
ذكر أبو عبيد في كتاب الأموال أن أبا بكر قال قبيل وفاته: إني لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن، وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله:
وددت أني لم أكن كذا وكذا لخلة ذكرها لا أُريد ذكرها!(1).
ولكن المؤرخين ذكروا ذلك الشيء الذي فعله أبو بكر ثم ندم على فعله، حيث قال الطبري: قال أبو بكر: أجل، إني لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن، وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله (صلى الله عليه وآله). فأما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن، فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء، وإن كانوا قد غلّقوه على الحرب...الخ(2)
وذكره أيضاً مجموعة من المؤرخين والحفّاظ(3).
وخلاصة الحادثة كما يرويها المؤرخون والمحدّثون، أن عمر بن الخطاب أتى منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لاُحرقن عليكم أو لتخرجن الى البيعة! فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف، فعثر فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه(4).
وأخرج ابن أبي الحديد أيضاً عن الجوهري بسنده، قال: قال أبو بكر: يا عمر، أين خالد بن الوليد؟ قال: هو هذا، فقال: انطلقا إليهما -يعني علياً والزبير- فأْتياني بهما، فانطلقا، فدخل عمر ووقف خالد على الباب من خارج، فقال عمر للزبير: ما هذا السيف؟ قال: أعددته لاُبايع علياً. قال: وكان في البيت ناس كثير، منهم المقداد بن الأسود وجمهور الهاشميين، فاخترط عمر السيف فضرب به صخرة في البيت فكسره، ثم أخذ بيد الزبير، فأقامه ثم دفعه فأخرجه وقال: يا خالد، دونك هذا، فأمسكه خالد -وكان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس، أرسلهم أبو بكر ردءاً لهما- ثم دخل عمر فقال لعلي: قم فبايع. فتلكأ واحتبس، فأخذ بيده وقال: قم. فأبى أن يقوم. فحمله ودفعه كما دفع الزبير، ثم أمسكهما خالد، وساقهما عمر ومن معه سوقاً عنيفاً، واجتمع الناس ينظرون، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال، ورأت فاطمة ما صنع عمر، فصرخت وولولت، واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهن، فخرجت الى باب حجرتها ونادت: يا أبا بكر، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله! والله لا اُكلم عمر حتّى ألقى الله.
قال: فلما بايع علي والزبير، وهدأت الفورة، مشى إليها أبو بكر بعد ذلك، فشفع لعمر، وطلب إليها فلم ترض عنه(5).
وفي رواية ابن قتيبة، أن عمر جاء فناداهم وهم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لاُحرقنها على من فيها! فقيل له: يا أبا حفص، إن فيها فاطمة! فقال: وإن(6).
وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله، كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله، فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب، خرج حتى دخل على فاطمة فقال: يا بنت رسول الله، والله ما أحد أحب إلينا من أبيك، وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك، وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن أمرتهم أن يحرّق عليهم البيت(7).
وأخرج ابن عبد البر هذه الرواية بنفس السند، ولكنه ذكر أن عمر قال: ولأن يبلغني لأفعلن ولافعلن!(8).
وفي رواية البلاذري: فجاء عمر ومعه فتيله، فتلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يابن الخطاب، أتراك محرقاً عليّ بابي! قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك(9).
وفي رواية ابن عبد ربه: فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة فقالت: يابن الخطاب، أجئت لتحرق دارنا! قال: نعم، أو تدخلوا في ما دخلت فيه الاُمة(10).
وفي تاريخ أبي الفداء: فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار(11).
موقف فاطمة
لم يكن الهجوم على بيت فاطمة في بداية خلافة أبي بكر هو الحادث الوحيد الذي تعرضت له فاطمة، فقد كانت قضية ميراث فاطمة فدكاً ورفض إعطاء أبي بكر إياها هي المواجهة الثانية بينها وبين الخليفة الأوّل، تلك القضية -إضافة لسابقتها- تركت آثاراً جسيمة على العلاقة بين أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) وبينه، وأدت الى إثارة غضب فاطمة على كل من أبي بكر وعمر، والامتناع عن كلامهما، والوصاية بدفنها سراً دون استئذان منهما!وقصة المهاجرة بين فاطمة وأبي بكر، كما أخرجها المحدّثون والمؤرّخون - واللفظ فيها للبخاري- عن عائشة: أن فاطمة (عليها السلام) بنت النبي (صلى الله عليه وآله) أرسلت الى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مِمّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، إنما يأكل آل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذا المال، وإني والله لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأبى أبو بكر أن يدفع الى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفّيت، وعاشت بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ستة أشهر، فلما توفّيت دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفّيت، استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل الى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك، كراهية لمحضر عمر... الخ(12)
وملخص قضية فدك، أنه لما نزلت الآية (وَآتِ ذا القُربى حَقَّهُ)(13) دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة فأعطاها فدكاً(14).
