
العمارة نفسها دائما کان لها معنى مقدس فی جمیع الحضارات التقلیدیة خلال آلاف السنین، وبواسطتها حاول الإنسان أن یوفر لنفسه مظهر من مظاهر الجنة. العمارة الفارسیة رکزت دائما على الجمال، وبواسطه معانی الهندسة المقدسة, درسوا الفرس الأبعاد السماویة وعکسوها فی مقاسات مبانیهم على الأرض.
الطبیعة تظهر تفضیل عمیق لنسب معینة فی رسم أشکالها. هذه هی العلاقات الهندسیة التی الهمت نشأة الهندسة المقدسة. الرأی القائل بأن الهندسة کان أصلها من الطقوس الدینیة هو جزء من رؤیة أوسع نطاقا بأن الحضارة نفسها کان أصلها من الطقوس، وبالتالی فإن تاریخ استخدام الهندسة المقدسة من قبل الإنسان یعود إلى العدید من القرون السابقة.
الفیثاغورسیة التقلیدیة، المصریة والعلوم البابلیة من حیث استمدت، والریاضیات الفارسیة، التی هی جزء من الذی یعبر عن عقلانیة فیثاغورس، کلها تسند إلى مفهوم مقدس من الأرقام والرموز.
الأشکال الهندسیة مثل المثلث، المربع ومختلف المضلعات المنتظمة، اللولب والدائرة، ینظر إلیها بالمنظور التقلیدی کأرقام تقلیدیة، مثل الخصائص التعددیة للوحدة الواحدة.
الاستخدام الشامل للأبعاد النسبیة فی العمارة الفارسیة، مثل فی تصمیم الخطط (plans) والمرتفعات (elevations)، وهندسیة الأنماط المعماریة، والسمات المیکانیکیة والهیکلیة، یمکن أثباته من خلال التحلیل الهندسی للمبانی التاریخیة الفارسیة.
تمیزت العمارة الفارسیة على مر العصور بالتنوع فی جمیع المجالات الفنیة وقد حصلت علی مکانة مرموقة بین الشعوب وهنا نستعرض المراحله المختلفة عبر تاریخ إیران وبلاد فارس.
ماقبل الأخمینیین
بدأ الاستیطان فی إیران فی الألف الثامن ق.م فی سلسلة جبال زغروس، وبدأ فی کردستان الإیرانیة فی الألف السادس ق.م، ویدل على ذلک ماعثر علیه المنقبون من أوان فخاریة علیها رسوم مؤطرة بخطوط هندسیة ملونة لحیوانات وطیور، ومن تشکیلات لشخوص أنثویة وحیوانات من الصلصال المشوی. وفی الألف الخامس ق.م نُظِّم الری ورُوِّض الجاموس فی سهل خوزستان، وبدأت أعمال التعدین فی هضبة إیران المرکزیة، وفی الألف الخامس ق.م قامت دولة عیلام ومرکزها سوسة فی جنوب غربی البلاد، وفیها عُثر على رقم تحمل کتابة صوریة، وعلى منحوتات صغیرة وأختام أسطوانیة.ودلت الأوانی المصنوعة من حجر الطلق على علاقات کانت قائمة ما بین إیران وبلاد الرافدین، یضاف إلى ذلک أن إیران الألف الثالث ق.م کانت منطقة عبور اللازورد من أفغانستان إلى بلاد الرافدین، وأنها استوحت أوابدها تخلیداً لانتصاراتها من الفن الأکدی الرافدی، وأن الکتابة المسماریة الرافدیة حلت محل الکتابة العیلامیة فی إیران منذ نحو 2200 ق.م، وفی الألف الثانی ق.م بنى حاکم سوسة أنتاشی غال نحو 1200 ق.م قصراً ومعابد وزقورة ضخمة، أما العمارة فی الألف الأول ق.م فلم یبق منها سوى مقابر المیدیین الضخمة.
الأخمینیون
تعد الامبراطوریة الأخمینیة من أوسع دول الشرق القدیم انتشاراً، وقد ترعرع على امتداد هذه الامبراطوریة فنٌ نهل من حضارات الشعوب المجاورة ولاءم بین عناصرها الفنیة مثل : الثور الآشوری المجنح، والنحت الجداری الحثی والبابلی، والأشکال الفرعونیة الرمزیة، إضافة إلى تأثیرات الفن الإغریقی.
