یعد المجتمع الدولی هذه المبادئ الثلاثة التی تناولتها المادة الاولی من إنجازات الإعلان العالمی لحقوق الإنسان، والتی تجد جذورها فی الثورة الفرنسیة ـ 1789 ـ التی رفعت هذه الشعارات الثلاثة، وکأن المبادئ الإنسانیة فی مجال حقوق الإنسان کانت قد بدأت مع الإعلان المذکور الذی أقر عام 1948.
لقد بلغ هذا الإجحاف حدا إلى درجة أن المستشرق المعروف الأستاذ روزنتال یزعم بأن "المسلمین فی العصر الوسیط ما کانوا یملکون مفهوما للحریة الإنسانیة وما شابهها للمفهوم الإغریقی"(1)
إن هذا القول مرفوض لیس بالرد من خلال السبق الزمنی للإسلام فی میدان حقوق الإنسان مما لا سبیل إلى إنکاره فقط، وإنما یرد بالتمیز الذی تناول خلاله الإسلام لمفاهیم کهذه.
فالدین الإسلامی ارتفع بهذه الحقوق من مرتبة التنظیر إلى صبها فی خانة الواجبات والضرورات التی عنى بها الدول والإنسان نفسه بحیث لا یحق له التنازل عن حقوقه لمکان وجوبها.
"فهذا الذی عرفته فکریة الحضارة الغربیة، حدیثا فی باب حقوق الإنسان، قد عرفته الحضارة الإسلامیة، بل ومارسته ـ قدیما ـ لا کمجرد حقوق للإنسان، وإنما کفرائض إلهیة وتکالیف وواجبات شرعیة، لا یجوز لصاحبها ـ الإنسان ـ أن یتنازل عنها أو یفرط فیها، أو یهمل لها حتى بمحض اختیاره إن هو أراد"(2)
من هذا المنطلق تجد الإمام الحسین (علیه السلام) یؤکد على هذه المبادئ لا من خلال القول فقط، وإنما یدعو إلیها، ویؤکد علیها، ویستشهد فی سبیلها.
أما الحریة فقد تقدم الحدیث عنها، وکیف کان الإمام الحسین (علیه السلام) یؤکد علیها، وینظر إلیها. أما المساواة فتجدها فی تعامل الحسین (علیه السلام) مع الناس على قدم المساواة بغض النظر عن الدین، أو المذهب، أو المهنة، أو غیر ذلک. فقد أعتق غلاما له جنى جنایة توجب الضرب، وأعتق جاریة حیته بطاقة ریحان.
لقد کان یضع خده الشریف على خد جون مولى أبی ذر الغفاری حین استشهد بین یدیه فی واقعة کربلاء الدامیة داعیا له "اللهم بیض وجهه، وطیب ریحه، واحشره مع الأبرار، وعرِّف بینه وبین محمد وآل محمد" (3)، ویضع خده الآخر على خد ولده علی الأکبر الذی قدمه کأول مقاتل بین یدیه من أهل بیته الشریف، واستشهد بین یدیه کذلک.
وأما الأخوة فتجدها فی عدم ترفعه على الآخرین، وذم التکبر على الناس والغرور. لقد تناول الإمام الحسین (علیه السلام) مبدأ الأخوة بالتفصیل فی قوله التالی: "الأخوان أربعة: فأخ لک وله، وأخ لک، وأخ علیک، وأخ لا لک ولا له.
