
إن تتابع مخالفة الصحابة للنبي (صلى الله عليه وآله) يدل على أنهم لم يكونوا يرون أوامره ونواهيه ملزمة إلى درجة التعبّد بها، وكانوا يجدون مسوغاً لمخالفته في كل حين، حتى في مقام الروع وساعات الخطر، فهاهم الرماة الذين أمرهم النبي (صلى الله عليه وآله) بعدم مغادرة مواقعهم على جبل اُحد مهما كلّف الأمر، سرعان ما يضربون بهذا الأمر عرض الحائط ويتركون مواقعهم لتدور الدائرة على المسلمين، وخالفه بعضهم في الخروج إلى تبوك، وإذا كان الخوف أو الخطأ في التقدير عذراً في تلك المخالفات، فإن هناك اُموراً تتعلق بمناسك الشريعة كانت أيضاً مدعاة للعصيان والمخالفة، فعن البرّاء بن عازب، قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة قال: "اجعلوا حجكم عمرة"، فقال الناس: يا رسول الله، قد اُحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة! قال: "انظروا ما آمركم به فافعلوا"، فرددوا عليه القول، فغضب فانطلق ثم دخل على عائشة غضبان، فرأت الغضب في وجهه فقالت: من أغضبك أغضبه الله. قال: "ومالي لا أغضب وأنا آمر أمراً فلا اُتّبع".
وفي رواية: قالت عائشة: من أغضبك يا رسول الله، أدخله الله النار، فقال: "أوما شعرت إني أمرت الناس بأمر فاذا هم يترددون"(1).
أما عظماء الصحابة القرشيون، فكانوا من أكثر الناس مخالفة للنبي (صلى الله عليه وآله)، فعن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيّران أن يهلكا; أبا بكر وعمر!! رفعا أصواتهما عند النبي (صلى الله عليه وآله) حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر... فقال أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلاّ خلافي! قال: ما أردتُ خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله: (يا أيُّها الذينَ آمنوا لا تَرفعُوا أَصواتَكُمْ...) الآية. قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد هذه الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر!(2).
وقد كان لهذين الصحابيين الكبيرين دور في تثبيط عزيمة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل معركة بدر، فقد روى الواقدي، قال: وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصام يوماً أو يومين، ثم رجع ونادى مناديه: يا معشر العصاة، إني مفطرٌ فأفطروا! وذلك أنه قد كان قال لهم قبل ذل "أفطروا"، فلم يفعلوا! ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى إذا كان دُوَين بدر، أتاه الخبر بمسير قريش، فأخبرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمسيرهم، واستشار رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس، فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قال: يا رسول الله، إنها والله قريش وعزّها، والله ما ذلّت منذ عزّت، والله ما آمنت منذ كفرت، والله لا تسلم عزّها أبداً، ولتقاتلنّك، فاتّهب لذلك اُهبته وأعدّ لذلك عدّته(3).
ولكن الطبري وابن هشام في سيرته لم يذكرا مقالة عمر المثبطة، واكتفيا بالقول: فقال وأحسن(4).
ولكن ما جاء في صحيح مسلم، يثبت أن مقالة عمر لم تترك أثراً حسناً في نفس النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنه قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلّم عمر فأعرض عنه...(5)
فلو كان أبو بكر وعمر قد أحسنا لما أعرض عنهما النبي!
ويشبه هذا الموقف من الشيخين، موقفاً آخر لهما، فعن علي قال: جاء النبي (صلى الله عليه وآله) اُناس من قريش فقالوا: يا محمد، إنّا جيرانك وحلفاؤك، وإن اُناساً من عبيدنا قد أتوك ليس بهم رغبة في الدين ولا رغبة في الفقه، وإنما فرّوا من ضياعنا وأموالنا فارددهم إلينا. فقال لأبي بكر: "ما تقول"؟ قال: صدقوا، إنهم لجيرانك وأحلافك! فتغيّر وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم قال لعمر: "ما تقول"؟ قال: صدقوا، إنهم لجيرانك وحلفاؤك! فتغيّر وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: "يا معشر قريش، والله ليبعثن الله عليكم رجلا قد امتحن الله قلبه بالإيمان، فيضربكم على الدين، أو يضرب بعضكم"، فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله؟ قال: "لا". قال عمر: أنا يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكنه الذي يخصف النعل"! وكان قد أعطى علياً نعلا يخصفها(6).
