أخذ الآريون - بعد عدّة قرون من استقرارهم في إيران - بالاستيطان تدريجياً في المدن، الأمر الذي ترك تأثيره على رؤيتهم الكونية.
وفي تلك العصور، نهض مصلح اسمه زرادشت، دعى الآريين الذين سئموا الخرافات، إلى دين جديد، ونبذ دين مغان. وزعم أنه مبعوث من قبل إله الخير والنور، وأنه استمد رسالته من آهورا مازدا (Ahura Mazda) مباشرة لينقذ العالم من الظلام والشر، ويسوقه إلى الخير والنور.
ويطلق على الزرادشتيين أسماء أخرى مثل غبر، مجوس، پارس. وتعني كلمة "غبر" في اللغة السريانية الكافر، وهذه التسمية أطلقها عليهم الآخرون. كما أنّ اصطلاح (المجوس) في اللغة العربية اسم جنس جمعي، ومفرده مجوسي.
وقد جاءت كلمة المجوس في القرآن الكريم إلى جانب أتباع بقية الديانات. ويعتقد أغلب علماء الإسلام أنّ الزرادشتيين هم أهل كتاب، ووردت في هذا الصدد أخبار أيضاً.
سُئل أبو عبد الله عليه السلام عن المجوس أكان لهم نبي؟ فقال: "نعم أما بلغك كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل مكة أن أسلموا وإلا نابذتكم بحرب فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن خذ منّا الجزية ودعنا على عبادة الأوثان، فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّي لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب فكتبوا إليه ـ يريدون بذلك تكذيبه: زعمت أنّك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ثمّ أخذت الجزية من مجوس هجر، فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ المجوس كان لهم نبيّ فقتلوه وكتاب أحرقوه، أتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور" .
وقد طرأت تحوّلات وتغييرات على ديانة زرادشت نحو قرن واحد قبل الميلاد، وسُمّيت بعد التعديل ديانة مزديسنا، وتعني في اللغة مدح مزدا.
سيرة زرادشت
ساورت العلماء شكوك حول الوجود التأريخي لنبي إيران القديمة، وإن اتفق أغلبهم على استبعاد نفي وجوده. إنّ كلمات من قبيل: "زردشت"، "زرتشت"، "زردهشت"، قد اشتق معظمها من مصطلح "زر ثوشتر" (Zarathushtra) الذي ورد ذكره في "الغاثا" (وهو جزء من الكتاب السماوي لزرادشت)، والذي يساوي طبقاً لأصح النظريات "زرد اشتر"، وتعني صاحب الناقة الصفراء.أما اسم والده، فهو بوروشَسب (أي صاحب الجواد الهرم)، واسم والدته دغدوية، ويعني (حالبة البقرة)، من قبيلة سبتياما، ويعني (العِرق الأبيض).
والمشهور أنه من أذربيجان في إيران، وأنه بُعث عند جبل بالقرب من بحيرة أورومية .
واختلفت وجهات النظر حول زمان زرادشت، حتى قيل إنه ظهر سنة 6000 ق.م، ولكن وفقاً للنظرية المشهورة، فإنه ولد سنة 660 ق.م، وبُعث سنة 630 ق.م وهو في سنّ الثلاثين.
وقيل إنه قُتل سنة 583 ق.م وهو في سنّ 77 في بيت النار في مدينة بلخ بأفغانستان، إثر مداهمة المدينة من قبل الغزاة.
وعلى الرغم من أنّ بعثة زرادشت ورد ذكرها في شاهنامة الفردوسي، إلاّ أنها أُدرجت في قسم الأساطير من الكتاب المذكور، نظراً إلى تضارب الآراء حول شخصية "غُشْتاسب" (الملك الذي دعاه زرادشت إلى دينه الجديد)، حيث يعتقد البعض أنه هو فيشتاسب والد داريوش الأخميني، في حين ثبت تاريخياً أنه كان والياً، ولم يكن ملكاً.
