
تلعب الرموز بشكل عام دوراً في إحداث التعاضد والتضامن بين أفراد الجماعة وشد بعضها إلى بعض. ولكن قبل كل ذلك، ينبغي القول، أن ثمة طريقة أكثر بساطة في تعريف الرمز أنه "شيء ما يحل مكان شيء آخر ويستدعيه". إن تمثالاً معيناً يذكّر رمزياً بشخصية أو حدث أو فكرة، ويضمن لها بذلك وجوداً وفعلاً مستمرين. إن أي كلمة تحل رمزياً محل شيء، تثير ذكراه دون أن يكون الشيء المادي ضرورياً1.
وللرمزية أهمية بالغة في حياة المجتمعات البشرية سواء كانت تقليدية أم حديثة.
وتنبع أهمية الرمزية من وظيفتها في المشاركة والاتصال بين الجماعات ومن تأثيرها في الحياة الاجتماعية، ومن كونها تفيد بصورة أساسية في تجسيد الحقائق المجردة، العقلية أو الأخلاقية في المجتمع، وتجعلها مرئية وملموسة.
فالجماعات هي كيانات مجرّدة تحتاج إلى رموز لتذكيرها، إلى الأعضاء الذين هم جزء منها، أو لتمييزها عن الرموز الأخرى، أو لتثبيت وجودها بنظر الآخرين. هذه هي حالة الجماعات القومية أو الإثنية التي تتمثل لنا برموز متنوعة: علم، شعار الشرف والنسب، نشيد وطني، لون مميز، رجل دولة، رئيس الدولة، الملك، رئيس الجمهورية..، مؤسسة سياسية، التاج البريطاني، الأسد البريطاني، القندس الكندي الخ... إن هذه الرموز لا تساعد فقط على تقديم الجماعات وتمثيلها بصورة حسية، وإنما يمكن كذلك أن تستخدم من أجل أن تثير أو تنمي شعور الانتماء عند الأعضاء وتضامنهم. هذا ما يسعى إليه ويثيره مثلاً إنشاد النشيد الوطني من قبل حشد من الناس، أو جولة من جولات رئيس الدولة في الظروف المؤاتية، أو كاريكاتير مظهراً الشخصية النموذجية وهي تجابه مشاكل الجماعة أو رفع العلم أو القسم به، حتى أن احترامه يصل أحياناً إلى حد القداسة الأسطورية التي ينشأ عليها الشاب الأميركي ويكبر، وكيف يتعلم احترام الشارات والرموز التي تحيط به2.
الرمزية الدينية تلعب دوراً كبيراً في حياة الإنسان لما لها من أدوارتصل الإنسان بعالم السماء، وتحدد العلاقات التضامنية بين الأفراد، ولكونها تنطلق إلى رسم الغايات المفترضة في نظام العلاقات الاجتماعية وخصوصاً بين جماعة المؤمنين، والتي تظهر تعبيراتها في ميادين شتى كالاحتفالات والطقوس، واللباس، التي تطبع الانتماءات، وتبرز خلالها الحالة التضامنية بالمعنى الصوفي مع رجال الدين بوصفهم عناصر مكونة للرمزية الدينية.
المكانة الدينية
بطبيعة الحال فإن مقاربة شخصية السيد حسن نصر الله، تعين على الفهم لما لشخصه وللدور والوظيفة التي يضطلع بها كرجل دين ولما للرأسمال الديني من دور في عملية الجذب وشد الأفراد إليه وتكريس موقعه القيادي.مما لا شك فيه أن المكانة لا تحدد الدور فحسب، وإنما تحمل في طياتها سلطة رمزية هي سلطة الكلام التوجيهي والإرشادي فيما يتصل بحاجة الإنسان إلى الإرشاد في معرفة وتأدية فروضه الدينية، إذ يكفي أن يدلي رجل الدين بإفتاءاته حول بعض الأمور حتى يلجأ الفرد، - بحسب طبيعة ودرجة الالتزام الديني لديه - إلى تطبيق ما تناهى إلى سمعه ووعيه، تطبيقاً لا يحوجه بعد ذاك إلى الشعور بانتقاص في التزاماته الدينية على النحو الفردي.
فلكون الدين يشكل أحد أهم ركائز القيم في النموذج الثقافي في المجتمعات العربية والإسلامية، يجعل لرجل الدين وظيفة رمزية في حياة الأفراد، الذين غالباً ما يظهرون له الود والاحترام، فضلاً عما يرسمون حوله من متخيل ذهني يتصل بشخصيته والتوقعات حولها على غرار دماثة الخلق، والتحلي بالإيمان والصبر والدعة، والزهد... الخ. وتزداد حالة الاحترام وإظهار الطاعة كلما تميز رجل الدين في علمه الديني وتبصره في عالم الاستنباط الفقهي، وفي عالم التفسير والتأويل للكتاب الديني وللتراث. غير أن ممارسة الدور انطلاقاً من المكانة لا يفترض جدلاً تحول رجل الدين إلى رجل قيادي على النحو الميداني، أو أن تسري علاقته القيادية على عموم المؤمنين بالدين، لاسيما اذا اقتصر دوره على النطاق الروحي دون الولوج إلى الاجتماع السياسي والتصدي لما يعصف به المجتمع من مشكلات، فضلاً عن جانب آخر يحدد المتحلقين حوله انطلاقاً من مساحة التشارك في حالة التمذهب الناشئة تاريخياً بين المسلمين والتي تحدد الأتباع بوصفهم منتمين إلى مذهب من المذاهب. فمساحة التشارك في الانتماء تشكل أحد العناصر الجاذبة بين الأفراد ورموزهم الدينية دون أن يعني ذلك بروز التنافر مع المختلف في إطار الدين الواحد.
لهذا السبب فإن المكانة الدينية للسيد نصر الله تفترض وفق هذه الحال أن تشتد وجهة التماهي معه كقائد كلما اتجه مسار ممارسة الدور القيادي من العام إلى الخاص.