هذا، إضافة الى موقف عمر بن الخطاب في صلح الحديبية وفي غيرها ومواقف غيره من الصحابة في كثير من المواطن.
حديث المغفرة
من الاُمور التي أصبح متسالماً عليها عند الجمهور هو حديث المغفرة لأهل بدر، وأصحاب الشجرة والعقبيين وما الى ذلك، ويروون في ذلك أحاديث وروايات. منها ما ورد في قصة حاطب بن أبي بلتعة، والتي ملخصها أنه بعث امرأة لتخبر قريشاً عن مسير النبي (صلى الله عليه وآله) لفتح مكة، فأعلمه الله بذلك فأرسل علياً والزبير فأخذا المرأة واسترجعا كتاب حاطب منها، فاتهم عمر حاطباً بالنفاق وحرّض النبي على قتله، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) ضمن حديث: "لعل الله اطّلع الى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، وقد غفرت لكم..."(7).وعن جابر: أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال: يا رسول الله، والله ليدخلن حاطب النار، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): "كذبت، إنه شهد بدراً والحديبية"(8).
إن هذا يستلزم أن يكون أهل بدر مغفوراً لهم، وأن يكونوا جميعاً من أهل الجنة مهما فعلوا، ولا يخفى على الباحث المحقق ما يرمي إليه ذلك، فان عدداً من كبار الصحابة، أو بالأحرى معظمهم -ممن تلبسوا بالفتن بعد ذلك- هم من البدريين، فجاءت هذه الأحاديث المفتعلة لتبرئ ساحتهم وتوحي بعفو الله عنهم حتى لو ارتكبوا كل تلك الأعمال الفظيعة. إلاّ أن الواقع يثبت عدم صحة مثل تلك الأحاديث التي اختلقتها يد السياسة، ففي ترجمة الصحابي ثعلبة بن حاطب، قال ابن عبد البر: شهد بدراً واُحداً، وهو مانع الصدقة فيما
قال قتادة وسعيد بن جبير، وفيه نزلت (وَمِنهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانَا مِنْ فَضلهِ لنصَّدَّقنَّ وَلنكونَنَّ مِنَ الصالِحينَ * فلمّا آتاهُمْ مِنْ فَضلهِ بخِلوُا بهِ وَتولَّوا وَهُم مُعرِضُونَ * فأَعقَبهُمْ نِفاقاً في قُلوبهمْ إلى يَومَ يَلقونَهُ بِما أَخلَفُوا اللهَ ما وَعدُوه وَما كانُوا يَكذبونَ)(9).
قال الفخر الرازي: والمشهور في سبب نزول هذه الآية أن ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله، اُدع الله أن يرزقني مالا، فقال (عليه السلام): "يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه"، فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لاُعطين كل ذي حق حقه، فدعا له، فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل وادياً بها، فجعل يصلي الظهر والعصر ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلاّ الجمعة، ثم ترك الجمعة، وطفق يتلقى الركبان يسأل عن الأخبار وسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنه، فاُخبر بخبره، فقال: "يا ويح ثعلبة"، فنزل قوله (خُذْ مِنْ أَموالهمْ صَدقة)
فبعث إليه رجلين وقال: "مُرا بثعلبة فخذا صدقاته"، فعند ذلك قال لهما: ما هذه إلاّ جزية، أو اُخت الجزية، فلم يدفع الصدقة، فأنزل الله تعالى (وَمنهمْ منْ عاهدَ اللهَ)فقيل له: قد اُنزل فيك كذا وكذا، فأتى الرسول (عليه السلام) وسأله أن يقبل صدقته، فقال: "إن الله منعني من قبول ذلك"، فجعل يحثي التراب على رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام: "قد قلت لك فما أطعتني"، فرجع إلى منزله، وقُبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم أتى أبا بكر بصدقته، فلم يقبلها اقتداء بالرسول (صلى الله عليه وآله)، ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر، ثم لم يقبلها عثمان، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان(10).
أخرج هذه القصة معظم المفسّرين، وتحيّر القرطبي في الأمر، فقال: وجاء فيمن شاهد بدراً يعارضه قوله تعالى في الآية: (فَأَعقَبهمُ نِفاقاً في قُلوبهم)(11).
فهذا الصحابي، وإن كان بدرياً اُحدياً، إلاّ أن الله طبع على قلبه وأورثه نفاقاً، لخيانته ما عاهد الله ورسوله عليه!
