تطبیقات حول البدعة

إنّ البدعة فی المعنى الاصطلاحی الشرعی هی إدخال مالیس من الدین فی الدین ، وهذا التعریف ، أی الادخال فی الدین ، یحتمل معنى الزیادة ومعنى الانقاص أیضاً .
Saturday, November 16, 2013
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
تطبیقات حول البدعة
 تطبیقات حول البدعة

 





 

إنّ البدعة فی المعنى الاصطلاحی الشرعی هی إدخال مالیس من الدین فی الدین ، وهذا التعریف ، أی الادخال فی الدین ، یحتمل معنى الزیادة ومعنى الانقاص أیضاً .
و نتعرض فی هذا المقال إلى عددٍ من الاَمثلة والنماذج هی عند البعض تعنی الزیادة فی الدین وعند البعض الآخر تعنی الانقاص فی الدین .
إنَّ هناک الکثیر من النماذج والاَمثلة یمکن أن نخضعها للمناقشة والتطبیق على ضوء التعریف المتقدم لکننا خشیة الاطالة نقتصر على ذکر عدد قلیل من النماذج التطبیقیة .
إنَّ الهدف من ذکر هذه الاَمثلة التطبیقیة هو نقل البحث النظری المتقدم إلى مساحة التطبیق العملی ورائدنا فی ذلک المناقشة الموضوعیة العلمیة.

أولاً : النهی عن متعة الحج :

الحج باتفاق الفقهاء ینقسم من ناحیة النوع إلى ثلاثة أنواع : تمتّع ، وقران ، وإفراد .
والمقصود من حج التمتع هو : إحرام الشخص بالحج فی أشهره المعروفة «شوال ، وذی القعدة ، وذی الحجة» والاتیان بأعمالها ، وهو الاحرام من المیقات بالعمرة إلى الحج ثم یدخل مکة فیطوف بالبیت سبعة أشواط ، ثم یصلی رکعتی الطواف فی مقام إبراهیم ، ثم یسعى بین الصفا والمروة سبعة أشواط ، ثم یقُصّر ، بأن یقلم شیئاً من أظفاره ، أو یأخذ شیئاً من شعره فیحلّ له حینئذٍ جمیع ما حرّم علیه بالاحرام .
ثم ینشیء بعد ذلک إحراماً للحج من مکة یوم الترویة والاتیان بأعماله من الوقوف بعرفات والافاضة إلى المشعر الحرام.. الخ .
ویصحّ هذا النوع من الحج ممن کان آفاقیاً ، أی من لم یکن أهله حاضری المسجد الحرام بحیث یبتعد بیته عن مکة بمقدار یجوز فیه تقصیر الصلاة، والمسافة هی عند الاِمامیة 48 میلاً من کل جانب وهی لا تتجاوز عن 16 فرسخاً .
وقد تظافرت الرّوایات المرویة عند الفریقین أنّ متعة الحج ورد ذکرها وأحکامها فی القرآن ، وهو قوله تعالى : ( فَإذَا أمنْتُم فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَمَا استَیسَرَ مِنَ الهَدی فَمَنْ لَّمْ یَجِدْ فَصِیَامُ ثَلاثَةِ أیَّامٍ فِی الحَجِ وَسَبعَةٍ إذَا رَجَعْتُم تِلکَ عَشَرَةٌ کَامِلَةٌ ذَلِکَ لِمَنْ لَّمْ یَکُنْ أهلُهُ حَاضِرِی المَسْجِدِ الحَرَامِ واتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوَا أنَّ اللهَ شَدِیدُ العِقَابِ)(1).
وتفسیر الآیة الشریفة : إنّ من ( تَمَتّعَ ) بسبب الاتیان ( بِالعُمْرَةِ ) بما یحرم على المحرم ، کالطیب ، والمخیط ، والنساء ومتوجهاً ( إلى الحجِ) (فما استَیْسَرَ مِنَ الهَدْی) أی علیه ما استیسر من الهدی من البدنة أو البقرة أو الشاة ، ثم تبیّن الآیة الشریفة حکم من لم یقدر على ذلک ، وهو الصیام عشرة أیام ، وکیفیة الصیام هی ( ثَلاثَةِ أیَّامٍ فِی الحَجِ ) متوالیات و ( سَبْعَة إذَا رَجَعْتُم ) إلى أوطانکم ( تِلکَ عَشَرَةٌ کَامِلَةٌ ) ، ( ذَلِکَ ) أی التمتع بالعمرة إلى الحج فرض ( لَّمْ یَکُنْ أهلُهُ حَاضِرِی المَسْجِدِ الحَرَامِ ) أی لم یکن من أهل مکة وقراها (واتَّقُوا اللهَ ) فیما أمرتم به ونهیتم عنه فی أمر الحج (واعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِیدَ العِقَابِ ) .
والآیة صریحة فی جواز التمتّع بمحظورات الاحرام بعد الاتیان بأعمال العمرة وقبل الاحرام للحج ، ولم یدّع أحد أنّ الآیة نُسخت بآیة أُخرى أو قول أو فعل من قبل النبی الاَکرم محمد صلى الله علیه وآله وسلم ، بل أنّه صلى الله علیه وآله وسلم أکدها وأمر بها.
فقد روى أهل السیر والتاریخ : إنّ رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم خرج فی العام العاشر من الهجرة إلى الحج لخمس لیال بقین من ذی القعدة ، وقالت عائشة : لا یذکُر ولا یذکّر الناسُ إلاّ الحج ، حتى إذا کان بسرف وقد ساق رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم معه الهدی ، وأشراف من أشراف الناس ، أمر الناس أن یحلّو بعمرة إلاّ من ساق الهدی ـ إلى أن قالت ـ : ودخل رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم مکة ، فحلّ کل من کان لا هدی معه ، وحلّ نساؤه بعمرة ، ... لمّا أمر رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم نساؤه أن یحللن بعمرة قلن : فما یمنعک یا رسول الله أن تحلَّ معنا ؟ فقال : «إنی أهدیتُ فلا أحلّ حتى أنحر هدیی» (2).
وتظافرت الروایات حول هذه الواقعة وما أمر به النبی وسنأتی هنا على قسم منها .
1 ـ روى ابن داود أنّ النبی أمر أصحابه أن یجعلوها عمرة یطوفوا ثم یقصِّروا ویُحلّوا إلاّ من کان معهُ الهدی ، فقالوا : أننطلق إلى منى وذکورنا تقطر ! فبلغ ذلک رسول الله فقال : «أنی لو استقبلت من أمری ما استدبرت ما أهدیتُ ، ولولا أنّ معی الهدی لاَحللت» (3).
2 ـ عن أبی رجاء قال : «قال عمران بن حصین : نزلت آیة المتعة فی کتاب الله وأمرنا بها رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم ثمَّ لم تنزل آیة تنسخ آیة متعة الحج ، ولم ینه عنها رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم حتى مات..» (4).
متى ظهر النهی عن متعة الحج :
لقد تقدّم من بعض الروایات أنّ بعض المسلمین حین نزل التشریع بمتعة الحج وأمرهم الرسول بذلک ، استغربوا الاَمر وتساءلوا فجاءهم التأکید على الاَمر من قبل رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم ، کما تقدم القول فإنَّ الآیة الخاصة بذلک لم تُنسخ حتى وفاة رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم وإکمال الدین وإتمام النعمة .
وهی بذلک أصبحت جزءاً من الدین ، لکنَّ عمر بن الخطاب کان أول من نهى عنها ، وبهذا تواترت الاَخبار ، ومنها :
1 ـ عن ابن عباس قال : «سمعتُ عمر یقول : والله إنی لاَنهاکم عن المتعة وإنّها لفی کتاب الله ولقد فعلها رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم یعنی العمرة فی الحج..»(5).
2 ـ عن سعید بن المسیّب : «إنّ عمر بن الخطاب نهى عن المتعة فی أشهر الحج وقال : فعلتها مع رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم وأنا أنهى عنها وذلک أنَّ أحدکم یأتی من أُفق من الآفاق شعثاً نصباً معتمراً فی أشهر الحج وإنّما شعثه ونصبه وتلبیتهُ فی عمرته ثمَّ یقدم فیطوف بالبیت ویحلُّ ویلبس ویتطیَّب ویقع على أهله إن کانوا معه حتّى إذا کان یوم الترویة أهلّ بالحج وخرج إلى منى یلّبی بحجة لاشعث فیها ولا نصب ولا تلبیة إلاّ یوماً والحجُ أفضل من العمرة، لو خلّینا بینهم وبین هذا لعانقوهنَّ تحت الآراک..» (6) .
3 ـ روى ابن حزم بسنده قال : قال عمر بن الخطاب : «متعتان کانتا على عهد رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم وأنا أنهى عنهما وأضرب علیهما ـ ثم قال ـ هذا لغط أیوب ، وفی روایة خالد ، أنا أنهی عنهما وأُعاقب علیهما : متعة النساء ومتعة الحج» (7) .
ولا نرید الاستطراد أکثر من هذا فی ذکر الروایات التی أکّدت أنّ عمر ابن الخطاب نهى عن متعة الحج وأنّه کان یعاقب علیها ، وهی جزء من التشریع وسُنّة الرسول الاَکرم صلى الله علیه وآله وسلم .
موقف المسلمین من النهی :
وقد عارض المسلمون هذا النهی الصریح ، وإلیک الروایات مختصرة :
1 ـ روى مالک عن محمد بن عبدالله : «انّه سمع سعد بن أبی وقاص والضحّاک بن قیس عام حج معاویة بن أبی سفیان وهما یذکران التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال الضحّاک بن قیس: لا یفعل ذلک إلاّ من جهل أمر الله عزَّ وجل ! فقال سعد : بئس ما قلت یا ابن أخی ! فقال الضحّاک : فإنّ عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلک فقال سعد : قد صنعها رسول الله وصنعناها معه» (8).
وللقارىء أن یمعن جیداً فی قول الضحّاک : «لا یفعل ذلک إلاّ من جهل أمر الله عزَّ وجلّ»، إذ إن التمتع بالعمرة إلى الحج هی من أوامر الله الصریحة فی القرآن الکریم لکنها أصبحت عنده بسبب نهی عمر عنها مخالفة لاَمر الله !! وهذا من أسوأ آثار البدعة فی الدین إذ تتحول الشریعة إلى بدعة عند الجهلة .
2 ـ روى الترمذی عن سالم بن عبدالله : «أنّه سمع رجلاً من أهل الشام وهو یسأل عبدالله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال عبدالله بن عمر : حلال . فقال الشامی : إن أباک قد نهى عنها !
فقال عبدالله بن عمر : أرأیت إن کان أبی نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم ، أأمرُ أبی نتّبع ، أم أمر رسول الله ؟ فقال الرجل : بل أمر رسول الله . فقال : لقد صنعها رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم »(9).
3 ـ وعن ابن عباس أیضاً أنّه قال لمن کان یعارضه فی متعة الحج بأبی بکر وعمر : «یوشک ان تنزل علیکم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم وتقولون : قال أبو بکر وعمر»(10).
4 ـ عن الحسن : أنَّ عمر أراد أن ینهى عن متعة الحج ، فقال له أُبیّ بن کعب : «لیس ذلک لک ، قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم ولم ینهنا عن ذلک ، فأضرب عن ذلک عمر..» (11).
لکن هذا الاِضراب کان مؤقتاً ، فقد نهى عنها فیما بعد کما تقدّم من الروایات .
لقد کان ذلک نموذجاً ـ أی النهی عن متعة الحج ـ بارزاً على الانقاص من الدین ، وهو بدعة بلاشک ولا ریب .

