
منذ أن بدأ جهاد علماء الدین المسلمین الشیعة بزعامة القائد العظیم الإمام الخمینی (قدس سرّه الشریف)، ضد نظام الطاغوت السابق تبلورت فی الأذهان ضرورة إقامة نظام حکومة إسلامیة، وأصبحت الشعار الرئیس الذی یرفعه المجاهدون. وکانت تدور فی أذهان الأصدقاء والأعداء والأقربین والأبعدین وعلى الدوام أسئلة تقول:
ما هی الحکومة الإسلامیة؟ وما هی خصائصها؟ وأی هدف یروم الثوار الإسلامیون فی إیران تحقیقه بالضبط؟ وأیة صیغة یریدونها للحکومة المقبلة؟
وکانت إجابة قادة الثورة عن هذه الأسئلة هی: حکومة تقوم على أساس القرآن تشبه حکومة النبی الأکرم (صلی الله علیه وآله وسلم) وأمیر المؤمنین (علیه السلام). لکن هذه الإجابة الإجمالیة لم تکن ترسم صورة واضحة عن الحکومة المطلوبة ولم تکن تحدد خصائصها.
وقد بدأ المفکرون الإسلامیون الذین کانوا یدرکون جیداً ضرورة تبیان طبیعة الحکومة الإسلامیة وکیفیة إقامتها فی الظروف الراهنة، بذل جهود علمیة مختلفة لأداء هذا الواجب ومن جملتهم زعیم الثورة الکبیر (رضی الله عنه) الذی کان یقیم فی منفاه بالنجف الأشرف حیث طرح بحث الحکومة الإسلامیة و ولایة الفقیه فی دروسه الفقهیة التی کانت تسجل على "أشرطة الکاسیت" وتوزع بشکل تدریجی، ثم طبعت تلک الدروس فی کتاب بعنوان "الحکومة الإسلامیة" واستمرت تلک الجهود والبحوث بعد الانتصار الثورة أیضاً، وألّفت رسائل وکتیبات وکتب فی هذا المجال، ولکن معظمها ـ إن لم نقل کلها ـ کان ذا طابع (أکادیمی) قلّما کان یستفید منه عامة الناس، فبرزت ضرورة إلقاء بحوث ونشر مقالات وکتب بلغة مبسطة تحصن الجماهیر أمام الشبهات والوساوس.
من الإجراءات التی جاءت فی هذا السیاق؛ الدروس التی ألقاها الأستاذ محمد تقی مصباح الیزدی فی مؤسسة (در راه حق) [فی طریق الحق] بقم، وبثت من تلفزیون الجمهوریة الإسلامیة فی إیران، وهاهی تنشر ضمن هذا الکتاب لتوضع فی متناول أیدی المهتمین بالأمر، تلبیة للطلبات الکثیرة التی وردت فی هذا الشأن. آملین أن ینال رضا الله تعالى ورضاهم. والله ولی التوفیق.
ضرورة البحث حول الحکم الإسلامی
الحمد لله رب العالمین، وصلى الله على سیدنا محمد وآله الطاهرین، لا سیما بقیة الله فی الأرضین عجل الله تعالى فرجه وجعلنا من أعوانه وأنصاره، قال الله تعالى فی کتابة: {لقد أرسلنا رسلنا بالبینات وأنزلنا معهم الکتاب والمیزان لیقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحدید فیه بأس شدید ومنافع للناس ولیعلم الله من ینصره ورسله بالغیب إن الله قوى عزیز}
إسلامیة نظام الحکم:
الصفة الرئیسة لنظامنا الإسلامی الذی طوى عقداً من عمره وأقیم بالدماء الزاکیة للآلاف من الشرفاء والمضحین، هی إسلامیته.
وقد ترکت عوامل وظروف کثیرة تأثیرها فی إقامة هذا النظام، لکنها کانت جمیعاً تدور حول محور الرغبة فی الإسلام، وطبیعی أن بقاءه کنظام إسلامی لن یتم إلا باستمرار الحفاظ على هذه الصفة. ولکن ماذا یعنی کون النظام إسلامیاً، وامتلاکه لهذا المقوّم؟
إن أی نظام اجتماعی وسیاسی لن یکتسب الصفة الإسلامیة إلا إذا قام فی بعدی (التشریع) و (التنفیذ) على أساس المبادئ والقیم الإسلامیة، ولن یطول بقاء هذه الصفة إلا إذا حمل أفراد المجتمع والذین یؤمنون بهذا النظام، المعتقدات الإسلامیة وتمسّکوا بقیم الإسلام.