عمود حجری فی برسیبولیس
بدأ الأخمینیون بناء القصور منذ القرن السابع ق.م، وکانت مدینة باسارغاد التی أسسها قوروش الکبیر نحو سنة 550 ق.م، أول عاصمة أخمینیة، ویقوم نظام البناء فیها على مبدأ القاعة المعمدة ببابیها الرئیسین والثورین المجنحین، وفی الشمال الغربی لمدخل قصر قورش یقع قصر الجلوس والاستماع، وإلى جانبه یقوم قصر الاستقبال والحفلات، ومما یلفت النظر فی عمارة هذه المدینة ظهور العمود الأخمینی، ابتکار العمارة الإیرانیة الفذ، وهو عمود حجری مؤلف من بدن تحز محیطه قنوات شاقولیة، ویقوم على قاعدة ناقوسیة، ویحمل تاجاً مرکباً، وفی قسمه العلوی منحوتة على شکل مقدمتی حصانین أو ثورین ملتصقین. لم یبق من معبد بازرغاده، الذی أقیم على أرض مسوّرة، سوى مذبحی النار الخالدة، وقاعدة من ست درجات وجدار برج مربع. ویعد ضریح قورش الثانی العائد للقرن السادس ق.م من مبانی المدینة المهمة، ویقوم هذا الضریح على أرض مربعة محاطة بسور من الآجر، ویتألف من حجرة واحدة مسقوفة بجملون حجری، ویؤمه الزوار الیوم بوصفه «ضریح قوروش الکبیر».
أسس داریوس الأول عاصمته برسیبولیس فی أواخر القرن السادس ق.م، وسهر خلفاؤه على تجمیلها وتوسیع رقعتها. بنیت المدینة على منبسط مرتفع، ویُصعد إلیها بدرجین رئیسین عریضین ومزینین بمنحوتات بارزة تتناول موضوعات من حیاة الملک وعید النوروز، وقد نحتت مقبرتها الملکیة فی مرتفع صخری، ویعلوها نحت بارز یمثل مشهداً من حیاة الملک مع نص منقوش.
وعرفت الحقبة الأخمینیة أیضاً فنوناً تطبیقیة ذات قیمة عالیة تتمثل فی صحف وأوان وکؤوس من معدن ثمین مزخرفة ولها قبضات على أشکال حیوانات مختلفة، وفی تماثیل برونزیة صغیرة الحجم، وفی أسلحة مزخرفة وحلی وأختام أسطوانیة ورؤوس آدمیة من اللازورد.
برسبولیس
نقش رستم
البارثیون
بعد وفاة الاسکندر الکبیر سنة 323 ق.م اجتهد خلفاؤه بطبع المنطقة الواقعة تحت سیطرتهم بالطابع الهلّینی، ویدل على ذلک المنحوتات المجسمة التی عثر علیها فی «نمرود داغ» (کلخ حالیاً) فی سوریة، وفی جداریات موقع «کوه خواجه» فی إیران، وعند تولی الإیرانیین البارثیین السلطة بین سنتی 250 ق.م ـ 224 م دعوا إلى التمسک بالتقالید الفنیة الإیرانیة بمنأى عن الجمالیة الإغریقیة، وشیدوا مدینة نیزا عاصمتهم الأولى، وأقاموا قصراً ملکیاً ومعابد، وإلیهم تعود فکرة الإیوان المفتوح إلى الخارج والبیت المربع بفنائه المکشوف.توزع الفن البارثی فی إیران وخارجها (روسیة والهند والصین وسوریة ـ تدمر والصالحیة ـ والعراق)، وإن أهم مافی هذا الفن لجوؤه إلى التصویر الجبهی فی رسم الأشخاص لمنح النظرة الإنسانیة حضوراً ومن ثم استمراریة الحیاة.
الساسانیون
قلعة ساسانیة فی سروستان
تسلّم الساسانیون السلطة منذ الربع الثانی من القرن الثالث المیلادی، وبمقدمهم حل فی البلاد فن فارسی جدید یعد فنَّ عصرِ النهضة القومی الإیرانی، وفیه انتشرت القاعة المربعة التی تحمل قبة على أربعة عقود، وانتشر معها الإیوان والقبوة، وزینت المنشآت بالزخارف الجصیة.
قلعة أردشیر
بنی أردشیر الأول مؤسس السلالة الساسانیة عاصمته فیروزاباد فی النصف الأول من القرن الثالث المیلادی، على مخطط دائری، ونصب فی مرکز المدینة معبداً للنار، وبالقرب من العاصمة وعلى صخرة وسط مضیق نهری بنى قصراً محصنا أسماه «قلعة دختر» وعلى الجرف الصخری مشهد بالنحت البارز یخلد انتصار أردشیر على أرطبان البارثی، وعلى بعد مائة متر من المشهد السابق مشهد آخر یمثل الإله «أهورا مزدا» یتوج أردشیر.
