مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي ، الدمشقي ، الأمير الشجاع ، قائد الجيوش ، وكنيته : أبو الأصبغ وأبو سعيد ، ويلقب بالجرادة الصفراء. (1)
ولّاه أخوه يزيد بن عبد الملك إمارة البصرة ، وذلك لمحاربة يزيد بن المهلّب سنة (١٠١) للهجرة.
وعند ما تلاقت الجيوش ، أخذ الخوف يدب في جيش ابن المهلّب ، لما لمسلمة والعباس بن الوليد من سمعة في الشجاعة ، والبراعة في الحروب ، فلمّا رآى ابن المهلّب ذلك خطب في أصحابه وقال : (لم تخافون من مسلمة والعباس؟ فو الله ما مسلمة عندي إلا جرادة صفراء ، قسطنطين بن قسطنطين ، وما العباس عندي إلا نسطوس بن نسطوس ، ومن هم أهل الشام؟ فو الله ما هم إلا سبعة أسياف خمسة منها لي ، وإثنان عليّ ، وإنّما أتاكم مسلمة والعباس في برابرة وأقباط وجرامقة وأنباط ، وجراجمة وأخلاط ، مغاربة وصقالبة ، زرّاعون وفلّاحون ، أوباش وأخناش). (2) ثمّ دارت معركة بين الطرفين ، انتهت بمقتل يزيد بن المهلّب وأخوته وأكثر أصحابه ، ثمّ أخذ الباقون أسرى ، ثمّ أرسلت الرؤوس والأسرى إلى الشام. ولمّا انتهى مسلمة ابن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلّب ، جمع له أخوه يزيد بن عبد الملك إمارة العراقين وخراسان وذلك سنة (١٠٢) (3) للهجرة ، ثمّ عزل عن العراق وخراسان في أوائل سنة (١٠٢) للهجرة ، عزله أخوه يزيد وعيّن مكانه عمر ابن هبيرة الفزاري ، فعاد مسلمة إلى الشام. (4)
وعند ما عزل مسلمة عن العراق ، قال الفرزدق : (5)
راحت بمسلمة الركاب مودعا / فأرعي فزارة لا هناك المرتع
عزل ابن بشر وابن عمرو قبله / وأخو هراة لمثلها يتوقع
ولقد علمت لئن فزارة أمرت / أن سوف تطمع في الإمارة أشجع
من خلق ربّك ما هم ولمثلهم / في مثل ما نالت فزارة يطمع
وعند ما ترك مسلمة العراق ، وعاد إلى الشام ، مدحه رجل من أهل الشام فقال : (6)
إنّ الّذي مدّ علينا نعمه / وقد أحاطت بالعراق الدمدمه
دعوة مشؤوم دعا بالمشأمة / فأتبع الظالم قوم ظلمه
فالله منهم بمسلمة / من بعدما وبعدما وبعدمه
كانت بنات الموت عند الغلصمه / كادت الحرّة أن تدعى أمه
وقال مسلمة لأخيه يزيد بن عبد الملك : يا أمير المؤمنين ، أيّهما أحبّ اليك؟ أخوك أم ابن أخيك؟ قال : بل أخي. فقال مسلمة : فأخوك أحقّ بالخلافة. فقال يزيد : إذا لم تكن في ولدي ، فأخي أحقّ بها من ابن أخي كما قلت. فقال مسلمة : إنّ ابنك لم يبلغ سن الرشد فبايع لهشام ، ومن بعده لأبنك الوليد فبايع يزيد بولاية العهد لأخيه هشام ، ومن بعده لأبنه الوليد.
