یطول بنا المقام حین نحاول استقصاء دور أئمة أهل البیت علیهم السلام فی مواجهة البدع ومحدثات الاَمور والضلالات التی نشأت منذ أول یوم ارتحل فیه رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم إلى الملاَ الاَعلى ، فقد کانوا وخلال مختلف الاَدوار التی مرّت بها الاُمّة الملاذ والمنهل الذی یجد عنده الصادی الرواء، والمتعطش للعلم والمعرفة ما یروی به حبّه للعلم من مصادره الاَصیلة الحیّة المتصلة برسول الله صلى الله علیه وآله وسلم .
إنّ فی حیاة أمیر المؤمنین علی علیه السلام ومواقفه قبل خلافته وتسلّمه العملی للسلطة وفی حیاة ابنه الامام الحسن علیه السلام والامام الحسین علیه السلام وبقیة الاَئمة الطاهرین آیات باهرات من المواقف التی بقیت خالدة على مرَّ التاریخ . لکننا مع ذلک نکتفی ـ وانسجاماً مع طبیعة الاختصار فی هذا البحث ـ بإیراد مجموعة من النصوص الواردة عنهم علیهم السلام والتی عالجت أو تصدّت لبدعة محدثة من الاَمور لیست من الدین فی شىء ، وسوف نوزع تلک النصوص الشریفة على موضوعاتها المتعلقة بها تیسیراً للتناول .
أولاً : الجبر والتفویض :
من المقولات المحدثة فی هذه الاُمّة مقولة الجبر التی روّج لها الاَمویون لتثبیت سلطانهم ، وتبنّتها طائفة من المسلمین ، الاَمر الذی دعا إلى ظهور مقولة مضادة تقف فی الطرف الآخر منها ، وهی مقولة التفویض المطلق التی قال بها المعتزلة ، وطال النزاع الکلامی بین أصحاب المقولتین ، فکان لکلِّ منها أتباع یروّجون لها ، فکانتا سبباً فی اضطراب عقیدی کبیر وفتن واسعة ، فتصدى أئمة أهل البیت علیهم السلام للمقولتین معاً ، فی دور طویل من الکفاح فی دفع الشبهات ، وهدایة الناس إلى المحجة البیضاء والصراط المستقیم ، ومن کلماتهم علیهم السلام فی هذین المقولتین :
1 ـ عن الاِمامین الباقر والصادق علیهما السلام قالا : « إنَّ الله عزَّ وجل أرحم بخلقه من أن یجبر خلقهُ على الذنوب ثم یعذبهم علیها ، والله أعزّ من أن یرید أمراً فلا یکون قالَ فسُئلا علیهما السلام : هل بین الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا : نعم ، أوسع مما بین السماء والاَرض» (1).
2 ـ عن أبی عبدالله الصادق علیه السلام قال : «الله تبارک وتعالى أکرم من أن یکلّف الناس ما لا یطیقونه ، والله أعزّ من أن یکون فی سلطانه ما لا یرید »(2) .
3 ـ عن أبی عبدالله الصادق علیه السلام أنّه قال : «إنّ الناس فی القدر على ثلاثة أوجه ، رجل یزعم أنَّ الله عزّ وجل أجبر الناس على المعاصی ، فهذا قد ظلم الله فی حکمه فهو کافر ، ورجل یزعم أنَّ الاَمر مفوّض الیهم ، فهذا قد أوهن الله فی سلطانه فهو کافر ، ورجل یزعم أنَّ الله کلّف العباد ما یطیقون ولم یکلّفهم ما لا یطیقون ، وإذا أحسن حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ..» (3).
4 ـ عن محمد بن عجلان قال : قلتُ لاَبی عبدالله علیه السلام : فوَّض الله الاَمر إلى العباد ؟ فقال : «الله أکرم من أن یفوّض إلیهم ، قلتُ : فأجبر الله العباد على أفعالهم ؟ فقال : اللهُ أعدل من أن یجبر عبداً على فعلٍ ثم یعذّبه علیه »(4) .
