یختص مفهوم «البدعة» ، بالاَمور الشرعیة زیادة أو نقصاناً ، ولا یتعدى ذلک إلى الاَمور والعادات المتغیرة ، والمباحات ، والاَعراف المتباینة لدى الناس ، ما دامت لا تُعد جزءً من الشریعة ، وعلى سبیل المثال فإنّ استعمال الاِنسان الآن للاَجهزة المتطورة فی الکتابة کجهاز الحاسوب أو غیره من أجهزة الکتابة بعد أن کان یستخدم الدواة والقلم لا یُعدّ «بدعة» بمفهومها الشرعی ، وکذلک الاَمر الآن فی رکوب السیارات والطائرات بعد رکوب الدواب ، وغیر ذلک .
وقد اختلفت طریقة تعامل الاِنسان مع الاَشیاء بناءً على التطور الحاصل فی جمیع مرافق الحیاة ، کتدوین الحدیث ، وتصنیفه ، وتبویبه .
والاستماع إلى القرآن ، وتشیید الاَماکن المقدسة ، وإقامة التجمعات الدینیة ، وإنشاء المدارس والمؤسسات الاِسلامیة وغیر ذلک مما یلبی حاجة الاِنسان فی زماننا المعاصر .
وهذه الاَمور کلها لا علاقة لها بالابتداع ، وإنْ کانت أُموراً حادثةً وغیر موجودة فی عصر التشریع الاَول ؛ لاَنها مما ترک لاختیار الانسان وذوقه فی انتخاب ما یناسب اسلوبه فی الحیاة ومرتبطة بطریقته فی التعامل مع الاَشیاء وبقدرته على تسخیر الطاقات الکامنة فی هذا الوجود وتطویعها لخدمته .
وقد حاول البعض توسیع معنى «البدعة» إلى مدى أوسع لیشمل کلَّ أمرٍ حادث لم یکن قد وقع فی زمن الرسول صلى الله علیه وآله وسلم حتى وإن کان بنحوٍ من الاَنحاء یهدف إلى خدمة الدین وأهدافه المقدسة .
فقد دفع التحجّر بعض هؤلاء ممن قصروا عن فهم الدین والسُنّة النبویة الشریفة إلى الاعتقاد بأنّ کل أمرٍ لا بدَّ أن یأتی فیه النص الخاص الذی یشیر إلیه بشکل صریح ، وأنّ کلّ ما لم یرد بشأنه دلیل شرعی خاص فإنّه یندرج فی قائمة الابتداع ، وکأنّ الشریعة الاسلامیة عقیمة جامدة لا تمتلک الضوابط العامة والقوانین الکلیة التی یمکن تطبیقها على الموضوعات والحوادث المستجدة والمتنوعة .
جاء فی دائرة المعارف الاِسلامیة : وتطور مدلول کلمة «البدعة» ، وانقسم الناس حیاله الى فریقین : الاَول محافظ ، والآخر : مجدد ، وکان أتباع الفریق المحافظ أول الاَمر الحنابلة بنوعٍ خاص ، ویمثلهم الآن الوهابیون ، وهذا الفریق آخذ فی الزوال ، ویذهب هذا الفریق إلى أنّه یجب على المؤمن أن یأخذ بالاتّباع «إتّباع السُنّة» ، وأن یرفض الابتداع ، وفریق آخر یسلّم بتغیّر البیئة والاَحوال (1).
فهناک إذاً توجه متطرّف فی فهم «البدعة» وإعطائه معنىً شاملاً وواسعاً ، مناقضاً للمعنى الوارد فی القرآن والسُنّة النبویة الشریفة ، ومناقضاً أیضاً لمنطق العقل وسُنّة الخلق ، فهذا الاتجاه کما قلنا یطبّق مفهوم البدعة على کل أمر حادث فی حیاة المسلمین ویوسع دلالتها إلى مختلف شؤون الحیاة بدعاوى الحرص على الدین والتقید والاتّباع للسُنّة النبویة المطهّرة.
وهذا اللون من الفهم المغلوط والتفکیر السقیم لا یعنی سوى الانغلاق الکامل عن الحیاة، والانزواء المطبق الذی یعزل الشریعة عن التفاعل مع حیاة الناس ، بل وقیادتهم فی خضم الصراعات الکبرى التی تواجهها الاِنسانیة .
