![الإمام الجواد علیه السّلام وصیانة الدِّین الإمام الجواد علیه السّلام وصیانة الدِّین](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/A11582111.jpg)
بعد الإمامَ الرضا علیه السّلام خَلَف الإمامُ أبو جعفر محمّد بن علیّ الجواد علیه السّلام منصب الإمامة الإلهیّة العظیم، بعد أن استُشهد الإمام الرضا علیه السّلام على ید المأمون العبّاسیّ سنة 203 هـ.
وکان المأمون العبّاسیّ قد استقدم الإمام الرضا علیه السّلام من المدینة وعَهِد إلیه بولایة العهد، فی محاولة ماکرة لترضیة العلویّین الذین کانت ثوراتهم تُوشِک أن تُقوض دعائم الحکم العبّاسیّ. وکان أبو الحسن الرضا علیه السّلام لا یُحابی المأمون فی حقّ، بل کان یَجبَهُه فی کثیر من الحالات، ممّا یثیر غیظ هذا الحکم العباسیّ وحقده على الإمام. وکان علیه السّلام یُکثر وعظَه إذا خلا به ویحذّره عقابَ الله تعالى.
أمّا المأمون فکان یُظهر قبول ذلک ویُبطن خلافه. حتّى إذا استتبّ الأمر للمأمون عزم على التخلّص من أبی الحسن الرضا علیه السّلام، فاغتاله بالسمّ فی عنب مسموم (1)، ومضى الإمام الرضا علیه السّلام إلى ربّه شهیداً مظلوماً وخلّف ولده الإمام الجواد علیه السّلام فی المدینة.
بدایة التحدّیات
بدأت إمامة الإمام الجواد علیه السّلام سنة 203 هـ، بعد شهادة أبیه الإمام الرضا علیه السّلام. وکان لأبی جعفر الجواد علیه السّلام یومذاک من العمر ثمانیة أعوام وقد أُوتیَ الحُکم والحکمة صبیّاً، فقد ولد علیه السّلام فی سنة 195 هـ (2). وتسنُّمُ الإمام الجواد علیه السّلام لمنصبٍ خطیر کمنصب الإمامة الإلهیّة یستدعی قیادةَ جماهیر الأمّة على مختلف الأصعدة، بحیث یُذعن لحکمته ودرایته القریبُ والبعید، والعدوّ والصدیق، کلّ ذلک یتطلّب التصدّی لتحدیّات کبیرة واسعة، وخاصّة فی وسطٍ یحکم فیه بنو العبّاس الذین یدّعون أنّهم الأحقّ بالخلافة من أئمّة أهل البیت الأطهار علیهم السّلام، ویعتبرونهم المنافس الشدید لهم فی هذا الأمر.واجه الإمامُ الجواد علیه السّلام هذه الظروفَ بمتانة وحکمة، ویحدّثنا التاریخ أنّ أباه الإمام الرضا علیه السّلام قد أشار إلى ولده الجواد علیه السّلام بالإمامة من بعده، وأنّه علیه السّلام احتجّ على من استصغر سنّ الجواد علیه السّلام لمثل هذا المنصب المهمّ، فقد استصغر بعض أصحابه سنّ أبی جعفر الجواد علیه السّلام حین أوصى له أبوه الإمام الرضا علیه السّلام، فقال له أبو الحسن الرضا علیه السّلام: إنّ الله بَعَث عیسى ابن مریم رسولاً نبیّاً صاحبَ شریعةٍ مُبتدَأة فی أصغرَ من السنِّ التی هو فیها (3).
ورُوی أنّ الإمام الرضا علیه السّلام قال لعلیّ بن أسباط: یا علیّ، إنّ الله احتجّ فی الإمامة بمثل ما احتجّ فی النبوّة، فقال وآتَیْناهُ الحُکْمَ صَبِیّاً (4)، وقال ولمّا بَلَغَ أشُدَّه (5)، وبَلَغَ أربعینَ سَنةً (6)؛ فقد یجوز أن یُؤتى الحُکم صبیّاً، ویجوز أن یُعطاها وهو ابن أربعین سنة (7). أی أنّ الاصطفاء الإلهیّ اصطفاءٌ طلیق لا یخضع لاعتبارات السنّ والعمر، بل یرتبط بالمضمون الإلهیّ فی داخل من یصطفیه الله تعالى ویختاره.