فسأل عن معنى ذلک فقال: الأخ الذی هو لک وله فهو الأخ الذی یطلب بإخائه بقاء الإخاء ولا یطلب بإخاءه موت الإخاء، فهذا لک وله، لأنه إذا تم الإخاء طابت حیاتهما جمیعا، وإذا دخل الإخاء فی حال التناقض بطل جمیعا. والأخ الذی هو لک: فهو الأخ الذی قد خرج بنفسه عن حال الطمع إلى حال الرغبة، فلم یطمع فی الدنیا إذا رغب فی الإخاء، فهذا موفر علیک بکلیته. والأخ الذی هو علیک: فهو الأخ الذی یتربص بک الدوائر، ویغشى السرائر، ویکذب علیک بین العشائر، وینظر فی وجهک نظر الحاسد، فعلیه لعنة الواحد. والأخ الذی لا لک ولا له فهو الذی قد ملأه الله حمقا فأبعده سحقا، فتراه یؤثر نفسه علیک، ویطلب شحا ما لدیک"(4)
ملاحظة هامة:
على الرغم من أهمیة التفصیل الذی ورد فی الحدیث المتقدم عن الإمام الحسین (علیه السلام)، والذی یدل على الأهمیة التی یحتلها مبدأ الأخوة فی الدین الإسلامی، إلا أن هناک نقطة هامة قد لا یلتفت الإنسان إلیها بالقراءة الأولیة للحدیث.هذه الملاحظة تتمثل بنعت الإمام الحسین (علیه السلام) لجمیع من ذکر من الأصناف التی تناولها بنعت الأخوة علما أنه دعا على البعض منهم باللعن، وهذا یدل على مدى سمو هذا المبدأ فی الإسلام بحیث لم یشر الإمام الحسین (علیه السلام) إلى واحد ممن ذکر بالعداوة.
یجدر بالذکر أن الإعلان العالمی لحقوق الإنسان یتصف بصفة التداخل فی کثیر من مواده، بحیث تجد واحدا من المبادئ کالحریة على سبیل المثال یذکر فی أکثر من مادة، علیه قد نعرض عن تکرار الحدیث عن ذلک فیما لو تم تناوله فی فقرة سابقة.
التمییز العنصری:
نصت المادة الثانیة من الإعلان على التالی: "لکل شخص الحق فی کل الحقوق والحریات الموضحة فی هذا الإعلان، بدون تفرقة من أی نوع، مثل العنصر، اللون، الجنس، اللغة، الدین الرأی السیاسی أو أی رأی آخر، الأصل الوطنی أو الاجتماعی، أو الممتلکات، أو المیلاد، أو أی وضع آخر. وبالإضافة إلى ذلک لا یجب أن یکون هناک تمییز على أساس الوضع القضائی أو الدولی للدولة أو المنطقة التی ینتمی إلیها الشخص سواء کانت مستقلة أو تحت الوصایة أو لا تحکم نفسها بنفسها أو تحت أی قید آخر یحد من سیادتها على أراضیها".إذا لم یکن بالإمکان المقارنة بین مبادئ هذه المادة، والإمام الحسین (علیه السلام) من جمیع الوجوه باعتبارها دستورا تخاطب به الدول، والحکومات فی تعاطیها مع مبادئ حقوق الإنسان، على اعتبار أن الإمام الحسین (علیه السلام) لم یکن قد تسلم مقالید الدولة الإسلامیة، إلا أن المقارنة من بعض الوجوه ممکنة فی حدود تعاطی الإمام الحسین (علیه السلام) مع بعض تلک المبادئ من خلال حرکته الثوریة الإصلاحیة التی قام بها ضد الوضع الفاسد الذی کان متفشیا فی الدولة الإسلامیة حینها بما یهدد الإسلام برمته.
فعلى صعید المساهمة فی حرکة التغییر لم یکن الإمام الحسین (علیه السلام) قد قصر تلک الحرکة على فئة دون فئة من الناس، وإنما أشرک فیها الناس على اختلاف فئاتهم، بغض النظر عن دینهم، أو مذهبهم، أو الرأی السیاسی، أو الجنس، أو اللغة...إلخ.
لقد ساهم فی حرکته الرجل والمرأة فکانت هناک الشهیدات بین یدیه، والأبیض والأسود وما جون مولى أبی ذر رضوان الله علیهما ذو اللون الأسود إلا دلیل على ذلک، وکان المسلم والنصرانی فقد کان وهب شاب نصرانی حدیث عهد بالزواج استشهد مع الإمام الحسین (علیه السلام)، کان هناک الترکی إلى جانب العربی، "ثم خرج غلام ترکی مبارز، وکان قارئا للقرآن عارف بالعربیة، فقتل جماعة، فتحاشوه فصرعوه، فجاء الحسین (علیه السلام) فبکى ووضع خده على خده، ففتح عینیه ورآه فتبسم، ثم صار إلى ربه"(5)، وکان اسمه أسلم بن عمرو، کما شارک معه من کان على هوى أبیه علی ابن أبی طالب (علیه السلام)، ومن کان على هوى غیره ـ الاختلاف فی الرأی السیاسی ـ کزهیر بن القین (رض)، الذی کان على هوى عثمان بن عفان.
