
ما هی قصة هذه الثقوب، وکیف تتکون، وأین توجد، وهل تحدث القرآن عنها؟
تخیل أنک رمیت حجراً وأنت تقف على الأرض سوف یرتد هذا الحجر عائداً بفعل جاذبیة الأرض، ولکن إذا زادت سرعة هذا الحجر حتى تصل إلى 11.2 کیلو متر فی الثانیة سوف یخرج خارج الغلاف الجوی ویفلت من جاذبیة الأرض. إذن سرعة الهروب بالنسبة للأرض هی 11.2 کیلو متر فی الثانیة، بالنسبة للقمر سرعة الهروب فقط 2.4 کیلو متر فی الثانیة. الآن تصور أن سرعة الهروب على سطح الثقب الأسود تزید على سرعة الضوء، أی أکثر من 300 ألف کیلو متر فی الثانیة، وبالتالی حتى الضوء لا یستطیع المغادرة، ولذلک فهو مظلم لا یُرى أبداً.
إذا ما تأملنا تفاسیر القرآن نجد بأن معظم المفسرین یقولون: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْکُنَّسِ)(1) هی النجوم، تختفی بالنهار وتظهر فی اللیل، فکلمة (الخُنّس) جاءت من فعل (خنس) أی استتر وغاب واختفى، هذا فی اللغة، ولذلک قالوا هذه النجوم تختفی أثناء النهار فهی خُنّس. و(الجوار) تعنی تجری، هم یشاهدونها تجری أمامهم و(الکُنَّس) قالوا إنها تکنس صفحة السماء عندما تغیب.
ولکن الذی یتأمل هذا التفسیر یلاحظ أنه غیر دقیق.. لماذا؟ إن الله تبارک وتعالى عندما قال (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) إنما یحدثنا عن مخلوقات کونیة لا تُرى، ولذلک سمى الله الشیطان بـ (الخناس) فعندما نقرأ قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِکِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِی یُوَسْوِسُ فِی صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (2)فکلمة (الخناس) تعنی الذی لا یُرى: (إِنَّهُ یَرَاکُمْ هُوَ وَقَبِیلُهُ مِنْ حَیْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ..)(3).
الخُنّس هی أشیاء لا ترى، ونحن الیوم بعدما تطورت وسائل القیاس وتعرف العلماء على الکثیر من أسرار الکون تبین بأن هذه النجوم التی نراها فی اللیل هی لا تغیب، تغیب بالنسبة لنا عندما یطلع علینا النهار، ولکنها تظهر بالنسبة لسکان الأرض فی الجهة المقابلة من الأرض، وإذا خرجنا خارج نطاق الجاذبیة الأرضیة أو خارج الغلاف الجوی نرى ظلاماً دامساً ونرى هذه النجوم لا تغیب، نراها لیلاً نهاراً.
لو تأملنا الیوم فی اکتشافات العلماء نلاحظ أنهم یتحدثون ومنذ تقریباً أکثر من ربع قرن یتحدثون عن مخلوقات غریبة نوع من أنواع النجوم أطلقوا علیها اسم الثقوب السوداء، هذه الثقوب السوداء کیف تتشکل ولماذا لا ترى، ولماذا هی تجری بسرعة هائلة وماذا تکنس، ماذا تجذب إلیها؟ هذا ما بحثه العلماء طویلاً وخرجوا بعدة نتائج عن هذه المخلوقات، فالکون ملیء بالنجوم ومجرتنا تحوی أکثر من مائة ألف ملیون نجم وهناک من العلماء من یقول إن عدد النجوم فی مجرتنا أکبر من ذلک بکثیر ولکن العدد الموجود یقیناً الحد الأدنى یعنی هو مائة ألف ملیون نجم فی مجرتنا فقط، ومجرتنا بالنسبة للکون هی نقطة صغیرة لا تکاد ترى لأن الکون یحوی مئات البلایین من النجوم (مئات البلایین من المجرات) فهذه النجوم لها حیاة تتشکل وتولد ثم تکبر، ثم تهرم، ثم تنقضی حیاتها وتموت، کما یقولون.