وقد نُقل أنّ العبّاسیّین استکبروا على المأمون تزویجَه ابنتَه أمَّ الفضل من أبی جعفر الجواد علیه السّلام ـ وکان المأمون أراد بذلک استمالتَه وفَصْلَه عن جماهیر شیعته من جهة، والتظاهر بالبراءة من دم أبیه الإمام الرضا علیه السّلام الذی کان قد اغتاله آنفاً من جهة ثانیة، کما أراد کسب مودّة الشیعة من خلال التقریب الظاهریّ لإمامهم من جهة ثالثة ـ وناشدوا المأمونَ أن ینصرف عن أمر هذا التزویج، وقالوا: إنّا نخاف أن تُخرِجَ عنّا أمراً قد مَلَّکَناهُ اللهُ، وتَنزعَ عنّا عِزّاً قد ألْبَسَناهُ الله! فأبى المأمون أن یُصغی إلى کلامهم، فقد کان أدهى من أن یُسلّم بهذه البساطة عرشاً قَتَل من أجله أخاه الأمینَ ثمّ الإمامَ الرضا علیه السّلام، وسفک دماء الآلاف من المسلمین.
ثمّ توسّل العبّاسیون بطریقة أخرى لصرف المأمون عمّا عزم علیه، وهو التشکیک بمدى مقدرةِ صبیٍّ صغیر لم یبلغ ـ فی نظرهم ـ السنَّ التی ینبغی أن یَبلُغَها من یُصاهِر الخلیفة، وعرضوا على المأمون أن یسمح لهم باختباره، فأذن لهم فی ذلک (8).
مکیدة یحیى بن أکثم الفاشلة
خرج العبّاسیّون من عند المأمون، واجتمع رأیُهم على مسألة یحیى بن أکثم ـ وهو یومئذٍ قاضی القضاة ـ على أن یسأل الإمامَ الجواد علیه السّلام مسألة لا یَعرِف الجوابَ فیها، ووعدوه بأموالٍ نفیسة على ذلک، ثمّ عادوا إلى المأمون وسألوه أن یختار لهم یوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلک... ثمّ إنّ یحیى بن أکثم قال للمأمون: أتأذَنُ لی أن أسأل أبا جعفر عن مسألة ؟فقال المأمون: استأذِنْه فی ذلک.
فأقبل علیه یحیى بن أکثم فقال: أتأذن لی ـ جُعِلتُ فداک! ـ فی مسألة ؟
فقال أبو جعفر علیه السّلام: سَل إنْ شئتَ!
فقال یحیى: ما تقولُ ـ جُعلت فداک ـ فی مُحْرِمٍ قَتَل صَیْداَ ؟
فقال أبو جعفر علیه السّلام: قَتَلَه فی حِلّ أو حَرَم ؟ عالِماً کان المُحرِمُ أو جاهلاً ؟ قَتَله عَمْداً أو خَطأً ؟ حُرّاً کان المُحرمُ أم عبداً ؟ صغیراً کان أم کبیراً ؟ مُبتدئاً بالقتل کان أو مُعیداً ؟ مِن ذواتِ الطیرِ کان الصیدُ أم مِن غیرها ؟ مِن صغارِ الصیدِ أم مِن کباره ؟ مُصِرّاً على ما فَعَل أو نادماً ؟ فی اللیل کان قَتْلُه للصید أم فی النهار ؟ مُحرِماً کان بالعُمرة إذ قَتَله أو بالحجّ کان مُحرماً ؟
عندئذ تحیّر یحیى بن أکثم وبان فی وجهه العجز والانقطاع، ولَجْلَج حتّى عَرَف جماعةُ أهل المجلس عَجزَه (9).
ثمّ إنّ المأمون سأل الإمامَ الجواد علیه السّلام أن یُجیب عن تلک الأسئلة، فأجاب عن جمیع المسائل بما هو مشهور.
وهکذا فشلت مکیدة یحیى بن أکثم، وأخفقت مساعی العبّاسیّین فی الغمز من مقام الإمام الجواد علیه السّلام، وبان للجمیع فضلُه وعِلمُه على حداثة سنّه ونعومة أظفاره.