5 ـ عن أبی الحسن الرضا علیه السلام ، وقد ذُکر عنده الجبر والتفویض ، فقال علیه السلام : «ألا أعطیکم فی هذا أصلاً لا تختلفون فیه ، ولا تخاصمون علیه أحداً إلاّ کسرتموه ؟ قلنا : إنّ رأیت ذلک ، فقال علیه السلام : إنّ الله عزَّ وجل لم یُطَع باکراه ، ولم یُعصَ بغلبة ، ولم یُهمل العباد فی ملکه ، هو المالک لما ملکهم ، والقادر على ما أقدرهم علیه ، فإن ائتمر العبادُ بطاعته لم یکن الله عنها صادّاً، ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصیته فشاء أن یحول بینهم وبین ذلک فعل ، وإن لم یحل وفعلوه ، فلیس هو الذی أدخلهم فیه ـ ثم قال علیه السلام ـ من یضبط حدود هذا الکلام فقد خَصَم من خالفه» (5).
ثانیاً : القیاس والرأی :
من المقولات الحادثة ما اعتمد أصلاً فی فهم الشریعة واستنباط الاَحکام الشرعیة ، کالقیاس والرأی ، فما هو موقف أهل البیت علیهم السلام من هذا الاَمر ؟
1 ـ عن أبی عبدالله الصادق علیه السلام قال : «إنّ أصحاب المقائیس طلبوا العلم بالمقائیس ، فلم تزدهم المقائیس من الحق إلاّ بعداً ، وإنَّ دین الله لایُصاب بالمقائیس» (6).
2 ـ وعن أبی جعفر الباقر علیه السلام أنّه قال : إنَّ السُنّة لا تُقاس ، وکیف تُقاس السُنّة ، والحائض تقضی الصیام ولا تقضی الصلاة (7).
3 ـ عن سعید الاَعرج قال : قلتُ لاَبی عبدالله علیه السلام : إنَّ من عندنا من یتفقّه یقولون : یرد علینا ما لا نعرفه فی کتاب الله ، ولا فی السُنّة ، نقول فیه برأینا؟ فقال أبو عبدالله علیه السلام : «کذبوا ، لیس شیء إلاّ وقد جاءَ فی الکتاب، وجاءت فیه السُنّة» (8).
4 ـ وعن عثمان بن عیسى قال : سألت أبا الحسن موسى علیه السلام عن القیاس ، فقال : « مالکم والقیاس ، إنَّ الله لا یُسأل کیف أحلَّ وکیف حرّم»(9) .
5 ـ عن أمیر المؤمنین علی علیه السلام قال : «من نصب نفسه للقیاس لم یزل دهره فی التباس ، ومن دان الله بالرأی لم یزل دهره فی ارتماس» (10).
6 ـ وعن أبی جعفر الباقر علیه السلام أنّه قال : « من أفتى الناس برأیه ، فقد دانَ اللهَ بما لا یعلم ، ومَنْ دانَ اللهَ بما لا یعلم ، فقد ضادَّ الله حیثُ أحلَّ وحرَّم فیما لایعلم» (11) .
ثالثاً : التشبیه والتجسیم :
من أخطر ما وقعت به بعض طوائف المسلمین عقیدتا التشبیه والتجسیم الصادرتان عن قصور فی الفهم وجمود فی الفکر ، فنسبت إلى الله تعالى صفات الاَجسام المحدودة والاَحیاء المخلوقة ، فکان لاَئمة أهل البیت علیهم السلام دورهم المناسب فی کشف خطأ هاتین المقولتین ، وإرشاد المسلمین إلى الفهم الصحیح المنسجم مع عظمة الله تعالى وقدسیته :
1 ـ عن أمیر المؤمنین علی علیه السلام أنّه قال فی صفته سبحانه وتعالى : «... ومن قال : أین ، فقد أخلى منه ، ومن قال : إلى مَ فقد وقتَّه» (12).
2 ـ وعن علی بن موسى الرضا علیه السلام أنّه قال فی وصفه جلّ شأنه : «من شبّه الله بخلقه فهو مشرک ، ومن وصفه بالمکان فهو کافر..» (13).
3 ـ جاء یهودی إلى أمیر المؤمنین علی علیه السلام فقال : یا أمیر المؤمنین متى کان ربُّنا ؟ فقال له علیه السلام : «إنما یقال : متى کان لشیء لم یکن فکان ، وربُّنا تبارک وتعالى هو کائن بلا کینونة کائنٍ ، کان بلا کیف یکون ، کائن لم یزل بلا لم یزل ، وبلا کیف یکون ، کان لم یزل لیس له قبل، هو قبل القبل بلاقبل وبلا غایةٍ ولا منتهى ، غایةٌ ولا غایة إلیها ، غایةٌ انقطعت الغایات عنه، فهو غایة کلِّ غایة» (14).