فالإمام الحسین (علیه السلام) لم یکن قد استبعد شخصا من تلک الفئات المختلفة بناء على مذهبه السیاسی، أو الدینی، أو لونه، أو قومیته، کما لم یقرب آخرا منه بناء على ما تقدم من الأسباب فیما لو کان متحدا معه فیها.
ولکن الواقع العالمی هل یکشف لنا صحة تلک المبادئ التی وردت فی المادة المذکورة؟
فالواقع المعاصر یکشف بما لا خلاف فیه عن أن تلک المبادئ وأمثالها لم تکن تعدو کونها حبرا على ورق فی ظل السیاسات الداخلیة، والدولیة متعددة المعاییر، والأسس، تلک الازدواجیة التی تکشفت، ووصلت ذروتها بعد الأحداث الدامیة التی طالت الولایات المتحدة الأمریکیة فی الحادی عشر من أیلول ـ سبتمبر ـ 2001.
حق الحیاة والأمن الشخصی:
تناولت المادة الثالثة من الإعلان حق الحیاة، والأمن الشخصی قائلة "لکل شخص الحق فی الحیاة، والحریة، وأمنه الشخصی".لیس هناک شیء وهبه الله تعالى للإنسان أقدس ولا أثمن من الحیاة، ولذا کان حق الحیاة أمرا مقدسا فی الشریعة الإسلامیة. ولکن لا قیمة للحیاة ما لم تتکلل بالأمن اللازم لأن یعیش الإنسان أسبابها بالقدر الذی یهبه الاستقرار المطلوب للإنسان کیما یقوم بأداء وظیفته فی الأرض، وظیفة الاستخلاف.
"فالحفاظ على الحیاة، وعلى العقل... وعلى الحریة، وعلى المشارکة فی الشؤون العامة ـ بالشورى والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ـ الخ.. الخ لیست مجرد حقوق للإنسان یباح له أن یتنازل عن أی منها إذا هو أراد، وإنما هی ـ جمیعها ـ فرائض إلهیة، وتکالیف شرعیة، وضرورات واجبة، وحتى ما تفرع عنها، وما استلزمت إقامته من الضرورات المدنیة، فإنها تکتسب وجوبها الشرعی من لزومها لإقامة العمران الدنیوی الذی بدونه لا قیام لنظام الدین"(6)
من هذا المنطلق تجد الإمام الحسین (علیه السلام) کان قد دافع عن حقه فی الحیاة فی قبال الموت الذی أراده له النظام الحاکم آنذاک، فلو أن الإمام الحسین (علیه السلام) کان قد وضع یده بید الظالم حینها لکان فی ذلک موته، فیزید کان یرید له العبودیة، والرق، کما یرید ذلک للناس، ولکنه یعلم أن العبودیة إنما هی موت لذا تجده یصف تلک الحالة بالقول: "ألا وإن الدعی ابن الدعی قد ترکنی بین السلة والذلة، وهیهات له ذلک منی، هیهات منا الذلة، أبى الله ذلک لنا، ورسوله، والمؤمنون، وحجور طهرت، وجدود طابت، أن یؤثر طاعة اللئام على مصارع الکرام"(7).
وقال أیضا: ولا أقر إقرار العبید.
لقد رفض الإمام وضع یده بید یزید، والتنازل عن حریته لأن الدین الإسلامی قد اعتبر "الرق بمثابة الموت، واعتبر الحریة إحیاء، وحیاة، فعتق الرقبة، أی تحریر الرقیق هو إخراج له من الموت الحکمی إلى حکم الحیاة، وهذا هو الذی جعل عتق الرقبة ـ إحیاءها ـ کفارة للقتل الخطأ، الذی أخرج به القاتل نفسا من إطار الأحیاء إلى عدادا الأموات، فکان علیه، کفارة عن ذلک، أن یعید الحیاة إلى رقیق بالعتق، والتحریر"(8).