ثانیاً : إقامة صلاة التراویح جماعة :

من المتفق علیه بین الفقهاء وجود نوافل خاصّة بشهر رمضان المبارک فی الشریعة المقدّسة ، فهی سُنّة مؤکدة ، وإنّ أوّل من عمل بها رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم وقد قال : «من قام رمضان إیماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه»(12)..
لکن النقاش فی جواز إقامتها جماعة ، هل هی سُنّة أم بدعة ؟
1 ـ سأل زرارة ومحمد بن مسلم والفضیل أبا جعفر الباقر وأبا عبد الله (الصادق) علیهما السلام عن الصلاة فی شهر رمضان نافلة باللیل جماعة ، فقالا :
«إنّ النبی صلى الله علیه وآله وسلم کان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله ثم یخرج من آخر اللیل إلى المسجد فیقوم فیصلی ، فخرج فی أوّل لیلة من شهر رمضان لیصلّی کما کان یصلّی ، فاصطف الناس خلفهُ فهرب منهم الى بیته وترکهم ، ففعلوا ذلک ثلاث لیال فقام صلى الله علیه وآله وسلم فی الیوم الثالث على منبره فحمد الله وأثنى علیه ثمّ قال : أیُّها الناس إن الصلاة باللیل فی شهر رمضان من النافلة فی جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا لیلاً فی شهر رمضان لصلاة اللیل ولا تصلّوا صلاة الضحى ، فإنّ تلک معصیة ، ألا فإن کلّ بدعة ضلالة ، وکلّ ضلالة سبیلها إلى النار . ثم نزل صلى الله علیه وآله وسلم وهو یقول : قلیل فی سُنّة خیر من کثیر فی بدعة» (13).
2 ـ عن عبید بن زرارة عن الاِمام الصادق علیه السلام قال : «کان رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم یزید فی صلاته فی شهر رمضان إذا صلّى العتمة صلّى بعدها ، یقوم الناس خلفهُ فیدخل ویدعهم ، ثم یخرج أیضاً فیجیئون ویقومون خلفه فیدخل ویدعهم مراراً» (14).
3 ـ روى البخاری قال : «حدثنی یحیى بن بکیر : حدثنا اللیث عن عقیل عن ابن شهاب : أخبرنی عروة : أنَّ عائشة أخبرته أنَّ رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم خرج لیلة فی جوف اللیل فصلّى فی المسجد ، وصلّى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا ، فاجتمع أکثر منهم ، فصلّى فصلّوا معه ، فأصبح الناس فتحدثوا فکثر أهل المسجد من اللیلة الثالثة . فخرج رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم فصلّى فصلَّوا بصلاته ، فلما کانت اللیلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح ، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال : أما بعد فإنّه لم یخف علیّ مکانکم ولکنی خشیتُ أن تفترض علیکم فتعجزوا عنها ، فتوفی رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم والاَمر على ذلک» (15).
4 ـ وجاء فی کنز العمال : «سُئل عمر عن الصلاة فی المسجد فقال : قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم : «الفریضة فی المسجد ، والتطوّع فی البیت» (16).
5 ـ وجاء فی المغنی لابن قدامة : «وقال مالک والشافعی : قیام رمضان لمن قوی فی البیت أحب الینا لما روى زید بن ثابت قال : احتجر رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم حجیرة بخصفة أو حصیر ، فخرج رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم فیها فتتبع إلیه رجال وجاؤوا یُصلّون بصلاته ، قال : ثم جاؤوا لیلة فحضروا ، وأبطأ رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم عنهم ، فلم یخرج إلیهم ، فرفعوا أصواتهم ، وحصبوا الباب ، فخرج إلیهم رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم مغضباً فقال : «ما زال بکم صنیعکم حتى ظننت أنّه سیکتب علیکم ، فعلیکم بالصلاة فی بیوتکم فإنَّ خیر صلاة المرء فی بیته إلاّ الصلاة المکتوبة» (17).
ومن خلال التأمل فی الروایات المتقدمة تراها أجمعت على النهی عن أداء صلاة التراویح جماعة ، غایة الاَمر أنَّ بعض الروایات أرجعت النهی إلى أسباب خشیة رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم أن «تکتب علیهم» أی أنْ تفرض علیهم فتکون جزءاً من التشریع بتلک الکیفیة .
وأرجعت روایات أُخرى أمر النهی إلى أنَّ إقامتها جماعة «بدعة» بنص قول رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم فی روایة زرارة ومحمد بن مسلم والفضیل ، وأنَّ إقامتها منفردة فی البیت أفضل من إقامتها فی المسجد ، وذهب إلى ذلک أیضاً مالک والشافعی کما فی روایة المغنی التی تقدّمت .
واتفقت أغلب الروایات على أنَّ رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم توفی والتراویح تقام فرادى ولیس جماعة.. فمن الذی فرضها جماعة فی المسجد ؟ هذا ما سنتعرف علیه فی ما یأتی :

أوّل من أمر بإقامة التراویح جماعة :