4 ـ روی عن العباسی أنّه قال لاَبی الحسن علیه السلام : جعلتُ فداک أمرَنی بعض موالیک أن أسألک عن مسألةٍ ، قال علیه السلام : «ومن هو ؟ قلتُ : الحسن
بن سهل ، قال علیه السلام : فی أیِّ شیءٍ المسألة ؟ قلتُ : فی التوحید ، قال علیه السلام : وأیُّ شیء من التوحید ؟ قلتُ : یسألک عن الله جسم أو لا جسم ، فقال لی علیه السلام : إنَّ للناس فی التوحید ثلاثة مذاهب ، مذهب إثبات بتشبیه ، ومذهب النفی ، ومذهب إثبات بلا تشبیه ، فمذهب الاثبات بتشبیه لا یجوز ، ومذهب النفی لا یجوز، والطریق فی المذهب الثالث إثبات بلا تشبیه» (15).
5 ـ وروی عن علی بن محمد وعن أبی جعفر الجواد علیهما السلام إنّهما قالا : « من قال بالجسم فلا تعطوه من الزکاة ، ولا تصلّوا وراءه» (16).
1 ـ الوجه :
عن أبی حمزة قال قلتُ لاَبی جعفر علیه السلام قول الله عزَّ وجل : ( کُلُّ شَیءٍ هَالِکٌ إلاَّ وَجْهَهُ ) ؟ فقال علیه السلام : «فیهلک کل شیء ویبقى الوجه ؟ إنَّ الله عزَّ وجلَّ أعظم من أنْ یوصف بالوجه ولکن معناه : کلّ شیء هالک إلاّ دینه ، والوجه الذی یؤتى منه» (17).2 ـ الیدان :
عن محمد بن مسلم قال : سألتُ أبا جعفر علیه السلام فقلتُ : قوله عزَّ وجلَّ : (یَاإبلِیسُ مَا مَنَعَکَ أن تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِیَدَی ) (18)، فقال علیه السلام : «الیدُ فیکلام العرب القوة والنعمة ، قال : ( واذکُر عَبْدَنَا دَاوودَ ذَا الاَیْدِ ) (19)وقال : (والسَّماءَ بَنَیْنَاهَا بِأیدٍ ) (20)، أی بقوة ، وقال : ( وَأیَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنه ) (21)، أی : قوّة ، ویُقال : لفلان عندی أیادی کثیرة ، أی فواضل وإحسان ، وله عندی ید بیضاء ، أی : نعمة» (22).
وعن محمد بن عبیدة قال : سألت الرضا علیه السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ لابلیس: ( ما مَنَعَکَ أنْ تَسجُدَ لِما خَلَقْتُ بِیَدَی ) ، فقال علیه السلام : «یعنی بقدرتی وقوتی» (23).
عن سلیمان بن مهران قال : سألتُ أبا عبدالله علیه السلام عن قوله عزَّ وجلَّ : (والاَرضُ جَمِیعاً قَبضَتُهُ یَومَ القِیَامَةِ ) (24)، فقال علیه السلام : «یعنی ملکه، لایملکها معه أحد ، والقبضُ من الله تبارک وتعالى فی موضع آخر : المنع ، والبسط منه: الاعطاء والتوسیع ، کما قال عزَّ وجل : ( واللهُ یَقْبِضُ وَیَبسُطُ وإلیهِ تُرْجَعُونَ) (25)، یعنی : یعطی ویوّسع ، ویمنع ویضیِّق ، والقبض منه عزَّ وجلَّ فی وجه آخر : الاَخذُ ، والاَخذُ فی وجهٍ : القبول منه کما قال : (ویَأخُذُ الصَّدَقَاتِ ) (26)، أی : یقبلها من أهلها ویثیب علیها ، قال : قلتُ : فقوله عزَّ وجلَّ : ( والسَّمَواتُ مَطوِیَّاتٌ بِیَمِینِهِ ) ؟ فقال علیه السلام الیمین الید ،
والید : القدرة والقوة : یقول الله عزَّ وجلَّ : والسموات مطویات بقدرته وبقوته ، سبحانه وتعالى عما یُشرکون» (27).