ثمّ عاش يزيد حتّى كبر ابنه الوليد وبلغ سن الرشد ، فكان كلّما رآه تحسر وقال : (الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك). (7)
وكان مسلمة بن عبد الملك ، أولى بالخلافة من سائر أخوته ، ولكنه لم يل الخلافة لأن أمّه كانت (أمّه) (8) ، وكان الأمويون لا يولّون خليفة إلّا من أصل عربيّ. (9)
وتسابق أبناء عبد الملك فيما بينهم ، فسبقوا مسلمة ، ولمّا سمع عبد الملك قال متمثلا بقول عمرو بن مبرد العبدي : (10)
نهيتكم أن تحملوا هجناءكم / على خيلكم يوم الرهان فتدركوا
فتفتر كفاه ويسقط سوطه / وتخدر رجلاه فما يتحرك
وما يستوي المرء إن هذا ابن حرّة / وهذا ابن أخرى ظهرها مشترك
وأدركه خالاته فاختزلنه / إلا أنّ عرق السوء لابد مدرك
فقال له مسلمة : يغفر الله لك يا أمير المؤمنين : ليس مثلي ، ولكن كما قال عليّ بن المعتمر : (11)
فما أنكحونا طائعين بناتهم / ولكن خطبناها بأرماحنا قهرا
فما زادها فينا السباء مذلّة / ولا كلّفت خبزا ولا طبخت قدرا
ولكن خلطناها بغير نسائنا / فجاءت بهم بعضا غطارفة زهرا
وكأن ترى فينا من ابن سبيّة / إذا لقي الأبطال يطعنهم شزرا
فقال له أبوه : أحسنت يا بني ، ذلك أنت ، ثمّ أمر له بمائة ألف مثلما أخذ السابق.
وتشاجر الوليد بن عبد الملك مع أخيه مسلمة في شعر امرئ القيس والنابغة ، أيّهما أشعر في وصف اللّيل وطوله ، فقال الوليد : النابغة أشعر ، وقال مسلمة : بل امرئ القيس ، ثمّ اتفقا على أن يكون (الشعبي) هو الحكم بينهما ، فأرسلوا إليه وأحضر ، فأنشد الوليد قول النابغة : (12)
كليني لهمّ يا أميمة ناصب / وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتّى قلت ليس بمنقض / وليس الّذي يرعى النجوم بآيب
وصدر أراح اللّيل عازب همّه / تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب
ثمّ أنشد مسلمة قول امرؤ القيس : (13)
وليل كموج البحر أرخى سدوله / عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطّى بصلبه / وأردف إعجازا وناء بكلكل
ألا أيّها اللّيل الطويل ألا إنجلي / بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأنّ نجومه / بكلّ مفاز الفتل شدت بيذبل
فطرب الوليد وأخذ يحرك رجلاه ، فقال (الشعبي) : بانت القضية.
وجاء الشعراء : (كثير عزّة والأحوص ونصيّب) إلى عمر بن عبد العزيز أيّام خلافته ، وكانت تربطهم بينه صداقة قديمة ، فلم يأذن لهم بالدخول عليه ، فذهبوا إلى مسلمة بن عبد الملك ، فقال لهم : أما بلغكم أنّ أمير المؤمنين لا يقبل الشعر؟ فقالوا له : لم نكن نعلم ذلك ، فمكثوا عند مسلمة ضيوفا أربعة أشهر ، ومسلمة يطلب لهم الأذن من عمر ، فلا يؤذن لهم ، وذات يوم جمعة كان للعامّة ، فدخلوا عليه مع عامّة الناس ، فقال كثيّر عزه : يا أمير المؤمنين : طال الثواء ، وقلت الفائدة وتحدث العرب بجفائك إيّانا.
فقال عمر بن عبد العزيز : يا كثيّر ، (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ). (14) أفي واحد من هؤلاء أنت؟ قال كثيّر : نعم. فقال عمر بن عبد العزيز : ما أرى ضيف أبي سعيد (15) منقطعا به.