أجمعت الروایات على أنَّ عمر بن الخطاب کان أول من أمر بإقامة صلاة التراویح جماعة ، ومنع الناس من أدائها منفردة .
1 ـ عن ابن شهاب عن عروة بن الزبیر ، عن عبدالرحمن بن عبد القاری أنّه قال : «خرجتُ مع عمر بن الخطاب لیلةً فی رمضان الى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرقون ، یصلی الرجل لنفسه ، ویصلی الرجل فیصلی بصلاته الرهط ، فقال عمر : إنی أرى لوجمعت هؤلاء على قاریء واحد لکان أمثل .
ثم عزم فجمعهم على أُبی بن کعب ، ثم خرجتُ معه لیلةً أُخرى ، والناس یصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نِعمَ البدعةُ هذهِ ، والتی ینامون عنها أفضل من التی یقومون ! یرید آخر اللیل ، وکان الناس یقومون أوّله»(18) .
2 ـ عن أُبی بن کعب : «أن عمر بن الخطاب أمره أن یصلّی باللیل فی رمضان ، فقال : إنَّ الناس یصومون النهار ، ولا یحسنون أن یقرأوا ، فلو قرأت علیهم باللیل ، فقال : یا أمیر المؤمنین هذا شیء لم یکن ! فقال : قد علمتُ ، ولکنه حسن ، فصلّى بهم عشرین رکعة» (19).
3 ـ روى البخاری : «توفی رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم والناسُ على ذلک (یعنی انهم یصلّون التراویح فرادى) ثم کان الاَمر على ذلک فی خلافة أبی بکر ، وصدراً من خلافة عمر» (20).
4 ـ قال ابن سعد فی ترجمة عمر : «هو أول من سنَّ قیام شهر رمضان بالتراویح وجمع الناس على ذلک ، وکتب به إلى البلدان ، وذلک فی شهر رمضان سنة أربع عشرة» (21).
5 ـ وقال ابن عبدالبر فی ترجمة عمر : «وهو الذی نوّر شهر الصوم بصلاة الاشفاع فیه» (22).
6 ـ وقال أبو الولید محمد بن الشحنة عند ذکر وفاة عمر فی حوادث سنة 23 هـ : «هو أول من نهى عن بیع أُمهات الاَولاد.. وأوّل من جمع الناس على إمام یصلّی بهم التراویح» (23).
وأخیراً فإنَّ قول عمر حین رأى الناس یصلّون بصلاة قارىء واحد کما تقدم فی روایة عبدالرحمن بن عبد القاری : «نعمت البدعة هذه» دلیلٌ
لیس بعده دلیل على أنّها سنّة ابتدعها عمر لم تکن موجودة فی عهد رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم ولا فی عهد أبی بکر .

موقف المسلمین من بدعة الجماعة فی التراویح :

لا نرید هنا أن نستقصی مواقف الصحابة الاُول وغیرهم من أمر عمر بإقامة التراویح جماعة ، بل نحاول أن نتعرض بإیجاز لهذه المواقف لتساعد القاریء على تکوین صورة واضحة عن طبیعة الموقف تجاهها فی العصور الاولى :
1 ـ عن أبی أُمامة الباهلی رضی الله عنه أنّه قال : «أحدثتم قیام شهر رمضان ، ولم یُکتب علیکم ، إنما کُتب علیکم الصیام»(24).
وفی ذلک دلالة واضحة وصریحة على الاعتراض على الجماعة فی صلاة التراویح .
2 ـ عن نافع مولى عبدالله بن عمر : «أنّ ابن عمر کان لا یصلّی خلف الامام فی شهر رمضان» (25).
3 ـ وقد نهى أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام فی خلافته الناس عن أداء صلاة التراویح جماعة لاَنها بدعة ، فقد روی أنّه : «لما اجتمع الناس على أمیر المؤمنین علیه السلام بالکوفة سألوه أن ینصب لهم إماماً یصلّی بهم نافلة شهر رمضان ، فزجرهم ، وعرّفهم أنَّ ذلک خلاف السُنّة ، فترکوه واجتمعوا، وقدَّموا بعضهم ، فبعث إلیهم الحسن علیه السلام ، فدخل علیهم المسجد ومعهُ الدّرة ، فلما رأوه تبادروا الاَبواب وصاحوا : واعمراه» (26).
وفی روایة أخرى عن الاِمام الصادق علیه السلام أنه قال : «لما قدم أمیر المؤمنین علیه السلام الکوفة أمر الحسن بن علی أن ینادی فی الناس : لا صلاة فی شهر رمضان فی المساجد جماعة ، فنادى فی الناس الحسن بن علی بما أمره به أمیر المؤمنین ، فلّما سمع الناس مقالة الحسن بن علی علیه السلام صاحوا : واعمراه ، واعمراه ! فلّما رجع الحسن إلى أمیر المؤمنین علیه السلام قال له : ماهذا الصوت ؟ ـ قال ـ : یا أمیر المؤمنین ، الناسُ یصیحون : واعمراه ، واعمراه ـ فقال أمیر المؤمنین علیه السلام ـ : قل لهم : صلّوا»(27).
فهل فی قوله علیه السلام : «قُلْ لهم صلّوا» إقرار على الجماعة فی التراویح ، أم أن هناک أسباباً أُخرى؟ هذا ما یکشف عنه النص الآتی المروی عنه علیه السلام : «قد عملت الولاة قبلی أعمالاً خالفوا فیها رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم متعمدین لخلافه ، ناقضین لعهده مغیرین لسنته ، ولو حملتُ الناس على ترکها... إذاً لتفرقوا عنی والله لقد أمرت الناس أن لا یجتمعوا فی شهر رمضان إلاّ فی فریضة ، وأعلمتهم أنَّ اجتماعهم فی النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسکری ممن یقاتل معی : یا أهل الاسلام غُیّرت سنة عمر ! ینهانا عن الصلاة فی شهر رمضان تطوّعاً ، ولقد خفتُ أن یثوروا فی ناحیةً جانب عسکری..» (28).
وحسب القاریء اللبیب أن یرى أنّ أمیر المؤمنین علیاً علیه السلام یصف الاجتماع فی شهر رمضان على غیر الفریضة بأنّه «بدعة» .
ویرى القاریء الکریم فی قول أمیر المؤمنین علی علیه السلام ما یکفی لوصف الحال حین نهاهم عن «البدعة» حتى أنّه علیه السلام خاف ان یثوروا فی جانب عسکره ، فالى أی مدى کانت هذه البدعة قد استشرت فی النفوس واتسعت فی الممارسة حتى عدّ الجهلاء النهی عنها منعاً للسُنّة ؟

ثالثاً : صلاة الضُحى :

مع أنَّ صلاة الضحى قد ورد لها ذکر کثیر فی کتب الفقه والحدیث عند أهل السُنّة فإنّها مجهولة متروکة عند الکثیر منهم .
وسنحاول فی هذا المختصر أن نلقی نظرة سریعة حول ما یتعلق بها من أُمور .
ما هو حکمها : یرى الحنابلة والحنفیّة والشافعیة أنَّ صلاة الضُحى سُنّة وترى المالکیة أنّها مندوبة (29) تستحب المداومة علیها .

ورأى بعض علمائهم أنّها بدعة.

وقتها : وقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى زوالها ، والاَفضل عندهم أن یبدأها بعد ربع النهار، وجاء فی وقتها قولهم : «وأفضل وقتها إذا علت الشمس واشتدّ حرّها ویمتّد وقتها إلى زوال الشمس ، وأوله حین تبیّض الشمس».
عدد رکعاتها : اختلفوا فی تحدید عدد رکعاتها ، فقالت الحنفیة : أکثرها ستّ عشرة ، وذهب بعض الشافعیة والطبری إلى أنّه لا حدَّ لاَکثرها . وقال آخرون أقلها رکعتان وأکثرها ثمانیة ، وقیل اثنتا عشرة رکعة .
وقالوا بأنّه «یکره أن یصلّى فی نفل النهار زیادة على أربع رکعات بتسلیمة واحدة» (30).

