"اللهم.. جيراني ومواليّ العارفين بحقنا، والمنابذين لأعدائنا.. وفقهم لإقامة سنتك والأخذ بمحاسن أدبك في.. كتمان أسرارهم1.. اللهم صل على محمد وآله واجعل القرآن.. لألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرساً ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً"2.
أ- في رحاب الدعاء
يدعو الإمام عليه السلام ربه تعالى أن يوفّق شيعته الموالين له العارفين بحقه العاملين بما توجبه ولايتهم له من البراءة من أعدائه ومنابذتهم، ومناصرة أهل الحق ومعاونتهم لأن يقيموا السنّة الإلهية ويعملوا بآداب الدين التي من جملتها كتمان السر والحفاظ على الأمانة وغير ذلك حيث من الخيانة إفشاء السر الذي إئتمن المرء عليه، ولا يحب الإمام عليه السلام أن يرى في أتباعه خونة لا يراعون الحقوق، ولا يقيمون لعواقب الأمور وزناً وأن ترتب على إذاعة الأسرار ما يؤدي إلى الفرقة بين الأخوة ونشر الضغينة بين الأرحام، والإفساد في المجتمعات، بل على العكس تماماً، شيعته هم حفظة الأسرار الأمناء المنزّهون عن هذه الآفة اللسانية القبيحة يقول الصادق عليه السلام: "إفشاء السر سقوط"3.
وفي الحديث: "سرك سرورك إن كتمته، وإن أذعته كان ثبورك"4.
ب- الكتمان سبب النجاح
إن من أقوى أسباب النجاح، وأدوم أحوال الصلاح، وأدل شيء على سعة النفس، وغزارة العقل كتمان السر، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "أنجح الأمور ما أحاط به الكتمان5 من كتم سرّه كانت الخيرة في يده"6.
وعنه عليه السلام: "سرّك أسيرك فإن أفشيته صرت أسيره"7.
وقد أخذ أحد الشعراء حديث الأمير عليه السلام فنظمه وقال:
أسيرك سرّك إن صنته / وأنت أسير له إن ظهر
فسرّ امرئين وشيك الظهور/ وسرّ الثلاثة لن يستتر
ومما أوصى به بعضهم: كن على حفظ سرك احفظ منك على حقن دمك، فكم من اظهار سر، أراق دم صاحبه، ومنع من نيل مطالبه، ولو كتمه كان من سطواته آمناً، ومن عواقبه سالماً، ولنجاح حوائجه راجياً.
هذا فيما يتعلق بإفشاء المرء لأسراره الشخصية والبيتية التي لا ترتبط بالآخرين وأما ما يتعلق بهم فلا شك أن كشف أسرارهم التي أودعوها عنده أقبح من كشف سر نفسه، لأن الذي يبدي سرّ غيره ويفشيه يبوء بوصمة الخيانة والنميمة كما تقدم.
ويتأكد الاهتمام بالمحافظة على الأسرار أكثر كلما كانت ترتبط بقضايا خطيرة كالتي تعني شؤون العمل الجهادي من قبيل الخطط العسكرية، ومواضع تواجد المجاهدين، والمقدّرات الميدانية وما شابه هذه الأمور ويعتبر البوح بها إلى الغير خدمة مجانية إلى الأعداء، كما يصبح المتهاون بها شريكاً في كل ظلامة أو سفك دم أو ثغرة ناتجة عن بوحه بالسر المأمور بكتمانه.
ج- معيار حفظ الأسرار
يقول الصادق عليه السلام: "لا تطلع صديقك من سرك إلا على ما لو أطلعت عليه عدوك لم يضرّك، فإن الصديق قد يكون عدواً يوماً ما"8.
هذا الحديث يوضح المعيار والميزان الذي على ضوئه يكون الإبداء أو الإخفاء، وهو إن كان اطلاع الآخر على سرك غير مؤذٍ ولا مضر حتى لو انقلب عدواً أو أوصل السرّ إلى الأعداء فكشف هكذا سر مسموح به، وإلا لو كان اطلاعه عليه مضراً في حالة ما اتصل به عدواً فهو غير مسموح به وإن كانت الصداقة والمودة لا تزال قائمة بينهما، هذا على الصعيد الفردي ومنه نفهم ما هو على الصعيد العام.
سيّما وأن أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "جمع خير الدنيا والآخرة في كتمان السرّ ومصادقة الأخيار، وجمع الشر في الإذاعة ومؤاخاة الأشرار"9.
وقيل: صدور الأحرار قبور الأسرار.
