القيادة و الجماهير

القائد هو الذي يتمتع بصلاحية الإمرة والسلطة والنفوذ والجمهور أو الشعب أو الأمة هي التي تسلم بوجود هذه القيادة وتذعن لتوجيهاتها ولأوامرها وتدين لها بالطاعة والولاء.
Monday, April 30, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
القيادة و الجماهير
 القيادة و الجماهير


القائد هو الذي يتمتع بصلاحية الإمرة والسلطة والنفوذ والجمهور أو الشعب أو الأمة هي التي تسلم بوجود هذه القيادة وتذعن لتوجيهاتها ولأوامرها وتدين لها بالطاعة والولاء.
ولكن من أين تتأتى هذه المشروعية للقيادة فيما تؤول إليه من حق التمتع بالإمرة والنفوذ؟ وكيف يمكن للجمهور أو جماعة من الناس أن تسلّم وتدين بالخضوع والطاعة؟
فلا يمكن لهذه العلاقة بين الطرفين أن تنشأ من فراغ، لاسيما أنه ومن حيث مقتضيات العقل، ليس ثمة ما يبرر لفرد من الأفراد أن يتمايز عن الآخرين ويعلو عليهم بحكم المساواة التي تقتضيها الطبيعة. فالأفراد متساوون بحسب الفطرة بإدارة شؤونهم الذاتية، والفرد يأبى الخضوع للآخرين إلا إذا كانت ثمة مبررات موضوعية أو طبيعية تحتم ذلك.
ومن بين هذه المبررات المنحكمة إلى الطبيعة، العلاقة بين الأب وأبنائه، وهي تفترض في أحد وجوهها حق الأب في الإشراف والتدبير وصون مصالح أبنائه بحكم حاجة الأطفال للانقياد له لعجزهم عن إدارة شؤونهم الذاتية1.
ثم تأتي القوانين والأعراف والتعاليم الدينية لتكرس هذه العلاقة في حدود معينة. فالقيم في المجتمعات الريفية تقتضي تقديم الطاعة للأب ولكبير السن، والقوانين الحديثة تعترف للأب بسلطة الوصاية على أبنائه حتى بلوغهم السن القانونية، ثم يأتي الدين ليحثَّ على أواصر تلك العلاقة التي تستمر حتى ما بعد سن الرشد حتى ولو بلغ الوالدان أرذل العمر.
وما يسري على العلاقة الوالدية يسري على سائر التجمعات البشرية حتى تلك الموغلة في القدم والسابقة على وجود الدولة والتنظيم السياسي بالمعنى الحديث.
لقد لعبت الأعراف دوراً بارزاً في تحديد الزعيم القائد الذي ينبغي على الجماعة أن تدين له بالولاء والطاعة. على أن تلك الأعراف لم تنشأ من فراغ، وإنما مما يشكله الزعيم من فائدة تعود على الجماعة في التماسك والتضامن والمنفعة التي تعبر عن حاجة هؤلاء الأفراد.
إن ما تقدمه لنا المجتمعات القبلية البائدة في أميركا الجنوبية وأفريقيا هو صورة مدهشة لتلك العلاقة من التنظيم بين الزعامة القائدة والجماعة المطيعة، حيث تقدم تلك المجتمعات نماذج من الزعامة من حيث مواصفاتها ودورها وتصنيفها.
خلال المعارك الحربية يتمتع الزعيم بسلطة مطلقة النفوذ عندما تواجه الجماعة خطراً خارجياً أو حين شن الحملات الحربية. على أن تتوقف هذه الزعامة لتؤول إلى زعيم السلم الذي عليه نشر السلام داخل الجماعة وفض المنازعات الداخلية وحلّ الاختلافات ليس عن طريق استعماله لقوة لا يمتلكها أصلاً، وإنما بالاتكال على نفوذه وسمعته وفضائله ونزاهة كلمته التي تتكرس بفضل قدرته على إرساء السلم بين الجماعة، وقدرته الكلامية فضلاً عن وجوب كونه معطاءً من خيراته ولا يسمح لنفسه برفض الطلبات العديدة من قبل أتباعه2.