وفی النصف الثانی من القرن الثالث المیلادی بنی شاهبور الأول خلیفة أردشیر، قصراً فی العاصمة الکبرى «طیسفون» (المدائن)، وقد عدت بعد الفتح الإسلامی من العجائب وصارت مکاناً للنزهة. وتخلیداً لانتصاره على «فالیریان» الامبراطور الرومانی سنة 260 بنى مدینة وقصراً سماهما «بیشابور»، وجعل مخطط المدینة شطرنجیاً ویحیط به سور وخنادق، وقد عثر المنقبون على قاعة کبیرة مربعة الشکل طول ضلعها 20 م وترتفع قبتها 25 م، والقاعة مزینة بزخارف جصیة ملونة بالأحمر والأصفر والأسود، کما عثر فی جوار القاعة على مشاهد فسیفسائیة أرضیة مرصوفة بالطریقة الإیرانیة الرومانیة. وترکت الحقبة الساسانیة أیضاً فنوناً تطبیقیة مهمة قوامها الأوانی والقواریر المعدنیة المزینة بمشاهد الصید والعری الأنثوی، ومن أهم تلک الأوانی ماتسمى واحدتها «آنیة سلیمان» وتصور ملکاً یجلس بجلال عاقد الساقین، کما اشتهرت فنون الخزف ذی البریق المعدنی والتطریز والسجاد والبسط، وقد ساعد موقع إیران على طریق الحریر فی نمو فن الحیاکة وتعدد ورشاته، وما فتئ تأثیر العمارة والفنون الساسانیة فی إیران نافذاً فی عمارة الحقبة الإسلامیة اللاحقة وفنونها.
الحقبة الإسلامیة (2 ـ 12 هـ/ 8 ـ 18 م)
سقطت الامبراطوریة الساسانیة بید المسلمین بعد معرکتی القادسیة وجلّونة سنة 16 هـ (637 م)، وأصبحت إیران جزءاً من البلاد الإسلامیة. ومع أن الوسط الحضاری الإیرانی منذ الفتح الإسلامی بقی محافظاً فی مجالی العمارة والفن على الهویة الناتجة من تلاقی الحضارات المختلفة التی مرَّت على إیران أو نشأت على أرضها وتمازجت خلال الحقب السابقة، فإن عبقریة الفکر الإسلامی قد أضفت على تلک الهویة طابعاً ممیزاً. وقد مرت إیران فی ظل الإسلام بأربع مراحل تواکبت معها أربعة طرز معماریة وفنیة هی على التوالی:ـ الطراز العباسی: من القرن الثانی الهجری إلى الخامس (8-11 م).
ـ الطراز السلجوقی: من القرن الخامس الهجری إلى السابع (11-13 م).
ـ الطراز الإیرانی المغولی والطراز التیموری: من القرن السابع الهجری إلى التاسع (13-15 م).
ـ الطراز الصفوی: من القرن العاشر الهجری إلى الثانی عشر (16-18 م).
العمارة والزخرفة
ساد الطراز العباسی الأقالیم الإسلامیة بعد أن انتقل مقر الحکم إلى بغداد فی القرن الثانی الهجری (8 م).غلب استخدام الآجر والجص فی المنشآت المعماریة من الطراز العباسی فی إیران وکانت سقوف المساجد محمولة على أعمدة خشبیة أو حجریة أو من الآجر أو محمولة على عقود.
من أهم المنشآت الإسلامیة التی ما تزال قائمة فی إیران، من تلک المرحلة، المسجد الجامع فی مدینة نایین الذی شُید فی القرن الرابع الهجری (10 م)، وقد زُیّن من الداخل بزخارف جصیة تشبه سابقتها فی سامراء، وله قبة مبنیة بالآجر.
وعُرف فی الطراز العباسی فی إیران، بدءاً من القرن الثالث الهجری (9 م)، العقد الإیرانی المدبب الذی أصبح من ممیزات العمارة الإسلامیة فی إیران.
أبراج فی قزوین (عهد سلجوقی)
واتصفت المنشآت المعماریة فی الحقبة السلجوقیة بالضخامة والاتساع وأعطیت أهمیة خاصة فیها للمداخل والبوابات المزخرفة وللقباب والقبوات. کما اتصف الطراز السلجوقی باستعمال التزیینات الجصیة المجسمة والملونة، ومنها ما کان على شکل أطر تحصر داخلها أشکالاً آدمیة أو حیوانیة معدلة، إلى جانب القاشانی الأزرق والأسود والفسیفساء.
