اعتاد الإنسان الساكن بين جدران الزمان والمكان أن يتعرّف على الأشياء مقيّدة بالزمان والمكان موصوفة بالتحيّز والتجسيم، متَّسمة بالكيف والكم، وما إلى ذلك من لوازم المادَّة ومواصفات الجسمانية، فقد قضت العادة الملازمة للإنسان، أعني: أُنسه بالمادّة واعتياده على معرفة كلّ شيء في الإطار المادّي، أن يُصوِّر لربِّه صوراً خيالية على حسب ما يألفه من الأمور المادّية الحسيّـة، وقلَّ ما أن يتّفـق لإنسان أن يتوجّه إلى ساحة العزّة والكبرياء ونفسه خالية عن المحاكاة.
بين التشبيه والتعطيل
على ذلك الأساس افترق جماعة من الإلهيين إلى مشبِّه ومعطِّل، فالأوّلون تورّطوا في مهلكة التشبيه وشبّهوا بارئهم بإنسان له لحم، ودم، وشعر، وعظم، وله جوارح وأعضاء حقيقية من يد، ورجل، ورأس ويجوز عليه المصافحة والانتقال . وإنكار بارئ بهذه الأوصاف المادّية المنكرة أولى من إثباته ربّاً للعالم، لأنّ الاعتقاد بالبارئ بهذه الصفات يجعل الألوهية والدعوة إليها منكراً تتنفّر منه العقول والأفكار المنيرة.
والطائفة الثانية أرادت التحرّز عن وصمة التشبيه وعار التجسيم فوقعت في إسارة التعطيل، فحكمت بتعطيل العقول عن معرفته سبحانه ومعرفة صفاته وأفعاله،
قائلة بأنّه ليس لأحد الحكم على المبدأ الأعلى بشيء من الأحكام وليس إلى معرفته من سبيل إلّا بقراءة ما ورد في الكتاب والسنّة، فقالت: إنّ النجاة كلّ النجاة في الاعتراف بكلّ ما ورد في الشرع الشريف من دون بحث ونقاش، فقد نقل عن سفيان بن عيينة أنّه قال: "كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه" .
ما هو المسلك الصحيح؟
ولكن هناك طائفة ثالثة ترى أنّ من الممكن التعرّف على صفاته سبحانه من طريق التدبّر وعلى ضوء ما أفاض الله سبحانه على عباده من نعمة العقل والفكر.
وحجّتهم في ذلك أنّ الله سبحانه ما نصّ على أسمائه وصفاته في كتابه وسنّة نبيّه إلّا لكي يتدبّر فيها الإنسان بعقله وفكره في حدود الممكن، فهذا أمر يدعو إليه العقل والكتاب العزيز والسنّة الصحيحة.
ويكفي في تعيّن هذا الطريق ما ورد في أوائل سورة الحديد من قوله سبحانه: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ .
وما ورد في آخر سورة الحشر من قوله سبحانه: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ .
وغير ذلك من الآيات المتضافرة في بيان صفات ذاته وأفعاله تعالى.
فهل يظنّ عاقل أنّ تلك الآيات المتكثّرة إنّما أنزلها الله تعالى لمجرّد القراءة والتلاوة، ولو كان كذلك فما معنى التدبّر في الآيات القرآنية الّذي دعا القرآن نفسه إليه بوجه أكيد؟
وأوضح دليل على قدرة العقل على البحث ودراسة الحقائق السفلية والعلوية حَثُّ الوحي على التعقّل سبع وأربعين مرَّة، وعلى التفكّر ثماني عشرة مرّة، وعلى التدبّر أربع مرّات في الكتاب العزيز.
قال الإمام عليّ عليه السلام: "لَمْ يُطْلِع العقول على تَحديد صِفته، وَلَم يَحجُبْها عن واجب مَعرفته" .
والعبارة تهدف إلى أنّ العقول وإن كانت غير مأذونة في تحديد الصفات الإلهية، لكنّها غير محجوبة عن التعرّف حسب ما يمكن.