ولو قدّر ـ لا سمح الله ـ للمعتقدات والأفکار الإسلامیة أن تنسى فی المجتمع، أو یطرأ انحراف فی محتواها، أو حدث على صعید القیم أن نسی الناس قیم الإسلام الأساس، وبرزت میول منحرفة، فإن دعائم النظام الإسلامی ستتزعزع شیئاً فشیئاً ولن تبقى هناک أیة ضمانة لاستمراره على المدى الطویل، وقد یبقى اسم الإسلام لفترة طویلة، لکن مضمونه وحقیقته سوف یسدل علیها ستار النسیان.
وهذه تجربة مر بها المجتمع الإسلامی فی صدر الإسلام، إذ لم یمض على رحیل النبی الأکرم (صلی الله علیه وآله وسلم) زمان إلاّ وتحوّل نظام الحکم الإلهی والإسلامی إلى حکم طاغوتی وملکی أموی وعباسی، ولم یبق من الإسلام إلا اسمه، وتعرضت المعتقدات الإسلامیة للانحراف، وتعرضت القیم الإسلامیة لدى المجتمع للنسیان. أما الجهاز الحاکم فقد کان وضعه فی هذا المجال أدهى وأمرّ.
کانت هناک حکومة إسلامیة بالاسم فقط، حیث جلس بعضهم على عرش السلطة باسم خلافة النبی الأکرم (صلی الله علیه وآله وسلم)، وهذه التجربة المرة ینبغی أن تکون عبرة للأجیال القادمة.
وبعد أربعة عشر قرناً اندلعت ثورة أخرى فی هذا العالم مقتدیة بالثورة الإلهیة التی أشعلها النبی الأکرم (صلی الله علیه وآله وسلم) فأرست دعائم نظام اجتماعی وسیاسی جدید قائم على المبادئ الإسلامیة، وبما أن أصل نظام الحکم الإسلامی الذی شرّعه النبی الأکرم (صلی الله علیه وآله وسلم) لم یکن مصوناً من الآفات حیث لم یمض زمان حتى برزت عملیاً انحرافات فی المجتمع، فإن هذه لثورة لن تتمتع بالحصانة الأکیدة إلاّ إذا أخذنا العبر من الماضی ومارس أبناء شعبنا المسلم قدراً کافیاً من العمل الجاد من أجل الحفاظ على هذا النظام، وبلغت رغبتهم فی المعتقدات والقیم الإسلامیة درجة تجعلهم یقفون فی وجه کل الآفات والعوامل المدمرة، ویبذلون أنفسهم وأموالهم من أجل الحفاظ على هذا النظام الإسلامی المقدس.
الحفاظ على النظام رهین بمعرفة الإسلام:
من الواضح تماماً أن الحفاظ على هذا النظام واستمراره رهینان قبل کل شیء بأن یعرف الناس الإسلام معرفة صحیحة ویتمسکوا بالقیم الإسلامیة.
وقد یسأل سائل: من أین یمکن أن یبدأ الانحراف؟
وللإجابة نقول: إن الانحراف یظهر أولاً فی مجال معارف الناس، أی حین یغفل الناس عن المعرفة الصحیحة بالأسس والمبادئ الإسلامیة، وتنخفض درجة وعیهم، فسوف تبدأ الأیدی الماکرة عملها وتنشر أفکاراً خاطئة بدلاً من المعارف الإسلامیة، وتلبسها ثوب الإسلام ثم تستخدم وسائلها الإعلامیة فتحرف أفکار الناس عن المسار الصحیح تدریجیاً، وهنا یجب على الذین یؤیدون هذه الثورة ویخشون من تعرضها للآفات، أن یعملوا بیقظة تامة للحفاظ على أفکار الناس ومعتقداتهم الإسلامیة، ویحولوا بشکل جدی دون أن تؤدی أیة آفة إلى الانحراف الفکری والعقائدی.
ولا تکون الحیلولة دون هذه الآفات بمنع طرح أفکار الآخرین ومعتقداتهم منعاً تاماً، إذ لا یمکن أبداً أن نضرب أسواراً حول أذهان الناس لکی لا تنفذ إلیها الأفکار المنحرفة، فهذا ما لم یتیسر ولن یتیسر أبداً، وحتى لو فرضنا أنه متیسر فهو لیس صحیحاً، حیث تنفذ الأفکار والمعتقدات الخاطئة إلى أذهان الناس وتحدث الشبهات شئنا ذلک أم أبینا.