ولکی یقف القارىء الکریم على الفهم المغلوط لمفهوم البدعة ، نورد له فی هذا الباب جملة من الحوادث والروایات لرجال وأشخاص فهموا البدعة على أنّها کل أمر حادث لم یکن فی عهد الرسول صلى الله علیه وآله وسلم .
1 ـ جاء فی (الاعتصام) أنَّ أبا نعیم الحافظ روى عن محمد بن أسلم أنّه وُلد له ولد ، قال ـ محمد بن القاسم الطوسی ـ فقال : اشترِ لی کبشین عظیمین ، ودفع لی دراهم فاشتریت له ، وأعطانی عشرة أُخرى ، وقال لی: اشتر بها دقیقاً ولا تنخله ، واخبزه !
قال : فنخلت الدقیق وخبزته ، ثم جئت به ، فقال : نخلت هذا ؟! وأعطانی عشرة أُخرى ، وقال اشترِ به دقیقاً ولا تنخله ، واخبزه ! فخبزته وحملته إلیه ، فقال لی : یا أبا عبدالله ، العقیقة سُنّة ، ونخل الدقیق بدعة ! ولا ینبغی أن یکون فی السُنّة بدعة ، ولم أُحب أن یکون ذلک الخبز فی بیتی بعد أن کان بدعة (2).
2 ـ وروی أن رجلاً قال لابی بکر بن عیاش : کیف أصبحت ؟ فما أجابه، وقال دعونا من هذه البدعة (3).
3 ـ وروی عن أبی مصعب صاحب مالک أنّه قال : قدم علینا ابن مهدی ـ یعنی المدینة ـ فصلّى ووضَعَ رداءه بینَ یدی الصف ، فلمّا سلَّم الاِمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالکاً ، وکان قد صلّى خلف الامام ، فلّما سلَّم قال : من هاهنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان ، فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه ! فحُبس ، فقیل له : إنّه ابن مهدی ، فوجّه إلیه وقال له : أما خفتَ الله واتّقیته أن وضعت ثوبکَ بین یدیک فی الصف وشغلت المصلّین بالنظر إلیه ، وأحدثت فی مسجدنا شیئاً ما کنا نعرفه ، وقد قال النبی صلى الله علیه وآله وسلم : « من أحدث فی مسجدنا حدثاً فعلیه لعنة الله والملائکة والناس أجمعین » ؟ فبکى ابن مهدی ، وآلى على نفسه أن لایفعل ذلک أبداً فی مسجد النبی صلى الله علیه وآله وسلم ولا فی غیره (4).
4 ـ ویقول ابن الحاج : وقد منع علماؤنا رحمة الله علیهم المراوح ، إذ إنَّ اتخاذها فی المساجد بدعة (5)!
5 ـ ویقول أیضاً : إنّ المصافحة بعد الصلاة بدعة ، وینبغی له ـ یقصد إمام الجماعة ـ أن یمنع ما أحدثوه من المصافحة بعد صلاة الصبح ، وبعد صلاة العصر ، وبعد صلاة الجمعة ، بل زاد بعضهم فی هذا الوقت فعل ذلک بعد الصلوات الخمسة ، وذلک کله بدعة (6)!
ومما تقدم من الشواهد والاَمثلة تتوضح معالم الفهم الخاطىء لمعنى البدعة ، وأنّه ناشىء من الاعتقاد بأن کل أمر حادث لم یکن موجوداً فی عصر الرسول صلى الله علیه وآله وسلم ولم یرد بخصوصه نصٌّ معین یخصّه بالذکر ، فهو داخل فی دائرة الابتداع .
ومن هنا صار نخلُ الدقیق وتنقیته من الشوائب من البدع فی الدین ، وکذلک وضع الرداء بین یدی الصف فی الصلاة من البدع التی تاب عن فعلها صاحبها ! ویلحق بذلک عند هؤلاء التحیة بعبارة (کیف أصبحت) والمصافحة بعد الصلاة ، واستخدام المراوح فی المساجد أیضاً ، فهذه وأمثالها عندهم کلها بدع .