فقال كثيّر : يا أمير المؤمنين ، أتأذن لي في الإنشاد؟ قال عمر : نعم ، ولا تقل إلا حقّا. فقال كثيّر : (16)
وليت فلم تشتم عليّا ولم تخف / بريّا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدّقت بالفعل المقال مع الّذي / أتيت فأمسى راضيا كلّ مسلم
وقد لبست لبس الهلوك ثيابها / تراءى لك الدنيا بكف ومعصم
فأعرضت عنها مشمئزّا كأنّما / سقتك معروفا من سمام وعلقم
إلى آخر القصيدة ، ثمّ تقدّم الأحوص ، وأنشد قصيدة طويلة نقتبس منها : (17)
وما الشعر إلّا حكمة من مؤلّف / بمنطق حقّ أو بمنطق باطل
فلا تقبلنّ إلّا الّذي وافق الرضا / ولا ترجعنا كالنساء الأرامل
فإنّ لم يكن للشعر عندك موضع / وإن كان ومثل الدرّ من نظم قائل
فإنّ لنا قربى ومحض مودّة / وميراث آباء مشوا بالمناصل
فأعطى لكثير عزة ثلاثمائة درهم ، ولكل من الأحوص ونصيب مائة وخمسون دينار.
وكتب مسلمة إلى أخيه الوليد ، عند ما غزا القسطنطينيّة : (18)
أرقت وصحراء الطوانة (19) بيننا / لبرق تلألأ نحو غمرة يلمح
أزاول أمرا لم يكن ليطيقه / من القوم إلا اللوذعي الصمحمح
وقال القعقاع بن خالد العبسيّ : (20)
فأبلغ أمير المؤمنين رسالة / سوى ما يقول اللوذعي الصمحمح
أكلنا لحوم الخيل رطبا ويابسا / وأكبادنا من أكلنا الخيل تقرح
ونحبسها حول الطوانة طلعا / وليس لها حول الطوانة مسرح
فليت الفزاري الّذي غشّ نفسه / وغش أمير المؤمنين يفرح
وكان مسلمة قد تزوج من الرباب بنت زفر بن الحارث ، وكان يأذن لأخويها (الهذيل وكوثر) بالدخول عليه في أوّل الناس ، فجاء عاصم بن عبد الله بن يزيد ذات يوم إلى قصر مسلمة ، فدخل الهذيل وكوثر قبله ، وعند ما دخل على مسلمة قال (21) :
أمسلمة قد منيتني ووعدتني / مواعيد صدق إن رجعت مؤمرا
أيدعى الهذيل ثمّ أدعى وراءه / فيالك مدعا ما أذلّ وأحقرا
وكيف لم يشفع لك اللّيل كله / شفيع إذا ألقى قناعا ومئزرا
فلست براض عنك حتّى تحبّني / كحبّك صهريك الهذيل وكوثرا
فأجابه الهذيل قائلا (22) :
ما فخر فخار عليّ وإنّما / نشأنا وأمّانا معا أمتان
أبي كان خيرا من أبيك وأفضلت / عليك قديما جرئتي وبياني
ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في مرضه الّذي مات فيه وقال له : ألا توصي يا أمير المؤمنين؟. قال : بماذا أوصي؟ فو الله ليس عندي مال. فقال مسلمة : هذه مائة ألف اعط لمن شئت قال عمر : (ردها على من أخذتها منه ظلما). فبكى مسلمة ثمّ قال : (يرحمك الله لقد ألفت منّا قلوبا قاسية ، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا) (23).
وكان يزيد بن عبد الملك قد أحبّ جارية اسمها (حبابة) حتّى هام في حبّها وأنغمس في الشرب واللهو وترك أمور الناس حتّى أصابهم الظلم والجور من حاشيته فذهب إليه أخوه مسلمة وقال له : (لقد مات عمر بن عبد العزيز بالأمس وأنت تعرف ما كان من عدله ورعايته للناس ، فيجب عليك أن تظهر العدل للناس وتترك اللهو ، فقد أقتدى (24) بك عمالك في سائر أفعالك وسيرتك) (25).