ذلك أن الخاص محكوم دوماً بالتماهي المشترك بين القائد والمحازبين لتمثلهم أهدافاً مشتركة ينزعون نحو تحقيقها، فضلاً عن الآلية التنظيمية التي تحدد قواعد الطاعة وإظهار الولاء. وبذلك تبرز حالة التماهي في مراتبها القصوى، ثم تميل نحو الانحدار النسبي كلما اتسعت دائرة امتداد الفعل القيادي، أي على مستوى الطائفة والوطن والأمة.
ففيما يتصل بالطائفة الشيعية، لناحية تموقع القيادة الدينية فيها، فثمة تراتبيات في المكانة تقتضي تمايزاً في الأدوار بما يتوافق مع المكانة، حيث يقف على رأسها المرجع الديني ثم يليه العلماء الآخرون. فالطاعة في موقع الإفتاء معقودة اللواء للمراجع الدينية، والسيد نصر الله لم يدع أنه بلغ مكانة المرجع الديني القادر على الاستنباط والإفتاء وإنما هو أحد وكلاء المرجع الديني آية الله العظمى السيد علي خامنئي، ما يعني أن المكانة والدور ستحددان تبعاً لحالة التموقع في المراتبية الدينية، وهي ليست على أي حال صنو مكانة ودور المرجع الديني لدى الطائفة، حتى ولو كانت مضاهية لها في مزايا عدّة يفترض بالمرجع التحلي بها، كالورع، والعدالة، وحسن السيرة...الخ. لكنها لا تضاهيها في غزارة العلم والقدرة على استنباط الفتوى والاجتهاد بأحكام الدين.
أما من الناحية التنظيمية، فخصوصية الطائفة الشيعية في لبنان محكومة في البناء التنظيمي بثنائية حزبية راهنة يشكل حزب الله أحد طرفيها، ما يعني أن التماهي في الانتماء والولاء من الناحية التنظيمية يفترض التواءم مع هذه الثنائية.
أما في النطاق الإسلامي العام، فالساحة الإسلامية مفتوحة على توزع مرجعيات فقهية، وتشكيلات حزبية إسلامية متنوعة، وهي تفترض بحسب هذه الحال تماهيات مع أطر قيادية تتنوع بحسب تنوع الانتماء سواء في نطاق التمذهب أو في نطاق الانتظام التشكلي لإحدى التنظيمات الإسلامية.
لذلك فإن السعي إلى فهم الدور القيادي العام الذي اضطلع به السيد نصر الله لا يحيل إلى المكانة الدينية، أو هو غير منوط بها وحدها، وإن كانت تشكل إحدى العوامل الهامة في هذا المضمار. ذلك أن هذه المكانة وإن كانت تنفتح على الاختلاف والتنوع، فإنها أيضاً تفتح على الاحترام بمعزل عن الطاعة التي سوف تبرز في مراتب متدرجة منحكمة إلى خصوصيات المسلمين في ممارسة التزاماتهم الدينية، وبحسب اتجاهاتهم الفقهية والتنظيمية. لذلك فإن عمومية الدور القيادي ليست نابعة من الموقع الفقهي أو التنظيمي للسيد نصر الله بل يتغذى هذا الدور من الدور الاجتماعي والسياسي غير المنفصل عن أطروحة الدين نفسه، والذي يستوجب التصدي للقضايا المطروحة التي يرزح تحت وطأتها العالم والشعوب الإسلامية على وجه الخصوص، والتي هي ليست محل خلاف بين المسلمين، بمعزل عن تصورات تحققها وآليات رفعها عن كاهل الأمة.
وعلى هذا النحو، فإن الدور القيادي للسيد نصر الله ليس مطروحاً على أنه يمثل زعامة دينية عامة، وإنما هي زعامة قيادية انطلقت من الفهم الديني إلى الميدان العام في الأمة، وصقلها في إطار القضايا العامة للمسلمين. فهذا الدور القيادي، هو دور استنهاضي عام، لا يدعو إلى النهوض فحسب، وإنما يحدد الآليات ويرسم النموذج، وينير الطريق أمام تحققه وهو نموذج المقاومة من أجل تحرير الأرض واستعادة عزة وكرامة الأمة.
ألمقاومة ومنظومة القيم
تلعب الرمزية الدينية للقائد والمرحلة التاريخية التي يبرز خلالها، دوراً في تحديد معالم الكاريزما وإبرازها إلى واجهة الأحداث. غير أنها تبقى قاصرة عن الإحاطة بها مع إسقاط عوامل أخرى تشكل رافداً أساسياً في تجسدات هذا الدور، وهي العوامل التي تتصل بطبيعة الفعل المقاوم نفسه في تفصله مع القيم والمعايير السائدة. ذلك أنه وبحسب ماكس فيبر، فإن الفكر البشري هو الذي يعطي معنى للظاهرة بفضل العلاقة بالقيم. كما أنه هو الذي يحدد في الوقت ذاته الأهمية المعطاة لبعض الظواهر، وانه عندما نعتبر أن نتائج الأحداث التاريخية هي نتائج مهمة يكون اعتبارنا على أساس العلاقة بقيمنا الثقافية3.فالقيمة وفق بعض التعريفات، هي طريقة في الوجود أو في السلوك يعترف بها شخص أو جماعة مثالاً يحتذى، وتجعل هذه الطريقة من التصرفات أو من الأفراد الذين تنسب إليهم، أمراً مرغوباً فيه أو شأناً مقدراً خير تقدير4. إنها شيء يحظى بالتقدير والرغبة وهي تعبير عن الدوافع أو الحالة التي تشبه دافعاً.
سنسعى وفق هذه التعريفات إلى تبيان الأهمية المعطاة لظاهرة المقاربة كحدث تاريخي انطلاقاً من القيم السائدة على أن المقاومة بحد ذاتها تشكل تعبيراً شديد الإرتباط بفئات من القيم الدينية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية، والتي تجسد بنماذج من الشجاعة، وإغاثة الملهوف، والإخلاص والحرية والعدالة.