الطرق الصحيحة إلى معرفة صفاته تعالى
قد عرفت أنّ ذاته سبحانه وأسماءه وصفاته، وإن كانت غير مسانخة لمدركات العالم المحسوس، لكنّها ليست على نحو يستحيل التعرّف عليها بوجه من الوجوه، ومن هنا نجد أنّ الحكماء والمتكلّمين يسلكون طرقاً مختلفة للتعرّف على ملامح العالم الربوبي، وها نحن نشير إلى هذه الطرق:
الأوّل: الطريق العقلي:
إذا ثبت كونه سبحانه غنيّاً غير محتاج إلى شيء، فإنّ هذا الأمر يمكن أن يكون مبدأً لإثبات كثير من الصفات الجلالية، فإنّ كلّ وصف استلزم خللاً في غناه ونقصاً له، انتفى عنه ولزم سلبه عن ذاته.
وقد سلك الفيلسوف الإسلامي نصير الدِّين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية حيث قال: "وجوب الوجود يدلّ على سرمديته، ونفي الزائد، والشريك، والمثل، والتركيب بمعانيه، والضد، والتحيّز، والحلول، والاتحاد، والجهة، وحلول الحوادث فيه،
والحاجة، والألم مطلقاً، واللذة المزاجية، والمعاني، والأحوال، والصفات الزائدة والرؤية".
بل انطلق المحقّق من نفس هذه القاعدة لإثبات سلسلة من الصفات الثبوتية حيث قال: "وجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود، والملك، والتمام، والحقيّة، والخيرية، والحكمة، والتّجبُّر، والقهر، والقيُّومية" .
وعلى ذلك يمكن الإذعان بما في العالم الربوبي من الكمال والجمال بثبوت أصل واحد وهو كونه سبحانه موجوداً غنياً واجب الوجود.
ومن هنا تنفتح نوافذ على الغيب والتعرّف على صفاته الثبوتية والسلبية، وستعرف البرهنة على هذه الصفات من هذا الطريق.
الثاني: المطالعة في الآفاق والأنفس:
من الطرق والأصول التي يمكن التعرّف بها على صفات اللّه، مطالعة الكون المحيط بنا، وما فيه من بديع النظام، فإنّه يكشف عن علم واسع وقدرة مطلقة عارفة بجميع الخصوصيّات الكامنة فيه، وكلّ القوانين التي تسود الكائنات، فمن خلال هذه القاعدة وعبر هذا الطريق أي مطالعة الكون، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من الصفات الجمالية، وبهذا يتبيّن أنّ ذات الله سبحانه وصفاته ليست محجوبة عن التعرّف المطلق وغير واقعة في أُفق التعقّل، حتّى نعطّل العقول، وقد أمر الكتاب العزيز بسلوك هذا الطريق، يقول سبحانه: ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ .
وقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾ .
وقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ .
الثالث: الرجوع إلى الكتاب والسنّة الصحيحة:
وهناك أصل ثالث يعتمد عليه أتباع الشرع، وهو التعرّف على أسمائه وصفاته وأفعاله بما ورد في الكتب السماويّة وأقوال الأنبياء وكلماتهم، وذلك بعدما ثبت وجوده سبحانه وقسم من صفاته، ووقفنا على أنّ الأنبياء مبعوثون من جانب الله وصادقون في أقوالهم وكلماتهم.
وباختصار، بفضل الوحي ـ الّذي لا خطأ فيه ولا زلل ـ نقف على ما في المبدأ الأعلى من نعوت وشؤون، فمن ذلك قوله سبحانه: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ .
الرابع: الكشف والشهود:
وهناك ثلّة قليلة يشاهدون بعيون القلوب ما لا يدرك بالأبصار، فيرون جماله وجلاله وصفاته وأفعاله بإدراك قلبي، يدرك لأصحابه ولا يوصف لغيرهم.
والفتوحات الباطنية من المكاشفات أو المشاهدات الروحية والإلقاءات في الروع غير مسدودة، بنص الكتاب العزيز.
قال سبحانه: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ .
أي يجعل في قلوبكم نوراً تفرّقون به بين الحقّ والباطل، وتميّزون به بين الصحيح والزائف، لا بالبرهنة والاستدلال بل بالشهود والمكاشفة.
وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ .
والمراد من النور هو ما يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته في معاشه ومعاده، في دينه ودنياه .
وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ .
إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أنّ المؤمن يصل إلى معارف وحقائق في ضوء المجاهدة والتقوى، إلى أن يقدر على رؤية الجحيم في هذه الدنيا المادية.
قال سبحانه: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ .
نعم ليس كلُّ من رمى، أصاب الغرض، وليست الحقائق رمية للنبال، وإنّما يصل إليها الأمثل فالأمثل، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية والفتوحات الباطنية إلاّ النزر القليل ممّن خلَّص روحه وصفّى قلبه.
المفاهيم الرئيسة
- تعدّدت المسالك في معرفة صفاته تعالى بين التشبيه والتعطيل، وكلاهما باطل، إلا أنّ هناك مسلكاً ثالثاً ذهب إلى أنّه من الممكن التعرّف على صفاته سبحانه من طريق التدبّر وعلى ضوء ما أفاض الله سبحانه على عباده من نعمة العقل والفكر.
- وحجّتهم في ذلك أنّ الله سبحانه ما نصّ على أسمائه وصفاته في كتابه وسنّة نبيّه إلّا لكي يتدبّر فيها الإنسان بعقله وفكره في حدود الممكن، فهذا أمر يدعو إليه العقل والكتاب العزيز والسنّة الصحيحة.
- توجد العديد من الطرق في كيفية التوصّل إلى صفاته تعالى وهي:
1- الطريق العقلي: فإنّه تبارك وتعالى ولكونه غنيّاً عن كلّ ما سواه، وواجب الوجود لذاته، متّصف بجميع صفات الجمال والجلال.
2- المطالعة في الآفاق والأنفس: إنّ مطالعة الكون المحيط بنا، وما فيه من بديع النظام، يكشف عن علم واسع وقدرة مطلقة عارفة بجميع الخصوصيّات الكامنة فيه، ونحن عن هذا الطريق نتعرّف على عددٍ من الصفات الثبوتيّة لله تعالى.
3- الرجوع إلى الكتاب والسنّة الصحيحة: لقد ذخرت آيات الكتاب وأحاديث الأنبياء والمعصومين بالحديث عن صفاته تعالى، ونحن بوسيلة هذا الطريق نستطيع أن نتعرّف على كثير من هذه الصفات.
4- الكشف والشهود: وهو طريق خاصٌّ بثلّة قليلة من الناس وهبها الله تعالى القدرة على معرفة الكثير من الحقائق عن طريق تصفية الباطن.
المصدر:
راسخون 2018
بين التشبيه والتعطيل
على ذلك الأساس افترق جماعة من الإلهيين إلى مشبِّه ومعطِّل، فالأوّلون تورّطوا في مهلكة التشبيه وشبّهوا بارئهم بإنسان له لحم، ودم، وشعر، وعظم، وله جوارح وأعضاء حقيقية من يد، ورجل، ورأس ويجوز عليه المصافحة والانتقال . وإنكار بارئ بهذه الأوصاف المادّية المنكرة أولى من إثباته ربّاً للعالم، لأنّ الاعتقاد بالبارئ بهذه الصفات يجعل الألوهية والدعوة إليها منكراً تتنفّر منه العقول والأفكار المنيرة.
والطائفة الثانية أرادت التحرّز عن وصمة التشبيه وعار التجسيم فوقعت في إسارة التعطيل، فحكمت بتعطيل العقول عن معرفته سبحانه ومعرفة صفاته وأفعاله،
قائلة بأنّه ليس لأحد الحكم على المبدأ الأعلى بشيء من الأحكام وليس إلى معرفته من سبيل إلّا بقراءة ما ورد في الكتاب والسنّة، فقالت: إنّ النجاة كلّ النجاة في الاعتراف بكلّ ما ورد في الشرع الشريف من دون بحث ونقاش، فقد نقل عن سفيان بن عيينة أنّه قال: "كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه" .
ما هو المسلك الصحيح؟
ولكن هناك طائفة ثالثة ترى أنّ من الممكن التعرّف على صفاته سبحانه من طريق التدبّر وعلى ضوء ما أفاض الله سبحانه على عباده من نعمة العقل والفكر.