فترك حبابة وأظهر الندم. ولمّا سمعت (حبابة) بذلك ارسلت إلى يزيد بن عبد الملك لزيارتها ، فلمّا دخل عليها قالت له : يا أمير المؤمنين ، اسمع منّي صوتا واحدا ، ثمّ افعل ما بدا لك ، فغنته قائلة :
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا / فقد غلب المحزون أن يتجلدا
إذا كنت لم تعشق ولم تدري ما الهوى / فكن حجرا من يابس الصلد جلمدا
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي / وإن لام فيه ذوو الشنآن وفندا
فأخذ يزيد يردد ما غنت (حبابة) وعاد إلى لهوه وشربه. ومرضت (حبابة) فلازمها يزيد صباح مساء حتّى ماتت وبقي أياما إلى جانبها (لم يدفنها) حزنا وجزعا عليها إلى ان خرجت جيفتها ، عند ذلك دفنها وجلس عند قبرها ، فدنا منه أخوه مسلمة ، وأخذ يعزيه ويؤنسه ، فقال له يزيد : قاتل الله ابن أبي جمعة ، كأنّه يرى ما نحن فيه حيث قال (26) :
فان تسل عنك النفس أو تدع الهوى / فباليأس تسلوا النفس لا بالتجلدا
وكلّ خليل زارني فهو قائل / من أجلك : هذا ميّت اليوم أو غدا
وبعد أيّام على دفن (حبابة) مات يزيد بن عبد الملك وقيل أصيب بمرض الطاعون.
وكان مسلمة ، اذا تجمعّ عنده أصحاب الحوائج ، وخاف الضجر منهم ، أمر أن يحضر ندماؤه من أهل الأدب ، فيتحدثون عن مكارم الناس ، وجميل طرائفهم ومروءاتهم ، فيطرب مسلمة ويهيج ثمّ يقول : أدخلوا أصحاب الحاجة فلا يدخل عليه أحد إلا وقضى حاجته (27). وقال أبو نخيلة الشاعر يمدح مسلمة (28) :
أمسلم إنّي يا ابن خير خليفة / ويا فارس الهيجاء يا جبل الأرض
شكرتك إنّ الشكر حبل من التقى / وما كلّ من أوليته نعمة يفضي
وأحسنت لي ذكري وما كنت خاملا / ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
وقيل : إنّ مسلمة بن عبد الملك أوصى (قبيل وفاته) بثلث امواله لأهل الأدب وقال : (صناعة مجفو أهلها). مات مسلمة بن عبد الملك بالشام سنة (١٢٠) للهجرة ، وقيل سنة (١٢١) للهجرة.
المصادر :
1- الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٥ / ٢٤١.
2- ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٥.
3- تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٤٧٠ والزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ٣٠٣. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٨٩. وصالح خريسات ـ نهذيب تاريخ الطبري. ص ٤٣٠.
4- ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٩٧.
5- تاريخ الطبري. ج ٦ / ٦١٦.
6- ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٢٥.
7- ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٩١.
8- الأمه : الغير عربية ، الخادمة من السبي.
9- القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ٥ / ١٢ والزركلي ـ الأعلام. ج ٨ / ١٢٢.
10- الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ١٤.
11- الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ١٤.
12- ابراهيم بن عليّ الحصري ـ زهرة الآداب. ج ٣ / ١٤٨. وسعيد الكرمي ـ قول على قول. ج / ٢٣٥.
13- نفس المصدرين السابقين.
14- سورة التوبة. الآية : ٦٠.
15- أبو سعيد : كنية مسلمة بن عبد الملك.
16- ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٢ / ٨٨ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٣.
17- ابن عبد ربه الاندلسي ـ العقد الفريد. ج ٢ / ٨٨ وابن الاثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٣.
18- الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ١٧٢.
19- الطوانة : أسم بلدة في ثغور المصيصة.
20- عز الدين محمّد بن عليّ بن إبراهيم ـ الأعلاق الخطيرة. ج ١ / ٢٣٢.
21- ابن الكلبيّ ـ جمهرة الأنساب ج ٢ / ٥٦.
22- نفس المصدر السابق.
23- الآبي نثر الدر ـ ج ٣ / ٧٢.
24- (الناس على دين ملوكها) حسب المثل المشهور.
25- المسعودي ـ مروج الذهب ـ ج ٣ / ١٩٦.
26- المصدر السابق. ج ٣ / ١٩٨.
27- الآبي ـ نثر الدر ـ ج ٣ / ٧٢.