والسبیل الرئیس والصحیح هو أن یدعم الناس من حیث الفکر والمعرفة الإسلامیة بدرجة تجعلا الأفکار المنحرفة لا تؤثر فیهم، بحیث یبلغ عندهم الوعی الدینی درجة تجعلهم لا یتأثرون بالشبهات، بل یبلغون درجة أسمى فیردّون على الشبهات ویعرفون الإسلام الصحیح لکی لا یتمکن مخالفو الرسالة الإسلامیة من زرع الأفکار غیر الإسلامیة بدلاً من الإسلام لدیهم، على هذا الأساس فأهم عوامل (حفظ الإسلام) و (حفظ إسلامیة نظام الحکم) هو انتشار الثقافة الإسلامیة فی المجتمع وتعزز معرفة الناس بالإسلام وزیادة تمسّکهم بالمبادئ والقیم.
ومما یؤسف له أن المشاکل الداخلیة والخارجیة الکثیرة لم تدع للساسة المشرفین على شؤون البلاد مجالاً خلال الأعوام العشرة المنصرفة لکی یولوا هذه البرامج القدر الکافی من الاهتمام، والآن حیث بدأت مرحلة إعادة بناء البلاد نأمل أن تولى هذه الأمور قدراً کافیاً من الاهتمام وتبذل المساعی اللازمة للرقی بمعرفة المجتمع وثقافته. ونحن بدورنا یجب علینا بقدر مساهمتنا فی هذا المجتمع والمسؤولیة التی تحملناها أن نسعى للمساهمة فی إنجاح هذه البرامج. ومما یجدر قوله إن مثل هذه الأمور تحتاج إلى نشاطات علمیة وثقافیة واسعة ولا یمکن معالجتها ببرنامج یستغرق ساعات أو أیاماً، لکن ذلک أفضل من لا شیء والعدد (واحد) یعد عدداً مقابل الصفر مع أنه یبعد کثیراً عن اللانهایة. وخلاصة القول إننا لا عذر لنا إن عجزنا عن أن نترک تأثیراً فی المجتمع أن نمتنع عن التأثیر المحدود والجزئی أیضاً، بل یجب علینا أن لا ندّخر أی وسع فی هذا المجال.
الحکم الإسلامی:
من أهم القضایا التی ینبغی طرحها ومعالجتها فی المجتمع وعلى نطاق واسع، وتوسیع معرفة الناس ووعیهم وتعمیقهما تجاهها قضیة (أصل شرعیة هذا النظام) أو بتعبیر آخر قضیة (الحکم الإسلامی).
ونحن نعلم أن هذه الثورة قامت من أجل إقامة الحکم الإسلامی، فأبناء الشعب کانوا قد اقتنعوا بأنه لابدّ من حکومة أولاً، وینبغی أن تکون تلک الحکومة إسلامیة ثانیاً، وکانت قد انطبعت فی أذهانهم فکرة عن إسلامیة الحکومة فسعوا إلى تحقیقها وبذلوا الدماء حتى أقیم هذا النظام، إلاّ أن هذا الانطباع کان مؤثراً بالمقدار الذی أدى إلى تغییر النظام وإسقاط الطاغوت، ولکنه لا یکفی لأن یطبق نظاماً إسلامیاً ویحافظ علیه بدقة ویحفظ هذه الفکرة حیة لقرون فی قلوب الناس والأجیال القادمة، بل ینبغی السعی من أجل زیادة توضیح هذه المفاهیم لکی یحمل أبناء الشعب تصوراً أصح وأدق عن الحکومة الإسلامیة ویدرکوا ضرورة وجودها فیتمکنوا من الدفاع عن أفکارهم تجاه المذاهب والنظریات المضادة ولا یکتفوا بالشعارات فقط.
وللمساهمة فی تحقیق هذا الهدف فی المجتمع، ولکی یزداد عمق معرفة الناس بهذه القضیة وأن تشمل هذه المعرفة من حیث المساحة قدراً أکبر من فئات المجتمع، ویحمل الجمیع إلى حد ما تصورات واضحة عن الحکومة الإسلامیة ورکائز النظام، فإننا نطرح هذه البحوث بعون الله تعالى.
وسوف نسعى فی هذه الدروس إلى أن تحظى المواضیع بقدر کاف من الاتقان أولاً، وتکون مبسطة قدر المستطاع ثانیاً لکی یتمکن عامة الناس من الاستفادة منها وتکون ذات طابع تعلیمی لهم، لا أن تختص بالذین اجتازوا المقدمات العلمیة الکافیة.
والعبارة التی تقول: إننا أنصار الحکم الإسلامی وینبغی أن تدار شؤون مجتمعنا على الإسلام، تعنی: أنه ینبغی وجود جهاز حکم قائم على أساس الإسلام، وقد سعى الدستور من أجل توطید دعائم هذا النظام على التأکید علیه، وأهم مبدأ فی هذا المجال هو مبدأ "ولایة الفقیه" الذی أدخل فی الدستور من أجل استمرار النظام الإسلامی.