كتاب الزرادشتيين
يُسمّى الكتاب السماوي للزرادشتيين "أفستا"، ويعني الأساس واللبنة والمتن، وقد كتب باللغة الأفستائية التي كانت سائدة في إيران القديمة، والتي تتّحد في أصولها مع الّلغة الفهلوية والسانسكريتية. ويعتقد العديد من المحققين أنّ الخطّ الأفستائي قد ظهر في العهد الساساني (226 - 641 م). وكان أفستا في بداية الأمر محفوظاً في الصدور، ثم كُتب بالخطّ المذكور. وقيل إنه أُنجز بعد ظهور الإسلام.ومهما يكن من أمر، فإنّ أغلب الباحثين متفقون على أن أصل أفستا كان ضخماً للغاية، حتى قيل إنه نسخ على 12000 جلد من جلود البقر، أما الأفستا الموجود اليوم، فهو يضم 83000 كلمة، ويحتمل أن أصله كان يضمّ 345700 كلمة (أي أربعة أضعاف).
تعاليم زرادشت
ثمّة أصول ثلاثة نادت بها ديانة زرادشت، هي: القول الحسن، والعمل الحسن، والفكر الحسن، ونحن نجد نظائر هذه الأصول في الأديان المختلفة كالإسلام، حيث ورد فيه "الإيمان قول باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان" .
ومن أبرز مظاهر ديانة زرادشت، احترام النار باعتبارها مظهراً من مظاهر إله النور، والإبقاء على شعلة النار مضطرمة، وإقامة مراسم خاصة حولها في معابد تُعرف ببيوت النار. وحثّت الزرادشتية أيضاً على العمران والزراعة والرعي واستيطان المدن، واحترام الحيوانات لا سيما الكلب والبقرة. كما يتمتع حسن المعاملة مع الناس بمكانة مرموقة في هذه الديانة. وقد ارتبطت بعض العادات والرسوم الرائجة في إيران بتعاليم زرادشت، وظهرت عند بعض الزنادقة في القرون الأولى للإسلام نزعات زرادشتية.
الآلهة
يُعلم من خلال مطالعة ديانة زرادشت، أنّه قام بإصلاح ديني في أوساط الإيرانيين، بغية نبذ الخرافات التي ألمّت بالديانة القديمة للآريين. وكان في طليعة ذلك التبليغ لـ "آهورا مازدا"، وتزييف آلهة قومه التي كانت تُسمّى ديفا (ويعني الشيطان)، وإطلاق اسم آلهة "دروغ دوستان" عليها.
يبلغ عمر الدورة الحالية للعالم - وفقاً لما ورد في ديانة زرادشت - 12000 سنة، حكم فيها إله الخير طيلة 3000 سنة، ظلّ خلالها إله الشر متوارياً في الظلام، وعقب انتهاء الفترة المذكورة خرج إله الشر من الظلام، واصطدم بإله الخير الذي استمهله 9000 سنة، وهو على يقين بأن النصر سيكون حليفه في نهاية المطاف. وإبّان هذه الفترة أخذ أحدهما يتحدّى الآخر من خلال خلق الخير والشر، وبعد 3000 سنة خُلق زرادشت، ومن ذلك الوقت بدأ ميزان القوى يميل لصالح إله الخير وجنوده، واستمرّ في سيره الصعودي.
آخر الزمان
ورد في الألفيات الزرادشتية (Zoroastrean Millennialism) أنّه يُنتظر ظهور ثلاثة منقذين من نسل زرادشت يملؤون الدنيا خيراً وعدلاً، وهم:
1- هوشيدر، 1000 سنة بعد زرادشت.
2- هوشيدر ماه، 2000 سنة بعد زرادشت.
3- سوشيانس (أو سوشيانت)، 3000 سنة بعد زرادشت، وبظهوره يصل العالم إلى نهايته.
خلود الروح
يعتقد الزرادشتيون بخلود الروح، وبقائها ـ عند مفارقتها الجسم ـ وبعالم الآخرة، والجنة والعذاب. إن جنة ديانة زرادشت تشبه الجنة التي جاء وصفها في الإسلام، ولكنّ اعتقادهم بقدسية النار دفعهم إلى القول بأن مأوى العاصين مكان بارد جدّاً وقذر ومليء بأنواع الدوابّ التي تنزل نقمتها بهم وتؤذيهم.