28- الذهبي ـ سير أعلام النبلاء ـ ج ٥ / ٢٤١.
ولّاه أخوه يزيد بن عبد الملك إمارة البصرة ، وذلك لمحاربة يزيد بن المهلّب سنة (١٠١) للهجرة.
وعند ما تلاقت الجيوش ، أخذ الخوف يدب في جيش ابن المهلّب ، لما لمسلمة والعباس بن الوليد من سمعة في الشجاعة ، والبراعة في الحروب ، فلمّا رآى ابن المهلّب ذلك خطب في أصحابه وقال : (لم تخافون من مسلمة والعباس؟ فو الله ما مسلمة عندي إلا جرادة صفراء ، قسطنطين بن قسطنطين ، وما العباس عندي إلا نسطوس بن نسطوس ، ومن هم أهل الشام؟ فو الله ما هم إلا سبعة أسياف خمسة منها لي ، وإثنان عليّ ، وإنّما أتاكم مسلمة والعباس في برابرة وأقباط وجرامقة وأنباط ، وجراجمة وأخلاط ، مغاربة وصقالبة ، زرّاعون وفلّاحون ، أوباش وأخناش). (2) ثمّ دارت معركة بين الطرفين ، انتهت بمقتل يزيد بن المهلّب وأخوته وأكثر أصحابه ، ثمّ أخذ الباقون أسرى ، ثمّ أرسلت الرؤوس والأسرى إلى الشام. ولمّا انتهى مسلمة ابن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلّب ، جمع له أخوه يزيد بن عبد الملك إمارة العراقين وخراسان وذلك سنة (١٠٢) (3) للهجرة ، ثمّ عزل عن العراق وخراسان في أوائل سنة (١٠٢) للهجرة ، عزله أخوه يزيد وعيّن مكانه عمر ابن هبيرة الفزاري ، فعاد مسلمة إلى الشام. (4)
وعند ما عزل مسلمة عن العراق ، قال الفرزدق : (5)
راحت بمسلمة الركاب مودعا / فأرعي فزارة لا هناك المرتع
عزل ابن بشر وابن عمرو قبله / وأخو هراة لمثلها يتوقع
ولقد علمت لئن فزارة أمرت / أن سوف تطمع في الإمارة أشجع
من خلق ربّك ما هم ولمثلهم / في مثل ما نالت فزارة يطمع
وعند ما ترك مسلمة العراق ، وعاد إلى الشام ، مدحه رجل من أهل الشام فقال : (6)
إنّ الّذي مدّ علينا نعمه / وقد أحاطت بالعراق الدمدمه
دعوة مشؤوم دعا بالمشأمة / فأتبع الظالم قوم ظلمه
فالله منهم بمسلمة / من بعدما وبعدما وبعدمه
كانت بنات الموت عند الغلصمه / كادت الحرّة أن تدعى أمه
وقال مسلمة لأخيه يزيد بن عبد الملك : يا أمير المؤمنين ، أيّهما أحبّ اليك؟ أخوك أم ابن أخيك؟ قال : بل أخي. فقال مسلمة : فأخوك أحقّ بالخلافة. فقال يزيد : إذا لم تكن في ولدي ، فأخي أحقّ بها من ابن أخي كما قلت. فقال مسلمة : إنّ ابنك لم يبلغ سن الرشد فبايع لهشام ، ومن بعده لأبنك الوليد فبايع يزيد بولاية العهد لأخيه هشام ، ومن بعده لأبنه الوليد.