وإلى جانب الزعامة العسكرية والمدنية ثمة دور ريادي لرجل الدين الذي يتعين عليه القيام بالطقوس الدينية، وهو ما يعبر عن أزلية النظم الدينية بغض النظر عن كونها مقنعة، أو غير مقنعة ويفسّر ذلك لدى علماء الاجتماع، أن الإنسان منذ بدء وجوده في الغابة حاول تفسير ما يجري حوله من حركات الطبيعة وظواهرها الغامضة التي لم تكن لديه القدرة على التأثير فيها، فافترض - هؤلاء العلماء - وجود قوى خفية تحرك هذه الظواهر، أو أنه لجأ إلى الفكرة الدينية للتخلص من حالة الخوف والشك، ذلك أن للدين وظائفه الهامة فهو يساعد على تفسير الأحداث المعقدة والتي تبدو بصورة ظاهرة غير قابلة للتفسير ولهذا يستخدم الاحتفالات والطقوس والعبادات الدينية ليضمن الاتصال بتلك القوى عن طريق وسطاء يعتقد أن لهم قدرة كبرى على ذلك الاتصال3.
وبمعزل عما يمكن أن يوجه لهذه النظرية التي تفسر نشوء الدين بسبب الجهل والخوف خصوصاً من قبل العاملين في هذا الحقل نفسه الذين يعدون ذلك لا يخرج عن دائرة الافتراض التي لا ترقى إلى الملاحظة العلمية لكون رواد نظرية الخوف والجهل متقدمين زمنياً عن المجتمعات البائدة ولا يمكن إرساء نظرية علمية في حقل اجتماعي مع افتقاد العالم والباحث إلى المحايثة والمزامنة مع الظاهرة.
وبحسب الفهم الديني لاتّباع الديانات السماوية ومنها الإسلام، أن ليس ثمة مجتمعات خارج دائرة النبوّات، وأن ما كان قائماً هو انحراف عن دائرة الاستجابة للدعوات.
على أنه ما يهم في هذا الأمر هو العودة إلى توصيف القيادة أو الزعامة الدينية في تلك المجتمعات والتي خضعت إلى تدوين وظائفها من خلال ملاحظات الانثروبولوجيين بمعزل عن تفسير أسباب نشوء ظاهرة الدين. الزعامة الدينية في اغلب القبائل الأميركية الجنوبية هي للساحر الشامان، حيث للشامان صورة مهمة جداً لدى المجتمعات الهندية، فهو يبدو محترماً مثيراًً للاعجاب وللخشية، ذلك أنه الوحيد القادر داخل الجماعة، والذي يمتلك القدرة ما فوق الطبيعية للسيطرة على عالم الأرواح والأموات والخطر، إن هذا الساحر الشامان هو عالم يسخر معرفته لخدمة الجماعة من خلال معالجته للأمراض من خلال قواه الخارقة على بعث الحياة والسيطرة على الموت4 .
ومن بين هذه القبائل قبائل الجيفارو التي تسكن حوض الأمازون ، والتي لم يُعرف أفرادها إلا منذ القرن الخامس عشر والذين رغم استقبال القادمين لهم في أوائل القرن العشرين لكن احتكاكهم المؤثر بالإنسان الأبيض لم يحصل حتى الآن حيث بقيت هذه القبائل من القبائل النقية بعد قبائل الأقزام في أفريقيا5 .
وفي الدولة الحديثة حيث يغدو الفرد مواطناً له حقوق وعليه واجبات تدخل في موارد كثيرة بينها الحق في الحياة والتجمع، والارتقاء والمشاركة السياسية، والاعتراض، وواجب الخدمة والتفاني بحب الوطن والتقيد والطاعة للقوانين الصادرة عن السلطات العليا، حيث تتكرس سلطة الإمرة والتزعم لدى النخبة القائدة، غير أنها ترتبط من ناحية أخرى بموجبات تتصل بالأفراد الذين عليهم الانقياد والخضوع، وهي موجبات ناشئة من طبيعة الارتباط بمصالحهم وغاياتهم وأهدافهم العليا منها والدنيا، وبمدى التزام القيادة بالأعراف والقوانين التي اقتضت ممارستهم لتلك التراتبية وإلا وضعت القيادة على محك المشروعية وجرى التشكيك والرفض والتمرد والعصيان ومحاولة تغييرها واستبدالها.
