إنّ الإنسان ما دام حيّاً في هذه الدنيا تتوفّر لديه فرصة الارتقاء في مدارج الكمال، فإن كان مبتلى بعيوب فعليه أن يتخلّص منها ويُصلح نفسه، وإن كان موفّقاً بالتحلّي بصفات نفس جيّدة وأعمال جوارح حسنة، فعليه أن يسعى نحو الأحسن، فالإصلاح وتهذيب النفس لا يأتيان صدفة، وإنّما هما نتيجة سعي الإنسان ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾1، فما هو البرنامج الّذي يساعده على ذلك؟
إنّ البرنامج قد وضعه لنا الله تبارك وتعالى وأرسله مع الأنبياء عليهم السلام وأنزله في كتابه العزيز: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾2 فالبرنامج متوفّر ومعروف، ولكنّ السؤال الحقيقيّ: كيف يُمكن أن نلزم أنفسنا بهذا البرنامج؟ يمكن ذلك من خلال محاسبة النفس ومساءلتها، كما في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من تعاهد نفسه بالمحاسبة أمن فيها المداهنة"3.
وذلك باتِّباع الخطوات الآتية:
أوّلاً: يشارط نفسه على ما تفعله وتتركه.
ثانياً: يراقبها دائما وأبداً وفي جميع الحالات ليمنعها من أيّ انحراف محتمل.
ثالثاً: يحاسبها ليرى مدى التزامها بما اشترطه عليها.
رابعاً: يعاتبها لو تبيّن له عدم التزامها بما اشترطه عليها.
خامساً: له أن يعاقبها بعد إدانتها، فيمنعها من تحقيق شهواتها سيّما في موارد تقصيرها.
هذه الخطوات الخمس هي البرنامج اليوميّ الّذي يجب أن يلتزم به الإنسان.
هذا على نحو الإجمال وسنتحدّث عن هذه المراحل بشيء من التفصيل.
المشارطة
فالمشارطة هي أن يشارط الإنسان نفسه في أوّل يومه على أن لا يرتكب فيه أيّ عمل يخالف أوامر الله، ويتّخذ قراراً بذلك ويعزم عليه، وأمّا العزم فيكون عند كلّ شخص بحسبه، فمن كان تاركاً لبعض الواجبات فعليه أن يعزم على أن لا يترك واجباً، ومن كان فاعلا للمحرّمات - والعياذ بالله - فعليه أن يعزم على تركها، وأمّا من كان قد ترفّع عن هذين الأمرين بحيث كان يفعل الواجب ويترك المحرّم فعليه أن يعزم على الثبات، وواضح أنّ ترك ما يُخالف أوامر الله تعالى ليوم واحد أمر يسير للغاية، ويمكن للإنسان بكلّ سهولة أن يلتزم به، وإن اختلفت درجات يسره من شخص لآخر إلّا أنّه في النهاية أمر يسير، فاعزم وشارط نفسك وجرّب، وانظر كيف أنّ الأمر سهل يسير، فإنّ الله تعالى إذا رأى من العبد سعياً للتقرّب إليه أخذ بيده ويسّر له أمره ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾4، ومن الممكن أن يصوّر لك إبليس اللعين وجنده أنّ الأمر صعب وعسير. فاعلم أنّ هذه هي من تلبيسات هذا اللعين، فالعنه قلباً وعملاً، وأخرج الأوهام الباطلة من قلبك، وجرّب ليوم واحد، فعند ذلك ستصدّق هذا الأمر.
وينبغي الالتفات هنا أن لا يثقل الإنسان على نفسه، كما ورد في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ الله عزَّ وجلَّ وضع الإيمان على سبعة أسهم, على البرّ والصدق واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم، ثمّ قسم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل، محتمِل، وقسّم لبعض الناس السهم ولبعض السهمين ولبعض الثلاثة حتّى انتهوا إلى سبعة، ثمّ قال: لا تحملوا على صاحب السهم سهمين ولا على صاحب السهمين ثلاثة فتبهضوهم5..."6.
المراقبة
وبعد هذه المشارطة عليك أن تنتقل إلى "المراقبة"، وهي أن تنتبه طوال اليوم إلى عملك، وإذا حصل لا سمح الله حديث لنفسك بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله - وهذا أمر ممكن الحصول, لأنّ الشيطان وجنده لن يدعوك تهزمهم بهذه السهولة، فهم يريدونك أن تتراجع عمّا اشترطته على نفسك - فالعنهم واستعذ بالله من شرّهم، وأخرج تلك الوساوس الباطلة من قلبك، وقل للشيطان: "إنّي اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم، وهو يوم واحد، بأيّ عمل يخالف أمر الله تعالى، وهو وليّ نعمتي طول عمري، فقد أنعم وتلطّف عليَّ بالصحّة والسلامة والأمن وألطاف أخرى، ولو أنّي بقيت في خدمته إلى الأبد لما أدّيت حقِّ واحدة منها، وعليه فليس من اللائق أن لا أفي بشرط بسيط كهذا"، والمراقبة لا تتعارض مع أيّ من أعمالك كالكسب والسفر والدراسة، فكن على هذه الحال إلى الليل ريثما يحين وقت المحاسبة7.