ثمّ عاش يزيد حتّى كبر ابنه الوليد وبلغ سن الرشد ، فكان كلّما رآه تحسر وقال : (الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك). (7)
وكان مسلمة بن عبد الملك ، أولى بالخلافة من سائر أخوته ، ولكنه لم يل الخلافة لأن أمّه كانت (أمّه) (8) ، وكان الأمويون لا يولّون خليفة إلّا من أصل عربيّ. (9)
وتسابق أبناء عبد الملك فيما بينهم ، فسبقوا مسلمة ، ولمّا سمع عبد الملك قال متمثلا بقول عمرو بن مبرد العبدي : (10)
نهيتكم أن تحملوا هجناءكم / على خيلكم يوم الرهان فتدركوا
فتفتر كفاه ويسقط سوطه / وتخدر رجلاه فما يتحرك
وما يستوي المرء إن هذا ابن حرّة / وهذا ابن أخرى ظهرها مشترك
وأدركه خالاته فاختزلنه / إلا أنّ عرق السوء لابد مدرك
فقال له مسلمة : يغفر الله لك يا أمير المؤمنين : ليس مثلي ، ولكن كما قال عليّ بن المعتمر : (11)
فما أنكحونا طائعين بناتهم / ولكن خطبناها بأرماحنا قهرا
فما زادها فينا السباء مذلّة / ولا كلّفت خبزا ولا طبخت قدرا
ولكن خلطناها بغير نسائنا / فجاءت بهم بعضا غطارفة زهرا
وكأن ترى فينا من ابن سبيّة / إذا لقي الأبطال يطعنهم شزرا
فقال له أبوه : أحسنت يا بني ، ذلك أنت ، ثمّ أمر له بمائة ألف مثلما أخذ السابق.
وتشاجر الوليد بن عبد الملك مع أخيه مسلمة في شعر امرئ القيس والنابغة ، أيّهما أشعر في وصف اللّيل وطوله ، فقال الوليد : النابغة أشعر ، وقال مسلمة : بل امرئ القيس ، ثمّ اتفقا على أن يكون (الشعبي) هو الحكم بينهما ، فأرسلوا إليه وأحضر ، فأنشد الوليد قول النابغة : (12)
كليني لهمّ يا أميمة ناصب / وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتّى قلت ليس بمنقض / وليس الّذي يرعى النجوم بآيب
وصدر أراح اللّيل عازب همّه / تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب
ثمّ أنشد مسلمة قول امرؤ القيس : (13)
وليل كموج البحر أرخى سدوله / عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطّى بصلبه / وأردف إعجازا وناء بكلكل
ألا أيّها اللّيل الطويل ألا إنجلي / بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأنّ نجومه / بكلّ مفاز الفتل شدت بيذبل
فطرب الوليد وأخذ يحرك رجلاه ، فقال (الشعبي) : بانت القضية.
وجاء الشعراء : (كثير عزّة والأحوص ونصيّب) إلى عمر بن عبد العزيز أيّام خلافته ، وكانت تربطهم بينه صداقة قديمة ، فلم يأذن لهم بالدخول عليه ، فذهبوا إلى مسلمة بن عبد الملك ، فقال لهم : أما بلغكم أنّ أمير المؤمنين لا يقبل الشعر؟ فقالوا له : لم نكن نعلم ذلك ، فمكثوا عند مسلمة ضيوفا أربعة أشهر ، ومسلمة يطلب لهم الأذن من عمر ، فلا يؤذن لهم ، وذات يوم جمعة كان للعامّة ، فدخلوا عليه مع عامّة الناس ، فقال كثيّر عزه : يا أمير المؤمنين : طال الثواء ، وقلت الفائدة وتحدث العرب بجفائك إيّانا.
فقال عمر بن عبد العزيز : يا كثيّر ، (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ). (14) أفي واحد من هؤلاء أنت؟ قال كثيّر : نعم. فقال عمر بن عبد العزيز : ما أرى ضيف أبي سعيد (15) منقطعا به.