عندما ینفذ وقود النجم، عندما یُستهلک وقوده فإنه یشرف على الموت أو الهلاک، وهنا آیة عظیمة تتجلى عندما أقسم الله تعالى بهذه الظاهرة ظاهرة سقوط النجم على ذاته، یقول تبارک وتعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُکُمْ وَمَا غَوَى) (4)فکل نجم فی الکون لا بد أن یکون له نهایة، وهذه الآیة (والنجم إذا هوى) لیست خاصة بنجم واحد، بل تنطبق على کل نجوم الکون.
إن النجم عندما یتهاوى على نفسه وینغلق وینضغط، یتشکل ما یسمى بالثقب الأسود إذن الثقب الأسود فی الأساس هو نجم، ولکن هذا النجم یبلغ أکثر من عشرین ضعف وزن الشمس، یعنی شمسنا التی یبلغ وزنها 2000 ملیون ملیون ملیون ملیون طن هذه الشمس الهائلة هنالک نجوم أکبر منها بعشرین ضعفاً، هذه النجوم عندما تنهار على نفسها تشکل الثقوب السوداء. هناک صفة ممیزة لهذه المخلوقات وهی أنها تکنس الغبار الکونی والدخان وغیر ذلک مما تصادفه فی طریقها وتبتلعه کالمکنسة!
إن هذه النجوم خانسة أی لا ترى، ومن هنا ندرک أن الله تبارک وتعالى عندما قال: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) فإنما هذه الکلمة صالحة لکل زمان ومکان وأن هذه الأجسام لا تُرى مطلقاً. وهذه الأجسام أیضاً یقول العلماء عنها أنها تجری مثلها مثل بقیة النجوم (وَکُلٌّ فِی فَلَکٍ یَسْبَحُونَ)(5) لا یوجد نجم واحد ساکن فی الکون کل الأجسام فی الکون بما فیها الغبار الکونی والدخان الکونی وغیر ذلک جمیعها تتحرک بنظام محکم.
وهکذا تتجلى أمامنا أهم صفات الثقب الأسود وهی أنه لا یرى وأنه یجری بسرعات کبیرة وأنه یکنس ویجذب أی شیء یجده فی طریقه وهذه الصفات الثلاثة هی ما حدثنا عنه القرآن فی ثلاث کلمات عندما قال تبارک وتعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْکُنَّسِ).
یقول العلماء إن جاذبیة الثقب الأسود کبیرة جداً ولکنها تؤثر فقط على الأجسام القریبة، وهکذا تعمل هذه الثقوب مثل المکنسة حیث تجذب وتبتلع کل ما یقترب منها، ولذلک ومن رحمة الله تعالى بنا أن هذه الثقوب لا تعمل على المسافات الطویلة، وإلا لکانت أرضنا قد اختفت منذ زمن بعید لأن مجرتنا تحوی ملایین الثقوب السوداء! یقول العلماء إن هذه الثقوب تعمل عمل المقابر الکونیة لأنها تمثل المرحلة الأخیرة من موت النجوم! تصوروا حتى النجوم تموت ولا یبقى إلا الله تعالى! إن وزن هذا الثقب یمکن أن یکون عشرة أضعاف وزن الشمس أی واحد وبجانبه 31 صفراً من الکیلو غرامات. ونصف قطره 30 کیلو متر فقط.
ینبغی أن نعلم أن الکلمات القرآنیة أدق من الکلمات التی یستخدمها علماء الغرب، فهم یسمونه ثقباً أسوداً، وهذه التسمیة جاءت قبل سنوات على لسان أحد العلماء ظنّ بأن هنالک فجوات فی السماء أو ثقوب سوداء (یعنی هی أماکن فارغة) فأطلق هذا الاسم، لکن تبین أن هذه الثقوب وزنها کبیر جداً یعنی بلایین وبلایین وبلایین من الأطنان تترکز ضمن دائرة ضیقة هی الثقب الأسود، ولذلک فإن القرآن لم یسمها ثقباً أو أسود، لأن الثقب یعنی الفراغ، وهذه الأجسام على العکس لیس فیها فراغ أبداً بل قمة الوزن والکتلة والجاذبیة موجودة فیها.