ما ورد فیها من الاَثر عندهم :

یمکن تصنیف ما ورد فی صلاة الضحى من أحادیث إلى ثلاثة أصناف: أحادیث مجملة ، وأُخرى ضعیفة أو موضوعة ، وأُخر معارضة ، فلنقف على نماذج من هذه الاصناف الثلاثة :

1 ـ الاَحادیث المجملة :

أ ـ عن نعیم بن همّاز ، قال : «سمعتُ النبی صلى الله علیه وآله وسلم یقول : قال الله عزَّ وجل : یا ابن آدم لا تعجزنی من أربع رکعات فی أوّل نهارک أکفک آخره»(31).
وبالتأمّل البسیط فی هذه الروایة یتّضح أنّه لیس فیه دلالة خاصة على أنّ المقصود من الرکعات الاَربع هو صلاة الضحى ، واحتمل بعضهم أنّ المقصود من الاَربع هو فریضة الفجر ونافلتها کما اختار ذلک ابن القیم وابن تیمیّة (32)، واحتمله الشوکانی والعراقی (33).
ب ـ قال أبو هریرة : «أوصانی خلیلی بثلاث لا أدعهنَّ حتى أموت : صوم ثلاثة أیام من کلِّ شهر ، وصلاة الضحى ، ونوم على وتر» (34).
ونکتفی فی التعلیق على هذا الحدیث بما قاله ابن القیّم : «وأما أحادیث الترغیب فیها والوصیة بها فالصحیح منها ، کحدیث أبی هریرة وأبی ذر ، لایدّل على أنّها سُنّة راتبة لکلِّ أحد ، وإنّما أوصى أبا هریرة بذلک ، لاَنّه قد روی أنّ أبا هریرة کان یختار درس الحدیث باللیل على الصلاة فأمره بالضحى بدلاً من قیام اللیل ، ولهذا أمره ألاّ ینام حتى یوتر ، ولم یأمر بذلک أبا بکر وعمر وسائر الصحابة» (35).
جـ ـ عن عبیدالله بن عبدالله بن عتبة قال : «دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته یسبح فقمت وراءه فقرّبنی حتى جعلنی حذاءه عن یمینه فلما جاء یرفأ (اسم خادم عمر) تأخرتُ فصففنا وراءه» (36).
والهاجرة لغة «بمعنى نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر» (37) على المشهور فسبحة الهاجرة إذاً تنطبق على نافلة الظهر هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى فإنّ عمل عمر مجهول العنوان فما یدرینا بأنه کان یصلی الضُحى ؟ سیّما وأنّ ابنه عبدالله یشهد بأنّه لم یکن یصلّیها کما سیأتی .
د ـ عن أبی هریرة قال : «ما رأیت رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم یصلّی الضُحى قط إلاّ مرّة» (38).
والروایة مجملة أیضاً فی الدلالة على خصوص صلاة الضحى ، لاحتمال أنّ النبی صلى الله علیه وآله وسلم صلّى فی ذلک الوقت لحاجة أو غیرها وخفی على أبی هریرة أمرها .
هـ ـ عن أنس أنّه قال : «رأیت رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم فی سفر صلّى سبحة الضحى ثمانی رکعات، فلّما انصرف قال صلى الله علیه وآله وسلم : «إنّی صلیت صلاة رهبة ورغبة ، سألتُ ربی ثلاثاً فأعطانی اثنین ومنعنی واحدة . سألته أن لا یبتلی أُمتی بالسنین ففعل . وسألته ألاّ یظهر علیهم عدوهم ففعل ، وسألته ألا یلبسهم شیعاً فأبى علیَّ » (39).
والحدیث کما ترى مجمل لا خصوصیة له فی الدلالة على صلاة الضحى الراتبة ، کما أنّه یتناقض مع الواقع التاریخی الذی مرّت به الاُمّة الاِسلامیة، فقد أصیبت بالسنین وتسلط علیها عدوها سنین طوال وما زالت کذلک وهذا یدفعنا إلى الاطمئنان إلى أنّ الروایة موضوعة مختلقة .

2 ـ الاَحادیث الضعیفة والموضوعة :

قال ابن قیّم الجوزیّة عن أحادیث صلاة الضُحى : « وبعضها موضوع لایحلّ الاحتجاج به» (40)، ثم ذکر عدّة أحادیث صرّح علماء الرجال بأنّ رواتها وضّاعین کذبة ، منها :
أ ـ ما روی عن أنس مرفوعاً : «من داوم على صلاة الضحى ولم یقطعها إلاّ عن علّة کنت أنا وهو فی زورق من نور فی بحر نور» وضعه زکریا بن درید الکندی عن حمید .
ب ـ عن یعلى بن أشدق عن عبدالله بن جراد : عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم أنه قال : «من صلّى منکم صلاة الضحى فلیصلّها متعبداً ، فإنّ الرجل لیصلّیها السنة من الدهر ثم ینساها ویدعها فتحنُ إلیه کما تحنُّ الناقة على ولدها إذا فقدته».
وفی یعلى بن الاشدق ، راوی هذا الحدیث ، قال ابن عدی : روى یعلى بن الاشدق عن عمه عبدالله بن جراد عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم أحادیث کثیرة منکرة، وهو وعمّه غیر معروفین .
وقال أبو حاتم : «لقی یعلى عبدالله بن جراد ، فلّما کَبُر اجتمع علیه من لادین له ، فوضعوا له شبَهاً بمائتی حدیث فجعل یحدّث بها ولا یدری ! لا تحلّ الروایة عنه بحال .

3 ـ الاحادیث النافیة لمشروعیة صلاة الضحى :

هناک طائفة من الاحادیث التی نفت مشروعیة هذه الصلاة ، فهی على خلاف الروایات المثبتة لصلاة الضحى ، قویة فی سندها ودلالتها ، وقد رجحها جملة من علماء أهل السُنّة على غیرها ، کما صرّح بذلک ابن القیم، حیثُ قال : «وطائفة ثانیة ذهبت إلى أحادیث الترک ورجّحتها من جهة صحة إسنادها وعمل الصحابة بموجبها» (41)، منها :
أ ـ ما رواه البخاری بسنده عن مورّق قال : «قلتُ لابن عمر : أتصلی الضحى ؟ قال : لا . قلت : فعمر ؟ قال : لا . قلت : فأبو بکر ؟ قال : لا . قلتُ: فالنبی صلى الله علیه وآله وسلم ؟ قال : لا أخاله» (42).
ب ـ ما رواه البخاری بسنده عن عائشة ، قالت : «ما رأیتُ رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم سبّح سبحة الضحى ، وإنّی لاَسبّحها» (43).
قال أبو الحسن علی بن بطال : فأخذ قوم من السلف بحدیث عائشة ولم یروا صلاة الضحى ، وقال قوم : «إنها بدعة» (44)، أما قول عائشة بأنی أُسبّحها بعد قولها عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم «ما رأیت رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم سبّح سبحة الضحى» فلا قیمة له فی مجال الدلیل الشرعی .
جـ ـ وما رواه البخاری أیضاً بسنده عن عبدالرحمن بن أبی لیلى إنّه قال: «ما حدّثنا أحدٌّ أنّه رأى النبی صلى الله علیه وآله وسلم یصلّی الضحى ، غیر أم هانیء ، فإنّها قالت: إنّ النبی صلى الله علیه وآله وسلم دخل بیتها یوم فتح مکة فاغتسل وصلّى ثمانی رکعات فلم أرَ صلاة قطّ أخف منها غیر أنّه یتم الرکوع والسجود» (45).
وهذا الحدیث ینفی ما تقدمّ من أحادیث رؤیة النبی صلى الله علیه وآله وسلم یصلی الضحى ، أما روایة أم هانی فهی کما ترى لا دلالة صریحة فیها على أنّ الصلاة التی صلاّها النبی صلى الله علیه وآله وسلم بثمان رکعات هی صلاة الضحى ، بل یُحتمل أنّها صلاة شکر لله تعالى على ما منَّ على رسوله صلى الله علیه وآله وسلم بالفتح المبین .
د ـ ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن عبدالرحمن بن أبی بکرة ، قال : «رأى أبو بکرة ناساً یصلّون الضحى فقال : إنّهم لیصلون صلاة ما صلاّها رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم ولا عامّة أصحابه رضی الله عنهم» (46).
هـ ـ روى البخاری بسنده عن مجاهد ، قال : « دخلت أنا وعروة بن الزبیر المسجد فاذا عبدالله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة وإذا أُناس یصلون فی المسجد صلاة الضحى ، قال : فسألناه عن صلاتهم ؟ فقال : بدعة» (47).
ما تقدم کان دراسة مختصرة عن صلاة الضحى استقینا روایاتها من طرق أهل السُنّة وتبیّن أنّها لیست إلاّ بدعة .
أما موقف الامامیة الاثنى عشریة فهی عند فقهاءهم بدعة لا یجوز فعلها . وقد أجمعوا على هذا الرأی کما صرّح بذلک الشریف المرتضى فی رسائله (48)، والشیخ الطوسی فی الخلاف (49)، والعلاّمة الحلی فی المنتهى، والعلاّمة المجلسی فی البحار (50)، والمحدّث البحرانی فی الحدائق الناضرة (51).
وقد وردت الاَخبار عن طرق أهل البیت علیهم السلام نافیة لمشروعیة صلاة الضُحى ، کما ورد عن الاِمام الباقر علیه السلام أنّه قال لرجل من الاَنصار سأله عن صلاة الضحى فقال علیه السلام: «أول من ابتدعها قومک الاَنصار سمعوا قول رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم صلاة فی مسجدی تعدل ألف صلاة ، فکانوا یأتون من ضیاعهم ضحى فیدخلون المسجد فیصلّون ، فبلغ رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم فنهاهم عنه» (52) .