ولكن رواية البخاري وغيره تدل على أن أبا بكر قد منع فاطمة من فدك، قال ابن حجر الهيتمي المكي: إن أبا بكر انتزع من فاطمة فدكاً(15).
وكان ذلك السبب على ما يبدو في مقاطعة فاطمة لأبي بكر. إلاّ أن البعض قد أطالوا الكلام في ذلك والتمسوا تبرير عمل أبي بكر مستشهدين ببعض النصوص، منها ما ذكره ابن كثير الدمشقي في القضية، فبعد أن أورد عدداً من الروايات التي تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قال بعدم وراثة أحد له، قال ابن كثير: وأما تغضب فاطمة رضي الله عنها وأرضاها على أبي بكر(رضي الله عنه) وأرضاه، فما أدري ما وجهه، فان كان لمنعه إياها ما سألته من الميراث، فقد اعتذر إليها بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، وهي ممن تنقاد لنص الشارع الذي خفي عليها قبل سؤالها الميراث، كما خفي على أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) حين أخبرتهن عائشة بذلك! ووافقنها عليه، وليس يظن بفاطمة رضي الله عنها أنها اتهمت الصدّيق(رضي الله عنه) فيما أخبرها به، حاشاه وحاشاه من ذلك، كيف وقد وافقه على رواية هذا الحديث عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبدالمطلب، وعبدالرحمان بن عوف، وطلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين كما سنبينه قريباً، ولو تفرد بروايته الصدّيق(رضي الله عنه)، لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته والانقياد له في ذلك، وإن كان غضبها لأجل ما سألت الصدّيق إذ كانت هذه الأراضي صدقة لا ميراثاً أن يكون زوجها ينظر فيها، فقد اعتذر بما حاصله: أنه لما كان خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهو يرى فرضاً عليه أن يعمل بما كان يعمله رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويلي ما كان يليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولهذا قال: وإني والله لا أدع أمراً كان يصنعه فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ صنعته، قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت، وهذا الهجران والحالة هذه، فتح على فرقة الرافضة شراً عريضاً وجهلا طويلا، وأدخلوا أنفسهم بسببه فيما لا يعنيهم، ولو تفهموا الاُمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة، وفرقة مرذولة، يتمسكون بالمتشابه، ويتركون الاُمور المحكمة المقدرة عند أئمة الاسلام...
وقضية حديث "لا نورث" مرتبطة بحديث آخر كنّا قد أجّلنا الكلام عنه في وقته وبيان دلالته، وذلك عند الكلام عن الأحاديث التي وضعت أو التي زيد في ألفاظها واختلاق قصص لها في ذم علي بن أبي طالب، وذكرنا يومها قصة خطبة علي بن أبي طالب لبنت أبي جهل، وقول النبي (صلى الله عليه وآله): "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني"، وقد جاء هذا الحديث بألفاظ مختلفة، وخرّجها المحدّثون بألفاظ منها: "فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها، ويغضبني ما أغضبها"، و "فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها ويبسطني ما يبسطها"، و "فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها". وفي لفظ "يسعفني ما يسعفها"، أو "فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها" و "فاطمة مضغة مني فمن آذاها فقد آذاني" أو "يسرني ما يسرها".
وكذلك قول النبي (صلى الله عليه وآله): "إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها"، وقوله لفاطمة: "إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك"(16).
فغضب فاطمة كان موجهاً الى أبي بكر وعمر، بعد حادثتي كشف بيتها وحرمانها من فدك، فكان الأمر يتطلب أولا وضع حديث ينسب غضب فاطمة الى علي بن أبي طالب أولا لصرف الأذهان عن قضية غضبها على أبي بكر، ومن ثم افتعال حديث آخر يبرر تصرف أبي بكر ويكسبه الشرعية اللازمة، فكان حديث "لا نورث" هو الذي يفي بالغرض، ولعل القارئ يستغرب مني القول بوضع هذا الحديث المشهور، إلاّ أنني في الحقيقة لست أوّل قائل بذلك، فان الحافظ إبن خراش، كما ينقل عنه الحافظ إبن عدي، قال: سمعت عبدان يقول: قلت لابن خراش: حديث ما تركنا صدقة؟ قال: باطل، اتهم مالك بن أوس بالكذب(17).