3 ـ الاستواء :
عن عبدالرحمن الحجاج ، قال : سألتُ أبا عبدالله علیه السلام عن قول الله تعالى: ( الرَّحَمنُ عَلَى العَرشِ استَوَى ) ، فقال علیه السلام : «استوى فی کلِّ شیء، فلیس شیء أقرب إلیه من شیء ، لم یبعد منه بعید ، ولم یقرب منه قریب ، استوى فی کلِّ شیء...» (28).4 ـ الغضب والرضا :
من الحوار الذی دار بین أبی قرّة المحدّث صاحب شبرمة وبین الامام الرضا علیه السلام . قال أبو قرّة للاِمام علیه السلام : .. أفتکذّب بالروایة : (إنَّ الله إذا غضب إنَّما یعرف غضبه الملائکة الذین یحملون العرش ، یجدون ثقله على کواهلهم ، فیخرّون سجداً ، فإذا ذهب الغضب ، خفَّ فرجعوا إلى مواقفهم) ؟ فقال أبو الحسن علیه السلام : «أخبرنی عن الله تبارک وتعالى منذ لعن ابلیس إلى یومک هذا وإلى یوم القیامة غضبان هو على ابلیس وأولیائه ، أو راضٍ عنهم ؟ فقال : نعم هو غضبان . قال علیه السلام : فمتى رضی فخفَّ ، وهو فی صفتک لم یزل غضباناً علیه وعلى أتباعه ؟ ـ ثم قال علیه السلام ـ ویحک ! کیف تجتریءُ أن تصفَ رَّبکَ بالتغیّر من حالٍ إلى حال ، وإنّه یجری علیه مایجری على المخلوقین ؟! سبحانه لم یزل مع الزائلین ، ولم یتغیر مع المتغیّرین». قال صفوان : فتحیّر أبو قرّة ولم یحر جواباً حتى قاموخرج(29)0.
رابعاً : نفی الرؤیة :
والقول برؤیة الله تعالى یوم القیامة هو واحد من نماذج القصور فی الفهم التی وقع فیها أصحاب التشبیه وغیرهم ، فلننظر إلى دور أهل البیت علیهم السلام فی تصحیح الاعتقاد فی هذه الناحیة أیضاً :
1 ـ عن عبدالله بن سنان عن أبیه قال : حضرتُ أبا جعفر علیه السلام فدخل علیه رجل من الخوارج فقال له : یا أبا جعفر أیَّ شیء تعبد ؟ قال علیه السلام: « الله ، قال : رأیته ؟ قال علیه السلام : لَمْ تره العیون بمشاهدة العیان ، ولکن رأته القلوب بحقائق الایمان ، لا یُعرف بالقیاس ، ولا یُدرک بالحواس ، ولا یشبه الناس ، موصوف بالآیات ، معروف بالعلامات ، لا یجور فی حکمه ، ذلک الله لا إله إلاّ هو»، قال : فخرج الرجل وهو یقول : اللهُ أعلم حیثُ یجعل رسالته (30) .
2 ـ عن أحمد بن اسحاق ، قال : کتبتُ إلى أبی الحسن الثالث علیه السلام أسأله عن الرؤیة وما فیه الناس ، فکتب علیه السلام : «لا یجوز الرؤیة ما لم یکن بین الرائی والمرئی هواءٌ ینفذهُ البصر ، فإذا انقطع الهواء وعُدم الضیاء بین الرائی والمرئی لم تصح الرؤیة ، وکان فی ذلک الاشتباه ، لاَنَّ الرائی متى ساوى المرئی فی السبب الموجب بینهما فی الرؤیة وجب الاشتباه ، وکان فی ذلک التشبیه لاَنَّ الاَسباب لا بدَّ من اتصالها بالمسببات» (31).
3 ـ وروی عن الاِمام علی بن موسى الرضا علیه السلام فی تفسیر قول الله عزَّ وجلَّ: ( وُجُوهٌ یَوْمَئذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (32)، قال : «یعنی مُشرقة تنتظر ثواب ربها» (33).