نماذج أُخرى من البدع :

ثمّة نماذج أُخرى من البدع ، اشتهرت ورَسخت حتى حلّت محلّ السُنن ، نذکرها استطراداً دون تفصیل بعد ان قدمنا تلک النماذج المفصلة، ومن هذه البدع :
1 ـ غسل الرجلین فی الوضوء ، بدلاً من مسحهما الذی جاء به القرآن والسُنّة ، وقد جاء فی حدیث أنس بن مالک ، أنّه قد خطب الحجاج ابن یوسف الثقفی فقال : فاغسلوا وجوهکم وأیدیکم وامسحوا برؤوسکم وأرجلکم ، وأنّه لیس شیء من ابن آدم أقرب إلى الخبث من قدمیه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقیبهما . فقال أنس : صدق الله ، وکذب الحجاج ! قال الله : ( وَامسَحُوا بِرُؤُسِکُم وَأرجُلَکُم ) (53).
2 ـ الاَذان الثالث یوم الجمعة ، وقد اتفقوا على أنه قد شرعه عثمان، ولم یکن قبله (54).
3 ـ ذکر أسماء الخلفاء فی خطبة صلاة الجمعة .
أعمال نُسبت إلى البدعة ولیست کذلک ومن أمثلة هذا النوع من الاَعمال :
أولاً : الاحتفال بالمولد النبوی والمناسبات الاِسلامیة :
لا ریب أنّ الاحتفال بمولد النبی محمد صلى الله علیه وآله وسلم وفق الضوابط والاَصول الشرعیة یُعبّر عن الحبّ والولاء والمتابعة للرسول الاَکرم صلى الله علیه وآله وسلم وهو بالتالی تعظیم للرسالة الاِسلامیة الغرّاء .
ولقد تقدم القول فی أنّ الملاک فی نسبة الشیء إلى البدعة : هو کونها إضافة ما لیس من الدین إلى الدین أو إنقاص مما هو فیه ، وقد تقدم أیضاً مصادیق ذلک فی الاَمثلة المتقدمة .
وإنّ فِعْلَ ما لم یکن فی عهد الرسول یصحُّ أن یکون ابتداعاً بالمعنى اللغوی الذی یعنی الاِتیان بشیء لیس على مثالٍ سابق ، طالما لم یتعارض هذا الشیء مع التشریع .
وذکرنا أیضاً أنَّ عدم وجود الدلیل الخاص على أمرٍ ما لا یعنی أنّه یدخل ضمن دائرة الابتداع ما دام فی الدلیل العام مجال لشموله بمفرداته.
والمسلمون یعلمون جمیعاً أنَّ هناک أدلة کثیرة أکدت على ضرورة احترام النبی الاَکرم صلى الله علیه وآله وسلم وتبجیله وتوقیره ، حیّاً ومیتّاً ، وقد ورد الشیء نفسه فی حق أهل البیت علیهم السلام .
وإذا کان الاَوّلون یعبّرون عن حبهم لرسول الله صلى الله علیه وآله وسلم وأهل بیته فإنّ للآخرین أن یعبروا عن هذا الحب أیضاً بالطریقة المناسبة بحیث لا تتعارض مع التشریع .
من هنا نجد مدى النکارة فی ما قاله محمد بن عبدالسلام الشقیری : «بدعة منکرة ضلالة ، لم یرد بها شرعٌ ولا عقل ، ولو کان فی هذا الیوم خیرٌ کیف یغفل عنه أبو بکر ، وعمر وعثمان ، وعلی وسائر الصحابة ، والتابعون وتابعیهم والاَئمة وأتباعهم» (55).
وحسبه تعصباً وجهلاً أن یقول : «لم یرد بها شرع» وکأنَّ أحداً من الناس قال إنّها ـ أی الاحتفالات بهذا الشکل الخاص المعمول به الآن ـ جزءٌ من الشریعة حتى یأتی هو لینفی کونها منه .
والغریب أنَّ بعض الذین عدّوا الاحتفال بمولده صلى الله علیه وآله وسلم بدعة ، إنّما فعلوا ذلک لاَنّ الاحتفال ترافقه بعض الاَعمال المُبتدعة ، من قبیل قول (ابن الحاج) : « ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أنَّ ذلک من أکبر العبادات ، وإظهار الشعائر ، ما یفعلونه فی شهر ربیع الاَول فی یوم المولد، وقد احتوى على بدع ومحرّمات جمة» (56).
ومع أننا نستنکر کل عمل محرم یأتی به أحد فی هذه الاحتفالات فإنَّ الاقتران بین الاَفعال المحرمة وبین الاحتفال بمولده صلى الله علیه وآله وسلم لا یلغی أصل العمل ، ولا یؤدی إلى تحریمه بالضرورة ، إذ إنَّ القول بذلک یستلزم بطلان الکثیر من أُصول العبادات المسلّمة فیما لو اقترنت بفعل محرم.. مع أنَّ الصحیح أنْ یقال إنَّ الفعل الفلانی محرّم لا یجوز الاتیان به ، بل یلزم المعاقبة علیه مع القدرة ، لا أن یلغی أصل العمل .
إنّ حبَّ النبی صلى الله علیه وآله وسلم أصل من أصول الاسلام لیس لاَحدٍ إنکاره ، ولهذا فمن حق المسلم المؤمن أن یُعبّر عن حبه للرسول الاَکرم صلى الله علیه وآله وسلم بأی صورة کانت شریطة أنْ لا تتعارض مع الشریعة .
ولا شک أنَّ الاحتفال بالمولد النبوی الشریف یمثل صورة من صور التکریم والتعظیم والاحترام لرسول الله صلى الله علیه وآله وسلم یتدارس فیه الناس سیرته العطرة ویستخلصون الدروس العظیمة والنافعة .
وإلى جانب أهمیة وضرورة حبّ النبی صلى الله علیه وآله وسلم فی حیاته وبعد وفاته وتجسید ذلک الحب فی السلوک والعمل من خلال الالتزام بالتعالیم الاِسلامیة ، فقد أکّد الرسول الاَکرم محمد صلى الله علیه وآله وسلم على حب أهل بیته علیهم السلام
وعدّ حبهم حبّاً له هو صلى الله علیه وآله وسلم .
فقد ورد عنه صلى الله علیه وآله وسلم أنّه قال : «أُذکرکم الله فی أهل بیتی» وکررها ثلاث مرات (57) .
وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم أنّه قال : «وأحبونی بحب الله ، وأحبوا أهل بیتی لحبی» (58).
واستقصاء أحادیثه صلى الله علیه وآله وسلم فی دفع الاُمّة إلى الالتزام بحب أهل بیته علیهم السلام وتوقیرهم وتعظیمهم خارج عن طاقة هذا البحث .
إنّ المحصّل مما تقدم یوضح لنا أنّ التعبیر عن الحب والتعظیم للرسول صلى الله علیه وآله وسلم وأهل بیته علیهم السلام لیس أمراً ممنوعاً ، بل هو مرغوب فیه .
وقد أید ذلک بعض علماء السُنّة وعدّوا الاحتفال بیوم مولده صلى الله علیه وآله وسلم عملاً حسناً أو «بدعة حسنة» بمعناها اللغوی ، نظیر ما قاله ابن حجر «عمل المولد بدعة ، لم تُنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ، ولکنَّها مع ذلک قد اشتملت على محاسن وضدّها ، فمن تحرّى فی عملها المحاسن ، وتجنَّب ضدها کان بدعةً حسنةً ، وإلاّ فلا».
وقول أبی شامة : « ومن أحسن ما ابتُدع فی زماننا ما یُفعل کل عامٍ فی الیوم الموافق لیوم مولده صلى الله علیه وآله وسلم ، من الصدقات ، والمعروف ، وإظهار الزینة، والسرور ، فإنَّ ذلک مع ما فیه من الاحسان للفقراء مشعر بمحبته صلى الله علیه وآله وسلم وتعظیمه فی قلب فاعل ذلک ، وشکر الله على ما منَّ به من إیجاد رسوله صلى الله علیه وآله وسلم الذی أرسلهُ رحمة للعالمین» (59).
وقول السیوطی : «عندی أنّ أصل عمل المولد الذی هو اجتماع الناس، وقراءة ما تیسّر من القرآن وروایة الاَخبار الواردة فی مبدأ أمر النبی صلى الله علیه وآله وسلم ، وما وقع فی مولده من الآیات ، ثم یمدّ لهم سماط فیأکلون وینصرفون من غیر زیادة على ذلک ، هو من البدع الحسنة التی یُثاب علیها صاحبها ، لما فیه من تعظیم قدر النبی صلى الله علیه وآله وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشریف..»(60).