أنواع القيادة
الزعامة أو القيادة هي من اللوازم المفترضة لدى الجماعات على امتداد التاريخ لما تضطلع به من وظائف تختلف بحسب المرحلة التاريخية وبحسب درجة الرقي الحضاري التي تقف عندها هذه الجماعات، وهي بحسب ذلك الحال أنواع، بينها ما يلي:
أ- القيادة الكاريزمية
خضع مفهوم الكاريزما كغيره من المفاهيم المتداولة في حقل الدراسات الاجتماعية للمقاربة والتحليل من قبل العديد من المفكرين الذين تناولوا الكاريزما كمفهوم وكدور ووظيفة تسهم في إحداث التغيير الاجتماعي.
ومن الرواد الأوائل بين هؤلاء المفكرين ماكس فيبر، الذي كان يرى أن هناك فترات تحوّل تمر بها المجتمعات بفضل وجود عباقرة وأبطال أو انبثاق فئة من الحكماء والأنبياء والمرشدين أو العلماء التكنوقراطيين.
والكاريزما مصطلح يعني " هبة الله " وهو يطلق على شخصية الفرد لتميزه عن غيره من الأفراد العاديين، بحيث ينظر إليه كقائد مزوّد بقوى وخصائص خارقة للعادة غير متوفرة في عموم الناس. قد يكون مصدر الصفات إلهياً، أو عبارة عن صفات مثالية تدفع صاحبها إلى مرتبة القيادة في نظر الناس. يوجد القائد الكاريزمي عادةً في حالات الوهن الاجتماعي والديني والاقتصادي والسياسي ويرتكز على الطاعة للبطل والتضحية من أجل تأدية رسالة.
والقائد الكاريزمي لا يظهر عادةً في الميدان وحده، بل يظهر عادة مع جماعات ثائرة تبقى مدينة في نشأتها واستمرارها له6.
ويمكن للقيادة الكارزمية أن تقوم بوظائف نفسية واجتماعية وتؤمن المساندة في الانتقال من مجموعة قديمة من القيم إلى مجموعة جديدة منها. والقائد في مثل هذه الحالة هو مصدر الشجاعة والإقدام والرغبة في نبذ القديم والحماس من أجل التغيير ومن أجل تثبيت الجديد.
أما التغيير الذي يفرضه القائد الكاريزمي فهو لا يعود له وحده، بمعنى أنه ليس مستقلاً عن الظروف الموضوعية التي يظهر فيها القائد، فبنظر فيبر أن ثمة خصائص للفترة التاريخية التي تقتضي وجود القائد الكاريزمي، ومعنى ذلك أن القائد الكاريزمي قد لا ينجح في بعض الأحيان، لأن الفترة التاريخية التي يظهر فيها تكون غير مؤاتية لنجاحه7.
ولا ينكر عالم الاجتماع بيار بورديو العناصر الذاتية في فهم الظواهر الاجتماعية وبينها الرجال العظام، ولكن ترتبط بعامل موضوعي آخرهو الوعي الجماعي للأفراد حيث يقول: إن شهرة الأشخاص الكبار من علماء ومفكرين وسياسيين وعسكريين وأنبياء ومرسلين الخ، مرتبطة بوعي الأفراد الذين يعتقدون بها. وإذا توقف هذا الاعتقاد، وما يستتبعه من مواقف وتصرفات، تزول شهرتهم لا محالة، ذلك دون اعتبار الوعي عاملاً منفصلاً عن طبيعة السلطة أو عن الظروف الاجتماعية والتاريخية التي وجدت فيها، والوعي في هذه الحالة عنصر منها8.
إذاً ثمة نوع من القيادة كونها تمثل علاقة سلطة وإمرة، يدور حولها جدل كبير في ميدان البحوث الاجتماعية ويتناول بنيتها وأسس تشكلها والدور الذي تلعبه لدى الجماعة، لكون علاقة الإمرة تتدرج صعوداً لدى هذه القيادة بحسب القائد وبحسب القضية التي يعمل من أجلها، ومنهج الوصول إلى الأهداف ومدى ارتباطها بالجماعة.