وهي نماذج ترتبط بالنزوع الإنساني العام كالحرية والعدالة وبعضها مرتبط بالطبيعة الاجتماعية المتوارثة لدى الشعوب العربية والإسلامية على غرار الشجاعة والنجدة والكرم.
وهي لتضمنها نماذج فعل تعود إلى فئات متنوعة من القيم تغدو أكثر أهمية مما لو تضمنت نموذج فعل يعود إلى فئة واحدة من فئات القيم، إذ ثمة تراتبية في القيم لدى الشعوب التي تسعى إلى تفضيل بعضها في أولويات ومراتب متدرجة من ناحية الأهمية. فبعضها من طبيعة روحية وبعضها الآخر من طبيعة اجتماعية أو مادية أو فكرية لكنها ليست على درجة واحدة من التراتب. فالقيم الجمالية إذا اصطدمت بالقيم الأخلاقية والدينية في بعض جوانبها تتقدم القيم الدينية والأخلاقية عليها، وكذلك الحال في القيم المادية في الكسب والمعاش والإنتاجية وغيرها.
وعلى هذا النحو، يغدو فعل المقاومة منطوياً أو متضمناً في نموذج يعود إلى أكثر من فئة من القيم المتواكبة في آن معاً، وبما لا يحوج إلى الاصطدام بمعايير تفاضلية بين الديني والأخلاقي والاجتماعي والإنساني، الأمر الذي يؤدي إلى اتساع وظائفها لدى الجماعات ولدى الأمة كوظيفتها في الإحساس بالانتماء، والتشارك في شدّ عرى الوشائجية التي تربط الأفراد بعضهم ببعض، وتوفير الشحنات والإنفعالات التي تجعلها ملهمة للأحكام ولإظهار الولاء والطاعة.
على هذه الحال، فالقيم كمرجعية للأحكام، وكمثال يحتذى وغايات قصوى يطمح إليها أصحابها، يصبح معها الفعل المقاوم معياراً وتجسيداً واقعياً للجانب المعنوي الذي تشكله القيم. فالمعايير هي تجسدات واقعية في حين أن القيم هي مرجعية معنوية. فإكرام الضيف، ومساعدة الضعيف، وإغاثة الملهوف هي تجسدات عملية لقيمة اجتماعية هي الكرم وليست هي الكرم بحد ذاته. ومن هنا تأتي النماذج التي تقدمها المقاومة على أنها فعل سلوكي في الشجاعة والصبر والتحمل ورفع الظلم ومساعدة المظلوم وفي الإقدام والجرأة، ونيل العزة والكرامة والحرية، يحاكي القيم ويتوازن معها، وبذلك تصبح المقاومة النموذج المحدد للسلوك الرمزي والمرجعي في مجاراته لمنظومة القيم في النظام الاجتماعي السائد.
كذلك يرتبط الفعل المقاوم في أحد جوانبه بمجاراته لقيمة إنسانية عالية هي قيمة الإيثار، وهي قيمة رغم ارتدائها الطابع الإنساني العام إلا إنها تحظى بخصوصية بارزة في المجتمعات العربية والإسلامية لارتباطها بالواقع الاجتماعي والتاريخي من جهة، وارتباطها بالدين من جهة أخرى. ولذلك فالإيثار يستند في هذه المجتمعات على أساس اجتماعي وديني.
ولتبيان هذه الخصوصية، نجد أن المجتمعات التقليدية وبمعزل عن الدين، مارست هذا النوع في محاكاة هذه القيمة. ففي مجتمعات الصيد البدائية، وكذلك المجتمعات الزراعية حيث الندرة في الرزق وأسباب العيش أدت إلى وجود الحالة التضامنية والتعاضدية بين الأفراد.
ففي هذه المجتمعات تسود، من ناحية القرابة، العائلة المركبة والموسعة وتجمعات القبيلة والقرى التي يعرف فيها الأفراد بعضهم بعضاً وتشتد فيها الأعراف والتقاليد بينما تضعف القوانين المكتوبة، وفيها يؤثر الفرد أفراد عائلته أو قبيلته أو أبناء القرية على نفسه في حالات العوز والشدّة وندرة الرزق. هي مجتمعات تكاملية وتضامنية حيث يعمل جميع الأبناء معاً ويعمل الفرد للجميع. ولكنها تقوم على الإيثار حين يعطي الفرد في بعض الأحيان أكثر مما يأخذ، إذ قد يتكافل أفراد أسرة ما في العمل الزراعي ولكن الإنتاج حين يكون غير وفير تمتد إليهم يد أخرى للمساعدة في إطار من التبادلية حيث يمكن أن تكون العائلة الموفورة الإنتاج في زمن ما، محتاجة إلى يد العون. فالتبادل هو احد الأسباب التي تؤدي إلى رسوخ العرف والقيمة في تلك المجتمعات التي لم تسيطر بعد على الطبيعة. في المجتمعات الغربية الحديثة حيث تغدو مؤسسات الدولة كبديل تضامني عن الأفراد ليس ثمة حاجة إلى امتداح الفعل الذي يحاكي قيمة الإيثار.