أصل هذا الفهم :
إنّ هذا الفهم الخاطىء «للبدعة» لم یتأت من فراغ ، بل جاء من الاعتقاد بنظریة غریبة ، وهی أنّ البدعة هی ما لم یکن موجوداً فی القرون الثلاثة بعد رحیل النبی صلى الله علیه وآله وسلم .یقول صاحب الهدیّة السنیة : «ومما نحن علیه ، أنّ البدعة ـ وهی ماحدثت بعد القرون الثلاثة ـ مذمومة مطلقاً خلافاً لمن قال: حسنة وقبیحة ، ولمن قسّمها خمسة أقسام ، إلاّ إن أمکن الجمع بأن یقال : الحسنة ما علیها السلف الصالح شاملة للواجبة والمندوبة والمباحة ، وتکون تسمیتها بدعة مجازاً ، والقبیحة ما عدا ذلک شاملة للمحرمة والمکروهة ، فلا بأس بهذا الجمع...» (7).
إنّ هذه النظریة الشاذة الغریبة اعتمدت حسب ما یبدو على روایات وردت فی فضل أصحاب النبی صلى الله علیه وآله وسلم ، فقد روى البخاری عن عمران بن الحصین ، یقول : قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم : خیر أُمتی قرنی ثم الذین یلونهم ، ثم الذین یلونهم ، قال عمران : فلا أدری أذکر بعد قرنه قرنین أو ثلاثاً ، ثم إنّ بعدکم قوماً یشهدون ولا یستشهدون ، ویخونون ولا یؤتمنون ، وینذرون ولا یفون ، ویظهر فیهم السِّمَنُ (8).
وروى أیضاً عن عبدالله إنّ النبی صلى الله علیه وآله وسلم قال : (خیر الناس قرنی ، ثم الذین یلونهم ، ثم الذین یلونهم ، ثم یجیء قوم تسبق شهادة أحدهم یمینه، ویمینه شهادته ، قال : قال إبراهیم : وکانوا یضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار)(9).
إنّ الاحتجاج بهذه الروایات على أنّها المیزان فی تمییز البدعة عن السُنّة باطل من عدّة وجوه :
الاَول : إنّ القرن فی اللغة هو النسل (10)، وقد استُعمل هذا المعنى فی القرآن الکریم ، قال سبحانه وتعالى : ( فَأهلَکنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَأنشأنَا مِنْ بَعدِهِم قَرناً آخَرِینَ ) (11).
والمتعارف أنّ معدل عمر کل نسلٍ أو جیل هو الستون أو السبعون من السنین ، فیکون المراد من تلک الروایات ، مجموع تلک السنین وهو یتراوح بین 180 و 210 سنة فأین ذلک من تفسیر الحدیث المار بثلاثمائة سنة .
الثانی : إنّ شرّاح الحدیث اختلفوا فی تفسیر الروایة ، ومع ذلک فإنّ کلّ التفاسیر لایستفاد منها ما تبنّاه الکاتب من أن القرون الثلاثة هی ثلاثمائة سنة ، فهناک من یقول إنّ المراد فی قوله : «قرنی» هو أصحابه ومن «الذین یلونهم» أبناءهم ومن «الثالث» أبناء أبنائهم.. وغیره یقول بأنّ قرنه ما بقیت عین رأته ، ومن الثانی ما بقیت عین رأت من رآه ، ثم کذلک .
ویقول ثالث : إنّ قرنه هم الصحابة ، والثانی التابعون ، والثالث تابعوهم(12).
وعلى کلِّ التفاسیر المارة فإنّ المدّة المفترضة هی أقل من ثلاثمائة سنة، فإذا أخذنا بالقول الاَخیر وهو أعم الاَقوال وأکثرها سعة من ناحیة الامتداد الزمنی ، فإنَّ آخر من مات من الصحابة هو أبو الطفیل وقد اختلفوا فی تاریخ وفاته ، فقد قیل أنّه توفی فی سنة 120 هـ أو قبلها أو بعدها بقلیل ، وأما قرن التابعین فآخر من توفی منهم کان عام 170 هـ أو 180 هـ وآخر من عاش من أتباع التابعین ممن یُقبل قوله قد توفی حدود سنة 220 هـ ، فیقل تاریخ وفاته بثمانین سنة عن الثلاثمائة سنة وهو زمن کثیر . وهذا مااعتمده ابن حجر العسقلانی ، فقال : وفی هذا الوقت «220 هـ» ظهرت البدع فاشیاً ، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ، ورفعت الفلاسفة رؤوسها ، وامتحن أهل العلم لیقولوا بخلق القرآن ، وتغیّرت الاَحوال تغیّراً شدیداً ولم یزل الاَمر فی نقصٍ إلى الآن (13).