وقال ابن تیمیّة : «قال المروزی : سألتُ أبا عبدالله عن القوم یبیتون ، فیقرأ قاریء ، ویدعون حتى یصبحوا ؟ قال : أرجو أن لا یکون به بأس.. وقال أبو السری الحربی : قال أبو عبدالله : وأی شیء أحسن من أن یجتمع الناس یصلّون ویذکرون ما أنعم الله علیهم کما قالت الاَنصار» ؟ وأضاف «وهذا إشارة إلى ما رواه أحمد : حدثنا اسماعیل ، أنبأنا أیوب عن محمد ابن سیرین قال : نبئت أنّ الاَنصار قبل قدوم رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم المدینة قالوا : لو نظرنا یوماً فاجتمعنا فیه ، فذکرنا هذا الاَمر الذی أنعم الله به علینا ، فقالوا : یوم السبت ، ثم قالوا : لا نجامع الیهود فی یومهم ، قالوا : فیوم الاَحد ، قالوا: لا نجامع النصارى فی یومهم ، قالوا : فیوم العروبة ، وکانوا یسمّون الجمعة بیوم العروبة ، فاجتمعوا فی بیت أبی أُمامة أسعد بن زرارة، فذبحت لهم شاة فکفتهم» (61).
إنّ أتباع أهل البیت علیهم السلام وعامة المسلمین یحتفلون بمولد الرسول صلى الله علیه وآله وسلم وبموالید الاَئمة الطاهرین من ذریته وبالمناسبات والذکریات الاسلامیة العظیمة ، ولا یتجاوزون فی احتفالاتهم قراءة القرآن وسیرة الرسول وأهل بیته الطاهرین والدروس العظیمة والعبر من الذکریات الاسلامیة .
وغریب جداً أن یعتبر أحد من الناس الاجتماع لتلاوة حدیث الرسول صلى الله علیه وآله وسلم أو إنشاء القصائد فی مدحة بدعة بمعناها الاصطلاحی ، وأمامهم عشرات الاَمثلة من إنشاد الشعراء بحضرة الرسول شعراً فی مدحه فما منعهم عن ذلک ، فما المانع أن ینشد الشعر فی یوم مولده مدحاً له وإشادة برسالته العظیمة ؟
فهذا کعب بن زهیر یُنشد الرسول صلى الله علیه وآله وسلم وهو بحضرته :
مهلاً هداک الذی أعطاک نا * فلة القرآن فیها مواعیظ وتفصیل
إنَّ الرسول لنور یستضاء به * مهنّد من سیوف الله مسلول
أو قول حسان بن ثابت فی رثاء الرسول صلى الله علیه وآله وسلم :
یدلُّ على الرحمن من یقتدی به * ویُنقذ من هول الخزایا ویُرشد
إمام لهم یهدیهم الحقَّ جاهداً * معلّم صدقٍ إن یطیعوه یُسْعدوا (62)
ولا نرید هنا الاستقصاء.. لکن هنا لا بدَّ من التنبیه إلى أنَّ هذین
الشاعرین وغیرهم من الشعراء أنشدوا شعرهم فی اجتماع من الناس ولم ینشدوه بینهم وبین أنفسهم.. لکن أحداً لم یقل لهم إنّ إنشادکم فی اجتماع الناس بدعة !
ثانیاً : شدّ الرحال لزیارة قبر النبی والاَئمة والصالحین :
اتفق علماء المسلمین على جواز زیارة القبور عامةً وقبور الاَنبیاء والاَولیاء والصالحین خاصّة ، إلاّ ما نُسب إلى ابن سیرین والنخعی والشعبی ، على أنّ النسبة غیر ثابتة .
وقد زار النبی صلى الله علیه وآله وسلم قبر أُمّه فبکى وأبکى من حوله وقال: «... استأذنته فی أن أزور قبرها فأُذِن لی فزوروا القبور فإنّها تُذکِّر الموت»(63).
وقال صلى الله علیه وآله وسلم: «من زار قبری وجبت له شفاعتی».
وقال صلى الله علیه وآله وسلم أیضاً : «من حجَّ فزار قبری بعد وفاتی ، کان کمن زارنی فی حیاتی» (64) . وقد وردت عنه صلى الله علیه وآله وسلم عشرات الاَحادیث فی هذا المضمار من طرق الفریقین .
ویشکک ابن تیمیة فی مندوبیة زیارة النبی صلى الله علیه وآله وسلم ، ویذهب فی «منهاج السُنّة» وغیره إلى أن ماورد فی زیارة قبر النبی صلى الله علیه وآله وسلم ضعیف بل موضوع .
إلاّ أن المقدسی یذکر أنَّ ابن تیمیة کان معتقداً بزیارة النبی الاَکرم ، ونقل عنه قوله : إذا أشرف على مدینة النبی صلى الله علیه وآله وسلم قبل الحج أو بعده فلیقل ماتقدم ، فاذا دخل استحب له أن یغتسل ، نصّ علیه الامام أحمد ، فإذا دخل المسجد بدأ برجله الیمنى ، وقال : بسم الله والصلاة على رسول الله، اللهم أغفر لی ذنوبی ، وافتح لی أبواب رحمتک ، ثم یأتی الروضة بین القبر والمنبر فیصلى بها ویدعو بما شاء ، ثم یأتی قبر النبی صلى الله علیه وآله وسلم فیستقبل جدار القبر ولا یمسّه ولا یقبله ، ویجعل القندیل الذی فی القبلة عند القبر على رأسه لیکون قائماً وجاه النبی صلى الله علیه وآله وسلم ویقف متباعداً کما یقف لو ظهر فی حیاته بخشوع وسکون منکّس الرأس غاضّ الطرف مستحضراً بقلبه جلالة موقفه ، ثم یقول : السلام علیک یا رسول الله ورحمة الله وبرکاته ، السلام علیک یا نبی الله وخیرته من خلقه ، السلام علیک یا سید المرسلین وخاتم النبیین وقائد الغر المحجلین...» (65).
ومع هذا الکلام فان ابن تیمیة یعتبر «شدّ الرحال» لزیارة قبر النبی صلى الله علیه وآله وسلم أمراً حراماً ، معتمداً فی ذلک فهماً خاطئاً لما روی عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم أنّه قال : «لا تشدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدی هذا ، ومسجد الحرام ، ومسجد الاقصى » (66) وفی لفظٍ آخر : «إنما یُسافر الى ثلاثة مساجد : مسجد الکعبة ، ومسجدی ، ومسجد إیلیا» (67) .
وسوف نتناول مناقشة هذا الاَمر من جانبین :
الجانب الاَول : إیراد أقوال وأحادیث تؤکد استحباب السفر لزیارة قبره صلى الله علیه وآله وسلم .
والجانب الثانی : دراسة وتحلیل الحدیث الذی اعتبره ابن تیمیة دالاً على حرمة السفر إلى قبر النبی صلى الله علیه وآله وسلم .
استحباب السفر لزیارة قبر النبی صلى الله علیه وآله وسلم :
یمکن الاستدلال على استحباب السفر لزیارة قبر النبی صلى الله علیه وآله وسلم بعدّة وجوه ، لکننا هنا نقتصر على ذکر مجموعة من آراء علماء السلف القائلة باستحباب السفر للزیارة ، بل عدّها بعضهم واجبة ، ولیس لاَحد أن ینکر أنَّ السلف من علماء الاُمّة وعامتها سافروا لزیارة قبر النبی صلى الله علیه وآله وسلم ، وقد أشار إلى هذا الواقع الامام السبکی ، بقوله : «إنّ الناس لا یزالون فی کلَّ عام إذا قضوا الحج یتوجهون إلى زیارته صلى الله علیه وآله وسلم ومنهم من یفعل ذلک قبل الحج، هکذا شاهدناه وشاهده من قبلنا ، وحکاه العلماء عن الاَعصار القدیمة... وذلک أمر لا یُرتاب فیه ، وکلّهم یقصدون ذلک ویعرجون إلیه وإن لم یکن طریقهم ، ویقطعون فیه مسافة بعیدة وینفقون فیه الاَموال ، ویبذلون فیه المُهَج ، معتقدین أنّ ذلک قربة وطاعة ، وإطباق هذا الجمع العظیم من مشارق الاَرض ومغاربها على مرَّ السنین ، وفیهم العلماء والصلحاء وغیرهم یستحیل أن یکون خطأ ، وکلهم یفعلون ذلک على وجه التقرّب به إلى الله عزَّ وجل ، ومن تأخر عنه من المسلمین فإنما یتأخر بعجزٍ أو تعویق المقادیر ، مع تأسفه علیه ووده لو تیسر له ، ومن أدّعى أنّ هذا الجمع العظیم مجمعون على خطأ فهو المخطىء»(68).