4 ـ عن أبی هاشم الجعفری قال : سألتُ أبا الحسن الرضا علیه السلام عن الله عزَّ وجل هل یوصف فقال علیه السلام: «... أما تقرأ قوله تعالى : ( لا تُدْرِکُهُ الاَبْصَارُ وَهُوَ یُدْرِکُ الاَبْصَارَ ) (34)قلتُ : بلى، قال علیه السلام : فتعرفون الاَبصار ؟ قلتُ : بلى ، قال علیه السلام : وما هی ؟ قلتُ : أبصار العیون، فقال علیه السلام : إنّ أوهام القلوب أکثر من أبصار العیون ، فهو لا تدرکه الاوهام وهو یدرک الاوهام»(35) .
خامساً : التصوّف والرهبنة :
1 ـ دخل أمیر المؤمنین علی علیه السلام على العلاء بن زیاد الحارثی ـ یعوده ـ فلما رأى سعة داره قال علیه السلام : «ما کنتَ تصنع بسعة هذه الدار فی الدنیا ، وأنت إلیها فی الآخرة کنت أحوج ؟ وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقری فیها الضیف ، وتصل فیها الرحم ، وتُطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة .فقال له العلاء : یا أمیر المؤمنین ، أشکو إلیک أخی عاصم بن زیاد ، قال علیه السلام : وما له ؟ قال : لبس العباءة وتخّلى عن الدنیا ، قال : علیَّ به ـ فلما جاء قال علیه السلام ـ یا عُدیَّ نفسه ! لقد استهام بک الخبیث ! أما رحمت أهلک وولدک ! أترى الله أحلَّ لک الطیبات ، وهو یکره أن تأخذها ! أنت أهون على الله من ذلک .
قال : یا أمیر المؤمنین ، هذا أنت فی خشونة ملبسک وجشوبة مأکلک ؟ قال علیه السلام : ویحک ، إنّی لستُ کأنت ، إنّ الله تعالى فرضَ على أئمة العدل أن یقدّروا أنفسهم بضعفةِ الناس ، کیلا یتبیّغ بالفقیر فقره» (36).
2 ـ عن علی بن جعفر قال : سألتُ أخی موسى علیه السلام عن الرجل المسلم هل یصلح له أن یسیح فی الاَرض أو یترّهب فی بیت لا یخرج منه ؟ قال علیه السلام : «لا» (37).
سادساً : مواجهة حرکة الغلاة :
لقد واجه أهل البیت علیهم السلام الغلاة وحاربوهم وأفسدوا إدعاءاتهم الباطلة بعدّة أسالیب منها : ـالاَول : البراءة منهم ولعنهم . فحین أظهر أبو الجارود بدعته ، تبرّأ منه الاِمام الباقر علیه السلام وسمّاه باسم الشیطان سرحوب ، مبالغة فی التنفیر منه (38).
ولعنه الاِمام الصادق علیه السلام ولعن معه کثیر النوّاء وسالم بن أبی حفصة ، فقال علیه السلام : «کذّابون مکذّبون کفار ، علیهم لعنة الله» (39).
وهکذا لعنوا المغیرة بن سعید ، وأبا الخطّاب ، وبیان وغیرهم ، ولمّا وقفوا على بدعة ابن کیّال تبرّأوا منه ولعنوه (40).
الثانی : التحذیر منهم وکشف أکاذیبهم . کلما ظهر رجل مغالی أبعدوه ولعنوه وتبرّأوا منه ، ثم أمروا شیعتهم بمنابذته وترک مخالطته (41)ثم نبّهوا الناس من أتباعهم ومن غیرهم إلى أنّ هؤلاء کذّابون یفترون على أهل البیت علیهم السلام الاَباطیل وینسبون إلیهم ما لم یقولوا به :
قال الاِمام الصادق علیه السلام : «کان المغیرة بن سعید یتعمّد الکذر على أبی ، ویأخذ کتب أصحابه ، وکان أصحابه المستترون بأصحاب أبی یأخذون الکتب من أصحاب أبی فیدفعونها إلى المغیرة ، فکان یدّس فیها الکفر والزندقة ویسندها إلى أبی ثم یدفعها إلى أصحابه ویأمرهم أن یبثّوها فی الشیعة ، فکلّ ما کان فی کتب أصحاب أبی من الغلوّ فذلک ما دسّه المغیرة ابن سعید فی کتبهم» (42).