وينطلق السؤال حول القيادة الكارزمية: ما الذي يجعل هذا النوع من القيادة يتمتع بجاذبية لدى الجماعة أو الشعب أو الأمة فتقدم لها الطاعة وتستمر في إعلان ولائها لها وتكرس الاعتراف باستمرار اضطلاعها بالدور القيادي في عدة دورات انتخابية كما في القيادة الكارزمية الرسمية في المجتمعات الديمقراطية، أو في المجتمعات التي يسود فيها الاستفتاء، أو في القيادة غير الرسمية التي تتبوأ موقعها القيادي دون الحاجة إلى الأطر الانتخابية بل تتكرس زعامتها بسبب الاعتراف الشعبي بها. وقد يتخطى الولاء لها حدود الطاعة، إلى تماهي الأفراد معها تماهياً كلياً حيث تدخل في وجدان ووعي الأفراد ويتخطى دورها حدود السلطة إلى السلطان الذي يأخذ النفوس على محمل الطاعة والتقيد بأوامرها حتى ولو طلبت من الأفراد التضحية بالنفس من أجل الوصول إلى الأهداف التي يطرحها القائد؟
درج الاعتقاد على أن تشكل هذا النوع من القيادة أساسه مواصفات سلوكية وعقلية ونفسية وجسدية يمتلكها الزعيم القائد. ويجب أن يوحي القائد الكاريزمي بالثقة وبالكفاءة والدرجة العالية من التميز عن الآخرين.
غير أن هذه الأفكار تبقى أسيرة أطرها النظرية، وتدخل في باب الافتراض والغائية بمعنى أنها تجسد الأسس التي ينبغي للزعامة الكارزمية امتلاكها وليس الزعامة بعينها كما هي.
فثمة كثير من الزعماء الكارزميين ممن لا تتكامل لديهم هذه المواصفات وهي ناشئة بطبيعة الحال من قصور الإنسان وعجزه ومن عدم وجود الإنسان الكامل أو إنسان ما فوق.
ولذلك انتقلت الدراسات نحو التحديدات الميدانية للقيادة أي دراستها كما هي في كينونتها وليس من ناحية ما يجب أن تكون عليه هذه القيادة.
ذلك أن تصور ما ينبغي على القائد التحلي به ليس واحداً بين الدارسين سواء كان قائداً عادياً أو كارزمياً.
يرى باريتو أن نخبة القيادة تتشكل من الأكفأ والأفضل والأحسن أي من الذين حققوا نجاحات على المستوى الاجتماعي وليس الأخلاقي. وهذه النخب تملك من النفوذ ما يسمح لها بأن تؤثر في خيارات الأقلية الحاكمة وتحتل مواقع مميزة في الهرم بفضل مداخيلها أو حظوتها الاجتماعية.
يرفض ريمون آرون نظرية باريتو ويرى أنه منافٍ للمنطق أن ينتمي إلى مفهوم النخب كل الذين حققوا نجاحات بمن فيهم جماعة اللصوص، ويرى أنه من الصعب جداً تحديد شكل الإطار الذي تتم في داخله صناعة النخب من مواد النجاحات. ويربط مبدأ تقسيم النخب بممارسة النخب الديمقراطية التعددية. فهناك قادة سياسيون، وقادة إداريون، وقادة روحيون محركون للجماهير. بمعنى أن الممارسة الديمقراطية تأخذ بمبدأ المفاوضة والتوافق بين النخب دون المس باستقلالية الجماعة9 .
بإزاء ريمون آرون في نقده لباريتو باستبعاده الجانب الأخلاقي، فإننا نجد المجتمعات الحديثة ما زالت تعتبر هذا الجانب مطلوباً لدى القادة، وتكاد تملأ الصفحات اليومية للجرائد بالحديث عن الزعماء القياديين لدى الغرب متكلمة عن انخفاض شعبيتهم وعدم اعتبارهم قادة عظاماً بسبب الفضائح التي يتعرضوا لها من هدر وفساد وكذب، وعلاقات غرامية.