ویزید الاَمر وضوحاً أنّ الحدیث المروی قد اعتمد فی تمییز القرن عن القرن الآخر الاَشخاص حسب طبقاتهم ، حیثُ قال : «خیر أُمتی قرنی» ولم یقل القرن الاَول ، ثم قال : «ثم الذین یلونهم» ولم یقل القرن الثانی ، وأخیراً قال : «ثم الذین یلونهم» ولم یقل القرن الثالث ، والاَمر هنا واضح الدلالة بما لا مزید علیه من أنّ المحور فی تعیین القرن هم الاَشخاص .
الثالث : ماذا یُراد من خیر القرون وشرّها ، وما هو المقیاس فی الوصف بالخیر والشر ؟
إنّ هناک ثلاثة مقاییس یمکن استخدامها فی وصف أمرٍ بالخیر أو بالشر هی : ـ
1 ـ إنّ أهل القرن الاَول کانوا خیر القرون لاَنّهم لم یختلفوا فی الاُصول والعقائد .
2 ـ إنّهم خیر القرون لاَنّهم کانوا جمیعاً یعیشون تحت ظل الاَمن والسلم والطمأنینة .
3 ـ إنّهم خیر القرون لاَنّهم تمسکوا بأهداف الدین وحققوا أهدافه على الصعید العملی والتطبیقی .
إنّ کلّ واحد من هذه الافتراضات بکذبه القرآن الکریم والسُنّة النبویة الشریفة ووقائع التاریخ .
فإذا کان المقیاس هو العقائد الصحیحة ، وأنَّ المسلمین کانوا کلهم متمسکین بمعتقد واحد صحیح طیلة القرون الثلاثة الاُولى ، وأنّ العقائد الباطلة والفاسدة ظهرت بعد تلک القرون ، فإنّ تاریخ ظهور الملل والنحل فی المجتمع الاِسلامی یکذّب ذلک الادعاء والتفسیر ، فقد ظهر الخوارج فی أواخر الثلاثینات الهجریة وکانت لهم عقائد سخیفة خضّبوا بسببها وجه الاَرض بالدم وقتلوا الاَبریاء ، ولم تکتمل المائة الاُولى حتى ظهرت المرجئة الذین دعوا المسلمین إلى التحلل من الضوابط والالتزامات الشرعیة ، رافعین عقیرتهم بالنداء بأنّه لا تضر مع الاِیمان معصیة !
ولم یمضِ وقت طویل على ظهورهم حتى ظهر المعتزلة عام 105 هـ قبل وفاة الحسن البصری بقلیل ، فتوسع الشقاق بین المسلمین .
لقد شهدت المائة الهجریة الثانیة توسع الاَبحاث الکلامیة وانبعاث المذاهب المتعددة ، وأصبحت حواضر العالم الاِسلامی میداناً واسعاً لتضارب الآراء وصراع الاَفکار .
فمن متزمتٍ یقتصر فی وصفه سبحانه وتعالى على الاَلفاظ الواردة فی القرآن الکریم ویفسّرها بمعانیها الحرفیة ، من دون إمعان أو تدبر فلا یخجل من الادعاء بأنّ لله یداً ووجهاً ورجلاً وأنّه مستقر على عرشه کما یستقر أی موجود مادی .
إلى مرجئی یکتفی بالاِیمان بالقول بل ویقدّمه ، ویؤخر العمل ویسوق الاُمّة إلى التحلل الخلقی وترک الفرائض والواجبات ، إلى محکِّم یُکفّر کلّ الطوائف الاِسلامیة غیر أهل نحلته ، إلى معتزلی یؤوّل الکتاب والسُنّة إلى ما یوافق معتقده وعقلیته ، إلى غیر ذلک من العقائد الفاسدة التی طعنت وحدة الاُمّة الاِسلامیة بالصمیم .