وإلى جانب ما جاء به السبکی فی معارضة القائلین بالتحریم ، فقد شارکه عدد غفیر من العلماء فی ذلک ، وإلیک بعض النصوص .
1 ـ قال أبو الحسن الماوردی (ت | 450 هـ) : «فإذا عاد ولی الحاج ، سار به على طریق المدینة لزیارة قبر رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم لیجمع لهم بین حج بیت الله عزَّوجلَّ وزیارة قبر رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم رعایة لحرمته وقیاماً بحقوق طاعته، وذلک وإن لم یکن من فروض الحج ، فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجیج المستحبة» (69).
2 ـ قال ابن الحاج محمد بن محمد العبدری القیروانی المالکی (ت|737هـ) : «وأما عظیم جناب الاَنبیاء والرسل ـ صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ـ فیأتی إلیهم الزائر ویتعین علیه قصدهم من الاَماکن البعیدة ، فإذا جاء إلیهم فلیّتصف بالذل والانکسار والمسکنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ، ویحضر قلبه وخاطره إلیهم وإلى مشاهدتهم بعین قلبه لا بعین بصره لاَنهم لا یبلون ولا یتغیرون...» (70).
وابن الحاج هنا ـ کما ترى ـ لا یقصر مشروعیة الزیارة على نبینا محمد صلى الله علیه وآله وسلم بل یعممها على الاَنبیاء والرسل أیضاً .
3 ـ روی أنّه لما صالح عمر بن الخطاب أهل بیت المقدس ، جاءه کعب الاَحبار فأسلم ففرح به ، فقال عمر له : «هل لک أن تسیر معی إلى المدینة وتزور قبره وتتمتع بزیارته ؟ قال : نعم» (71).
دراسة دلیل القائلین بتحریم شدّ الرحال لزیارة قبر الرسول صلى الله علیه وآله وسلم :
اعتمد القائلون بتحریم شدّ الرحال لغیر المساجد الثلاثة (مسجد الرسول ومکة وبیت المقدس) بشکل خاص على الروایة المتقدّمة ، ولنا فی دلالة الحدیث أو الاَحادیث المارة مناقشة ، تقوم على أساس تحدید المستثنى منه ، وهو واحد من اثنین :
1 ـ لا تشدُّ الرحال إلى «مسجد» غیر المساجد الثلاثة .
2 ـ لا تشدُّ الرحال إلى «مکان» غیر المساجد الثلاثة .
فلو کان المقصود بالروایة المستثنى الاَول کما هو الظاهر ، فإنّ معنى الحدیث یکون : الاَمر بعدم شدّ الرحال إلى أی مسجد من المساجد ماعدا المساجد الثلاثة ، ولا یعنی عدم شدّ الرحال إلى أی مکان من الاَمکنة إذا لم یکن هذا «المکان» مسجداً ، فالحدیث إذن بهذا المعنى لایتعرض بحال لشدّ الرحال لزیارة قبور الاَنبیاء والاَئمة الطاهرین والاَولیاء والصالحین ، لاَنّ قبورهم لیست مساجد ، ولاَنّ الحدیث یتعرض فی نفیه وإثباته للمساجد خاصة ، ولذلک فإنّ الاستدلال به على حرمة شدّ الرحال إلى غیر المساجد باطل .
أما الحالة الثانیة ، وهی البناء على الاستثناء من عموم الاَمکنة ، فلا یمکن الاَخذ بها ، إذ تستتبع حرمة جمیع الاسفار سواء کان السفر لزیارة مسجد أو غیره من الامکنة ، ولا یقول بهذا أحدٌ من الفقهاء والعقلاء .
ومن جهة ثانیة : فإنّ النهی عن شدِّ الرحال إلى أی مسجد غیر المساجد الثلاثة لیس نهیاً «تحریمیاً» وإنّما هو إرشاد الى عدم الجدوى فی سفر کهذا، وذلک لاَنّ المساجد الاُخرى لا تختلف من حیثُ الفضیلة ،
فالمساجد الجامعة متساویة فی الفضیلة وإنّ من العبث ترک الصلاة فی جامع هذا البلد والسفر إلى جامع آخر فی بلد آخر مع أنهما متماثلان .
یقول الغزالی بهذا الصدد : «القسم الثانی ، وهو أن یسافر لاَجل العبادة إمّا لحجٍّ أو جهاد.. ویدخل فی جملته : زیارة قبور الاَنبیاء علیهم السلام وزیارة قبور الصحابة والتابعین وسائر العلماء والاَولیاء ، وکل من یتبرّک بمشاهدته فی حیاته یتبرّک بزیارته بعد وفاته ، ویجوز شدّ الرحال لهذا الغرض ، ولا یمنع من هذا قوله صلى الله علیه وآله وسلم : « لا تشدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدی هذا والمسجد الحرام والمسجد الاَقصى»، لاَنّ ذلک فی المساجد ، فإنّها متماثلة فی الفضیلة ، بعد هذه المساجد» (72).
ویقول الدکتور الشیخ عبدالملک السعدی : «إنَّ النهی عن شدّ الرحال إلى المساجد الاَُخرى لاَجل أنَّ فیه إتعاب النفس دون جدوى أو زیادة ثواب ، لاَنّها فی الثواب سواء ، بخلاف الثلاثة لاَنّ العبادة فی المسجد الحرام بمائة ألف ، وفی المسجد النبوی بألف ، وفی المسجد الاقصى بخمسمائة ، فزیادة الثواب تحبّب السفر إلیها وهی غیر موجودة فی بقیّة المساجد»(73).
ومن جهة ثالثة : فإنّ هناک دلیلاً آخر على أنّ السفر لغیر هذه المساجد الثلاثة لیس محرّماً ، وهو ما نکتشفه من سیرة النبی الاَکرم محمد صلى الله علیه وآله وسلم فقد روى أصحاب الصحاح والسنن : «کان رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم یأتی مسجد قباء
راکباً وماشیاً فیصلّی فیه رکعتین» .
مناقشة دلیل ابن تیمیة فی التحریم :
لابن تیمیة فتوى بالتحریم عمم فیها الحرمة بزیارة قبور الاَنبیاء والاَولیاء والصالحین ، مع أنّ المستثنى هو المساجد فقال فی الفتاوى ، معتمداً فی فتواه على القیاس : «فاذا کان السفر إلى بیوت الله غیر الثلاثة لیس بمشروع باتفاق الاَئمة الاَربعة بل قد نهى عنه الرسول صلى الله علیه وآله وسلم فکیف بالسفر إلى بیوت المخلوقین الذین تتخذ قبورهم مساجد وأوثاناً وأعیاداً ویشرک بها وتدعى من دون الله ، حتى إنّ کثیراً من معظّمیها یفضّل الحج إلیها على الحج إلى بیت الله»(74).
ولو صحّ هذا النقل عن ابن تیمیة ففی کلامه مؤاخذات شتى ، فقد قال: «إذا کان السفر إلى بیوت الله غیر الثلاث لیس بمشروع» .
المؤاخذة علیه هی أنّه من أین وقف على أنّ السفر إلى غیر المساجد الثلاثة محرّم ، وقد تقدّم أنّ النهی لیس نهیاً تحریمیاً مولویاً ، وإنما هو إرشاد إلى عدم الجدوى ، ولذلک فإنّه لو ترتبت على السفر مصلحة لجاز ذلک السفر مثلما عرفت من سفر النبی صلى الله علیه وآله وسلم إلى مسجد قباء مراراً .
وقال أیضاً بأنّ عدم المشروعیة اتفق علیه الاَئمة الاَربعة :
ویؤاخذ علیه : أننا لم نجد نصّاً منهم على التحریم ، وإیرادهم للحدیث فی صحاحهم لیس دلیلاً على أنّهم فسروا الحدیث بمثل ما فسرّه هو .
