعدم فرضها بما يشبه الاجبار.
- إن تخصيصها المسلمين بضرورة الالتفات إلى مبدأ حاكمية الدين يعني أنها تخص المسلمين كونهم يتعين عليهم الرجوع إلى أولي الأمر.
- إن اقترانها بمبدأ مرجعية التقليد التي يتعين عليها النظر وابداء الرأي بالحوادث الواقعة والمستجدة يعني انفتاحها على التعاطي بشؤون العصر وفق مقتضياته الثقافية والاجتماعية.
- وبالتالي فإن عدم وجود أحكام جهادية ابتدائية يعني أنها أطروحة غير تكفيرية وأن للآخر المغاير دينياً وثقافياً خصوصية نابعة من فهم ضروراته وحيثياته الزمانية والمكانية، وهو ما تبين بوضوح أثناء مقاربة دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
في تجربة حزب الله
- تبين من خلال الوقوف على هذه التجربة أن منطلقات حزب الله مستمدة من طبيعة فهمه للإسلام ولأطروحة ولاية الفقيه وأن هذه المنطلقات حين ترجمتها في الواقع السياسي جاءت مراعية لهذا الواقع دون إدارة الظهر لهذه المنطلقات بل جعلته يتعاطى مع الواقع اللبناني دون اختزال أو إكراه.
- إن هوية حزب الله لا تتعارض مع نظرته للآخر حين رسم دوائر
للانتماء وللولاء بحسب تحديداتنا وتحليلنا للرسالة المفتوحة، وبالتالي فإن دوائر الانتماء بحسب الإيمان لدى عامة المسلمين هي غير متعارضة كذلك يفسح هذا الانتماء للآخر لأن يكون منضوياً على قاعدة الاستضعاف. أما الآخر العدائي فلا يتقوم بالإيمان أو عدمه وإنما بمعاداته للأمة وتسلطه على خيراتها وإرادة شعوبها.
- إن دعوة حزب الله لإقامة الدولة الإسلامية هي دعوة حوارية مفتوحة منسجمة مع طبيعة منطلقاته ومع طبيعة مختزنات أطروحة ولاية الفقيه التي تشرط حرية اختيار النظام المنشود.
- إن قبوله بنظام مغاير للنظام السياسي الإسلام ينطلق من طبيعة منطلقاته وخصوصية التقليد المنفتح على التعاطي مع قضايا الواقع ومع حيثياته الزمانية والمكانية، وهو ما تم تحديده في الأحكام الأولية والأحكام الثانوية.
المصادر :
1- الرسالة المفتوحة، مصدر سابق.
2- المصدر نفسه
3- مسعود بوفرد الديمقراطية الدينية، مرجع سابق، ص236.
4- دراسات في الفكر السياسي عند الإمام الخميني قدس سره، مجموعة من الباحثين، الغدير، بيروت 2002، ص174.
5- المصدر نفسه، ص224.
6- مسعود بوفرد الديمقراطية الدينية، مرجع سابق، ص46.
7- المرجع نفسه، ص232.