وحجّتهم في ذلك أنّ الله سبحانه ما نصّ على أسمائه وصفاته في كتابه وسنّة نبيّه إلّا لكي يتدبّر فيها الإنسان بعقله وفكره في حدود الممكن، فهذا أمر يدعو إليه العقل والكتاب العزيز والسنّة الصحيحة.
ويكفي في تعيّن هذا الطريق ما ورد في أوائل سورة الحديد من قوله سبحانه: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ .
وما ورد في آخر سورة الحشر من قوله سبحانه: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ .
وغير ذلك من الآيات المتضافرة في بيان صفات ذاته وأفعاله تعالى.
فهل يظنّ عاقل أنّ تلك الآيات المتكثّرة إنّما أنزلها الله تعالى لمجرّد القراءة والتلاوة، ولو كان كذلك فما معنى التدبّر في الآيات القرآنية الّذي دعا القرآن نفسه إليه بوجه أكيد؟
وأوضح دليل على قدرة العقل على البحث ودراسة الحقائق السفلية والعلوية حَثُّ الوحي على التعقّل سبع وأربعين مرَّة، وعلى التفكّر ثماني عشرة مرّة، وعلى التدبّر أربع مرّات في الكتاب العزيز.
قال الإمام عليّ عليه السلام: "لَمْ يُطْلِع العقول على تَحديد صِفته، وَلَم يَحجُبْها عن واجب مَعرفته" .
والعبارة تهدف إلى أنّ العقول وإن كانت غير مأذونة في تحديد الصفات الإلهية، لكنّها غير محجوبة عن التعرّف حسب ما يمكن.
الطرق الصحيحة إلى معرفة صفاته تعالى
قد عرفت أنّ ذاته سبحانه وأسماءه وصفاته، وإن كانت غير مسانخة لمدركات العالم المحسوس، لكنّها ليست على نحو يستحيل التعرّف عليها بوجه من الوجوه، ومن هنا نجد أنّ الحكماء والمتكلّمين يسلكون طرقاً مختلفة للتعرّف على ملامح العالم الربوبي، وها نحن نشير إلى هذه الطرق:
الأوّل: الطريق العقلي:
إذا ثبت كونه سبحانه غنيّاً غير محتاج إلى شيء، فإنّ هذا الأمر يمكن أن يكون مبدأً لإثبات كثير من الصفات الجلالية، فإنّ كلّ وصف استلزم خللاً في غناه ونقصاً له، انتفى عنه ولزم سلبه عن ذاته.
وقد سلك الفيلسوف الإسلامي نصير الدِّين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية حيث قال: "وجوب الوجود يدلّ على سرمديته، ونفي الزائد، والشريك، والمثل، والتركيب بمعانيه، والضد، والتحيّز، والحلول، والاتحاد، والجهة، وحلول الحوادث فيه،
والحاجة، والألم مطلقاً، واللذة المزاجية، والمعاني، والأحوال، والصفات الزائدة والرؤية".
بل انطلق المحقّق من نفس هذه القاعدة لإثبات سلسلة من الصفات الثبوتية حيث قال: "وجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود، والملك، والتمام، والحقيّة، والخيرية، والحكمة، والتّجبُّر، والقهر، والقيُّومية" .
وعلى ذلك يمكن الإذعان بما في العالم الربوبي من الكمال والجمال بثبوت أصل واحد وهو كونه سبحانه موجوداً غنياً واجب الوجود.
ومن هنا تنفتح نوافذ على الغيب والتعرّف على صفاته الثبوتية والسلبية، وستعرف البرهنة على هذه الصفات من هذا الطريق.
الثاني: المطالعة في الآفاق والأنفس:
من الطرق والأصول التي يمكن التعرّف بها على صفات اللّه، مطالعة الكون المحيط بنا، وما فيه من بديع النظام، فإنّه يكشف عن علم واسع وقدرة مطلقة عارفة بجميع الخصوصيّات الكامنة فيه، وكلّ القوانين التي تسود الكائنات، فمن خلال هذه القاعدة وعبر هذا الطريق أي مطالعة الكون، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من الصفات الجمالية، وبهذا يتبيّن أنّ ذات الله سبحانه وصفاته ليست محجوبة عن التعرّف المطلق وغير واقعة في أُفق التعقّل، حتّى نعطّل العقول، وقد أمر الكتاب العزيز بسلوك هذا الطريق، يقول سبحانه: ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ .
وقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾ .
وقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ .
الثالث: الرجوع إلى الكتاب والسنّة الصحيحة:
وهناك أصل ثالث يعتمد عليه أتباع الشرع، وهو التعرّف على أسمائه وصفاته وأفعاله بما ورد في الكتب السماويّة وأقوال الأنبياء وكلماتهم، وذلك بعدما ثبت وجوده سبحانه وقسم من صفاته، ووقفنا على أنّ الأنبياء مبعوثون من جانب الله وصادقون في أقوالهم وكلماتهم.
وباختصار، بفضل الوحي ـ الّذي لا خطأ فيه ولا زلل ـ نقف على ما في المبدأ الأعلى من نعوت وشؤون، فمن ذلك قوله سبحانه: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ .
الرابع: الكشف والشهود:
وهناك ثلّة قليلة يشاهدون بعيون القلوب ما لا يدرك بالأبصار، فيرون جماله وجلاله وصفاته وأفعاله بإدراك قلبي، يدرك لأصحابه ولا يوصف لغيرهم.
والفتوحات الباطنية من المكاشفات أو المشاهدات الروحية والإلقاءات في الروع غير مسدودة، بنص الكتاب العزيز.
قال سبحانه: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ .
أي يجعل في قلوبكم نوراً تفرّقون به بين الحقّ والباطل، وتميّزون به بين الصحيح والزائف، لا بالبرهنة والاستدلال بل بالشهود والمكاشفة.
وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ .
والمراد من النور هو ما يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته في معاشه ومعاده، في دينه ودنياه .
وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ .
إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أنّ المؤمن يصل إلى معارف وحقائق في ضوء المجاهدة والتقوى، إلى أن يقدر على رؤية الجحيم في هذه الدنيا المادية.
قال سبحانه: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ .
نعم ليس كلُّ من رمى، أصاب الغرض، وليست الحقائق رمية للنبال، وإنّما يصل إليها الأمثل فالأمثل، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية والفتوحات الباطنية إلاّ النزر القليل ممّن خلَّص روحه وصفّى قلبه.
المفاهيم الرئيسة
- تعدّدت المسالك في معرفة صفاته تعالى بين التشبيه والتعطيل، وكلاهما باطل، إلا أنّ هناك مسلكاً ثالثاً ذهب إلى أنّه من الممكن التعرّف على صفاته سبحانه من طريق التدبّر وعلى ضوء ما أفاض الله سبحانه على عباده من نعمة العقل والفكر.
- وحجّتهم في ذلك أنّ الله سبحانه ما نصّ على أسمائه وصفاته في كتابه وسنّة نبيّه إلّا لكي يتدبّر فيها الإنسان بعقله وفكره في حدود الممكن، فهذا أمر يدعو إليه العقل والكتاب العزيز والسنّة الصحيحة.
- توجد العديد من الطرق في كيفية التوصّل إلى صفاته تعالى وهي:
1- الطريق العقلي: فإنّه تبارك وتعالى ولكونه غنيّاً عن كلّ ما سواه، وواجب الوجود لذاته، متّصف بجميع صفات الجمال والجلال.
2- المطالعة في الآفاق والأنفس: إنّ مطالعة الكون المحيط بنا، وما فيه من بديع النظام، يكشف عن علم واسع وقدرة مطلقة عارفة بجميع الخصوصيّات الكامنة فيه، ونحن عن هذا الطريق نتعرّف على عددٍ من الصفات الثبوتيّة لله تعالى.
3- الرجوع إلى الكتاب والسنّة الصحيحة: لقد ذخرت آيات الكتاب وأحاديث الأنبياء والمعصومين بالحديث عن صفاته تعالى، ونحن بوسيلة هذا الطريق نستطيع أن نتعرّف على كثير من هذه الصفات.
4- الكشف والشهود: وهو طريق خاصٌّ بثلّة قليلة من الناس وهبها الله تعالى القدرة على معرفة الكثير من الحقائق عن طريق تصفية الباطن.
المصدر:
راسخون 2018