فإذا کان رضوخ الإنسان للرق بمثابة موت وتنازل عن حق الحیاة، فکیف یمکن أن یقبل للإنسان فی الإسلام التنازل عن حیاته الحقیقیة؟
علیه نجد أن الإمام الحسین (علیه السلام) جسد تقدیسه للحیاة عملیا فی کربلاء حیث لم یرض من نفسه أن یموت میتة ذلیلة. فکان دفاعه ذلک عن حق الحیاة، وعن الحق فی الأمن الشخصی، والاجتماعی، فقد جنیت ثمار حرکته الإصلاحیة ببث روح الوعی بین المسلمین بحیث لم یعودوا قادرین على السکوت على تلک الانتهاکات الفظیعة، فتوالت الثورات التی اقتدت بثورته (علیه السلام).
یجدر بالذکر إن المادة الرابعة قد تناولت مسألة الرق بنوع من التفصیل، وتجارة الرقیق التی حاربها الدین الإسلامی بصورة تدریجیة، وقد تمت مناقشة هذه المسألة قبل قلیل وکیف اعتبر الإسلام الرق، والإقرار به بمثابة الموت.
أحکام القضاء، وحقوق السجین:
تضمن المواد من: 5 - 11 من الإعلان العالمی لحقوق الإنسان حقوق الإنسان فیما یتعلق بموقفه أمام القانون، والعدالة القضائیة، وحقوق المتهم وغیر ذلک من الحقوق التی تجب مراعاتها.فالمادة الخامسة تناولت عدم جواز تعرض الإنسان إلى التعذیب، والقسوة، والعقاب. والمادة السادسة تناولت موضوع الشخصیة القانونیة التی یجب أن یعترف القانون بها للإنسان. وکان موضوع المادة السابعة المساواة أمام القانون بین الناس بغض النظر عن انتمائهم. وأوردت المادة الثامنة حق الإنسان اللجوء إلى المحاکم المختصة لإنصافه فیما له من الحقوق قبال الدولة، أو الأفراد الآخرین. ومنعت المادة التاسعة الإقدام على اعتقال أی إنسان، واحتجازه احتجازا تعسفیا بدون مبرر لذلک الاحتجاز، والاعتقال. وأعطت المادة العاشرة الحق لکل إنسان فی محاکمة عادلة وفق القانون. أما المادة الحادیة العشرة فقد تناولت تفاصیل حقوق المتهم، وکونه بریء حتى تثبت إدانته، وحقه فی الدفاع عن نفسه، وکذلک تناسب العقوبة مع حجم الجرم المرتکب.
أما عدم جواز تعرض الإنسان إلى القسوة، والتعذیب فقد تجسدت بالرفق الذی کان الإمام الحسین (علیه السلام) یدعو إلیه نظریا، وعملیا فمن الأولى قوله (علیه السلام): "من أحجم عن الرأی وعییت به الحیل کان الرفق مفتاحه"(9). وتجسد الثانی ـ الرفق العملی ـ بسقایته لجیش الحر بن یزید الریاحی، وخیلهم على الرغم من أنهم إنما جاءوا لیجعجعوا به وینزلوه فی کربلاء، کما وتجسد ذلک ببکائه فی کربلاء وهو ینظر إلى جیش عمر بن سعد ابن أبی وقاص، وجوابه لأخته زینب حین سألت عن سبب بکاءه بأنه إنما یبکی لهؤلاء القوم لأنهم سیدخلون النار بسببی، فأی رفق هذا؟
أما الاعتراف بالشخصیة للآخرین فکیف لا یقر بذلک من یقدم روحه، وأهل بیته ضحایا لإنقاذ الناس من ظلم الطغاة؟ أما المساواة التی وردت فی المادة فقد تقدم الحدیث عن مبدأ المساواة عند الإمام الحسین (علیه السلام). وأما المحاکمات العادلة فإن الهدف الذی حدده الإمام الحسین (علیه السلام) لحرکته کاف فی إشارته لذلک حین کان یقول: "اللهم إنک تعلم إنه لم یکن ما کان منا تنافسا فی سلطان، ولا التماسا من فضول الحطام، ولکن لنرى المعالم من دینک، ونظهر الإصلاح فی بلادک، ویأمن المظلومون من عبادک، ویعمل بفرائضک وسنتک وأحکامک.."(10). المنعة بین الإعلان والإمام:
المنعة اصطلاح قانونی یطلق عادة للإشارة إلى الحصانة التی یمنحها القانون للمنزل، وللمکالمات، والمراسلات، وغیر ذلک من الأمور التی یجریها الإنسان. فالأصل فی ذلک أن الإنسان حر فی ممارسة هذا النوع من الحریات، "حریة السکن وحرمته، وحریة المراسلات. کما تدخل فیها الحریات العائلیة"(11)، بعیدا عن رقابة الآخرین ـ الدولة، أو الجهات، أو الأفراد ـ ما لم تکن هناک ضرورة أمنیة، أو قانونیة لممارسة رقابة استثنائیة على تلک الممارسات، کإن تمس بالأمن العام، أو أمن الأفراد.