وأیضاً : فإنّ قیاسه زیارة قبور الاَنبیاء والصالحین على زیارة عامّة المساجد ، قیاس باطل خصوصاً بعد أن عرفنا عدم جدوى السفر إلى شیء من هذه المساجد العامة ، لعدم تحقق أی فائدة سوى تحمّل العناء والتعب ، وقد عرفت أنّ فضیلة أی جامع فی بلد هی نفسها فی بلدٍ آخر ، ولیس اکتساب الثواب متوقفاً على السفر ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ درک فضیلة قبر النبی یتوقف على السفر إلیه .
وأما قوله : «إنَّ المسلمین یتخذون قبور الاَولیاء أوثاناً وأعیاداً ، ویُشْرَک بها» فهذا افتراء کبیر على المسلمین الموحّدین ، فکیف یکون مشرکاً من یشهد کل یوم بأن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وکیف یتخذ من یشهد بذلک قبر النبی صلى الله علیه وآله وسلم وثناً ؟ أما ما یصدر من الجهلة المتوهمین للعبادة بما قد یعدّ من الشرک ، فلیس بموقوف على هذه الاَماکن ، بل قد یصدر منهم أنفسهم فی بیت الله الحرام والمسجد النبوی أیضاً ! فلا یصحّ اتخاذه ذریعة للتحریم ، وإلاّ لوجب تحریم دخول المساجد کلّها لاَجل مایفعل أمثال هؤلاء ، بل وتحریم الحج نفسه ! وهذا باطل لا یقول به عاقل .
المصادر :
1- البقرة 2 : 196 .
2- السیرة النبویة ، لابن هشام 4 : 248 ـ 249 حجة الوداع .
3- سنن أبی داود 1 : 283 کتاب المناسک ، باب افراد الحج ، ط دار الکتاب العربی .
4- صحیح مسلم 4 : 48 ـ 49 کتاب الحج ، باب جواز التمتع .
5- سنن النسائی 5 : 153 .
6- جمع الجوامع ، للسیوطی 3 : 32 .
7- المحلى ، لابن حزم 7 : 107 . الجامع للاحکام ، للقرطبی 2 : 392 .
8- موطأ مالک 1 : 233 کتاب الحج رقم 60 ،/ . سنن الترمذی: کتاب الحج رقم 823 .
9- صحیح الترمذی 4 : 38 کتاب الحج باب المتعة بالحج والعمرة .
10- زاد المعاد ، لابن القیّم 1 : 215 .
11- مجمع الزوائد ، للهیثمی 3 : 246 نقلاً عن أحمد .
12- صحیح البخاری 3 : 58 باب فضل من قام رمضان رقم 2008 . صحیح مسلم 2 : 176
13- الفقیه ، للصدوق 2 : 87 | 1 باب 45 الصلاة فی شهر رمضان .
14- تهذیب الاحکام ، للطوسی 3 : 61 | 208 باب فضل شهر رمضان والصلاة فیه .
15- صحیح البخاری 3 : 58 باب فضل من قام رمضان، ونحوه 2 : 63 باب التهجد باللیل . صحیح مسلم 6 : 41 .
16- کنز العمّال ، لعلاء الدین الهندی 8 : 384 | 23363 .
17- المغنی ، لموفق الدین بن قدامة 1 : 800 .
18- صحیح البخاری 3 : 58 . وموطأ مالک : 73 .
19- کنز العمّال ، لعلاء الدین الهندی 8 : 409 | 23471 .
20- صحیح البخاری 3 : 58 باب فضل من قام رمضان | 2010 .
21- الطبقات الکبرى ، لابن سعد 3 : 281 .
22- الاستیعاب 3 : 1145 رقم 1878 .
23- روضة المناظر کما فی النص والاجتهاد ، للسید عبدالحسین شرف الدین الموسوی : 250 .
24- الاعتصام ، للشاطبی 1 : 291 .
25- نصب الرایة ، للزیلعی 2 : 154 .
26- شرح نهج البلاغة ، لابن أبی الحدید 12 : 283 .
27- التهذیب ، للطوسی 3 : 70 | 227 .
28- الکافی ، للکلینی 8 : 51 ـ 52 .
29- اُنظر الفقه على المذاهب الخمسة ، للشیخ محمد جواد مغنیه : 78 .
30- الشرح الکبیر على المغنی ، لابن قدامة المقدسی 1 : 775 . والفقه على المذاهب الاربعة ، لعبدالرحمن الجزیری 1 : 332 . وفقه السُنّه 1 : 185 . وزاد المعاد ، لابن قیّم الجوزیة 1 : 116 ـ 119 . ونیل الاوطار ، للشوکانی 3 : 62 .
31- التاج الجامع للاُصول 1 : 321 .
32- زاد المعاد 1 : 260 .
33- نیل الاوطار 3 : 64 .
34- صحیح البخاری 2 : 73 طبعة مؤسّسة التاریخ العربی ـ بیروت .
35- زاد المعاد 1 : 268 .
36- موطأ مالک 1 : 112 .
37- لسان العرب ، مادة هجر .
38- مسند أحمد 2 : 446 .
39- فقه السُنّة 1 : 185 .
40- زاد المعاد 1 : 266 .
41- راجع حول الاحادیث الموضوعة ورواتها ، زاد المعاد 1 :264 - 266 ـ 267 .
42- صحیح البخاری 2 : 73 طبعة مؤسّسة التاریخ العربی ـ بیروت .
43- صحیح البخاری 2 : 73 . ومسند أحمد 6 : 209 .
44- زاد المعاد 1 : 264 .
45- صحیح البخاری 2 : 73 .
46- مسند أحمد 5 : 45 .
47- صحیح البخاری 3 : 3 باب العمرة .
48- رسائل الشریف المرتضى 1 : 221 .
49- الخلاف ، موسوعة الینابیع الفقهیة 28 : 220 .
50- بحار الانوار 80 :155 ، 158 .
51- الحدائق الناضرة 6 : 77 .
52- المواسم والمراسم، لجعفر مرتضى العاملی : 53 عن کتاب السنن والمبتدعات : 138 ـ 139.
53- الدر المنثور 3 : 28 ـ 29 عن : سعید بن منصور ، وابن أبی شیبة ، وابن جریر .
54- صحیح البخاری 2 : 10 باب الاَذان یوم الجمعة .
55- المواسم والمراسم ، لجعفر مرتضى العاملی : 53 / کتاب السنن والمبتدعات : 138 ـ 139 .
56- المدخل ، لابن الحاج 2 : 2 .
57- صحیح مسلم بشرح النووی 15 : 180 من کتاب (فضائل الصحابة) باب فضائل علی بن أبی طالب 4 : 1873 .
58- سنن الترمذی : 622 | 3789 تحقیق أحمد محمد شاکر .
59- المواسم والمراسم ، لجعفر مرتضى العاملی : 62 / (التوسل بالنبی وجهلة الوهابیین : 114) .
60- کی لا نمضی بعیداً عن احتیاجات العصر ، لسعید حوّى . السیرة بلغة الحب والشعر : 42 .
61- اقتضاء الصراط المستقیم ، لابن تیمیة : 304 .
62- السیرة النبویة ، لابن هشام 4 : 154 ـ 155 - 318
63- صحیح مسلم 3 : 65 باب استئذان النبی ربّه فی زیارة قبر أُمّه .
64- الغدیر ، للامینی 5 : 93 -98 -100عن أکثر من أربعین راویاً من أئمة المذاهب الاَربعة .
65- الصارم المنکی فی الرد على السبکی ، للمقدسی : 7 ، ط1 ، القاهرة ، المطبعة الخیریة.
66- صحیح مسلم 4 : 126 / . سنن أبی داود 1 : 469 / سنن النسائی 2 : 37 ـ 38 مع شرح السیوطی .
67- صحیح مسلم 4 : 126 / سنن أبی داود 1 : 469 کتاب الحج . سنن النسائی 2 : 37 ـ 38 مع شرح السیوطی .
68- شفاء السقام فی زیارة خیر الانام ، للسبکی : 100 .
69- الاحکام السلطانیة ، للماوردی : 105 .
70- المدخل ، لابن الحاج 1 : 257 فضل زیارة القبور .
71- شرح المواهب ، للزرقانی المالکی المصری 8 : 299 .
72- احیاء علوم الدین ، للغزالی 2 : 247 کتاب آداب السفر ، طبعة دار احیاء التراث العربی ـ بیروت .
73- البدعة ، للدکتور عبدالملک السعدی : 60 .
74- الفتاوى ، لابن تیمیة . البدعة ، للدکتور عبدالملک السعدی .



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.