أما وجهة النظر التي يمثلها ريمون آرون والتي تحصر تشكل النخب القيادية بطبيعة المجتمعات الديمقراطية وبتوزيع القادة على مراتب وقطاعات متمايزة، وبأنها تسود انطلاقاً من مبدأ التوافق والمفاوضة التي تحول دون تعارض مصلحة النخب القيادية مع مصلحة العامة أو دون أن تعلو عليها، فتلك الوجهة تسود حالياً في الغرب لدى العديد من المفكرين وتصح على القيادة غير الكارزمية التي لم يعد لها وجود في الغرب انطلاقاً من الظروف الموضوعية التي تلعب دوراً في هذا الشأن، ومنها الآلية الديمقراطية التي تتيح للنخبة القيادية الوصول إلى سدة الموقع القيادي. تلك الآلية، تجعل القائد عاجزاً عن الاستمرار بموقعه القيادي بسبب طبيعة التنافس التي تسود، فضلاً عن استناد هذه الآلية إلى مبدأ الأكثرية التي تجعل قادة كثراً يتبوأون هذا الموقع القيادي باستحواذهم على أكثر من نصف عدد الناخبين ما يعني أن قيادتهم لا تعني التسليم الغالب أو الكلي. فثمة أقل من النصف أو الثلث أو الربع ممن لا يجدون فيه المؤهلات التي تناسب طموحاتهم بل كل ما في الأمر تتكرس سلطته بفعل القانون، حيث يجب التقيد بالمراسيم والتشريعات التي يصدرها القائد مع فريقه العامل في المؤسسات الدستورية والتي تنطبق على الجميع10 .
وقد يسود الاعتقاد، أنه لم تعد ثمة حاجة للكاريزما في الزعامة، أي إلى الرجل العظيم أو الخارق للعادة في المجتمعات الغربية بسبب آلية صدور القرار السياسي عن هيئة جماعية، ووجود معارضة تستطيع استخدام نفوذها في التأثير على مجريات القرار السياسي. فضلاً عن ذلك، ثمة استشاريون متخصصون ومراكز دراسات من ذوي الكفاءات تعين على اتخاذ القرارات السياسية وعلى رسم السياسات الاجتماعية والاقتصادية وعلى التخطيط في سائر المجالات.
إن وجود القيادة الكارزمية يرتبط لدى بعضهم بالمجتمعات السابقة على الديمقراطية خصوصاً في المجتمعات الشرقية التي يستبد فيها الزعيم وتتكرس زعامته بسبب شيوع الجهل وانعدام الوعي الزائد لدى الجماهير بمصالحها، فضلاً عن عقدة الانسحاق التي تسلب شخصية الأفراد على مدى حقبات تاريخية من ممارسة الطغيان والتي تجعل الأفراد مشدودين نحو التعويض عن الشعور بالنقص عن طريق التماهي مع القائد، الذي تجده ممتلكاً لصفات تجعل منه رجلاً عظيماً فتتماهى معه، ليسود لديها شعور بالتفوق والعظمة. هذا التماهي بين الحاكم والشعب يتم حين يصبح الكل واحداً. في الليلة التي مات فيها عبد الناصر عام 1970، ذهل العالم لذلك الذي صنعه العرب على امتداد أقطارهم، ولا سيما ما فعله المصريون من بكاء وعويل على نحو هستيري، ثم كانت الجنازة التي سار فيها ملايين البشر يبكون ويصرخون ويلطمون الخدود. ومن وجهة النظر الغربية، فإن ما جرى في أسبوع وفاة عبد الناصر بدا غير مفهوم على الإطلاق لدى العقل الأوروبي، إذ كان من الصعب على قوم تخضع حياتهم لعمليات حسابية عقلية، أن يفهموا تلك الحالة من الاكتئاب الجماعي التي بدت لهم كوباء انتشر خلال ساعات معدودة، فاستسلم الناس له، بحيث فقدوا القدرة على تمييز ما يفعلون، فغاب عقلهم الواعي وتركوا قيادتهم لمجموعة من الانفعالات الحادة11.