وأما إذا کان المقیاس هو سیادة الاَمن والاستقرار والسلم والطمأنینة على المجتمع الاِسلامی ، فإنَّ وقائع التاریخ تکذّب ذلک أیما تکذیب ، فقد کان القرن الاَول صفحة تلطّخت بالدم الذی سال من المسلمین ، ففی هذا القرن وقعت حرب الجمل ، وفیه خرج معاویة على إمام زمانه أمیر المؤمنین علیه السلام فوقعت معرکة صفین ، وفیه قُتل فی محرابه أمیر المؤمنین علی علیه السلام .
وفیه ظهر الخوارج وارتکبوا ما ارتکبوا من أبشع الجرائم .
وفیه أیضاً قُتل الاِمام الحسین علیه السلام سبط الرسول الاَعظم وسید شباب أهل الجنة .
وفیه استبیحت المدینة بأمر یزید بن معاویة فقتل من الصحابة والتابعین عدد کبیر ونهبت الاَموال وحرّقت الدور وبقرت بطون الحوامل وهتکت الاَعراض .
وفیه حوصرت مکة وضربت الکعبة بالمنجنیق .
لقد وقع کل ذلک قبل أن تتم المائة الاُولى سنینها ، فکیف یمکن أن یکون ذلک القرن خیر القرون وأفضلها ، صحیح إنَّ فی وجود الرسول الاَکرم والطاهرین من أهل بیته والصالحین من أصحابه الخیر کل الخیر ، لکن الحدیث المذکور یشیر إلى الاَشخاص «الاَصحاب» الذین کانوا هم أنفسهم وراء الکثیر من الاَحداث الدمویة .وإذا کان المقیاس هو التمسک بالدین والالتزام بالتعالیم التی جاء بها الرسول الاَکرم محمد صلى الله علیه وآله وسلم ، فلا ندری هل نصدّق الحدیثین السابقین اللذین رواهما الشیخان ، أم نصدّق بما أخرجاه معاً فی مکان آخر ، قالا: قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم : « یرد علیَّ یوم القیامة رهط من أصحابی فَیُحَلَّؤون عن الحوض ، فأقول : یا ربی أصحابی ، فیقول : إنّه لا علم لک بما أحدثوا بعدک إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقری » (14).
أم نؤمن بالحدیث الذی تقدم فی فصول الکتاب من أنّ النبی صلى الله علیه وآله وسلم یقول لجملة من أصحابه یوم القیامة : « فسحقاً » یکررها ثلاث مرات ؟
وکیف نؤمن بذلک والقرآن الذی نزل تعرّض إلى جملة ممن عاصروا الرسول صلى الله علیه وآله وسلم فوصفهم بالمنافقین(15)، والمختفین به(16)، ومرضى القلوب(17)، والسماعین ، کالریشة فی مهب الریح(18)، والمشرفین على الارتداد(19)، والمسلمین غیر المؤمنین(20)، والمؤلفة قلوبهم(21) ، والمولّین أدبارهم أمام الکفار (22)، والفاسقین (23).
وکیف یا ترى مع وجود کل هذه النعوت والاوصاف التی أطلقها القرآن الکریم على أشخاص أو مجموعات من الناس کانت تعیش فی أوساط المسلمین وتجتمع باجتماعهم ، یصف الرسول تلک القرون بأنّها خیر القرون ؟!
إنّ الذی یبدو واضحاً أنّ الحدیث موضوع من أجل هدف خطیر ، وهو تصحیح کل أفعال السلف وجعلهم معیاراً فاصلاً بین الحق والباطل ، فما فعلوه فهو الحق وما ترکوه هو الباطل !
ونحن نعتقد أنّ عمل السلف لیس مصدراً من مصادر التشریع کما صوّره البعض وبنوا علیه کثیراً من الاَحکام الشرعیة التفصیلیة ، مع أنّه لیس هناک أی دلیل یشیر إلى اعتبار فعل السلف وحجیته فی مجال الاَحکام الشرعیة.