"إن السکن کعنصر أساسی فی حمایة الحیاة العائلیة، والفردیة یمکن اختیاره، واستعماله بحریة من جهة، واعتباره حصینا inviolalble من جهة أخرى، وفیه یرى الفقهاء مظهرین للحریة الفردیة، ولها قیمة دستوریة، طالما أن الحق فی حصانة المسکن مقرر فی معظم دساتیر الدول . وأن کثیرا من الدول باستثناء الولایات المتحدة، والمملکة المتحدة تقرر جزاءات جنائیة على انتهاک حرمة السکن... وحرمة السکن لم تحمها القوانین، والدساتیر فحسب، بل إن الاتفاقات الدولیة، وإعلانات حقوق الإنسان قد أشارت لهذه الحمایة"(12)، کما هی الحال بالنسبة للمادة الثانیة عشرة من الإعلان العالمی لحقوق الإنسان التی نصت على التالی: "یجب ألا یتعرض أحد لتدخل تعسفی فی حیاته الخاصة، أو أسرته، أو منزله، أو رسائله، ولا لأیة هجمات على شرفه وسمعته، ولکل شخص الحق فی حمایة القانون ضد مثل هذا التدخل، أو الهجمات".
هذه الحقوق الشخصیة دعا إلیها الدین الإسلامی، وأکد على حمایتها من الانتهاک من خلال وضع عقوبات جزائیة على من ینتهک مثل هذه الحقوق، والحریات الشخصیة کما ودعا إلیها الإمام الحسین (علیه السلام) فی یوم عاشوراء، مؤکدا على حرمتها لا بالاستناد إلى الشرع فحسب، وإنما بالاستدلال علیها بالأعراف، والتقالید لمختلف الناس، ومذاهبهم بما یدل على أن هذا النوع من الحقوق إنما هو مما یتناسب مع الفطرة الإنسانیة، بغض النظر عن إقرار الشرائع، والقوانین لها، وعدم إقرارها.
لقد رفع الإمام الحسین (علیه السلام) صوته فی کربلاء معلنا حرمة هذا النوع من الحقوق الشخصیة حین خاطب جیش عمر ابن سعد داعیا إیاهم بالعودة إلى نداء الفطرة وإلى الأعراف، والعادات، والتقالید العربیة إن کانوا حقا ینتسبون إلى القومیة العربیة التی تحرم أعرافها انتهاک هذا النوع من الحریات، والحقوق، بل وتعتبر ذلک من أشنع الأمور التی تلصق بمن یمارس الانتهاک عارا یعقبه حتى فی ذریته.
فقد صاح الإمام الحسین (علیه السلام) بهم: "ویحکم یا شیعة آل أبی سفیان، إن لم یکن لکم دین، وکنتم لا تخافون المعاد، فکونوا أحرارا فی دنیاکم هذه، وارجعوا إلى أحسابکم إن کنتم عربا کما تزعمون فناداه شمر ما تقول یا ابن فاطمة؟
قال أقول: أنا الذی أقاتلکم، وتقاتلونی، والنساء لیس علیهن جناح، فامنعوا عتاتکم، وطغاتکم عن التعرض لحرمی"(13).