د- الثقة أمين السرّ
هناك أمور تعتبر أسراراً مهمة تخصنا لكن لا نستغني فيها عن مساعدة صديق أو استشارة ناصح، أو معاونة إنسان حاذق عارف بكثير من مفاصل الحياة وبلاءاتها، فإذا كان لا بد لنا أن نودع أسرارنا لدى شخص يحمل مواصفات تساعدنا على بلوغ أهدافنا وإنجاح أعمالنا، لما يمتلك من مؤهلات قد يفتقدها البعض منّا، فكيف نختاره ليكون أميناً على ذلك؟
يجيبنا والد الشيخ البهائي رضوان الله عليه قائلاً: "فليختبر العاقل أميناً جليلاً إن لم يجد إلى كتم السرّ سبيلاً، وليتحرس في اختيار من يأتمنه عليه كل الاحتراس، فليس كل من كان على الأموال أمين كان على الأسرار أميناً، لأن العفة على الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار، بدليل أن المرء قد يظهر سره في غير محله بمبادرة لسانه، ويحترز في ذلك على اليسير من ماله، فلهذا كان أمناء الأسرار أشد تعذراً وأقل وجوداً من أمناء الأموال".
ومن صفات أمين السرّ
أن يكون ذا عقل راجح، ودين صالح، ونصح مبرور، وود موفور، كتوماً بالطبع، ثقة لا يكذب يخشى ربه في الخفاء والعلانية.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تودع سرّك إلا عند كل ثقة"10
وينبغي أن يكون شديد الحرص في إخفاء السرّ كما أنشد بعضهم:
ومستودعي سراً تبوأت كتمه / فأودعته صدري فصار له قبراً
وقيل لبعض الحكماء: كيف حفظك للسرّ فقال: أنا قبره.
هـ- من لا ينبغي إيداع السرّ عندهم
1- الجاهل الأحمق:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تسرّ إلى الجاهل شيئاً لا يطيق كتمانه"11.
وفي الحديث: "إن قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه"12.
2- الخائن:
فيما روي: "لا تودعنّ سرّك من لا أمانة له"13.
3- النمّام:
والذي تجدر الإشارة إليه قبل أن نختم الكلام في هذا الدرس أنه مع توفر المواصفات المطلوبة لأمين السرّ، فإن كان لا ضرورة أو لا حاجة إلى كشف السرّ على الإطلاق، بحيث أن الإنسان لمجرّد الميل لديه لاطلاع الآخر الثقة على معلومات تخصّه قام ببيانها له، ولأنه يأنس بذلك، فإن الأفضل الاحتفاظ بها وعدم إبدائها طالما أنه ليس من شيء يدعوه إلى هذا الأمر وقد حثّت الروايات في مثل هذه الحالات على التفرد بالسرّ.
قال الصادق عليه السلام: "سرّك من دمك فلا تجريه في غير أوداجك"14.
وقال عليه السلام: "صدرك أوسع لسرّك"15 ومما روي: "المرء أحفظ لسرّه"16.
من فقه الاسلام
س: هل يجوز التحدث أمام الناس عن الأسرار الشخصية وعن الأمور الخاصة السرّية؟
ج: لا يجوز كشف وإظهار الأمور الخاصة الشخصية أمام الآخرين فيما إذا كانت مرتبطة بوحه ما بغيره أيضاً أو كان موجباً لترتب مفسدة.
س: يسأل الطبيب النفساني غالباً عن الأمور الشخصية والعائلية للمريض للإطلاع عن أسباب مرضه للتطرق من خلال ذلك إلى علاجه، فهل يجوز للمريض الإجابة على ذلك؟
ج: لا بأس فيه إذا لم تترتب عليه مفاسد ولم يكن غيبة ولا إهانة لشخص ثالث.
س: ربما يرى بعض عناصر الأمن لزوم الدخول في بعض المراكز والاختلاط بالجمعيات لغرض كشف مراكز (الجمعيات) الفحشاء والمجموعات الإرهابية، كما تقتضيه أساليب التجسس والتحقيق، فما هو حكم مثل هذه الأعمال شرعاً؟
ج: لا مانع منها إذا كانت بإذن المسؤول المختص ومع الالتزام بمراعاة الحدود والمقررات القانونية ومع الاجتناب عن التلوث بالمعصية وفعل الحرام، ويجب على مسؤوليهم رعايتهم والعناية بهم من هذه الجهة بشكل تام.