فقال كثيّر : يا أمير المؤمنين ، أتأذن لي في الإنشاد؟ قال عمر : نعم ، ولا تقل إلا حقّا. فقال كثيّر : (16)
وليت فلم تشتم عليّا ولم تخف / بريّا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدّقت بالفعل المقال مع الّذي / أتيت فأمسى راضيا كلّ مسلم
وقد لبست لبس الهلوك ثيابها / تراءى لك الدنيا بكف ومعصم
فأعرضت عنها مشمئزّا كأنّما / سقتك معروفا من سمام وعلقم
إلى آخر القصيدة ، ثمّ تقدّم الأحوص ، وأنشد قصيدة طويلة نقتبس منها : (17)
وما الشعر إلّا حكمة من مؤلّف / بمنطق حقّ أو بمنطق باطل
فلا تقبلنّ إلّا الّذي وافق الرضا / ولا ترجعنا كالنساء الأرامل
فإنّ لم يكن للشعر عندك موضع / وإن كان ومثل الدرّ من نظم قائل
فإنّ لنا قربى ومحض مودّة / وميراث آباء مشوا بالمناصل
فأعطى لكثير عزة ثلاثمائة درهم ، ولكل من الأحوص ونصيب مائة وخمسون دينار.
وكتب مسلمة إلى أخيه الوليد ، عند ما غزا القسطنطينيّة : (18)
أرقت وصحراء الطوانة (19) بيننا / لبرق تلألأ نحو غمرة يلمح
أزاول أمرا لم يكن ليطيقه / من القوم إلا اللوذعي الصمحمح
وقال القعقاع بن خالد العبسيّ : (20)
فأبلغ أمير المؤمنين رسالة / سوى ما يقول اللوذعي الصمحمح
أكلنا لحوم الخيل رطبا ويابسا / وأكبادنا من أكلنا الخيل تقرح
ونحبسها حول الطوانة طلعا / وليس لها حول الطوانة مسرح
فليت الفزاري الّذي غشّ نفسه / وغش أمير المؤمنين يفرح
وكان مسلمة قد تزوج من الرباب بنت زفر بن الحارث ، وكان يأذن لأخويها (الهذيل وكوثر) بالدخول عليه في أوّل الناس ، فجاء عاصم بن عبد الله بن يزيد ذات يوم إلى قصر مسلمة ، فدخل الهذيل وكوثر قبله ، وعند ما دخل على مسلمة قال (21) :
أمسلمة قد منيتني ووعدتني / مواعيد صدق إن رجعت مؤمرا
أيدعى الهذيل ثمّ أدعى وراءه / فيالك مدعا ما أذلّ وأحقرا
وكيف لم يشفع لك اللّيل كله / شفيع إذا ألقى قناعا ومئزرا
فلست براض عنك حتّى تحبّني / كحبّك صهريك الهذيل وكوثرا
فأجابه الهذيل قائلا (22) :
ما فخر فخار عليّ وإنّما / نشأنا وأمّانا معا أمتان
أبي كان خيرا من أبيك وأفضلت / عليك قديما جرئتي وبياني
ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في مرضه الّذي مات فيه وقال له : ألا توصي يا أمير المؤمنين؟. قال : بماذا أوصي؟ فو الله ليس عندي مال. فقال مسلمة : هذه مائة ألف اعط لمن شئت قال عمر : (ردها على من أخذتها منه ظلما). فبكى مسلمة ثمّ قال : (يرحمك الله لقد ألفت منّا قلوبا قاسية ، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا) (23).
وكان يزيد بن عبد الملك قد أحبّ جارية اسمها (حبابة) حتّى هام في حبّها وأنغمس في الشرب واللهو وترك أمور الناس حتّى أصابهم الظلم والجور من حاشيته فذهب إليه أخوه مسلمة وقال له : (لقد مات عمر بن عبد العزيز بالأمس وأنت تعرف ما كان من عدله ورعايته للناس ، فيجب عليك أن تظهر العدل للناس وتترك اللهو ، فقد أقتدى (24) بك عمالك في سائر أفعالك وسيرتك) (25).