وهم یسمون هذا النجم أسود، مع العلم أن التسمیة الصحیحة ینبغی أن تکون أنه (لا یرى) وهذا ما یصرح به کبار علماء الفلک فی الغرب یقولون، بل یتساءلون فی مقالاتهم الصادرة حدیثاً یقولون: هل الثقب الأسود هل هو أسود فعلاً، ویتبین بنتیجة أبحاثهم أن هذا الثقب لا لون له لأنه غیر مرئی لا یرى أبداً.
عندما یتشکل هذا الثقب الأسود وینضغط على نفسه یصبح حجمه صغیراً جداً، لأن المادة تنضغط بشکل کبیر وهائل، وترتفع درجة حرارته إلى درجات قصوى، وتزداد جاذبیته بصورة لا یتصورها عقل لدرجة أن الضوء الذی یصدره هذا النجم أو هذا الثقب الأسود یعود فیرتد إلیه الأسود من شدة الجاذبیة یجذب الضوء إلیه، لا یدع شیئاً ینفلت منه، ولذلک یقول العلماء إن أهم صفة تمیّز هذه الثقوب السوداء أنها لا ترى، ولا یمکن رؤیتها مهما تطورت الأجهزة وحتى لو خرجنا خارج الأرض إلى الفضاء الخارجی لن نستطیع رؤیة هذه الأجسام.
ومن هنا ندرک أن القرآن عندما أطلق لفظ (الخُنّس) بالجمع إنما کانت هذه الکلمة صحیحة مائة بالمائة ودقیقة علمیاً، بینما العلماء یطلقون المصطلحات وبعد فترة من الزمن یحاولون تغییر هذه المصطلحات فلا یستطیعون ویبقى المصطلح العلمی على الرغم من أنه مصطلح خاطئ وغیر دقیق یبقى مستخدماً، وهذه میزة یتمیز بها کتاب الله تبارک وتعالى أنه یعطینا التعبیر الدقیق مباشرة، یعنی قبل ألف وأربعمائة عام أطلق القرآن لفظ الخنس فی زمن لم یکن أحد یتخیل ما هی هذه الثقوب وما هی هذه الأجسام.
وجد العلماء أن هذه المخلوقات تصدر ترددات صوتیة باستمرار أثناء عملها، وکأنها تسبح الله تعالى! ومن هنا أقول دائماً قد تکون هذه الأصوات هذه الترددات الصوتیة الخفیة التی لا نستطیع أن نسمعها ولکن الأجهزة الدقیقة ترصدها بدقة کاملة، قد تکون هذه الأصوات هی أصوات تسبیح لله تبارک وتعالى لأن کل المخلوقات تسبح الله عز وجل، یقول تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِیهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَیْءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَکِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ إِنَّهُ کَانَ حَلِیمًا غَفُورًا)(6).
من الأشیاء العجیبة أیضاً عن الثقوب السوداء ما کشفه علماء وکالة ناسا منذ زمن قریب، فقد استطاعوا أن یسجلوا ترددات صوتیة ناتجة عن هذه الثقوب السوداء وعندما نقول ترددات صوتیة، فهذا یعنی أنها فی المجال المسموع، الذی یسمعه الإنسان، کیف کشفوا هذا الأمر؟ کشفوا هذا الأمر من خلال الموجات التی یحدثها هذا الثقب الأسود فی الغبار الکونی عندما یبتلع الغبار الکونی هذا الثقب فإنه یحدث أشبه بالموجات الصوتیة ترددات صوتیة وقاموا بتسجیل هذه الترددات أیضاً، وقالوا إنها فی المجال المسموع وبعد ذلک وجدوا أن کل النجوم تصدر أصواتاً وکل الکائنات تصدر أصواتاً أیضاً وجدوا أن الکون فی بدایة خلقه أیضاً أصدر ترددات صوتیة، وجدوا حتى أن الخلیة خلایا الإنسان تصدر أیضاً هذه الأصوات.
لقد زود الله هذه النجم بمجال جذب قوی جداً ولکنه محدود یحیط بالنجم مشکلاً حزاماً یسمى أفق الحدث، خارج هذا المجال لا یستطیع الثقب الأسود فعل شیء، ولکن أی جسم یدخل هذا الأفق فإنه یتلاشى ویتحول إلى فوتونات ضوئیة ویُبتلع ولا نعود نرى منه شیئاً. ولولا هذا الأفق لابتلعت هذه النجوم کل شیء فی الکون!