ولهذا السبب تحامل الذهبي على إبن خراش وقال: جهلة الرافضة لم يدروا الحديث ولا السيرة ولا كيف ثم، فأما أنت أيها الحافظ البارع الذي شربت بولك إن صدقت في الترحال، فما عذرك عند الله؟ مع خبرتك بالاُمور، فأنت زنديق معاند للحق، فلا رضي الله عنك..!(18)
ولا أدري ما سبب هذه الثورة على إبن خراش لردّه هذا الحديث، فان الواقع يؤيد ذلك، وقد اعترف بذلك الفخر الرازي، فقال: إن المحتاج الى معرفة هذه المسألة ما كان إلاّ فاطمة وعلي والعباس، وهؤلاء كانوا من أكابر الزهّاد والعلماء وأهل الدين، وأما أبا بكر فانه ما كان محتاجاً الى معرفة هذه المسألة، لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يورّث من الرسول، فكيف يليق بالرسول أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة له إليها، ولا يبلغها الى من له الى معرفتها أشد الحاجة!!(19).
المصادر :
1- كتاب الأموال: 131.
2- تاريخ الطبري 3: 430 ذكر استخلافه عمر(رض) حوادث سنة 13 هـ.
3- تاريخ اليعقوبي 2: 115، الإمامة والسياسة 1: 36 وفيه: وليتني تركت بيت علي وإن كان اعلن علي الحرب، العقد الفريد 3: 69 استخلاف أبي بكر لعمر، شرح نهج البلاغة 2: 46 عن الكامل للمبرد، تاريخ الإسلام للذهبي: عهد الخلفاء الراشدين، صفحة 117 ترجمة أبو بكر الصدّيق، الكامل للمبرد 1: 5، المعجم للطبراني 1: 62 رقم 43، لسان الميزان 1: 388، كنز العمال 3: 135، منتخب كنز العمال 2: 171.
4- تاريخ الطبري 3: 202 حوادث سنة 11 هـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد عن الجوهري 6: 48.
5- شرح نهج البلاغة 6: 48، وقد ثبت فيما سبق أن علياً لم يبايع طيلة مدة حياة فاطمة!
6- الإمامة والسياسة 1: 30.
7- المصنّف 7: 432.
8- الاستيعاب في معرفة الاصحاب 3: 975.
9- أنساب الأشراف 1: 586.
10- العقد الفريد 5: 13.
11- المختصر في أخبار البشر 1: 156.
12- صحيح البخاري 5: 178 كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، صحيح مسلم 3: 138 كتاب الجهاد والسير، وباب قول رسول الله "نحن لا نورث، ما تركنا صدقة"، مسند أحمد 1: 9، السنن الكبرى للبيهقي 6: 300، صحيح ابن حبان 11: 153، 14: 573، مسند الشاميين للطبراني 4: 198، سير أعلام النبلاء 2: 121، تاريخ الطبري 3: 207، الكامل لابن الاثير حوادث سنة 11، البداية والنهاية 5: 201، مجمع الزوائد 9: 211، العقد الفريد 3: 64، ومروج الذهب 2: 414، الصواعق المحرقة 1: 12، تاريخ الخميس 1: 193، الاستيعاب 2: 244، اُسد الغابة 3: 222 وغيرها من المصادر. 2- الاسراء: 26.
13- الدر المنثور للسيوطي 4: 177 عن البزّار وأبي يعلى وابن أبي حاتم وإبن مردويه بالاسناد الى أبي سعيد الخدري.
14- البداية والنهاية 5: 307 ـ 308.
15- صحيح البخاري 5: 26 باب مناقب قرابة رسول الله(ص) ومنقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي(ص)، 5: 36 باب مناقب فاطمة عليها السلام، صحيح مسلم 5: 53 ح 93، 94 كتاب فضائل الصحابة، سنن أبي داود 2: 226 ح 2071، سنن إبن ماجة 1: 643 ح 1998، سنن الترمذي 5: 655 ح 3867 مشكاة المصابيح 3: 369 ح 6139، مصابيح السنة 4: 185 ح 4799، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 1: 156، مختصر تاريخ دمشق 2: 269، صفة الصفوة 2: 13، اسد الغابة 7: 222 رقم 7175، تذكرة الخواص: 310، المواهب اللدنية للقسطلاني 2: 65، تاريخ الخميس 1: 412، الصواعق المحرقة: 188، كنوز الدقائق 2: 24، أعلام النساء لعمر رضا كحالة 4: 112.
16- المستدرك 3: 154 وصححه، المعجم الكبير للطبراني 1: 108 ح 182، تذكرة الخواص: 310، ميزان الاعتدال: ج 535، تهذيب التهذيب 12: 469، كنز العمال 13: 674 ح 37725 كنوز الدقائق 1: 75، الإصابة 4: 378 رقم 830، الصواعق المحرقة: 175، شرح المواهب للزرقاني 3: 202، مجمع الزوائد 9: 203 وقال أخرجه الطبراني واسناده حسن.
17- الكامل في الضعفاء 5: 518.
18- تذكرة الحفاظ 2: 684، ميزان الاعتدال 2: 600، سير اعلام النبلاء 13: 508.
19- التفسير الكبير 9: 210.