لقد حلت الأسرة النواتية التي تقوم على الزوج والزوجة والأولاد أو بدونهما محل العائلة الموسعة، وغدا المجتمع أفراداً في مواجهة بعضهم بعضاً في التحصيل والكسب. في عالم الربح والمال، ثمة عقل عملي يتحكم بالأشياء، إذ ليس ثمة منطق في أن أعطي المال الذي أكسبه بالتعب لفرد عاجز لا يقوم هو بهذا العمل الذي ينبغي له أن يقوم به ولو لم يوفق إليه، أو حتى في أبسط الحال ثمة مؤسسات تقوم بدور رعائي للعاطلين عن العمل تمول من الضرائب المفروضة. وليس ثمة منطق في مساعدة الآباء لأبنائهم الذين يؤثرونهم على أنفسهم وهم أطفال، ولكن بعد بلوغ السن القانونية عليهم بتدبر أنفسهم. وليس على الأبناء مساعدة الآباء العاجزين طالما هناك مؤسسات رعائية تحتضنهم حتى مماتهم . وليس من العقل أن أكون مضيافاً أقدم نقودي في منزلي أو في المطعم أثناء دعوة لأصدقائي ومن جمعتني بهم الصدفة. لقد حل العقل وحساب الربح والخسارة والمنفعة في تفاصيل الحياة اليومية ما أدى إلى ضمور قيمة الإيثار من الناحية الموضوعية لكونها تخالف المنطق. مع ذلك، نجد أن الكثير من الأعمال التي تحاكي هذه القيمة، مقترنة بأصحاب الشهرة وعالم النجوم الكبار أثناء الإفصاح عن برامجهم في مساعدة الأطفال المرضى، كمرض السيدا والسرطان وغيرهما بعدما تعب هؤلاء في الجني والربح وعالم الشهرة، إذ ليس من نشاط يحوجهم إلى الشعور بإنسانيتهم أكثر من ذلك التعاطف الإنساني مع العاجزين والمعوزين وذوي الحاجات الخاصة. وهو عالم منفصل عن القيم الدينية المسيحية في المحبة والإيثار والتي غدت أسيرة أقوال الرهبان والقديسين في كنائسهم وأعمال القديسة تريزا في حسّها الإنساني الرائع.
أما في المجتمعات العربية والإسلامية، فإن قيمة الإيثار ما تزال تختزن معاني محمَّلة بالكثير من موارد القبول والاستحسان، لكونها قيمة متناسلة في تاريخ هذه المجتمعات وواقعها المعاش غير المنفصل عن ماضيها. ذلك أن المضي في مشروعها الحداثي لا يقوم على أساس القطيعة مع الماضي كما في البلدان الأوروبية. فالبنية الاجتماعية العربية والإسلامية ما تزال تحافظ على تماسك نموذجها القائم على القرابة وعلى الوظيفة الوشائجية والتضامنية للعائلة الموسعة. كما أن هذه المجتمعات وإن دخلت مرحلة التصنيع، ولكنها لم تستطع تحويل الأفراد إلى ذوات فردية منفصلة. فالعائلة ما زالت تشكل وحدة اجتماعية اقتصادية، كما تتصل اتصالاً وثيقاً بالمؤسسة الدينية وبالقيم الدينية5، ومنها التي تحث على الإيثار بين ذوي القربي والأرحام في مد يد العون والمساعدة ولو على حساب الذات، بل والاهتمام بالجماعة وبأمور المسلمين والمستضعفين. وهي تعاليم تضطلع بأدوار شتى بينها توطيد عرى اللحمة والوشائجية لدى الجماعة، والدعوة نحو التسامي بالفرد نحو الكمال الإنساني الذي يتجرد عن الذات فضلاً عن ارتباطها بالعود والنفع الأخروي.
وبذلك يحمل الفعل المقاوم بعداً قيمياً يتجسد بقيمة الإيثار حيث لا يعود هذا الفعل على من يقوم بالعمل نفسه، وإنما يعود بالفائدة على الجماعة لبنانية كانت أو فلسطينية أو عموم المسلمين، لكون معضلة الصراع مع إسرائيل تبقى إشكالية مطروحة على الوعي الإسلامي ينبغي العمل لرفعها ومعالجتها. ولما كان من غير المتيسر لجميع المسلمين الانضواء في العمل المقاوم بسبب الظروف الموضوعية المحيطة بالفرد، كان من الطبيعي أن يختزن هذا العمل بعداً عميقاً في محاكاة قيمة الإيثار ليس في مجال تحمل الجهد والعناء والمصاعب الذي يستوجبها، والذي يخرج عن التضحية بهذا الجهد والعناء إلى حد التضحية بالمال والنفس وهو ما لا يتحمله عموم الأفراد، إذ لا يمكن بحسب المصلحة الشخصية، وبحسب عامل الخوف والإحساس بالضعف، ونزعة الخلود الفطرية أن يقدم الفرد على التضحية بنفسه من أجل الجماعة أو الأمة التي ينتمي إليها.
فالاستشهاد والتضحية عمل ممدوح لا بحسب ما يحمله لدى أفراد الأمة من قيم دينية وحسب، وإنما الفرادة والتميز اللذين يجب التحلي بهما للاقدام على هذا العمل، سيما أن المقاوم ليس جندياً في مؤسسة عسكرية لكي يدفع نحو القتال على النحو الإكراهي، وإلا فسوف يخضع للمساءلة القانونية والجزائية.
مع ذلك، فإن الجندي حين يقدم نفسه في المعركة يحاط بالكثير من إسقاط عوامل الاحترام المتمثلة بالطقوس الرمزية لرفاقه في السلاح، من معزوفة نشيد الموت، إلى المقابر الخاصة التي تخلد ذكرى الشهداء بوصفهم أبطالاً آثروا شعبهم وأمتهم على أنفسهم، فكيف الحال حين يكون الفعل المقاوم عملاً يرتكز على الاختيار والمبادرة الفردية للانسان الفرد نفسه؟
فالشجاعة والإيثار والتضحية تنتمي إلى فئة القيم السائدة في المجتمع العربي والإسلامي، وهي مستمدة من تواصلها مع الجانب التاريخي لهذه المجتمعات في تحولها من مجتمع القبيلة إلى الدولة في العصور الإسلامية، ومن جملة التحديات التي واجهتها فيما بعد إزاء عهود الاستعمار ومقاومة المشروع الصهيوني. وهي لا تزال قيمة سائدة إزاء استمرار التحدي الصهيوني للاجتماع الأهلي والمدني بمقابل بدائل أخرى تقوم على أساس المفاوضة لاسترجاع الحقوق وهي مطروحة اليوم من قبل القادة العرب.
أما الفعل المقاوم، فهو يشكل أحد النماذج السلوكية المعيارية لكونه فعلاً يحاكي هذه القيمة ويرمز إليها، وهو يشكل في أحد أبعاده فعلاً يقوم على القوة، ولكن دون أن تكون القوة وحدها تمثل الشجاعة بعينها.
