الارتباط بالله مسألة أخرى من مسائل التوحید، الأصل الدینی الأول، أهملت فی البحوث الکلامیة القدیمة. الا وهی (الارتباط بالله والشعور النفسی بهذه العلاقة) نعم التفت بعض الباحثین المعاصرین إلى هذه المسألة وأدرک ان مشکلة المسلمین الیوم لا تکمن فی اقامة الأدلة على وجود الله تعالى بقدر ما تکمن فی بعث الحیویة فی هذه العلاقة وتعزیزها وتنمیتها ویتفق باقر الصدر مع هؤلاء على ضرورة تعزیز هذه العلاقة وتقویة الارتباط بالله لتمنح الإنسان الطاقة الکفیلة بانبعاثه فی الحیاة فاعلا مؤثراً بانیاً معمّراً فهو یقول فی تفسیر قوله تعالى (کنتم خیر أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنکر وتؤمنون بالله)(1)
(قد جعل الإیمان بالله الخصیصة الثالثة للأمة الإسلامیة بعد الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر تأکیداً على أن المعنى الحقیقی للإیمان لیس هو العقیدة المحنطة فی القلب بل الشعلة التی تتقد وتشع بضوئها على الآخرین)(2)
سعى السید محمد باقر الصدررحمه الله فی دراسات عدیدة أن یؤصل هذا الارتباط ویعمق کقیمة حضاریة وإیمانیة أساسیة ویمکن أن نتوقف عند محاولة الصدر للتأصیل النظری فی عنصر الارتباط بالله فی مستویین اثنین:
المستوى الأول: نظام العبادات وتغذیة هذه الارتباط.
المستوى الثانی: الارتباط بالله فی نفسیة العاملین.
أما المستوى الأول فقد فصل الکلام فیه فی بحثه نظام العبادات (الجزء الاخیر من الفتاوى الواضحة) أین ذهب إلى أن الارتباط بالمطلق بمثل حاجة ثابتة فی حیاة الإنسان ولکن المشکلة الأساسیة کیف یتم إشباع هذه الحاجة دون السقوط فیما سقطت الصیغ البشریة لهذا الارتباط حیث عانى الإنسان على مر تاریخه الحضاری فی هذا المضمار من خطرین خطر الضیاع واللاانتماء (الالحاد) من جهة وخطر الغلو فی الانتماء (الشرک) من جهة أخرى و(تلتقی المشکلتان فی نقطة واحدة اساسیة وهی إعاقة حرکة الإنسان فی تطوره عن الإستمرار الخلاق المبدع الصالح)(3). إن الایمان بالله یعالج الجانب السلبی من المشکلة لانه یرفض الضیاع واللاانتماء فهو یجعل الإنسان خلیفة لله فی الأرض ویتخطّى الإیمان بالله الجانب الایجابی من المشکلة مشکلة الغلو فی الانتماء لأن هذه المشکلة ناشئة من تحویل النسبی إلى مطلق خلال عملیة تصعید ذهنی، وأما المطلق الذی یقدمه الإیمان بالله فهو لیس صنیعة مرحلة ذهنیة لیصبح عائقاً فی مرحلة لاحقة.
ولکن إشباع هذه الحاجة کأی غریزة أخرى لابدَّ أن یکون منسجماً مع المصلحة النهائیة للإنسان من هنا کان لابدَّ للإیمان بالله والشعور العمیق بالتطلع نحو الغیب والانشداد إلى المطلق لابدَّ لذلک من توجیه یحدد طریقة اشباع هذا الشعور ومن سلوک یعمقه ویرسخه على نحو یتناسب مع سائر المشاعر الأصیلة فی الإنسان وبدون توجیه قد ینتکس هذا الشعور ویمنى بألوان الانحراف کما وقع بالنسبة إلى الشعور الدینی غیر الموجه فی أکثر مراحل التاریخ(4)، وهنا یأتی دور العبادات التی تلعب الدور الکبیر فی تعمیق الشعور وتعزیز الارتباط بالله عزوجل.
وبِطَرْح باقر الصدر الملامح العامة للعبادة:
أ) الغیبیة.
ب) الشمولیة.
ج) الجانب الحسی فی العبادة.
د) الجانب الاجتماعی للعبادة.