ولأن صورة عبد الناصر في المنظور الغربي الاستعماري كانت صورة دكتاتور وطاغية يحتقر الشعب بقسميه الواعي وغير الواعي فيعامل الأولين بالمعتقلات والسجون، ويخضع الآخرين لعمليات غسل مخ عنيفة تحول بينهم وبين الوعي بمصالحهم، فقد كان طبيعياً وفق تطبيق المحكمات الأوروبية أن يفرح المصريون لموت من عذبهم وامتهن إرادتهم، أو أن يكتفوا بالترحم عليه انصياعاً للمشاعر الدينية التي تؤثم الشماتة بالموت. أما أن تنتشر تلك الحالة العنفية من الاكتئاب الجماعي فإن الأمر يصبح عسيراً على الفهم.
هذا الاعتقاد هو خاطئ بلا شك لأن طبيعة المجتمع البشري حتى مع نظام العولمة يقدم نماذج تُظهر أن القائد العظيم أو المتميز لا زال مطلباً ويمكن أن يحيل إلى طبيعة الفطرة البشرية، فما الذي يرفع أشخاصاً في عصرنا الحديث إلى الاستمرار كرجال قياديين في سدة الحكم لدورات انتخابية متتالية من أمثال مارغريت تاتشر التي لقبت بالمرأة الحديدية في بريطانيا، أو أمثال هلموت كول في ألمانيا وميتران في فرنسا قبل أفول نجم هؤلاء الزعماء.
لقد عرفت أوروبا وأمريكا زعماء عظاماً بنظر شعوبهم كنابليون وديغول وجورج واشنطن وجون كيندي وريتشارد نيكسون، ولكن من غير الصحيح أن الديمقراطيات الحديثة لا تستوجب رجالاً عظماء بل إن سرعة أفول نجم الزعماء الحاليين بسبب فشلهم في تحقيق الرضا لدى شعوبهم على مستوى الداخل، وفشلهم في النجاح في المهمات التي تصدوا لها على صعيد الأمم في الخارج، من حرية وتنمية وسيادة الوفاق والسلام بين الشعوب، تجعل من القيادة الكارزمية مطلباً لدى هذه المجتمعات وهم يفتقدون إليها. وفي هذه الوجهة يرى روبرتو عالم الانتربولوجيا في جامعة نوتردام الأميركية، أن ثمة مواصفات مطلوبة للزعيم وهي مواصفات لم يكن متوقعاً من زعماء الماضي أن يتحلوا بها، فهو يحدد المميزات المطلوبة من الزعيم بقوله: "يجب أن يكون الزعيم دون جواناً، أنديانا جونز، مغامراً وأينشتاين مجتمعين في شخص واحد، يجب أن يكون جذاباً مثيراً وبارداً رابط الجأش في آن واحد" ويتابع "إن دول أميركا اللاتينية والعالم العربي لديها مشكلة النظرة الألوهية والمنزلة المقدسة التي تراها في زعمائها. في المقابل إن الديمقراطيات الحديثة لديها مشاكل من نوع آخر تحاول دائماً استنباط أفكار جديدة، أما زعماؤها فإنهم سريعو الأفول"12.
لقد غابت القيادة الكارزمية عن ساحة الغرب ولكن ذلك لا يعني غيابها عن الوجدان الذي إستبدلها بنماذج أخرى تم إحلالها مكانها، وهي النماذج الناجحة التي تقدم صورة الإنسان الكامل أو صورة البطل الأسطوري التي تصنع بحرفية ماهرة في أفلام السينما في هوليود، ذلك البطل الذي يمتلك كل امكانيات القوة والقدرة والذكاء والمبادرة، والذي يظهر بوجهه الحسن وقامته المتناسقة وقدرته على في السيطرة على زمام الأمور حين تحبس أنفاس المشاهد وتتسارع نبضات قلبه ويتصبب عرقاً، إزاء البحث عن حل المعضلة التي حبكت بذكاء مدهش، حينذاك يظهر البطل الواثق من نفسه هابطاً من طائرة أو سيارة تسير بسرعة جنونية حاملاً بندقية لا تكاد رصاصاتها تنفذ، فترتاح النفوس. إن تلك النماذج من الأبطال ليست من صنيعة المخرج فحسب، وإنما هي صنيعة الواقع الاجتماعي المؤلم الذي يعيشه الغرب بالداخل من سرقة وعصابات مخدرات، وجريمة منسقة تستوجب السيطرة عليها أبطالاً ونماذج على غرار ما تقدمه هوليوود، وهي وليدة أزمة علاقة الغرب مع الخارج في زمن الحرب الباردة وفي فيتنام، وصراعه مع ما يدعوه مع الإرهاب الأصولي.