فقد تستخدم أسباب القوة في عصر التصنيع والتكنولوجيا وتستخدم على أنها فعل يقوم على القوة دون الحاجة إلى عامل الشجاعة. ففي عالم استخدام السيف والمبارزة، أو المواجهة الحالية في الحروب حيث يشتبك فيها الجنود، فإن الشجاعة تبقى مطلوبة على أية حال، حيث تقترن الشجاعة بالقوة وترفدها.
في حين أن الشجاعة تفتقد إلى القيمة المطلوبة لدى الجندي الذي يقود دبابة أو طائرة مزودة بأحدث ما أنتجته التكنولوجيا الحديثة، فهو لا يتعامل مع أفراد وجهاً لوجه بقدر ما يتعامل مع أهداف ليس بينه وبينها حالة تفاعلية يمكن أن تُختبر فيها قدرته على الصمود في الميدان، إذ يكفي أن يدخل الهدف دائرة التحديد المبرمجة حتى يصبح الهدف في عداد لائحة الإلغاء الوجودي بعدما يقضي عليه صاروخ نازل من أعالي السماء أو قادم من أقاصي الأرض.
وهكذا نجد أنه كلما ازداد تطور التكنولوجيا الرقمية، كلما مالت قيمة الشجاعة نحو التضاؤل، وتضاءل معها الإحساس الإنساني بالخوف والحذر اللذين يتسوجبان استحضار الصبر والعزم والإقدام للثبات في المعركة، قبل وقوعها وأثناءها وبعدها.
في حين أن قيمة الشجاعة جراء التصدي للمشروع الصهيوني تبقى مطلوبة في ظل غياب التوازن التكنولوجي.
ولذلك تنظر هذه الشعوب إلى العمل المقاوم في لبنان على أنه نموذج سلوكي يحاكي قيمة الشجاعة.
فهو يقوم على استخدام القوة ولكنه لا بد له من الاقتران بالشجاعة، لكونه يقوم أساساً على الاشتباك مع العدو في مواقعه الحصينة والمجهزة بوسائل الرصد والإنذار والعتاد، في اندفاعة يقوم بها المقاومون نحو هذه المواقع حيث تتداخل فيها كل المؤثرات التي يمكن أن تنال من المشاعر الانفعالية للانسان كأصوات القذائف، وألسنة اللهب وغبار المعركة وأنين الجرحى، ومشاهد القتل، خلافاً لقائدة الطائرة الحربية غير المتصل بشكل مباشر بالهدف إلا فيما يراه على الشاشة المحددة لأهدافه أمامه.
فالميدان إذاً هو ميدان صبر وأناة وإقدام, وهو يستوجب بلا شك، رجالات يحملون هذه المواصفات. وهو ما يجعلهم ذوي خصوصية يُنظر إليها على أنها محل احترام وتقدير. ذلك أنه ليس بمستطاع كل إنسان التحلي بمثلها، إذ شتان ما بين قيمة الشجاعة ذات الفعل الذي يحاكي هذه القيمة وبين الشجاعة نفسها. فكم من الأفراد ينظرون إلى الرجل الكريم والمعطاء نظرة تقدير واحترام ولكنهم لا يقومون بالفعل نفسه، علماً أن الكرم هو قيمة اجتماعية مطلوبة، وقد يتعارض الأمر مع مصلحتهم في الإنفاق أو في عدم امتلاك المال أصلاً أو بسبب ظروف موضوعية تحول دون هذا الأمر مع ذلك يبقى فعل الكرم ممدوحاً من قبل الكثيرين. كذلك الأمر في الفعل المقاوم. قد يتعارض الموقف مع مصلحة الفرد في عدم تعريض حياته للخطر والأذية، أو ثمة ظروف موضوعية تحول دون مشاركته في هذا الفعل، كتعرضه للمنع أو الملاحقة من قبل نظامه أو أنه في الأصل لا يحترف عمل القوة جرّاء نقص في التدريب مع أنه يمتلك القابلية للعمل الشجاع.
على هذا النحو يبقى الفعل المقاوم عملاً معيارياً لقيمة الإيثار والشجاعة والتضحية وهي منظومة قيم لا تزال تنظر إليها الشعوب العربية الإسلامية نظرة قيمية انطلاقاً من تاريخها وواقعها.
ووفق هذه التحديدات يبرز الدور القيادي الكاريزمي للسيد نصر الله بوصفه قائداً لحركة تختزن وتحاكي هذه المنظومة من القيم والمعايير لدى الأمة جاعلة منه مثالاً يحتذى في تقديم الطاعة والاحترام.
على أنه ينبغي التنبه للمراتبية بين الطاعة والاحترام في العلاقة الجدلية بين القائد الكاريزمي والأتباع أو المناصرين، على أنها ليست على درجة من التساوي الذي يجعل التماهي مع القائد على درجة واحدة، ولكن من دون أن يفقد رمزيته الكارزمية، ذلك أن تصرف الفرد في النظام الاجتماعي يخضع للنموذج الثقافي السائد الذي يكفل الانسجام والتكافل والتوازن .
القيم هي أحد عناصر النموذج الثقافي، غير أن هذه القيم لا تمارس دوراً قسرياً على الأفراد، بل إن شخصية وسلوك الأفراد تخضع لعناصر التجاذب والتناقض بين دور الفرد ومصلحته، وتناقض المصلحة مع القيم، لا سيما وأن الفرد محكوم بحرية التصرف وتوافق التصرف مع الأهداف وهو ما يعمد إليه تالكوت بارسونز في فهم المجتمع الرأسمالي الغربي6.