المأمون العبّاسیّ وسیاسة الاحتواء
حاول المأمون العبّاسیّ ـ بدهائه المشهور ـ أن یُجرّب مع الإمام الجواد علیه السّلام نفسَ السیاسة التی انتهجها مِن قَبلُ مع أبیه الإمام الرضا علیه السّلام، على الرغم من أنّ تلک السیاسة مُنیت من قبلُ بالخیبة والخُسران.ولعلّ ما شجّعه على معاودة الکرّة من جدید أنّ أمامه هذه المرّة إماماً فی مُقتبَل العُمر قد تُفلح معه سیاسة الاحتواء، ولعلّه سیبدو فی أعین شیعته وأتباعه واحداً من المنتسبین إلى بلاط المأمون، أو لعلّه علیه السّلام ـ على أقلّ تقدیر ـ سیرضى أن یبقى فی خراسان فیکون تحت رقابة المأمون وأزلامه، ممّا سیحدّ من نشاطات الإمام علیه السّلام، ویقلّل ـ إلى درجة کبیرة ـ ارتباطه بشیعته وجماهیره المؤمنة به.
وفکّر المأمون أنّ مشروع تزویج الإمام الجواد علیه السّلام من أمّ الفضل بنتِ المأمون کفیلٌ بتحقیق ما یصبو إلیه المأمون ویَعقِدُ علیه الآمال.
وهکذا طرح المأمون على الإمام الجواد علیه السّلام فکرة تزویجه من أمّ الفضل، تلک الفتاة التی ستصبح فی المستقبل عیناً للمأمون فی بیت الإمام الجواد علیه السّلام تُحصی علیه أنفاسه. ومَن یدری فلعلّها ستُرزَقُ ولداً من الإمام الجواد علیه السّلام یکون حفیداً للمأمون فیمکنه من خلاله أن یدّعی أنّ له قرابةً ورَحِماً مع وُلد فاطمة الزهراء علیه السّلام، ویکون ذلک مدعاة لإخماد سخط العلویّین الذین ما بَرِحوا یتذمّرون من حُکم بنی العبّاس ویَسخطون علیهم حِرمانَهم إیّاهم حقوقَهم.
وقد نوّهنا بالمعارضة القویّة التی أبداها العبّاسیّون لفکرة الزواج، ومخاوفِهم التی أعلنوا عنها، وإظهارهم الخشیةَ من فقدانهم مقالیدَ الحُکم الذی تسنّموه، وذکرنا فشلَ العبّاسیّین ـ ومعهم یحیى بن أکثم ـ فی محاولتهم الغمز من مقام الإمام الجواد علیه السّلام والتشکیک فی مقدرته العلمیّة.
وتمّ الزواج بإصرار کبیر من المأمون العبّاسیّ، وزُفّت أمّ الفضل إلى بیت الإمام أبی جعفر الجواد علیه السّلام، فی احتفال ضخم أحاطه المأمون العبّاسی بمظاهر البذخ والبذل ممّا ندر مثیله مِن قَبل (10).
تدبیر الإمام الجواد علیه السّلام
ویحدّثنا التاریخ أنّ الإمام الجواد علیه السّلام لم یُقِم فی بغداد، وأنّه انصرف إلى مدینة جدّه رسول الله صلّى الله علیه وآله بعد زواجه بأمّ الفضل، فأحبط بذلک مکرَ المأمون وفوّت علیه تدبیره فی محاولة احتوائه وفَصْلِه عن شیعته وجماهیر مُحبّیه (11)، وأنّه بقی فی المدینة یتعاهد أمورَ شیعته إلى أن استدعاه المعتصم العبّاسیّ ـ خَلَف المأمون ـ فی أوّلِ سنةِ 220 هـ، فأقام فی بغداد حتّى استُشهِد فی آخر ذی القعدة من تلک السنة (12).کما یحدّثنا التاریخ أنّ أمّ الفضل بنتَ المأمون لم تُرزَق من الإمام الجواد علیه السّلام ولداً، وهکذا فَوَّتت المشیئة الإلهیّة على المأمون حیلته وتدبیره فی ربط نفسه بأهل البیت علیهم السّلام عن هذا الطریق.