مغادرة الزردشتيون إيران
لمّا أقبل الإيرانيون على اعتناق الإسلام وأسدوا خدمات كبرى لهذا الدين أدّت فيما بعد إلى انتشار الإسلام وقوّته في إيران. واستناداً إلى حكاية "سنجان" التي وضعها "بهرام بن كيقباد" سنة 1600م، فإن زرادشتيي إيران - كما ذكر بعض المؤرّخين - قد تعرّضوا لمضايقات طيلة 100 سنة ما دعاهم إلى الهجرة إلى بومباي بالهند عبر البحر بناءً على توصيات المنجمّين. إلا أن هذا الرأي لم يجد أذناً صاغية لدى المؤرِّخين الذين اعتقدوا بأن هذه الهجرة شرعت قبل الإسلام ودامت بعده بقليل.ومهما يكن من أمر فقد غادر الزرادشتيون قبل ألف عام بلاد إيران، وتوجّهوا إلى بومباي. ويبلغ عددهم فيها اليوم 150 ألف نسمة، ويُعرفون بالفارسيين، كما يقطن نحو 50 ألف من الزرادشتيين في يزد وكرمان وطهران، وعُرفوا بالثقافة وبحسن تعاملهم مع الآخرين.
المفاهيم الرئيسة
- أخذ الآريون بعد عدّة قرون من استقرارهم في إيران بالاستيطان تدريجياً في المدن، الأمر الذي ترك تأثيره على رؤيتهم الكونية.- زرادشت مصلح، دعى الآريين الذين سئموا الخرافات، إلى دين جديد، ونبذ دين مغان. وزعم أنه مبعوث من قبل إله الخير والنور لينقذ العالم من الظلام.
- ولد زرادشت سنة 660 ق.م وهو من أذربيجان في ايران وقتل سنة 583 ق.م في معبد النار في بلخ.
- يطلق على الزرادشتيين أسماء أخرى مثل غبر، مجوس، پارس. وتعني كلمة غبر في اللغة السريانية الكافر، وهذه التسمية أطلقها عليهم الآخرون. كما أنّ اصطلاح (المجوس) في اللغة العربية اسم جنس جمعي، ومفرده مجوسي.
- ثمّة أصول ثلاثة نادت بها الزرادشتية هي: القول الحسن، والعمل الحسن، والفكر الحسن، ومن أبرز مظاهرها احترام النار والإبقاء على شعلة النار مضطرمة وإقامة مراسم خاصة حولها في معابد تُعرف بمعابد النار.
- غادر الزرادشتيون قبل ألف عام بلاد إيران، وتوجّهوا إلى بومباي، ويبلغ عددهم فيها اليوم 150 ألف نسمة.
مغان والمانوية
إنّ أقدم ديانة لسكان إيران الأصليين غير الآريين هي ديانة مغان الّتي ظهرت قبل زرادشت وقبل حكم الماد، وتعني كلمة مغ (مغوش) في لغة إيران القديمة الخادم. ويبدو أن المغان هم أول من قطن إيران، ثمّ تعايشوا مع الآريين بعد زحفهم إليها، نظير ما حدث للدرافيديين في الهند. إن اصطلاح المجوس الذي يُطلق في العربية على الزرادشتيين مشتقّ من الكلمة المذكورة (مغوش).ويعتقد بعض الباحثين أنّ الثنوية التي طرأت على ديانة زرادشت (أي الإيمان بإله الخير وإله الشر) قد تسرّبت إليها من ديانة مغان القديمة، لأن كتاب الغاثا، وهو أقدم أجزاء الأفستا والذي اتسم بطابع إيراني، لم يُعثر فيه على أي أثر للثنوية المذكورة، ولكن يظهر من الكتب التاريخية أنّ ديانة مغان القديمة اتسمت بالثنوية، وآمنت بالبعث أيضاً.
وظهرت الديانة المانوية في إيران في الفترة الممتدة بين ظهور المسيحية والإسلام، واستطاعت في مدة وجيزة أن تنتشر وأن تكتسب أنصاراً مخلصين ومتحمّسين، وهي في الواقع مزيج من معتقدات الصابئة والبوذية والزرادشتية والمسيحية، وازدادت رقعة انتشارها ـ بسبب أصولها العرفانية والإنسانية ـ لتبلغ سواحل الصين شرقاً، وتخوم أوروبا غرباً.
وقد ناصب حكّام إيران والروم العداء للمانويين، ومارسوا بحقّهم عمليات قتل جماعية، حتى أنّ محكمة التفتيش في أوروبا قامت في القرن الثالث عشر الميلادي بحملات نشطة من أجل القضاء على ما تبقّى منهم.
المصادر :
دروس في الاديان / جمعية المعارف الإسلامية الثقافية / مركز نون للتأليف والترجمة