ونشأت على ید السلاجقة المدارس الدینیة الملحقة بالمساجد، واحتوى مخططها المعماری صحناً مکشوفاً فیه «فسقیة» تحف بها الشجیرات والزهور وتشرف علیه قاعات مقببة کل قاعة منها ذات طبقتین، ومن القاعات ما هو مخصص لسکنى الطلبة والمدرسین.
أما الأضرحة من الطراز السلجوقی فمنها ما کان للأولیاء أو للأمراء، وهی مربعة الشکل أو أسطوانیة أو مضلعة ولکل منها قبة مستدیرة الشکل أو مخروطیة. أما جدران الأضرحة الخارجیة فهی مزینة بالزخارف الجصیة والمقرنصات والکتابة، أو یشکّل تنسیق الآجر المبنیة به زخرفة ممیزة.
ازدهرت عمارة المساجد فی زمن المغول فی إیران وشاع بناء مساجد تعلوها قبة ضخمة ویؤدی إلیها مدخل عال فخم، ومنها جامع «جوهر شاد» فی مدینة مشهد. کما استمر بناء الأضرحة فی عصر المغول فی إیران، ومنها ضریح إحدى بنات هولاکو فی مدینة مراغة، وهو برج مزین بالطوب المطلی بالمیناء وبالفسیفساء ویعلوه هرم مثمن، وضریح السلطان التیموری «الجایتو خدابنده» فی مدینة سلطانیة وفیه عقود وله قبة.
وازدهرت المدارس فی العصر التیموری فی إیران ومنها مدرسة «خردجرد» وقد بنیت سنة 849 هـ (1445 م)، وتحتوی على صحن مربع تحیط به إیوانات من طبقتین، وفی وسط کل جهة من الجهات الأربع إیوان کبیر عقده مدبب، وعلى جانبی المدخل منارتان أسطوانیتان مرتفعتان. ومنذ القرن التاسع الهجری (15 م) أصبح للمساجد فی إیران مئذنتان منفصلتان تحفان بالمدخل لا تستخدمان للآذان بسبب ارتفاعهما، بل یؤدی المؤذن مهمته على سطح المسجد.
أما أضرحة الأسرة التیموریة فی سمرقند فأبرزها ضریح تیمورلنک المسمى «جورمامیر» وقد بنی سنة 808 هـ (1405 م) على شکل برج مثمن الأضلاع علیه قبة مضلعة، ومزین بشریط من الکتابة الکوفیة من الآجر المطلی بالمیناء.
مسجد شاه (عهد صفوی)اصفهان
حدیقة أرم فی شیراز (عهد زندیة)
سی وسه بل (عهد صفوی)اصفهان
میدان نقش جهان (العهد الصفوی) اصفهان
العمارة الحدیثة والفن الحدیث فی إیران
ترجع جذور العمارة الحدیثة والفن الحدیث فی إیران إلى المرحلة الصفویة من الحقبة الإسلامیة، وخاصة إلى عهد الشاه عباس الثانی، وقد شمل التطور فی تلک المرحلة أسالیب العمارة والفنون التی کانت سائدة قبلها فی المرحلة التیموریة، وذلک أن إیران قد باشرت فی المرحلتین المذکورتین، التیموریة ثم الصفویة، الاتصال بأقطار شرقیة کالصین والهند من جهة وأقطار غربیة أوربیة کإیطالیة من جهة أخرى.
برج آزادی، طهران
العمارة والزخرفة المعماریة
وقد نهجت العمارة الحدیثة فی القرن العشرین فی إیران على أنها سارت باتجاه اتباعی تقلیدی فی المساجد والأضرحة یتبع تقلید العمارة الصفویة وزخرفتها کما فی مقام الإمام الخمینی قدس سره ومقام الشاه عبد العظیم ومسجد الشهداء، وکلها فی طهران، وضریح الشاعر العارف العطار النیسابوری فی نیسابور.وکذلک منشآت معماریة تخضع لمفاهیم العمارة الأوربیة الحدیثة وتتحلى باستلهام التراث الإیرانی واستخدام الجص والفسیفساء، مثل قوس النصر فی طهران ومتحف طهران والمجلس الإسلامی الاستشاری فی طهران، وحدیقة شازدة فی کرمان وجامعة کرمان وضریح الرسام کمال الملک فی نیسابور.
المصادر: تحقیق راسخون2014/ الموسوعة العربیة
/م