أما المستوى الثانی: الارتباط بالله فی الأرضیة النفسیة للعاملین:
من تحالیله المتمیزة حدیثه عن المحنة وجذورها النفسیة حیث لا یلقی باللائمة على (الغیر) ولا یفسر المحنة تفسیراً غیبیاً یقترب من الجبریة... (ان المحنة هی فی الواقع تجسید بشکل مریر للاعمال المسبقة التی قامت بها الجماعة الممتحنة (وما اصابکم من مصیبة فیما کسبت ایدیکم)(5)
هی تجسید للاعمال التی قدّمها الناس أنفسهم هی فی نفس الوقت موعظة ونذیر من الله) ، وهو یرجع المحنة اساساً إلى الأرضیة النفسیة لاسالیب العمل (فان منطلق المصیبة المحنة هو تلک الأرضیة النفسیة لم تکن صالحة لکی تنشأ ضمنها أسالیب العمل الصالحة ولکی تؤتی هذه الاسالیب ثمارها)(6)... هذه الأرضیة النفسیة تعود إلى عاملین نفسیین أساسیین:
أحدهما: عدم الشعور التفصیلی بالله.
الثانی: أن الأخلاقیة التی کان الناس یعیشونها لم تکن اخلاقیة الإنسان العامل بل أخلاقیة انسان لا یصلح للعمل الحقیقی، وما یهمنا فی المقام: هو (العامل الأول).
ورغم أن حدیث باقر الصدر کان یحوم حول الطالب الحوزوی وینطلق من أجواء المحنة التی عاشتها حوزة النجف الأشرف لما قررت السلطات طرد الطلاب الأجانب إلاّ أن هذه الرؤیة صالحة للتعمیم لکل العاملین، إن أحد أسباب المحنة عدم الشعور التفصیلی بالله... رغم أن الطالب عندما ینتمی للحوزة ویقرّر ترک الأهل والوطن ویحمل آلام الغربة وآلام الوحشة یعیش أحلى لحظات شعور یجذبه إلى الله...
لکن سرعان ما یخبو هذا الشعور عوضاً أن ینمو (وذلک لأنه حینما یأتی إلى الحوزة لا یعیش تطبیقیاً حیاً لهذا الاتصال بالله تعالى وإنما یعیش على أفضل تقدیر دروساً معینة ومناهج معینة هی فی حدود کونها مفاهیم وأفکار لا تغذی هذا الشعور فیبقى فراغ کبیر فی قلبه فی وجدانه)(7)
وهکذا یتمیّع الشعور بالارتباط بالله... (ویتحول هذا الشعور فی بدایة الأمر إلى شعور مبهم غامض ثم فی مرحلة ثانیة یختفی فی الأعماق وتتراکم علیه مشاعر أخرى لا ترتبط بالله فتعود تلک التصورات الروحیة الضخمة فی البدایة تعود خواء تعود کلها فراغاً لأنها بعد أن جمدت وأصبحت شعوراً إجمالیاً بعد هذا فقدت أی غذاء وإمداد متصل حتى تمزقت وهذا هو معنى نسیان الله تعالى وأنتم کلکم تعرفون أن من ینسى الله ینساه الله ومن ینقطع عن الله ینقطع عَنْهُ الله سبحانه وتعالى...)(8)
إن تنمیة الشعور التفصیلی بالله وتجسید حالة الاتصال الدائم بالله... هی أحد العوامل الأساسیة لنجاح العامل واستمراریة عمله وصحواه أیام المحن وتجاوزه الصعوبات التی تعترض طریقه مما یمنح لهذا المفهوم التوحیدی الارتباط بالله بعداً نفسیاً حرکیاً... یلتقی مع العبادة فی تأصیلها لهذا الحس العمیق والانفتاح الروحی على الله عزوجل ویتکامل مع توفر الشرائط اللازمة الاخلاقیة للإنسان العامل (فی امتلاک وعی تغییری تجدیدی والتخلص من النزعة الاستصحابیة المحافظة وامتلاک عقلیة اجتماعیة مرنة)... لنجاح أی مشروع فی الحیاة... وتخطى العقبات مهما عظمت.
المصادر :
1- آل عمران: 110
2- میزان الحکمة ص216
3- محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة، م. س، ص707
4- میزان الحکمة ص713
5- الشورى: 30
6- محمد باقر الصدر: المحاضرة الثانیة من محاضرات (المحنة)
7- میزان الحکمة
8- میزان الحکمة
/ج