قد يصح هذا الوصف الذي يسعى إليه بارسونز على المجتمع الغربي باعتبار أن القيم لا تلعب دوراً جبرياً في توجيه السلوك في تعارضها مع مصلحة الأفراد، خصوصاً في المجتمع الرأسمالي الصناعي الاستهلاكي، حيث النزوع نحو الكسب والربح والشهرة والنفوذ عندما يقف الفرد بمواجهة أفراد آخرين داخل المجتمع الواحد. ولكن في القضية المطروحة على بساط المقاربة هي تجلي دور القيم والمعايير في إطار المصلحة الجماعية وليست الفردية. فالحق والعدل قيمتان مطلوبتان على النحو الفردي والجماعي والنموذج السلوكي في الفعل المقاوم يتجلى بجانبه الجماعي حيث لا يطرح النموذج السلوكي في محاكاتهما في إطار المغالبة الفردية مع الحاكم وإنما بين أمة وأمة أخرى، أمة تؤمن بالوصول إلى مطلب الحق في استعادة الأرض. فمطلب الحق سابق على استعمال القوة الذي يغدو سلوكاً عادلاً في استعادة الحق ونموذجاً يتجلى في خطاب القائد الكاريزمي بعدما غاب عن سلوك القادة العرب ومن دون أن يفلح النموذج المستبدل في استعادة الحق على أساس الاستسلام في استبدال المعايير في النظر إلى المصلحة الجماعية للأمة.
لكن ثمة إشكالية تدور حول جدلية العلاقة بين القائد والأفراد والأمة، على أنه إذا كان المقاومون في دورهم المتماهي مع القائد هم الذين يقدمون النماذج السلوكية التي تحاكي القيم، فلماذا تقدّم حالة الاحترام على أنها متمايزة بين القائد والمقاومين، ذلك أن الفعل المقاوم لهؤلاء يحظى بكل التقدير والاحترام وينسحب عليهم كأفراد ولكن لم يصبح هؤلاء على نفس الدرجة من الكاريزما بنظر أفراد الأمة؟
وقد يفهم هذا الأمر في حال التماهي بين القائد وأتباعه الإيديولوجيين أو المحازبين أو من يشاركونه في الانتماء والأهداف بشكلٍ مباشر، ويجمعهم معه تاريخ مشترك من العمل الدؤوب والجهد المرير في سبيل تحقيق الأهداف، وكونه يشكل رأس الهرم التنظيمي الذي يفترض تقديم الولاء والطاعة، فضلاًَ عن دوره في رسم الآليات السلوكية المحاكية للقيم وخاصة قيم الجماعة المتشاركة معه في بيئة ثقافية خاصة، إلى جانب أسباب أخرى سوف تكشف عنها المقاربة في سطور لاحقة.
أما التماهي العام الذي يبرز لدى أفراد الأمة للقائد نفسه أي السيد حسن نصر الله، فقد يدور الاعتقاد بأن البيئة الثقافية في العالم العربي الإسلامي التي تميل بطبعها نحو إظهار الاحترام للقائد البطل أو الرجل التاريخي ولكونها بيئة بطركية تظهر فيها السلطة الأبوية المنحكمة إلى قيمها الخاصة في تقديم الطاعة الوالدية، فهو الراعي وهو المخلص والمستبد الذي يعرف مصلحة أبنائه أكثر مما يعرفون هم مصلحتهم، ولكن الأمر يغدو غير ذلك حين الولوج إلى التجربة الذاتية للسيد نصر الله والتي تحمل أبعاداً متشاكلة ومتمايزة في آن معاً.
فحالة التشاكل هي في حالة التماهي بين الدور القيادي والدور المقاوم نفسه الذي يجسد سلوكات ونماذج عملية في محاكاة القيم والتي تتجسد عملياً في ميادين شتى من كونه تدرَّج في العمل الجهادي قبل وصوله إلى سدّة القيادة، وهي من الموجبات الخاصة بعمل المقاومة الإسلامية في لبنان، وهو ليس موضع شك لدى المنضوين في المقاومة، وقد أتاحت الميديا الإعلامية تقديمه العفوي على شاشة تلفزيون المنار في أحد الخطوط القتالية مرتدياً زيه العسكري وحاملاً بندقيته ويبدو على ملامحه العمل المضني كسائر أقرانه دون أن تغادره ابتسامة تفصح عن حالة الارتياح لوجوده بين المقاومين. وقد استمر هذا التجسيد بعد تبوئه سدّة القيادة ولكن بما ينسجم مع الدور الذي يقتضيه الموقع القيادي من مشاركة في التخطيط ورسم الاستراتيجيات والتوجيه والإشراف، ولكن من دون أن يلغي الاستمرار في تجسيد الفعل المقاوم. وقد برز هذا النموذج السلوكي عبر أثير الفضائيات إبان عدوان تموز 2006 في المتابعة الميدانية للعمليات الدائرة على خطوط القتال وبينها أمر العملية القتالية التي استهدفت بارجة إسرائيلية عملاقة في عرض البحر، وكذلك في بروزه في احتفال النصر في شهر أيلول معلناً تحدي العدو الإسرائيلي الذي دأب على إعلان استهدافه بعدما اعتلى المنصة وسط هدير الطائرات الحربية التي لم تغادر سماء الضاحية الجنوبية آنذاك.
ورغم أن من مقتضيات فعل المقاومة والقيادة على وجه الخصوص التزام جانب الحذر وعدم تقديم الفرد أو القائد لقمة سائغة للعدو ما يمكنه من إحراز النصر، فقد أتاح بروز القائد أمام الأمة على الأثير وهو يعلن استعداده للاستشهاد على أنه صنو المقاومين في دورهم الاستشهادي، وقائد لا يقيم في قصره مخلداً إلى الدعة والراحة وعلى غرار رؤساء الأمم.
الذاكرة الجمعية
الذاكرة الجمعية هي عامل من عوامل الانشداد نحو القيادة، وبالتالي نحو الفعل المقاوم. أهمية الذاكرة الجمعية أنها تختزن الكثير من ذكريات الماضي ووقائع التاريخ في حياة الشعوب، ولكنها ليست أحداثاً جامدة كمدونات التاريخ وإنما تبقى حية في الوجدان والعقل، يستدعيانها في المهمات وفي الأحداث المفصلية للاستضاءة بها والاسترشاد بهديها فضلاً عن كونها إحدى أساسيات التضامن واللحمة والوشائجية بين الجماعات أو الشعوب كما تزخر به أحداثها ورموزها وشخصياتها من معانٍ مثقلة بالكثير من الانجازات والدلالات التي تعبر عن القدرة على معالجة إشكالات الواقع من رجالات رسمت حولها هالة كبيرة من القداسة والشرف والرفعة والحكمة من قبل المؤمنين بها.