المحاسبة
وأمّا "المحاسبة" فهي أن تحاسب نفسك لترى: هل أدّيت ما اشترطت على نفسك مع الله، ولم تخن وليّ نعمتك في هذه المعاملة الصغيرة؟ وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا ووازنوها قبل أن توازَنوا، حاسبوا أنفسكم بأعمالها وطالبوها بأداء المفروض عليها والأخذ من فنائها لبقائها"8وعنه عليه السلام: "ما أحقّ الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله شاغل، يحاسب فيها نفسه فينظر فيما اكتسب له وعليها، في ليلها ونهارها"9، وإذا كنت قد وفيت حقّاً فاشكر الله على هذا التوفيق، وإن شاء الله ييسّر لك سبحانه التقدّم في أمور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه, لأنّ النفس مطواعة لعقل الإنسان كالشمع في يديه لا كالحديد إذ من الصعب أن يُلوى، فعلى الإنسان أن يطوّع نفسه على الأمور الحسنة ولو كانت للشر أميل منها للخير، فالإنسان نفسه هو الّذي أوصلها إلى هذه الحالة، كما أنّ النفس في صغر العمر أسهل إصلاحاً من الكبر، ولذا اشتهر القول "العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، فعلى الإنسان المهتمّ بإصلاح النفس أن يجهد في شبابه لاقتلاع الملكات الرديئة الّتي يصعب قلعها في الكبر، وهذا ما حثّت عليه الروايات، منها قول الرسول الأكرم صلى الله عليه واله لأبي ذرّ الغفاريّ رضوان الله تعالى عليه: "يا أبا ذرّ، اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك..."10.
وعلى كلّ حال فإن كنت مهتمّاً بإصلاح نفسك، فواظب على هذا العمل فترة، والمأمول أن يتحوّل إلى مَلَكَة فيك بحيث يصبح يسيراً للغاية، وستشعر عندها باللذّة والأنس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه.
وإذا حدث - لا سمح الله - في أثناء المحاسبة تهاون وفتور تجاه ما اشترطت على نفسك، فاستغفر الله واطلب العفو منه، واعزم على الوفاء بكلّ شجاعة بالمشارطة غداً، وكن على هذا الحال كي يفتح الله تعالى أمامك أبواب التوفيق والسعادة، ويوصلك إلى الصراط المستقيم للإنسانيّة.
المعاتبة والمعاقبة
بعد أن يشترط الإنسان على نفسه ويراقبها ويحاسبها فإن تبيّن له أنّها ارتكبت ما يخالف الشرط الّذي اشترطه عليها، فلا بدّ له من أن يعاتبها ثمّ يعاقبها من أجل أن تتمّ صفقته ويجني ثمارها، وإلّا فإنّه يجد نفسه قد أهدر عمره وقد خسر رأس ماله في صفقة خاسرة لم يتدارك الخسارة فيها من أوّلها، وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "حقّ على كلّ مسلم يعرفنا أن يعرف عمله في كلّ يوم وليلة على نفسه، فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها وإن رأى سيّئة استغفر منها، لئلّا يُخزى يوم القيامة11يقول الفيض الكاشاني: والعجب أنّك تعاقب عبدك وأمتك وأهلك وولدك على ما يصدر عنهم من سوء خلق وتقصير في أمر، وتخاف أنّك لو تجاوزت عنهم خرج أمرهم من يدك وبغوا عليك، ثمّ تهمل نفسك وهي أعظم عداوة لك وضراوة، وأشدّ طغياناً عليك، وضررك من طغيانها أعظم من طغيان أهلك، فإنّ غرضهم أن يشوّشوا عليك معيشة الدنيا، ولو عقلت لعلمت أنّ العيش عيش الآخرة، وأنّ نعيم الجنّة هو النعيم المقيم الّذي لا آخر له، ونفسك هي الّتي تنغّص عليك عيش الآخرة فهي أولى بالمعاقبة من غيرها12.العقوبة على قدر المخالفة
كان علماؤنا العظام، قدّس الله تعالى أسرارهم، يشارطون ويعاهدون الله تعالى على فعل ما أو ترك أمر ما وينذرون الصيام لأوقات محدّدة لو خالفوا ما شرطوه على أنفسهم، وبذلك يكون مثل هذا النذر مانعاً لهم عن مخالفة الشرط لأنّ ثقل العقاب يشكّل رادعاً عن ارتكاب الجريمة.
ومن المناسب أن يلتفت الإنسان إلى أنّ العقوبة يحسن أن تكون من صنف الخيانة الّتي قام بها الإنسان لشرطه، فلو كانت الخيانة مرتبطة بالطعام والشراب فليكن العقاب بالمنع عنهما كالصوم، ولو كانت من صنف شهوة النساء فيكون العقاب للنفس بمنعها عن هذه الشهوة لمدّة يحصل بها الغرض من العقاب، ولو كانت بسبب كثرة الكلام، فليعاقب نفسه بالصمت لفترة، وهكذا.