إنّ قبول ذلک المعیار یعنی استسلام الشریعة المقدسة إلى البدع والمحدثات ، واختلاط الحرام بالحلال ، والوقوع فی تناقضات أفعال السلف التی طفحت بها کتب الروایة والحدیث والوقائع التاریخیة .
والاَمر الوحید الذی نمتلکه بهذا الصدد ، هو أنّ فعل المتشرعة الذین یمثلون الطبقة الطلیعیة فی المجتمع الاِسلامی ، والذین یحکی تصرفهم وسلوکهم عن واقع الاَحکام الشرعیة ، باعتبار حرصهم على تطبیق تعالیمها ، والجری على منهجها ، إنّما هو حجة من ناحیة کونه کاشفاً عن تلقّی الاَمر عن مصدر التشریع .
ومن الواضح إنَّ هذه الدائرة لا یمکن أن تشمل فی إطارها جمیع أفعال السلف ، بل انّها تقتصر فی حجیتها على حدود خاصة منهم .
إنَّ افتراض الحجیة لجمیع أفعال السلف کلهم ، یتناقض مع کونهم لم یقدّموا للاُمّة أمراً أجمعوا رأیهم علیه بعد وفاة الرسول صلى الله علیه وآله وسلم ، ومن یتصفح کتب التاریخ الاِسلامی والوقائع والاَحداث ونشوء المدارس وتنوع الاجتهادات وتضاربها لا یخالطه فی ذلک ریب .
فکیف یکون المختلفون کلهم حجة على من أعقبهم من الاُمّة ، مع أنّ الاختلاف بینهم کان بعضه بمقدار ما بین الجنة والنار من مسافة واختلاف؟!
ثانیاً : عدم وجود دلیل شرعی على الاَمر الحادث من الدین
وهذا القید یعتبر من أوضح القیود التی تشخّص البدعة وتحددها ، إذ إنّ من الشروط الاَساسیة التی تُدخل «الاَمر الحادث» ضمن دائرة الابتداع هو أن لا یکون لهذا العمل أصل فی الدین لا على نحو الخصوص ولا على وجه العموم..
قال تعالى : ( وَمَنْ أظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللهِ کَذِباً أوْ کَذَّبَ بِآیاتِهِ إنَّهُ لا یُفلِحُ الظَّالِمُون ) (24).
ویقول عزَّ من قائل : ( قُل ءَاللهُ أذِنَ لَکُم أم عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) (25).
وواضحة دلالة الآیتین الشریفتین على أن هناک من یحاول إدخال ما لیس من الدین أو الشرع أو أوامر الله سبحانه وتعالى فی الدین .
إنّ «الاَمر الحادث» هو الاَمر الذی یقع فی زمن غیاب الرسول صلى الله علیه وآله وسلم بحیث لا نملک اتجاهه سُنّة نبویة معروفة ، وإلاّ لکان من السُنّة وخرج عن کونه أمراً حادثاً ، ولذا فإن وجدنا دلیلاً خاصاً ینطبق علیه ویحدد الموقف منه فإنَّ هذا الدلیل یُخرج هذا الاَمر عن دائرة الابتداع ، ویدخله ضمن دائرة السُنّة والتشریع .
وکذلک الاَمر لو وجدنا دلیلاً عاماً یمکن تطبیقه على هذا الاَمر الحادث ، فإنّه سیخرجه عن حدِّ الابتداع أیضاً .
وکلّ ذلک منوط بصحة الاَدلة الخاصة والعامّة وصحة صدورها من الشارع المقدّس ، لکی یتحقق ارتباط الاَمر الحادث بالدین على نحو القطع والیقین .