غير أن عملية الاستحضار من الذاكرة الجمعية ليست على درجة واحدة حيث تتراوح بين الضعف والشدة. فتارة يقتصر هذا الاستحضار على الإحساس بالشعور النفسي الذي يمنح الطمأنينة حين العودة إليها تحت وطأة الأحداث المثقلة بإرباكات الواقع، بعدما يسود التذمر والضجر وانعدام أفق الحلول الممكنة. والقضية الصراعية أدت بلا شك إلى حال التذمر لدى الشعوب العربية والإسلامية ثم لينفتح هذا الاستحضار على عقد المقارنات بين مثالية الماضي وإشكالات الحاضر وتصورات المستقبل. وقد تلجأ بعض الجماعات إلى عقد لواء من المصالحة بين الذاكرة الجمعية والحاضر عن طريق عقلنة الواقع بإسناده إلى مجموعة من التبريرات التي تبيح القبض على زمام الأمور في إطار الظروف والشروط الموضوعية، دون إلغاء هذه الذاكرة وإنما تستبقيها أسيرة وجودها التاريخي. وتلك هي حال النظم السياسية التي تعيش حال الانكفاء والضعف والخضوع وحال انعدام التوازن. تلك الحالة ليست سهلة المنال إنما تحتاج إلى الكثير من الجهد والإقناع واستخدام أجهزة السلطة في إحداث ونقل تبريرات الواقع إلى الوعي الجماعي دون المساس بالذاكرة الجمعية للشعوب، بل يجري التمسك والاعتداد بها وتأكيد الانتماء إليها، طالما بقيت ترزح في دائرة التاريخ لانتفاء الظروف الموضوعية التي تعين على استحضارها إلى عالم الواقع، أو يجري الأمر من خلال إخضاعها لمجموعة من التأويلات وجعلها منفتحة على تعدد الأفهام والرؤى حولها لناحية حملها على الواقع.
في حين أن إحدى درجات هذا الاستحضار تبلغ درجة من الشدّة في تأكيد الذاكرة الجمعية، فيجري استدعاؤها لإعادة إنتاجها في الواقع بكل ما يضج به من تفاصيل تتدرج في الأمور اليومية والحياة الدنيوية والأخروية للجماعات لتصل إلى قمة الهرم السياسي وتلك هي حال الجماعات الإسلامية التي باتت تسمى بالحركات الأصولية.
على هذا النحو تقدم الشعوب العربية والإسلامية في تشكيلاتها الأهلية وانتماءاتها الحزبية ومؤسساتها ونظمها السياسية، الكثير من الأمثلة لناحية تموضع الذاكرة الجمعية جراء ما تعصف به هذه المجتمعات من حالات الفقر والسيطرة والضعف والنزوع نحو التنمية والمشاركة. ولعل مشكلة الصراع مع الكيان الصهيوني هي أحد أهم عوامل هذا الاستحضار لانفتاحها على مختلف المكونات الشعبية.
ذلك أن مخزون الذاكرة الجمعية يستند إلى الكثير من العناصر المتوالفة والمتراكمة على مدى أجيال، فهي ذاكرة تختزن الكثير من القدرة على الحضور حيث لا تمتد إلى أحداث جرت في قرون خلت، وإنما تشكلت من ماضٍ قريب متصل بالحاضر، ولأنها حين تشكلت حملت معها الكثير من الإخفاقات المشفوعة بالمآسي والحزن، والإحساس بالهزيمة وبالقليل من النجاحات المحدودة في بعض مفاصل الصراع، ولكنها بقيت تنتظر الانجاز التاريخي الكامل وهو ما قامت به المقاومة في لبنان.
الفعل المقاوم بين المبادرة والمغامرة
المبادرة هي إحدى السمات الهامة التي لا بد للقيادة من التحلي بها لاقترانها بالتحفز والإقدام لتحقيق الغايات، وبدونها يتحول القادة إلى قادة رأي ومنظرين أو فلاسفة ينشدون فهم علل الوجود في بداهتها وعمقها ومن دون أن ينقض ذلك دورهم التغييري. فمثالاً لا حصراً لعب مفكرو عصر الأنوار في القرن التاسع عشر دوراً في إحداث التغيير الذي شهدته القارة الأوروبية بعدما سرت أفكارهم حول الحرية والعدالة والمساواة وعلى امتداد عقود من الزمن، ووجدت لها مكاناً دافئاً في عقول المستنيرين الطامحين إلى استبدال الواقع المتردي بفعل سيادة السلطات المطلقة، وانعدام الأمن والحرية والعدالة. إن مبادرة هؤلاء المفكرين تجلت عندما انبروا إلى إعمال الفكر والنظر من اجل العبور من الواقع المتردي إلى واقع أفضل من خلال بلورة ممكنات التغيير.وقد لا يحتاج التغيير إلى فلاسفة ومنظرين، وإنما إلى مبادرين من نوع آخر ممن تشكلت لديهم قناعات تغييرية زاوجت بينها وبين الفعل التغييري على غرار ارنستو تشي غيفارا وفيدل كاسترو وأحمد بن بلا وغيرهم من القادة التاريخيين الذين أفرد التاريخ لهم صفحات بيضاء خلدت أدوارهم وجعلت منهم مثالاً يحتذى لدى شعوبهم.
وفي المرحلة الراهنة المتصلة بالصراع مع إسرائيل يتجلى الدور القيادي للسيد حسن نصر الله باستناده إلى خيار المقاومة داعياً إلى توسلها في حسم مسألة الصراع الذي مضى عليه عقود من الزمن فيما المشروع الصهيوني يتقدم على ما عداه من مشاريع لحل هذه المعضلة.