ونلاحظ من جانب آخر أنّ الإمام الجواد علیه السّلام قد سعى فی حفظ وتقویة ارتباطه بشیعته عن طریق نصب الوکلاء وإرسال الموفَدین، وأنّه أمر أولئک الوکلاء والموفدین بالعمل بما من شأنه تقویة وحدة الشیعة والاحتراز من التفرقة. ونجد أنّ الإمام الجواد علیه السّلام قد بعث وکلاء إلى مناطق الأهواز، وهَمَدان، وسِیستان، وبُسْت، والریّ، والبصرة، وواسط، وبغداد، والکوفة، وقمّ.
وقد أجاز الإمام الجواد علیه السّلام لبعض شیعته النفوذَ فی مراکز الحکومة وتسنُّمَ المناصب المهمّة، من أجل حمایة إخوانهم الشیعة، فصرنا نجد أفراداً من أمثال محمّد بن إسماعیل بن بُزَیع وأحمد بن حمزة القمّی یحتلّون مناصب رفیعة فی الدولة، وصرنا نجد أنّ نوح بن درّاج یصبح قاضیَ بغداد ثمّ قاضی الکوفة.
وضع الإمام الجواد علیه السّلام فی عصر المعتصم العبّاسیّ
مات المأمون العبّاسیّ فجأة سنة 218 هـ عندما کان فی طریقه إلى قتال الروم، فی منطقة تُدعى « بدیدون » على الساحل الشامیّ. وکان قادة جیشه یرغبون فی مبایعة العبّاس بن المأمون، لکنّ الأخیر بایع عمّه أبا إسحاق المعتصم عملاً بوصیّة المأمون.وهکذا تصدّر المعتصم حکومة الدولة الإسلامیّة، لکنّه ـ خلافاً لسلفه المأمون ـ کان یفتقر إلى الدهاء والفطنة، وکان حظّه فی العِلم والدرایة قلیلاً، یمیل إلى الخشونة والقوّة. وکانت تلک الصفات من العوامل التی شجّعته على فتح الباب للأتراک للتدخّل فی الأمور العسکریّة والنفوذ إلى مراکز الدولة. ومن أوّل ما فعله المعتصم بعد دخوله بغداد سنة 218 هـ أنّه أرسل إلى الإمام الجواد علیه السّلام فی المدینة یستدعیه إلى العاصمة بغداد.
ورأینا أنّ الإمام الجواد علیه السّلام لمّا استدعاه المعتصم إلى بغداد قد عَهِد إلى ابنه علیّ الهادیّ علیه السّلام بعده، وقال لإسماعیل بن مِهران: عند هذه یُخاف عَلَیَّ؛ الأمرُ من بعدی إلى ابنی علیّ (13).
الإمام الجواد علیه السّلام وتثبیت الاعتقاد بالإمامة
مرّ بنا أنّ الإمام الجواد علیه السّلام خَلَف أباه الإمام الرضا علیه السّلام وهو فتىً یافع، وأنّ ذلک ممّا تذرّع به بعض أعدائه وحسّاده من العبّاسیّین وغیرهم فی الطعن بعلمه ومقدرته، وأنّ هؤلاء وغیرهم أذعنوا بعد ذلک لإمامة أبی جعفر الجواد علیه السّلام لِما رأوا من عِلمه وفضله؛ وقد ذکرنا واقعة الامتحان الذی أعدّه له القاضی یحیى بن أکثم بطلب من العبّاسیّین، وبیّنا الإخفاق الذریع الذی لحق بیحیى بن أکثم حتّى لجلج وبان العجز فی وجهه.ومن الأمور التی انتهجها الإمام الجواد علیه السّلام فی تثبیت مسألة الاعتقاد بإمامته الشریفة فی قلوب شیعته ومُوالیه، أنّه کان یُخبرهم أحیاناً عمّا فی نفوسهم، ویسمح لهم أحیاناً أخرى بسؤاله واختباره. ونجد أنّ الإمام الجواد علیه السّلام کان یتعامل بالشدّة أحیاناً مع الذین کانت السلطة العبّاسیّة تستأجرهم للنیل من مقام الإمام الشامخ والإزراء به.
ومن الأمثلة على الأسلوب الأوّل نقرأ: أنّ ابن حدید یروی أنّه خرج مع جماعة حاجّاً فقُطع علیهم الطریق، فلمّا دخل ابنُ حدید المدینةَ لَقِیَ أبا جعفر الجواد علیه السّلام فی بعض الطریق فأخبره بالذی أصابهم، فأمر الإمام علیه السّلام له بکسوة وأعطاه دنانیر، وقال له: فَرِّقها على أصحابک على قَدْر ما ذَهَب! فقسم ابن حدید الدنانیر فإذا هی على قدر ما ذَهَب منهم، لا أقلّ ولا أکثر (14).