ولتوضیح فکرة الدلیل الخاص والدلیل العام على الاَمر الحادث سنورد المثال التالی :
استثناء ما ورد فیه دلیل خاص :
إنّ ورود دلیل شرعی خاص بخصوص أمرٍ معیّن ، وإن لم یقع فی حیاة الرسول صلى الله علیه وآله وسلم ، فإنَّ هذا الاَمر یأخذ موقعه فی کونه جزءاً من التشریع بالعنوان الذی یذکره الدلیل الخاص ، ویخرج بذلک عن دائرة الابتداع ، إذ المقیاس لیس وقوعه أو عدم وقوعه فی عصر التشریع، بل المقیاس هو انطباق الدلیل الخاص علیه أم عدمه .وسنوضح هذه الفکرة من خلال عدّة نماذج :
1 ـ تعتبر صلاة الآیات بالاَدلة الشرعیة واجبة عند حدوث الظواهر الطبیعیة المخوفة کالزلزال وغیره ، فإذا افترضنا أنّ زلزالاً لم یقع طیلة حیاة الرسول الاَکرم صلى الله علیه وآله وسلم أو طیلة عصر التشریع ، وأنّ هذا الزلزال وقع بعد حیاته صلى الله علیه وآله وسلم وانقطاع الوحی الاِلهی ، فإنّ القول بوجوب أداء صلاة الآیات والمتعلقة فی هذه الحالة «بالزلزلة» لا یُعدّ بدعة بحجة أنّ هذا الاَمر حادث ولم یقع فی زمن النبی صلى الله علیه وآله وسلم ! ، بل إنّه هنا من صمیم السُنّة الشریفة ، لاَنّه وجب عن طریق الدلیل الشرعی الخاص ، غایة الاَمر أنّه لم یقع فی زمن التشریع أو فی زمن حیاة الرسول الاَکرم صلى الله علیه وآله وسلم .
2 ـ ومن أمثلة الدلیل الخاص أیضاً ما ورد من النصوص الشرعیة التی تحرّم على الرجل أن یتزیّى بزی النساء ، وتحرم على المرأة ان تتزیّى بزی الرجال .
عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم إنّه قال : « لعنَ اللهُ الرجل یلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل » (26).
وعنه صلى الله علیه وآله وسلم : « لیس منّا من تشبّه بالرجال من النساء ، ولا من تشبّه بالنساء من الرجال »(27).
إنّ تشبّه الرجال بالنساء ، وتشبّه النساء بالرجال أخذ عنوانه الشرعی بالحرمة من خلال نصه الخاص ، وتحریمه بعد وقوعه عقب زمن التشریع لا معنى لجعله ضمن دائرة «البدعة»، بل إنّ تحریمه یُعتبر من صمیم التشریع لورود الدلیل الخاص فیه .
وخلاصة القول : إنّ النصّ الخاص هو جزء من التشریع ، وإن کان الاَمر الذی ورد فیه ذلک النص لم یحدث إلاّ بعد عصر التشریع .
المصادر :
1- دائرة المعارف الاِسلامیة ، دار المعرفة 3 : 456 .
2- الاعتصام ، لابی اسحاق الشاطبی 2 : 74 .
3- احیاء علوم الدین ، لابی حامد الغزالی 2 : 251 کتاب العزلة .
4- الاعتصام ، لابی اسحاق الشاطبی 1 : 116 .
5- المدخل ، لابن الحاج 2 : 217 .
6- المصدر السابق 2 : 219 .
7- الهدیة السنیة ، الرسالة الثانیة : 51 .
8- فتح الباری فی شرح صحیح البخاری ، لابن حجر العسقلانی 7 : 6 باب فضائل أصحاب النبی صلى الله علیه وآله وسلم
9- المصدر السابق .
10- العین ، للخلیل . اللسان ، لابن منظور ، مادة (قران) .
11- الانعام 6 : 6 .
12- شرح صحیح مسلم ، للنووی 16 : 85 .
13- فتح الباری فی شرح صحیح البخاری ، لابن حجر العسقلانی 7 : 4 .
14- جامع الاصول ، لابن الاثیر 10 : 469 | 7998 طبعة دار الفکر .
15- المنافقون 63 : 1 ـ 8 .
16- التوبة 9 : 101 .
17- الاحزاب 33 : 12 .
18- التوبة 9 : 45 ـ 47 .
19- آل عمران 3 : 154 .
20- الحجرات 49 : 14 .
21- التوبة 9 : 60 .
22- الانفال 8 : 16 .
23- الحجرات 49 : 6 .
24- الانعام 6 : 21 .
25- یونس 10 : 59 .
26- کنز العمال 8 : 323 | 41235 .
27- کنز العمّال ، لعلاء الدین الهندی 8 : 324 | 41237 .
/ج