ومن جانب آخر یبین الامام الصادق علیه السلام لشیعته الطریق الاَمثل لتشخیص أقوال المغالین من خلال عرض ما یأتیهم من أحادیث منسوبة لاَهل البیت علیهم السلام على الکتاب والسُنّة ومقارنتها بأحادیثهم المتقدمة فیقول علیه السلام : ـ «لاتقبلوا علینا حدیثاً إلاّ ما وافق القرآن والسُنّة ، أو تجدون معه شاهداً من أحادیثنا المتقدمة ، فان المغیرة بن سعید لعنه الله دسَّ فی کتب أصحاب أبی أحادیث لم یحدّث بها أبی ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علینا ماخالف قول ربّنا تعالى وسُنّة نبیّنا صلى الله علیه وآله وسلم فإنا إذا حدّثنا قلنا : قال الله عزَّوجلَّ ، وقال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم» (43).
فکان أصحابهم من ذوی البصیرة وذوی التحقیق یدّققون النظر فی کتب الحدیث ، فربّما تحسسّوا الدخیل فیها ، وربما عرضوها على الاَئمة أنفسهم فأثبتوا الصحیح منها وأسقطوا الدخیل .
یقول یونس بن عبدالرحمن : وافیت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبی جعفر علیه السلام ووجدت أصحاب أبی عبدالله علیه السلام متوافرین ، فسمعت منهم ، وأخذت کتبهم ، فعرضتها من بعدُ على أبی الحسن الرضا علیه السلام فانکر منها أحادیث کثیرة أن تکون من أحادیث أبی عبدالله علیه السلام وقال لی : «إن أبا الخطّاب (44)کذّب على أبی عبدالله علیه السلام لعن الله أبا الخطّاب، وکذلک أصحاب أبی الخطّاب ، یدسّون هذه الاَحادیث إلى یومنا هذا فی کتب أصحاب أبی عبدالله علیه السلام فلا تقبلوا علینا خلاف القرآن ، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السُنة إنّا عن الله وعن رسوله نحدّث ، ولا نقول قال فلان وفلان فیتناقض کلامنا ، إنّ کلام آخرنا مثل کلام أوّلنا، وکلام أوّلنا مصدّق کلام آخرنا ، فإذا آتاکم من یحدّثکم بخلاف ذلک فردّوه علیه وقولوا أنت أعلم وما جئت به ، فإنّ مع کلِّ قول منّا حقیقة وعلیه نوراً ، فما لا حقیقة معه ولا نور علیه فذلک من قول الشیطان» (45).
وکان ذوو الذوق السلیم والایمان الصحیح یتحسّسون ذلک أیضاً ، جاء أبو هریرة العجلی الشاعر إلى الاِمام الباقر علیه السلام فانشده :
أبا جعفر أنت الولیّ أحبّهُ * وأرضى بما ترضى به وأتابعُ
أتتنا رجالٌ یحملون علیکمُ * أحادیث قد ضاقت بهنَّ الاَضالعُ
أحادیث أفشاها المغیرةُ فیهمُ * وشرُّ الاُمورِ المُحدَثاتُ البدائعُ (46)
الثالث : الردّ على مقالاتهم الباطلة . لقد کان أولئک الغلاة یکذبون على أهل البیت علیهم السلام وکانوا یتحاشون ذلک ، فلما أراد ابن أبی العوجاء الزندیق أن یناظر الاِمام الصادق علیه السلام حذّره ابن المقفع ، وقال له : لا تفعل ، فإنّی أخاف أن یفسد علیک ما فی یدک (47).
وکان أهل البیت علیهم السلام إذا بلغتهم المقالة الفاسدة من الغلاة فیهم خاصة ردّوها جهرة وأثبتو للناس الحق الذی فی خلافها .
ادعى کثیر من الغلاة تألیه الاَئمة علیهم السلام ، أو حلول الروح الالهیة فیهم ، فکان من ردّهم على هذه الدعوى قول الاِمام الصادق علیه السلام : «لعن الله من ازالنا عن العبودیة لله الذی خلقنا وإلیه مآبنا ومعادنا وبیده نواصینا» (48).
وردّ الاِمام الصادق علیه السلام دعوى اولئک الذین قالوا : إنّ الله خلق الاَئمة ثم جعل بایدیهم الخلق والرزق ، إذ جاء نفر من أصحابه علیه السلام فقالوا له : (زعم أبو هارون المکفوف إنّک قلت له : إن کنت ترید القدیم فذاک لا یدرکه أحد ، وإن کنت ترید الذی خلق ورزق فذاک محمد بن علی ! یعنی الباقر علیه السلام ) .