وروى علیّ بن جَریر أنّه کان جالساً عند أبی جعفر الجواد علیه السّلام وقد ضاعت شاة لمولاةٍ له، فأخذوا بعض الجیران یجرّونهم إلیه ویقولون لهم: أنتم سَرَقتم الشاة! فقال أبو جعفر علیه السّلام: وَیلکم! خَلُّوا عن جیراننا فلم یَسرِقوا شاتکم؛ الشاةُ فی دار فلان فاذهبوا فأخرِجوها من داره. فخرجوا، فوجدوا الشاة فی دار ذلک الرجل، فاتّهموه بسرقتها وصاروا به إلى الإمام الجواد علیه السّلام، فقال لهم: وَیْحکم! ظلمتم الرجل، فإنّ الشاة دخلت دارَه وهو لا یعلم بها (15).
وروى ابن عیّاش فی کتاب أخبار أبی هاشم الجعفریّ، قال: دخلتُ على أبی جعفر علیه السّلام ومعی ثلاث رقاع [ رسائل ] غیر مُعَنْوَنة [ أی لم تُذکر فیها اسماء کاتبیها ]، فاشتَبَهتْ علَیّ، فاغتممتُ لذلک، فتناول علیه السّلام إحداهنُ وقال: هذه رقعة ریّان بن الشبیب؛ وتناول الثانیة وقال: هذه رقعة محمّد بن أبی حمزة؛ وتناول الثالثة وقال: هذه رقعة فلان! فَبُهِتُّ، فنظر علیه السّلام وابتسم (16).
قصّة مخارق المغنّی
ونقرأ من النموذج الثانی الذی ذکرنا أنّ الإمام الجواد علیه السّلام انتهجه لتثبیت الاعتقاد بإمامته فی قلوب شیعته، أنّ المأمون دعا رجلاً یُقال له مُخارق، وهو صاحب صوت وعُود وضَرب، وکان رجلاً طویل اللحیة، وأمره أن یَغُضّ من شأن الإمام الجواد علیه السّلام، فقال مخارق: یا أمیر المؤمنین، إن کان فی شیءٍ من أمر الدنیا فأنا أکفیکَ أمره.ثمّ جاء مخارق وقعد بین یدی أبی جعفر الجواد علیه السّلام، ثمّ شهق شهقةً فاجتمع إلیه أهلُ الدار، وجعل یضرب بعوده ویُغنّی، فلمّا فعل ذلک ساعةً وإذا أبو جعفر علیه السّلام لا یلتفت إلیه ولا یلتفت یمیناً ولا شمالاً، ثمّ رفع علیه السّلام رأسه وقال: اتّقِ اللهَ یاذا العُثْنُون (17)! فسقط المضراب والعود من یده، فلم ینتفع بیده إلى أن مات (18).
مکیدة المعتصم
روى ابن أروبة أنّ المعتصم دعا جماعة من وزرائه فقال: اشهدوا لی على محمّد بن علیّ بن موسى زُوراً، واکتبوا أنّه أراد أن یخرج [ أی یقوم بثورة ].ثمّ دعاه فقال: إنّک أردتَ أن تخرج علَیَّ؛ فقال علیه السّلام: واللهِ ما فعلتُ شیئاً من ذلک. قال: إنّ فلاناً وفلاناً شَهِدوا علیک. فأُحضِروا فقالوا: نعم، هذه الکتبُ أخذناها من بعض غِلمانک!
قال: وکان جالساً فی بَهْو، فرفع أبو جعفر علیه السّلام یده وقال: اللهمّ إن کانوا کَذبوا علَیَّ فخُذْهُم!
قال: فنظرنا إلى البَهْو کیف یَرجِف ویَذهَبُ ویَجیء، وکلّما قام واحدٌ وَقَع؛ فقال المعتصم: یا ابن رسول الله، إنّی تائب ممّا قلتُ، فادعُ ربَّک أن یُسکّنه! فقال علیه السّلام: اللهم سَکِّنه، إنّک تعلم أنّهم أعداؤک وأعدائی؛ فسکن (19). وذکرنا أنّ الإمام الجواد علیه السّلام قد بعث وکلاءه إلى مختلف أنحاء البلاد وأمرهم ببذل الجهد من أجل توحید کلمة الشیعة والحیلولة دون وقوع الفُرقة بین صفوفهم.