فترك حبابة وأظهر الندم. ولمّا سمعت (حبابة) بذلك ارسلت إلى يزيد بن عبد الملك لزيارتها ، فلمّا دخل عليها قالت له : يا أمير المؤمنين ، اسمع منّي صوتا واحدا ، ثمّ افعل ما بدا لك ، فغنته قائلة :
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا / فقد غلب المحزون أن يتجلدا
إذا كنت لم تعشق ولم تدري ما الهوى / فكن حجرا من يابس الصلد جلمدا
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي / وإن لام فيه ذوو الشنآن وفندا
فأخذ يزيد يردد ما غنت (حبابة) وعاد إلى لهوه وشربه. ومرضت (حبابة) فلازمها يزيد صباح مساء حتّى ماتت وبقي أياما إلى جانبها (لم يدفنها) حزنا وجزعا عليها إلى ان خرجت جيفتها ، عند ذلك دفنها وجلس عند قبرها ، فدنا منه أخوه مسلمة ، وأخذ يعزيه ويؤنسه ، فقال له يزيد : قاتل الله ابن أبي جمعة ، كأنّه يرى ما نحن فيه حيث قال (26) :
فان تسل عنك النفس أو تدع الهوى / فباليأس تسلوا النفس لا بالتجلدا
وكلّ خليل زارني فهو قائل / من أجلك : هذا ميّت اليوم أو غدا
وبعد أيّام على دفن (حبابة) مات يزيد بن عبد الملك وقيل أصيب بمرض الطاعون.
وكان مسلمة ، اذا تجمعّ عنده أصحاب الحوائج ، وخاف الضجر منهم ، أمر أن يحضر ندماؤه من أهل الأدب ، فيتحدثون عن مكارم الناس ، وجميل طرائفهم ومروءاتهم ، فيطرب مسلمة ويهيج ثمّ يقول : أدخلوا أصحاب الحاجة فلا يدخل عليه أحد إلا وقضى حاجته (27). وقال أبو نخيلة الشاعر يمدح مسلمة (28) :
أمسلم إنّي يا ابن خير خليفة / ويا فارس الهيجاء يا جبل الأرض
شكرتك إنّ الشكر حبل من التقى / وما كلّ من أوليته نعمة يفضي
وأحسنت لي ذكري وما كنت خاملا / ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
وقيل : إنّ مسلمة بن عبد الملك أوصى (قبيل وفاته) بثلث امواله لأهل الأدب وقال : (صناعة مجفو أهلها). مات مسلمة بن عبد الملك بالشام سنة (١٢٠) للهجرة ، وقيل سنة (١٢١) للهجرة.
المصادر :
1- الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٥ / ٢٤١.
2- ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٥.
3- تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٤٧٠ والزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ٣٠٣. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٨٩. وصالح خريسات ـ نهذيب تاريخ الطبري. ص ٤٣٠.
4- ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٩٧.
5- تاريخ الطبري. ج ٦ / ٦١٦.
6- ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٢٥.
7- ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٩١.
8- الأمه : الغير عربية ، الخادمة من السبي.
9- القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ٥ / ١٢ والزركلي ـ الأعلام. ج ٨ / ١٢٢.
10- الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ١٤.
11- الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ١٤.
12- ابراهيم بن عليّ الحصري ـ زهرة الآداب. ج ٣ / ١٤٨. وسعيد الكرمي ـ قول على قول. ج / ٢٣٥.
13- نفس المصدرين السابقين.
14- سورة التوبة. الآية : ٦٠.
15- أبو سعيد : كنية مسلمة بن عبد الملك.
16- ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٢ / ٨٨ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٣.
17- ابن عبد ربه الاندلسي ـ العقد الفريد. ج ٢ / ٨٨ وابن الاثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٣.
18- الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ١٧٢.
19- الطوانة : أسم بلدة في ثغور المصيصة.
20- عز الدين محمّد بن عليّ بن إبراهيم ـ الأعلاق الخطيرة. ج ١ / ٢٣٢.
21- ابن الكلبيّ ـ جمهرة الأنساب ج ٢ / ٥٦.
22- نفس المصدر السابق.
23- الآبي نثر الدر ـ ج ٣ / ٧٢.
24- (الناس على دين ملوكها) حسب المثل المشهور.
25- المسعودي ـ مروج الذهب ـ ج ٣ / ١٩٦.
26- المصدر السابق. ج ٣ / ١٩٨.
27- الآبي ـ نثر الدر ـ ج ٣ / ٧٢.
28- الذهبي ـ سير أعلام النبلاء ـ ج ٥ / ٢٤١.