العقاب ضمن الموازين الشرعيّة
إنّ إيجابيّة أن يعاقب الإنسان نفسه لا تعني أن يعاقبها بأيّ عقاب، كما قد يفعل بعض الناس كأن يعذّبوا أنفسهم بشكل مؤذٍ وخطير، وإنّ الإنسان المؤمن بالله واليوم الآخر عليه أن يلتفت إلى حدود الشريعة في هذا المورد كما في سائر الموارد وكما هو معروف "لا يطاع الله من حيث يُعصى"، ولعلّ الصوم من أفضل الأمور الّتي يُستعان بها على النفس لقوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾13والمقصود من الصبر الصيام، كما تؤكّد الرواية عن الإمام الصادق14.
خلاصة
على الإنسان المكلّف أن يحاسب نفسه في كلّ يوم، فيبدأ بالمشارطة فيشارط نفسه في أوّل يومه على أن لا يرتكب فيه أيّ عمل يخالف أوامر الله، ويتّخذ قراراً بذلك ويعزم عليه.
- إذا حصل - لا سمح الله - حديث للنفس بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله، فاعلم بأنّه وسوسة الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء، فخالفهما واستعذ بالله من شرّهما.
- حاسب نفسك آخر اليوم لترى: هل أدّيت ما اشترطت على نفسك مع الله، ولم تخن وليّ نعمتك في هذه المعاملة الصغيرة؟ فإذا كنت قد وفيت حقّاً فاشكر الله على هذا التوفيق، وإن شاء الله ييسّر لك - سبحانه - التقدّم في أمور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه.
- بعد أن يشترط الإنسان على نفسه ويراقبها ويحاسبها فإن تبيّن له أنّها ارتكبت ما يخالف الشرط الّذي اشترطه عليها، فلا بدّ من أن يعاتبها ثمّ يعاقبها من أجل أن تتمّ صفقته ويجني ثمارها، وإلّا فإنّه سيجد نفسه قد أهدر عمره وقد خسر رأس ماله في صفقة خاسرة، لم يتدارك الخسارة فيها من أوّلها.
- إنّ إيجابيّة أن يعاقب الإنسان نفسه لا تعني أن يعاقبها بأيّ عقاب، كأن يعذّب نفسه بشكل مؤذ وخطير، فإنّ الإنسان المؤمن بالله واليوم الآخر عليه أن يلتفت إلى حدود الشريعة في هذا المورد، وكما هو معروف "لا يطاع الله من حيث يُعصى".
من عبادة الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام 15
قال طاووس الفقيه: رأَيت الإمام زين العبدين عليه السلام يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبّد، فلمّا لم ير أحداً رمق السماء بطرفه، وقال: إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدِّي محمّد صلى الله عليه واله في عرصات القيامة، ثمَّ بكى وقال: وعزَّتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٌّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عنّي؟
فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمخفّين جُوزوا، وللمثقلين حطّوا، أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أحطّ؟ ويلي! كلّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربّي؟! ثمّ بكى وأنشأ يقول:
أتحرقني بالنار يا غاية المنى / فأين رجائي ثمّ أين محبّتي؟
أتيت بأعمال قباح رديّة / وما في الورى خلقٌ جنى كجنايتي
ثمَّ بكى وقال: سبحانك تُعصى كأنّك لا تُرى وتحلم كأنّك لم تُعص تتودّد إلى خلقك بحسن الصنيع كأنّ بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيّدي الغنيُّ عنهم. ثمَّ خرَّ إلى الأَرض ساجداً. قال: فدنوت منه ورفعت رأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتّى جرت دموعي على خدِّه، فاستوى جالساً وقال: من الّذي شغلني عن ذكر ربّي؟ فقلت: أنا طاوس يا بن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن عليّ وأُمّك فاطمة الزهراء، وجدُّك رسول الله صلى الله عليه واله ؟! قال: فالتفت إليَّ وقال: هيهات هيهات يا طاووس، دع عنّي حديث أبي وأُمّي وجدِّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً، أما سمعت قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ﴾16والله لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة تقدِّمها من عمل صالح. المصادر :
1- النجم:39.
2- الإنسان:3.
3- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج12، ص153.
4- الليل:7.
5-تبهضوهم: أي تثقلوا عليهم وتوقعوهم في الشدّة.
6- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص42.
7- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني قدس سره، الحديث الأوّل بتلخيص وتصرّف.
8- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج12، ص 153.
9- م. ن، ج12، ص 154.
10- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص114.
11- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج12، ص 153.
12- المحجّة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج8، ص 169.
13- البقرة: 45.
14- الكافي، الكليني، ج4، ص63.
15- الصحيفة السجّادية أبطحي ، ص176.
16- المؤمنون:101.