فقال الاِمام الصادق علیه السلام : «کذب علیَّ ، علیه لعنة الله ، والله ما من خالق إلاّ الله وحده لا شریک له ، حقّ على الله أن یذیقنا الموت ، والذی لا یهلک هو الله خالق وبارىء البریة» (49).
1- التوحید ، للصدوق : 360 | 3 باب 59 .
2- التوحید ، للصدوق : 360 | 4 باب 59 .
3- التوحید ، للصدوق : 360 ـ 361 | 5 باب 59 .
4- التوحید ، للصدوق : 361 | 6 باب 59 .
5- التوحید ، للصدوق : 361 | 7 باب 59 .
6- اصول الکافی ، للکلینی 1 : 56 | 7 باب البدع والرأی والمقائیس .
7- المحاسن ، لابی جعفر البرقی 1 : 338 | 95 .
8- بحار الانوار ، للمجلسی 2 : 304 | 47 باب 34 .
9- اُصول الکافی ، للکلینی 1 : 57 | 16 باب البدع والرأی والمقائیس .
10- اُصول الکافی ، للکلینی 1 : 57 ـ 58 | 17 باب البدع والرأی والمقائیس .
11- اُصول الکافی ، للکلینی 1 : 58 | 17 باب البدع والرأی والمقائیس .
12- التوحید ، للصدوق : 57 | 14 باب 2 .
13- التوحید ، للصدوق : 69 | 25 باب 2 .
14- التوحید ، للصدوق : 77 | 33 باب 2 .
15- التوحید ، للصدوق : 100 ـ 101 | 10 باب 6 .
16- التوحید ، للصدوق : 101 | 11 باب 6 .
17- التوحید : 149 | 1 باب 12 .
18- ص 38 : 75 .
19- صَ 38 : 17 .
20- الذاریات 51 : 47 .
21- المجادلة 58 : 22 .
22- التوحید : 153 | 1 باب 13 .
23- التوحید : 153 ـ 154 | 2 باب 13 .
24- الزمر 39 : 67 .
25- البقرة 2 : 245 .
26- التوبة 9 : 104 .
27- التوحید : 161 ـ 162 | 2 باب 17 .
28- اُصول الکافی 1 : 128 | 8 باب الحرکة والانتقال .
29- الاحتجاج ، للطبرسی 2 : 379 | 285 .
30- التوحید ، للصدوق : 108 | 5 باب 8 .
31- التوحید ، للصدوق : 109 | 7 باب 8 .
32- القیامة 75 : 22 ـ 23 .
33- التوحید ، للصدوق : 116 | 19 باب 8 .
34- الانعام 6 : 103 .
35- التوحید ، للصدوق : 112 ـ 113 | 11 باب 8 .
36- نهج البلاغة : الخطبة 209 .
37- مسائل علی بن جعفر : 116 | 50 .
38- رجال الکشی 2 : 495 | 413 .
39- رجال الکشی 2 : 496 | 416 .
40- الملل والنحل ، للشهرستانی 1 : 161 ، وهو أحمد بن کیّال ، وأصحابه الکیّالیة ، من فرق الغلاة .
41- الملل والنحل ، للشهرستانی 1 : 161 . رجال الکشی 2 : 493 | 405 .
42- رجال الکشی 2 : 491 | 402 .
43- رجال الکشی 2 : 489 | 401 .
44- اختلفوا فی اسمه واشتهر بکنیته.. قال بعضهم : اسمه محمد ، وآخرون قالوا : اسمه زید وهو من الموالی ومن زعماء الغلاة فی عصر الاِمام الصادق علیه السلام .
45- رجال الکشی 2 : 489 ـ 491 | 401 .
46- عیون الاخبار ، لابن قتیبة 2 : 151 کتاب العلم والبیان .
47- الکافی ، للکلینی 1 : 74 | 2 کتاب التوحید .
48- رجال الکشی 2 : 489 | 400 .
49- رجال الکشی 2 : 488 | 398 . ولمزید من التفصیل راجع کتاب تاریخ الاِسلام الثقافی والسیاسی ـ مسار الاِسلام بعد الرسول ونشأة المذاهب ، للاُستاذ صائب عبدالحمید : 817 ـ 827 .
/ج