ثم أن غیرة الإمام الحسین (علیه السلام) لم تکن لتسمح له بمشاهدة هذا المنظر الذی یندى له جبین الإنسانیة لذا قال لهم: "رحلی لکم عن ساعة مباح، فامنعوه جهالکم، وطغاتکم، وکونوا فی الدنیا أحرارا إن لم یکن لکم دین"(14).
حریة الحرکة والإقامة فی أی مکان:
تناولت المادة الثالثة عشر من الإعلان العالمی لحقوق الإنسان مسألة المحل الذی یتخذه الإنسان للإقامة فیه، وحریة التنقل له أین، ومتى شاء من خلال النص التالی:"1ـ لکل شخص الحق فی حریة الحرکة والإقامة فی حدود کل دولة
2ـ لکل شخص الحق فی مغادرة أیة دولة بما فیها دولته، وأن یعود إلى دولته"
المشکلة التی یعانی منها الآن الإعلان العالمی لحقوق الإنسان هو أنه فاقد لعنصر الإلزام اللازم لکل قاعدة قانونیة لکی یضفی علیها الصفة القانونیة، کی یمکن التعامل معها على أنها قانون یترتب علیه جزاء، أو تعویض عند الاختراق والمخالفة. وفقدان عنصر الإلزام هو الذی أفقد الإعلان العالمی تلک الهیبة التی تلزم من یخضع لقواعده ضرورة الانصیاع لأحکامه وتطبیقها. خلاصة القول هی أن الإعلان العالمی لم تکن قواعده لتعدو حدود الورق فی أغلب الأحیان، وقلما یخلو بلد من بلدان العالم لانتهاکات قواعده، إن لم یکن ذلک تجاه مواطنیه، فإزاء الأجانب، أو الأقلیات على أقل التقدیرات.
فی قبال ذلک تجد فی الإسلام اقتران التشریع بالعمل، والإلزام فیما یتعلق بحقوق الناس، والنظام العام وهو ما أضفى على مبادئ حقوق الإنسان الهیبة اللازمة. على أنه إذا کانت هناک انتهاکات قد سجلت فی بعض مراحل التاریخ فإن ذلک لا یمکن حسابه على الإسلام فی شیء، وذلک للانحراف الکبیر الذی حصل بعد دولة الرسول (صلى الله علیه وآله)، ودولة الإمام علی (علیه السلام).
ثم إن ما أکسب مبادئ حقوق الإنسان فی الإسلام تلک الدروس العملیة التی قام بها البعض، والتی ضحوا بأنفسهم من أجل إقامتها، کتلک الدروس العملیة التی قدمها لنا الإمام الحسین (علیه السلام)، فکان لها ـ على مر العصور ـ أبلغ الأثر فی النفوس، لا فی نفوس المسلمین حسب، بل فی نفوس غیر المسلمین الذین لم یعودوا قادرین على إخفاء إعجابهم بتلک الدروس العملیة، کما أثر عن محرر الهند المهاتما غاندی قوله: "تعلمت من الحسین بن علی کیف أکون مظلوما فأنتصر".
ففی مجال حق الإنسان فی اختیار المحل الذی یناسبه من أرض الله الواسعة، وحریة التنقل فیها، کان للإمام الحسین (علیه السلام) دوره فی الدعوة العملیة إلیها.
فعلى الرغم مما أشار به البعض من أصحاب الإمام علیه بأن یتوجه إلى جبال الیمن فإنه أبى ذلک لیس حبا فی القتال، ولا إلقاء لنفسه فی التهلکة کما یحلو للبعض تسمیته، بل من منطلق وعیه السیاسی الذی أدرک من خلاله بأن یزیدا لیس بتارکه ما لم ینزل على حکمه، ویمد یده له بالبیعة.