وفي ترجمة معتب بن قشير، قال ابن حجر: ذكروه فيمن شهد العقبة، وقيل إنّه كان منافقاً، وأنه الذي قال يوم اُحد: لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا هاهنا! وقيل إنّه تاب، وقد ذكره إبن إسحاق فيمن شهد بدراً(12).
فهذا أيضاً صحابي بدري اُحدي عقبي يقول مقالة ينزل فيها قرآن يُتلى ذماً له. قال السيوطي: أخرج ابن أبي حاتم عن السدي، قال: حفر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخندق واجتمعت قريش وكنانة وغطفان، فاستأجرهم أبو سفيان بلطيمة قريش، فأقبلوا حتى نزلوا بفنائه، فنزلت قريش أسفل الوادي، ونزلت غطفان عن يمين ذلك، وطليحة الاسدي في بني أسد يسار ذلك، وظاهرهم بنو قريظة من اليهود على قتال النبي (صلى الله عليه وآله)، فلما نزلوا بالنبي (صلى الله عليه وآله)، تحصّن بالمدينة،
وحفر النبي (صلى الله عليه وآله) الخندق، فبينما هو يضرب فيه بمعوله إذ وقع المعول في صفا، فطارت منه كهيئة الشهاب من النار في السماء، وضرب الثاني فخرج مثل ذلك، فرأى ذلك سلمان(رضي الله عنه) فقال: يا رسول الله، قد رأيت يخرج من كل ضربة كهيئة الشهاب فسطع الى السماء، فقال: "لقد رأيت ذلك"؟ فقال: نعم يا رسول الله. قال: "تفتح لكم أبواب المدائن، وقصور الروم، ومدائن اليمن!" ففشا ذلك في أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، فتحدثوا به، فقال رجل من الأنصار يدعى قشير بن معتب(13)،
أيعدنا محمد أن يفتح لنا مدائن اليمن، وبيض المدائن، وقصور الروم، وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلاّ قُتل، هذا والله الغرور! فأنزل الله تعالى في هذا (وَإذْ يقولُ المُنافِقونَ والَّذينَ في قُلوبهمْ مرضٌ ما وَعَدنا اللهُ وَرسُولُه إلاّ غُروراً)(14).
وفي معركة اُحد إنهزم معظم الصحابة وتركوا النبي في مواجهة العدو، ولما ذاع في الناس أن النبي قد قُتل، قالت فرقة منهم "نلقي إليهم بأيدينا فانهم قومنا وبنو عمنا، وهذا يدل على أن هذه الفرقة ليست من الأنصار، بل من المهاجرين"(15).
واستعراض كل ذلك يستغرق وقتاً، ولكننا نريد أن نخلص الى المبحث القادم، لكيما نعرف الأسباب التي دفعت بالجمهور الى القول بعدالة الصحابة أجمعين، وطيّ صفحتهم وعدم التعرض لذكر الخلاف بينهم.
المصادر :
1- صحيح مسلم باب بيان وجوه الاحرام ح 130، سنن ابن ماجة 993 باب فسخ الحج، مسند أحمد 4: 286، مجمع الزوائد 3: 233، سنن البيهقي 5: 19، زاد المعاد 1: 247.
2- صحيح البخاري 6: 171 سنن النسائي 8: 226 كتاب آداب القضاء، سنن الترمذي 5: 387 ح 3266، اسباب النزول للواحدي: 215، التقول في أسباب النزول للسيوطي: 194، الدر المنثور 7: 546، تفسير الطبري 26: 76، جامع الاصول 2: 431.
3- المغازي 1: 47 - 48.
4- سيرة ابن هشام 2: 253، الطبري 2: 434، وقال الذهبي: فاستشار الناس فقالوا خيراً، تاريخ الاسلام: المغازي: 51.
5- صحيح مسلم 3: 1403 كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر.
6- كنز العمال 13: 127 ح 36402 وقال: (حم، وابن جرير وصححه، و ص).
7- صحيح البخاري كتاب المغازي: باب فضل من شهد بدراً.
8- صحيح مسلم 4: 1942 كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل أهل بدر.
9- الاستيعاب 1: 210 والآيات هي: 75، 76، 77 من سورة التوبة.
10- التفسير الكبير 16: 138.
11- الجامع لأحكام القرآن 8: 209.
12- الاصابة 3: 443.
13- الصحيح معتب بن قشير.
14- سورة الأحزاب: 13، الدر المنثور 5: 358.
15- السيرة الحلبية 2: 227.