المؤامرة
ذکر المؤرّخون أنّ أحد اللصوص سرق فی زمن المعتصم، فقُبض علیه وجیء به إلیه، فأراد المعتصم حَدَّه فلم یعرف من أن یَقطع یدَه، فجمع فقهاءه ـ ومنهم القاضی أحمد بن أبی دُؤاد ـ فأشار علیه بعضهم بقطع ید السارق من المِرفَق، واستدلّوا على ذلک بقول الله تعالى فی الوضوء: وأیدیَکُم إلى المَرافِق (20)، فالیدُ إذَن هی إلى المِرفق؛ أمّا قاضی القضاة ابن أبی دؤاد فکان رأیه أنّ الید هی الأصابع والکفّ إلى الکُرسُوع، وأنّ ید السارق یجب أن تُقطع إلى الکرسوع، واستدلّ على رأیه بقول الله تعالى فی التیمّم: فآمْسَحُوا بِوُجوهِکم وأیدیکم (21).
والتفت المعتصم ـ وقد تحیّر فی أمره ـ إلى خازن علوم آل محمّد علیهم السّلام ـ أی الإمام الجواد علیه السّلام ـ فسأله: ما تقول فی هذا یا أبا جعفر ؟
فرَدَّ الإمامُ الجواد علیه السّلام: قد تکلّم فیه القوم!
قال المعتصم بإصرار: دَعْنی ممّا تکلّموا به؛ أیّ شیءٍ عندک ؟
فردّ أبو جعفر علیه السّلام: إعْفِنی یا أمیر المؤمنین!
قال المعتصم: أقسمتُ علیکَ بالله لَمّا أخبرتَ بما عندک.
عندئذٍ قال أبو جعفر علیه السّلام: أمّا إذا أقسمتَ علیَّ بالله فإنّی أقول: إنّهم أخطأوا فیه السُّنّة؛ إنّ القطعَ یجب أن یکون من مِفصَل أُصولِ الأصابع، ویُترَک الکفّ.
سأل المعتصم متعجّباً: وما الدلیل على ذلک ؟
قال علیه السّلام: قولُ رسول الله صلّى الله علیه وآله: « السجودُ على سبعةِ أعضاء: الوجهِ والیدَین والرُّکبتَین والرِّجلَین »؛ هذه هی المساجدُ السبعة، فإذا قُطِعت یده من الکُرسوع أو المِرفق لم تَبقَ له یدٌ یَسجُد علیها، واللهُ تبارک وتعالى یقول: وأنَّ المَسَاجِدَ لِلهِ یعنی به هذه الأعضاءَ السبعةَ التی یُسجَدُ علیها فلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أحداً (22). فأخذ المعتصمُ بقول أبی جعفر علیه السّلام، وخَجِل ابنُ أبی دؤاد وتصاغر وحَنَق من ذلک (23).
ثمّ إنّ القاضی ابن أبی دؤاد سعى لدى المعتصم فی أبی جعفر الجواد علیه السّلام، وقال له: لقد جمعتَ فقهاءَ الأمّة وعلماءها لأمرٍ من أمور الحُکم، وسألتَهم عنه فأخبروک بما عندهم، وفی المجلس أُسرتک وقادتُک ووزراؤک وکُتّابک، ثمّ تَترکُ أقوالَ الفقهاء وتأخُذ بقولِ رجلٍ یؤمنُ شَطرُ هذه الأمّةِ بإمامته ویَدَّعون أنّه أولى بالخلافة، ومع هذا فأنت تأخذ برأیه من بین الآراء ؟! (24)
ثمّ أخذ ابنُ أبی دؤاد یُزیّن للمعتصم اغتیالَ الإمام الجواد علیه السّلام، وأعانَهما جعفرُ بنُ المأمون فی ذلک. ثمّ إنّ جعفراً سأل أخته أمّ الفضل ـ زوجةَ الإمام الجواد علیه السّلام ـ أن تَسُمَّ الإمامَ الجواد علیه السّلام، وکانت أمُّ الفضل تَغار على أبی جعفر علیه السّلام لتفضیله زوجتَه الأخرى ـ أمَّ الإمام الهادیّ علیه السّلام ـ علیها، فأجابت أمّ الفضل أخاها، وجعلوا سمّاً فی شیء من عنب رازقیّ فسمّوه به (25).