س: هل يجوز التجسّس على المؤمنين في أمورهم الشخصية وغيرها بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما لو رأى منهم فعل المنكر أو ترك المعروف؟ وما هو حكم الأشخاص الذين يتجسسون للعثور على مخالفات الناس مع أنهم ليسوا مكلفين بالتجسّس؟
ج: لا مانع من مبادرة خصوص موظفي الفحص والتفتيش الرسميين إلى البحث والتحقيق القانوني عن أعمال الموظفين حول العمل الإداري أو غيره في إطار الحدود والمقررات القانونية، وأما التجسس على عمل الآخرين أو التفتيش في أعمال وسلوك الموظفين لكشف أسرارهم خارج الحدود والضوابط فلو يجوز لهم فضلاً عن غيرهم17.
قال تعالى: "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ"18
عن الإمام الرضا عليه السلام: "لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون فيه ثلاث خصال: سنّة من ربه وسنّة من نبيه، وسنّة من وليّه، فالسنّة من ربه كتمان سرّه قال اللَّه عزّ وجلّ: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه..."19.
إفشاء السرّ قتل الولد؟!
كان رجل من أهل المدينة يذهب إلى بعض الأرياف، لشراء الشاة والدهن والصوف وما أشبه، وكان له عميل في الريف يرد عليه فيشتري له ما يريد.
وذات مرة أخذ معه مالاً ضخماً وقصد الريف ونزل عند عميله وذكر له حاجياته، وإنه يريد الشراء بمبلغ كذا..
قال التاجر: وبمجرد أن ذكرت للعميل كمية المال الذي معي، وإذا بي أرى آثار التغير في وجه العميل، فعلمت أنه أراد بي سوءاً فندمت، ولكن لا ينفع الندم.
نعم: استر ذهبك وذهابك ومذهبك، حتى عن الأصدقاء يقول الشاعر:
إحـذر عدوك مرة / واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق/ فكان أعلم بالمضرة
قال التاجر: ولكن لم يكن لي ملجأ، ألجأ إليه في تلك الليلة.. وبعد تناول الطعام فرش لي صاحب البيت في غرفة من غرف البيت، وذهب هو وزوجته إلى غرفة أخرى، لكنّ النوم لم يزر عيني من القلق، وأخيراً قرّرت أن أخرج من غرفتي وأختفي في بعض زوايا البيت، وهكذا فعلت..
فخرجت.. وحيث لم أجد مكاناً للاختفاء إلاّ الإسطبل اختفيت فيه، وأخفيت نفسي إلى رقبتي في التبن الذي خزّن في الإسطبل.. لكن عيني كانت تحدق بإتجاه الغرفة.
وإذا بي أرى نصف الليل أن شخصاً دخل الدار وذهب إلى غرفتي.. ولم أعرف من هو ذلك الشخص؟
وبعد مدّة رأيت في ضوء القمر أنّ صاحب البيت وزوجته قاما وهما يتهامسان حتّى دخلا وعلمت أنّهما يريدان بي شراً، ولم تمض مدّة إلاّ ورأيت الزوجين أسرعا وأضاءا مصباحاً نفطياً ودخلا الغرفة، ثم رأيتهما يخرجان ويسحبان جثّة إنسان ملفوف إلى السرداب.
قال الرجل: ولمّا دخلا السرداب قمت من مكاني وهربت من القرية قاصداً البلد، ومشيت حتّى وصلت البلد بكلّ خوف وصعوبة، وأخبرت الشرطة بما جرى.
فجاءت مفرزة من الشرطة معي إلى القرية، وألقوا القبض على الزوجين، ودخلنا السرداب وحفرناه، وإذا بنا بجثّة الرجل المذبوح، وبعد التحقيق تبيّن أن المذبوح ولد صاحب البيت، وأنّه كان خارجاً لبعض شؤونه، ولمّا دخل الدار نام في تلك الغرفة، والزوجان ظنّاه أنه التاجر فقتلاه في الظلام.
المصادر :
1- د26، ص109، س1.
2- د42، ص159، س12.
3- تحف العقول، 315.
4- غرر الحكم: 5616.
5- م.ن. 3284.
6- ميزان الحكمة، حديث:8400.
7- م.ن. حديث: 8402.
8- مشكاة الأنوار: 323.
9- البحار: 72.
10- البحار: 3 235 77.
11- غرر الحكم: 10265.
12- المحجة البيضاء، ج3، ص328.
13- غرر الحكم: 10166.
14- ميزان الحكمة، حديث: 8422.
15- مستدرك سفينة البحار، ص15.
16- ميزان الحكمة، حديث: 8404.
17- أجوبة الاستفتاءات، ج2، ص108 107.
18- الجن:26.
19- البحار، ج75، ص68، حديث: 2.