ما هو الهدف من هذه الحقیقة الکونیة؟
والآن نأتی إلى الهدف من ذکر هذه الحقائق: ما الذی یریده الله منا أن نتعلمه أو ندرکه من هذه الحقائق؟ هل مجرد أن ندرک أن هنالک أجساماً فی السماء هی ثقوب سوداء، أو أن الهدف مجرد أن القرآن سبق علماء الغرب.. لا.. إنها أهداف ولکن الهدف الرئیسی عندما نقرأ هذا النص الکریم (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْکُنَّسِ) وهکذا.. آیات کونیة یسوقها الله تبارک وتعالى یختمها بقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ کَرِیمٍ) وهنا ندرک الهدف أن الله تبارک وتعالى کأنه یرید أن یقول لنا: کما أنکم أدرکتم وجود هذه الأجسام التی لا ترى، والله تعالى یرى کل شیء وقد حدثکم عنها، وکما أنکم بأجهزتکم وقیاساتکم أدرکتم أن القرآن حدثکم عن اکتشافات استغرقت عشرات السنین والقرآن نزل قبل ألف وأربعمائة سنة فی زمن لم یکن أحدٌ على وجه الأرض یتخیل شیئاً عن هذه المخلوقات الکونیة، وکما أنکم تدرکون أن هذه الأجسام موجودة لا شک فیها ینبغی علیکم أن تدرکوا أن هذا القرآن هو قول رسول کریم لیس کلام بشر، لیس بقول شاعر، أو کاهن، لیس من تعلیم بشر!
لکی نتخیل عظمة هذه المخلوقات: لو قمنا بأخذ حفنة قلیلة من هذا الثقب الأسود بحجم ملعقة الشای سیکون وزنها أربع مئة ألف ملیون طن، فتخیل کم یبلغ وزن هذا المخلوق بالکامل! لقد وجد العلماء ثقوباً سوداء کتلتها أکبر بعشرة آلاف مرة من کتلة الشمس، وقد تصل کتلة الثقب الأسود إلى أکثر من ألف ملیون کتلة الشمس. لذلک هی مخلوقات عظیمة جداً، ومخلوقات غیر مرئیة ولکن الله تبارک وتعالى أقسم بها (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ کَرِیمٍ).
من الأشیاء العظیمة أیها الأحبة فی هذه الأجسام أن العلماء یقولون: إنها من أعظم الظواهر الکونیة، یعنی ظاهرة الثقب الأسود ظاهرة عظیمة ومخیفة ومرعبة وتتجلى فیها قدرة الخالق عز وجل، فی إتقانه لهذه الصناعة (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِی أَتْقَنَ کُلَّ شَیْءٍ إِنَّهُ خَبِیرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (7)، وبسبب عظمة هذه الأجسام فقد أقسم الله تعالى بها، والله لا یقسم إلا بعظیم، طبعاً الله تبارک وتعالى یقسم بما یشاء من مخلوقاته، ولکن هذه المخلوقات بما أنها عظیمة ومهمّة أقسم الله تبارک وتعالى بها أن القرآن حق.
ولذلک عندما تعرض الکفار للنبی صلى الله علیه وسلم وانتقدوه (وَقَالُوا أَسَاطِیرُ الْأَوَّلِینَ اکْتَتَبَهَا فَهِیَ تُمْلَى عَلَیْهِ بُکْرَةً وَأَصِیلًا)(8) أمر الله تبارک وتعالى نبیه أن یرد علیهم: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِی یَعْلَمُ السِّرَّ فِی السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ کَانَ غَفُورًا رَحِیمًا) (9)أی أن الله تبارک وتعالى هو من أنزل هذا القرآن وهو أعلم بأسرار السماوات والأرض فإذا أردتم أن تدرکوا وتستیقنوا صدق هذا الکتاب فعلیکم أن تتعمقوا فی أسرار الکون.
المصادر :
1- التکویر :15 – 16
2- سورة الناس
3- الأعراف: 27
4- النجم: 1-2
5- یس: 40
6- الإسراء: 44
7- النمل: 88
8- الفرقان: 5
9- الفرقان: 6
/ج