فالدعوة إلى المقاومة هي بحد ذاتها مبادرة، جعلت من أصحابها دعاة تغييريين وقادة تتحلق حولهم الجماهير.
إنّ المبادرة تكون شديدة الحاجة والإلحاح حين يسود حال من المأساوية والضياع، وحين انعدام أفق الحلول، وتجمد الوعي التغييري، أو بفعل وجود الوعي التغييري كاستعداد كامن في النفوس ولكن من دون خروجه إلى حيز الواقع بفعل القهر والتسلط الداخلي والخارجي على الشعوب.
وقد يصح هذا الوصف في محايثته وتزامنه مع الواقع الذي يبرز فيه الدور القيادي المقاوم للسيد نصر الله إن لناحية الإخفاقات في حروب الأنظمة العربية في صراعها مع إسرائيل أو لناحية الانحدارات في القضية الصراعية التي مالت منذ كامب ديفيد، ثم مؤتمرات التسوية المزعومة منذ مدريد وأوسلو، إلى تنحية مسألة الصراع والاستعاضة عنها بمفاوضات السلام، فضلاً عن ضغط الأنظمة العربية على شعوبها المتحفزة نحو استعادة الأرض والحقوق المشروعة بالارتكاز على خيار المقاومة، بمقابل مبررات تستند إليها تلك الأنظمة قوامها الظروف الموضوعية وانعدام حال التوازن مع القوة الأسطورية لإسرائيل ومساندة الغرب لها وبأن الأمور بخواتيمها طالما أن تلك الخواتيم هي استعادة الأرض.
وعلى هذا النحو، تصبح المبادرة في الفعل المقاوم مغامرة غير محسوبة النتائج بنظر الحكام لأن منطلقاتها تتجافى مع منطق العقل ومقتضياته في تعيين الآليات والوسائل للوصول إلى الأهداف.
ورغم أن دحض فكرة المبادرة برزت أولى ملامحه مع كامب ديفيد بمشاريع التسوية في مدريد ووادي عربة، إلا أن أصبحت بعد ذاك مغامرة في إطار الرد على الفعل الإجرائي للمقاومة في لبنان بخطف جنديين إسرائيليين من أجل مبادلتهما بأسرى لبنانيين في السجون الإسرائيلية، ولذلك دعت السيد نصر الله إلى تحمل النتائج.
ترى إذا كانت المبادرة مغامرة تقف بمواجهة عقلنة القرار السياسي وتوظيف العقل العملي والمعياري في قضية تدخل في إطار شبكة من القضايا المعقدة في الصراع مع إسرائيل، فلماذا حظي الفعل المقاوم في أحد حلقاته المتصلة بحرب تموز 2006 بهذا التأييد من الشعوب العربية والإسلامية دون بعض حكامها؟ تكمن الإجابة في أن هذا التأييد والالتفاف لا يحيل إلى حب المغامرة غير محسوبة النتائج لهذه الشعوب، بقدر ما يحيل إلى انفتاحها على الأبعاد الوظيفية للعقل في جوانبه النظرية والعملية في آن معاً. ذلك أن وظيفة العقل النظري التطلع الدائم نحو الحقيقة التي تحيط بعالم الإنسان وبينها حقيقة الوجود الصهيوني المعادي، فيما ترتبط الجوانب العملية بالآليات والوسائل التي منها الفعل المقاوم الذي يقف على دفتي الترجيح بين المبادرة أو الاستسلام.
وأما من ناحية قيادة المقاومة، فإن الخطاب الموازي للفعل المقاوم لم يخل يوماً من تقديم مبررات للعقل الجمعي على أن المقاومة لا تعني المغامرة وإنما تقترن بالعقل حيث نجد عناصر هذا الخطاب تقدم بإزاء أعمال العدوان اليومي لإسرائيل وأمريكا في فلسطين والعراق تجربة نجاح المقاومة في تحرير الأرض في جنوب لبنان، وعناصر أخرى تتصل بالتخطيط في إدارة المعركة، وبأن المقاومة تمتلك كل أسباب القوة من سلاح ردعي وبنية قتالية متماسكة وهي عناصر تحمل قدراً كبيراً من الأهمية لتسويغ المبادرة. وحتى ولو كانت النتائج متواضعة بنظر بعضهم، فإن المقاومة تكون متصلة بحلقات أخرى في البناء الاستراتيجي لخوض المعركة المصيرية التي تستوجب المبادرات العربية والإسلامية بعد أن تكون المقاومة قدمت النموذج في هذا الميدان.
قد يصح هذا الفهم في اعتباره أحد عناصر التأييد والتفاف الشعوب والحكام لارتباط العقل التبريري بمصالح دوام السلطة فضلاً عن تعوده على مصادرة وظيفة العقل الجمعي لهذه الشعوب بحصره بالحاكم في عقله الأبوي الذي لا يكف عن اعتبار الأفراد أطفالاً ومراهقين قاصرين عن مصالحهم الخاصة فكيف بمصالح الشعوب؟ ومن هنا كانت ممارسة دوره الأبوي على أن المبادرين في الفعل المقاوم ليسوا سوى مغامرين لا يستوجب الأمر عودتهم إلى أحضان الأبوة على غرار الأطفال وحسب وإنما يجب أن يتحملوا تبعات أعمالهم عندما يضيق الأب ذرعاً بممارسة أبوته ليست في السلطة وإنما في مصادرة العقل حتى ولو كان هذا العقل عمومياً بالفطرة ويتوزع على عموم بني البشر.
المصادر :
1- غي روشيه، مدخل إلى علم الاجتماع، ج1، تعريب مصطفى دندشلي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1983، ص 107.
2- المصدر نفسه، ص 115.
3- د. علي سالم، منهجيات في علم الاجتماع المعاصر، ممصدر سابق، ص 112.
4- غي روشيه، مدخل إلى علم الاجتماع، مصدر سابق، ص 88.
5- حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1998، ص 219.
6- د. علي سالم، منهجيات في علم الاجتماع المعاصر، مصدر سابق، ص 206.