الإمام الجواد علیه السّلام یوصی إلى الإمام الهادی علیه السّلام
عَهِد الإمامُ الجواد علیه السّلام بالأمر من بعده إلى وَلَدِه علیّ الهادی علیه السّلام، حرصاً على استمرار خطّ الإمامة، وحفظاً على کیان الشیعة من الفُرقة والتمزّق، وطاعةً لأمر الله تعالى الذی یأبى أن تخلو الأرض من حجّة لله على عباده، وامتثالاً لأمر رسول الله صلّى الله علیه وآله الذی أوصى بالخلافة إلى علیّ أمیر المؤمنین علیه السّلام، ومن بعده إلى وُلْده الأئمّة الأطهار الهُداة المیامین علیهم السّلام.
روى الصقرُ بن دُلَف أنّه سمع أبا جعفر محمّد بن علیّ الرضا علیهما السّلام یقول: إنّ الإمام بعدی ابنی علیّ، أمرُه أمری، وقولُه قولی، وطاعتُه طاعتی؛ والإمامةُ بعده فی ابنه الحسن (26).
وروى الطبرسیّ بإسناده عن إسماعیل بن مِهران، قال: لمّا أُخرج أبو جعفر علیه السّلام فی الدفعة الأولى من المدینة إلى بغداد، قلتُ له: إنّی أخاف علیک من هذا الوجه، فإلى مَنِ الأمرُ بَعدَک ؟
قال: فکَرَّ بوجهه إلَیّ ضاحکاً، وقال: لیس حیثُ ظننتَ فی هذه السنة.
فلمّا استُدعی به إلى المعتصم صِرتُ إلیه، فقلت: جُعِلتُ فِداک، أنت خارج، فإلى مِن الأمر مِن بعدِک ؟
فبکى حتّى اخضلّت لحیتُه، ثمّ التفَتَ إلَیّ فقال: عند هذه یُخاف علَیَّ؛ الأمرُ مِن بعدی إلى ابنی علیّ (27).
المصادر :
1 ـ إعلام الورى للطبرسیّ 80:2.
2 ـ الإرشاد للمفید 273:2.
3 ـ إعلام الورى للطبرسیّ 94:2.
4 ـ مریم:13.
5 ـ یوسف:22.
6 ـ الأحقاف:15.
7 ـ الکافی للکلینی 494:1 / ح 4.
8 ـ انظر: الإرشاد للمفید 281:2، الاحتجاج للطبرسیّ 469:2 ـ 470.
9 ـ الاحتجاج للطبرسیّ 469:2 ـ 472 / الرقم 321.
10 ـ انظر على سبیل المثال: إعلام الورى للطبرسیّ 103:2 ـ 104؛ الاحتجاج للطبرسیّ 476:2.
11 ـ انظر: إعلام الورى للطبرسیّ 105:2.
12 ـ انظر: الإرشاد للمفید 295:2.
13 ـ الإرشاد للمفید 298:2.
14 ـ بحار الأنوار للمجلسیّ 44:50 / ح 13.
15 ـ بحار الأنوار للمجلسیّ 47:50 / ح 22.
16 ـ مناقب آل أبی طالب لابن شهرآشوب 390:4.
17 ـ العُثنون: شُعَیرات طِوال تحت حَنَک البعیر، وقد تُستعار لذی اللحیة الطویلة.
18 ـ مَناقب آل أبی طالب لابن شهرآشوب 396:4؛ بحار الأنوار للمجلسیّ 62:50 ح 37.
19 ـ بحار الأنوار للمجلسیّ 45:50 ـ 46 / ح 18.
20 ـ المائدة:6.
21 ـ المائدة:6.
22 ـ الجنّ:18.
23 ـ نقلاً عن جلاء العیون للمجلسیّ
24 ـ بحار الأنوار 5:50 ـ 6 / ح 7.
25 ـ إثبات الوصیّة للمسعودیّ 219.
26 ـ بحار الأنوار 118:50 / ح 1.
27 ـ الکافی للکلینیّ 260:1 / ح 1؛ إعلام الورى للطبرسیّ 111:2.
/ج