وليس من الغرابة والحال كذلك، أن يصل بطل السينما في وجدان الشعوب إلى مصاف الرجال العظام، الذين يمني الفرد نفسه بمشاهدتهم عن كثب والحظوة بتواقيعهم، حتى تكاد الساحات تمتلئ لأجل مغنٍّ أو ممثل مشهور بجماهيرأكثر مما يستطيع حشده رجال السياسة الماهرون. وليس من العجب والحال كذلك، وصول ريغان من السينما إلى سدّة الرئاسة الأمر الذي يحمل في طياته دلالات، بينها الرغبة الشديدة في إسقاط صورة البطل من عالم السينما إلى عالم الواقع، أي عالم السياسة الذي يفتقد إلى هذه النماذج التي باتت حاجة مجتمعية، بعدما فقدت الكثير من المزايا والصفات الحميدة التي هي مطلب بشري على أية حال.
ب- القيادة الرئاسية
تكتسب هذه القيادة دورها من القوانين والمبادئ والأسس التي تضعها الجماعة سواء كانت جماعة أو شعباً في دولة، وهي تحصل عادة بموجب التعيين أو الانتخاب وبمدى رؤية الجماعة أو الشعب لزعامتها أو قيادتها من قدرة على الإضطلاع بهذا الدور بسبب التحلي بمواصفات ذاتية واستعدادات تم اكتسابها بفعل الخبرة والمران والجهد المضني والعمل الدؤوب.
وبمجرد الاضطلاع بهذه المكانة، تفترض طبيعة هذه المكانة ممارسة الدور القيادي، وإظهار الطاعة والانقياد من الآخرين طالما حافظت القيادة الرئاسة على التقيد بالصلاحيات الممنوحة، وبغايات وأهداف ممارسة السلطة.
على هذا الأساس يمكن تسمية هذا النوع من القيادة بالقيادة الرسمية لاكتسابها الطابع القانوني في الاستحواذ على المكانة وممارسة الدور.
فموارد التسليم والاعتراف بدور هذه القيادة ليس منوطاً بالقوانين وحدها دائماً، وبرؤية الأفراد لقدرتها على تحقيق غاياتهم وأهدافهم. لذلك يمكن أن يتعرض هذا النوع من القيادة للكثير من التشكيك والرفض حين يشعر الأفراد بعجز القيادة عن تحقيق ذلك، فضلاً عما يتعرض له من تحدي إقصائها عن السلطة بفعل رغبة آخرين ممن يجدون أنفسهم مؤهلين للاضطلاع بهذا الدور مستفيدين من القوانين التي تسمح لهم بالتنافس على السلطة، لكن في العمق، وبمعزل عن القوانين التي تضعها الدول كآليات لتداول السلطة، تبقى السلطة. مطلباً إنسانياً لما تمثله من جاذبية لا تقوم فقط على الوسائل الهائلة التي تضعها في تصرف صاحبها، بل تقوم أيضاً على الغموض الذي يكتنف العلاقة بين إرادة الحاكم الخاصة وإرادة الدولة الواحدة الجامعة. فمن الطبيعي والحال هذه، أن يتزاحم الطامحون إلى السلطة في الدول, وأن يكون تزاحمهم شديداً وقاسياً بحيث لا ينتهي مؤقتاً إلا بغلبة تامة لواحد منهم على الآخرين أي بفوزه بتفويض السلطة13 .