وفعلا تحقق ذلک حیث أمر یزید بن معاویة أزلامه بأن یقتلوا الإمام الحسین (علیه السلام) وإن کان متعلقا بأستار الکعبة، فهل سترد جبال الیمن بأس أولئک الطغاة عنه یا ترى؟
قد یعترض البعض على ذلک بالقول إذا کان الأمر کذلک فلماذا دعا الإمام (علیه السلام)إلى مثل هذا الحق ـ حقه بالرجوع أو اختیار المحل المناسب ـ ما دام یعلم بأنهم لیسوا بتارکیه؟
لقد دعا الإمام الحسین (علیه السلام) ـ مع علمه بعدم الإجابة ـ إلى ذلک لثلاثة أسباب:
1ـ لفت أنظار العالم عامة، والمسلمین خاصة بأن اختیار الإنسان لمحل سکناه، وحریته فی التحرک، إنما هی من حقوق الإنسان الأساسیة التی لا یحق للآخرین انتزاعها منه .
2ـ لإتمام الحجة على قاتلیه: فالتاریخ محکمة تحاکم الناس على أفعالهم مهما طال الزمن، ولحتمال لجوء هؤلاء القتلة بالتحجج بأن الإمام الحسین (علیه السلام) لم یکن قد طالب بحقه هذا وإلا لکانوا أجابوه حینها. لذا تجد الإمام (علیه السلام) قد سد علیهم هذا الباب الذی قد تلتمس الأجیال من خلاله العذر لقتلة الإمام بالمطالبة بهذا الحق الأساسی.
فقد ورد فی التاریخ أنه (علیه السلام) لما "أرهقه السلاح، أو أخذ له السلاح قال: ألا تقبلون منی ما کان رسول الله یقبل من المشرکین؟
قالوا: ما کان رسول الله یقبل من المشرکین؟
قال: إذا جنح أحدهم قبل منه.
قالوا: لا.
قال: فدعونی أرجع؟
قالوا لا.
قال: فدعونی آتی أمیر المؤمنین، فأخذ له رجل السلاح، فقال له: أبشر بالنار..."(15).
3ـ لکشف زیف الحکومة الیزیدیة الطاغیة التی لا تعترف بأبسط حقوق الإنسان الأساسیة، حیث الأرض لله، وما البشر فیها سوى خلفاء، وضیوف، والحال أن الخلیفة یجب أن یسر وفق تعلیمات من استخلفه .
المصادر :
1- نخبة من الکتاب، رؤى إسلامیة معاصرة، مجلة العربی، الکویت، ط1، 2001، من مقالة للدکتور رضوان السید بعنوان: حقوق الإنسان والفکر الإسلامی المعاصر، ص154.
2- د. محمد عمارة، الإسلام والأمن الاجتماعی، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1418هـ، ص 83- 84.
3- عبد الله بن نور الله البحرانی، العوالم، منشورات مدرسة الإمام المهدی، قم، 1407هـ، ج17، ص265.
4- محمد باقر المجلسی، بحار الأنوار، المکتبة الإسلامیة، طهران، ج78، ص 119.
5- محسن الأمین، أعیان الشیعة، دار التعارف، بیروت، ج1، ص 607.
6- الإسلام والأمن الاجتماعی، مرجع سابق، ص 84.
7- أبو جعفر رشید الدین محمد بن علی بن شهرآشوب السروی، انتشارات العلامة، قم، ج4، ص110.
8- الإسلام والأمن الاجتماعی، مرجع سابق، ص 87.
9- أبو محمد الحسن بن محمد الدیلمی، أعلام الدین، مؤسسة آل البیت، بیروت، 1409هـ، ص 298.
10- تحف العقول، مرجع سابق، ص 168.
11- د.کمال غالی، مبادئ القانون الدستوری والنظم السیاسیة مدیریة الکتب والمطبوعات، جامعة حلب، 1984، ص 317.
12- المحامی عبد الهادی عباس، حقوق الإنسان، دار الفاضل، دمشق، 1995، ج3، ص 61.
13- إبن طاووس، اللهوف، مکتبة الحیدریة، النجف، 1385هـ، ص 119.
14- نجم الدین جعفر بن محمد بن جعفر بن هبة الله بن نما الحلی، مثیر الأحزان، مؤسسة الإمام المهدی، قم، 1406هـ، ص 72.
15- أبو القاسم علی بن الحسن بن هبة الله الشافعی، تاریخ ابن عساکر، مؤسسة المحمودی، بیروت، 1389هـ، ترجمة الإمام الحسین (علیه السلام)، ص 219.
/ج