ج- القيادة الدينية
وهي شكل آخر من أشكال القيادة لكونها تترتب عليها علاقة الإمرة والطاعة بين القائد الديني والأتباع. وهم بوصفهم مؤمنين بدين أو مذهب ما من مذاهب الدين، عليهم الانقياد والانصياع وتقديم الطاعة للقائد الديني الذي يتصدى بوصفه عالماً بأحكام الدين وبعالم السماء والغيب، لتفسير وشرح وتبيين تلك الأحكام وما يتصل بها من بعض الغموض، ومن توضيح لدلالاتها المتعلقة بالطقوس الدينية ومراسم العبادات وأشكال تأديتها.
فشرط تلك العلاقة هي المعرفة والتعمق والفهم من قبل القائد الديني لأحكام الدين للقائد الديني، والتي تجعله متمايزاً عن غيره من رجال الدين وعن عامة المؤمنين فضلاً عن التقيد بأحكام الدين ومترتباته أكثر من غيره.
وقد يطرح القائد الديني نفسه بين الأتباع فتكرَّس قيادته لديهم بوصفهم عامة المتدينين أو يجري انتخابه من قبل نخبة من رجال الدين كمجمع الكرادلة بانتخابهم للبابا الذي هو رأس الكنيسة لدى المسيحيين، أو لجنة من الخبراء لدى بعض الطوائف الإسلامية، أو بواسطة التعيين الرسمي من قبل السلطة السياسية التي تنأى بنفسها عن احتكار السلطة الدينية بوصفها سلطة تتعلق بشؤون الآخرة دون شؤون الدنيا التي هي من متعلقات السلطة السياسية.
أما الشرط الآخر في تقديم الطاعة، فمرده إلى شعور المؤمنين تجاه هذه القيادة بتلبية رغبتهم العميقة والدفينة في الخلاص الأخروي بعد الموت أو نيل السعادة في دخول الجنة.
تبرز تعبيرات هذه الطاعة من خلال الانقياد والالتزام بإرشادات وتوجيهات وإفتاءات القائد الديني دون أن يترتب في الخروج عنها أي جزاء مادي أو دنيوي كما في القيادة الرسمية وإنما الجزاء هو جزاء أخروي يعود إلى إحساس المؤمن بالذنب وبعواقب الأمور في عالم الآخرة بحسب إتساع دائرة المخالفة والخروج عن جادة الصواب الديني، أو عن جادة الفهم الذي يقدمه القائد الديني بوصفه منتمياً لإحدى طوائف هذا الدين والتي تتمايز عن غيرها من الطوائف.
وكلما كان ثمة مشاكلة في الانتماء بين القائد والأتباع، كلما اشتدت علاقة الإمرة والسلطة وتوثقت، وكلما اتسعت دائرة الابتعاد عنها وهنت وضعفت.
المصادر :
1- ناصيف نصار، منطق السلطة, دار أمواج , 1995,ص 23
2- بيار كلاستر، مجتمع اللادولة، ترجمة محمد حسين دكروب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1991، ص 32.
3- فهمي سليم الغزوي وآخرون، المدخل إلى علم الاجتماع، دار الشروق عمان 1992ـ ص 240.
4- بيار كلاستر، مجتمع اللادولة، مصدر سابق ، ص 147.
5- د. علي وهب، الجغرافيا البشرية، المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1986، ص 142.
6- د. عبد الغني عماد، سوسيولوجيا الثقافة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2006، ص 198.
7- المصدر نفسه، ص 199.
8- د. علي سالم، منهجيات في علم الاجتماع، دار الحمرا، بيروت 1992، ص 176.
9- كلير صعب، مجلة العلوم الاجتماعية، صادرة عن مركز الأبحاث في معهد العلوم الاجتماعية الجامعة اللبنانية، تشرين أول 1997.
10- أنظر كلير صعب، مجلة العلوم الاجتماعية، مصدر سابق.
12- انظر كلير صعب، مجلة العلوم الاجتماعية، مصدر سابق.
11 - امام عبد الفتاح امام, الطاغية, سلسلة عالم المعرفة, العدد 183, المجلس الوطني الكويت ,ص 336.
13- ناصيف نصار، منطق السلطة، مصدر سابق، ص 153.
 


نظرات کاربران
ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.