سیادة الإسلام فی التشریع والتنفیذ:
وهنا نرید التوسیع قلیلاً فی شرح الموضوع لکی یتوضح ما نعنیه من قولنا ینبغی أن یکون نظام الحکم إسلامیاً.
فکون نظام معین رسالیاً وقائماً على أساس مبادئ وقیم معینة یتجسد فی بعدین على أقل، سواء کان إسلامیاً أو ذا اتجاه فکری آخر، وبتعبیر آخر تتجسد تبعیة نظام معین لمجموعة من المبادئ والعقائد والأفکار والمعارف المعینة فی بعدین على الأقل هما: "التشریع" و"الحکم والتنفیذ".
ویمکننا أیضاً أن نضیف هنا بعداً ثالثاً بعنوان البعد "القضائی"، إلا أن هذا البعد لا یتمتع بالأصالة التی یتمتع بها کل من السلطة التشریعیة والجهاز التنفیذی، والخلاصة أن هناک بعدین رئیسین وهما: (التشریع والتنفیذ) والبعد القضائی تابع لهما.
فلو کانت القوانین التی یقرّها النظام ویدافع عنها هی القوانین الإسلامیة، وکان مسؤولون عن تنفیذ هذه القوانین قد تقلدوا هذا المنصب على أساس المبادئ والقیم الإسلامیة فسوف یکون ذلک النظام "إسلامیاً"، أما لو انحرفت القوانین عن مسار الإسلام أو لم یتقلد المسؤولون عن القضاء أو التنفیذ هذه المناصب على أساس المعاییر الإسلامیة، بل تقلدوها بأسالیب غیر إسلامیة، فلا یمکن اعتبار مثل هذا النظام إسلامیاً.
فنحن إذاً لا یمکننا أن نعتبر حکومتنا إسلامیة حقاً إلا إذا طابقت القوانین التی تسودها القانون الإسلامی وکان القضاة ومنفذو القوانین تقلدوا تلک المناصب على أساس الأسالیب التی یرتضیها الله تعالى، فلو أصیب أحد هذین الأمرین بآفة بمعنى أن جهاز التشریع انحرف عن مسار الإسلام أو أن الذین تقلّدوا مناصب القضاء والتنفیذ قد تقلدوها بأسالیب غیر إسلامیة، لم تبق حینئذ ضمانة لاستمرار النظام الإسلامی، بل ستنحرف الأفکار والاتجاهات عن المسار الصحیح شیئاً فشیئاً، وقد یحصل هذا الانحراف بمنتهى الهدوء والبطء فلا یلقى ردود فعل لدى الشعب المسلم لا سیما الجماهیر التی تتمتع بقدر قلیل من المعلومات، لکنه سینتهی فی کل الأحوال إلى الانحراف عن المسار الصحیح. ولکی نحول دون الإصابة بهذه الآفة التی برزت دائماً فی المجتمعات السابقة وظهرت فی العالم الإسلامی بشکل قبیح جداً ونمنع تکرار مثل هذه الحوادث المریرة، ینبغی زیادة یقظة جماهیر الشعب وحرصها على حفظ المبادئ والمعتقدات والقیم الإسلامیة بما یجعلهم یفهمون العقائد الإسلامیة ویؤمنون بها أفضل من ذی قبل ویتمسکون بقوة بالقیم التی تقوم على أساس تلک العقائد.
الخلاصة:
إن السمة الرئیسة لهذا النظام هی کونه إسلامیاً ولا تتحقق هذه السمة إلا حین یقوم التشریع والتنفیذ وکذلک القضاء على أساس المبادئ والقیم الإسلامیة.
ومن أجل استمرار هذه "الإسلامیة" ینبغی أن یحرص أبناء الشعب على المبادئ والقیم الإسلامیة لکی یمنعوا حدوث أی انحراف، ولا یکون ذلک إلا إذا کانت معرفة الشعب بالإسلام معرفة صحیحة وعمیقة وبعیدة عن الانحراف، لکی لا تهزهم الشبهات بل ولیردّوا علیها أیضاً.
لهذا فمن الضروری طرح قضیة "الحکم الإسلامی" لتظهر لدى الناس نظرة واضحة عنه.
ولن تکون هناک ضمانة للحفاظ على "إسلامیة النظام" واستمرارها دون الارتقاء بمستوى الثقافة الإسلامیة لدى أبناء الشعب وتعزیز تمسکهم بمبادئ الإسلام.
المصدر : الحکومة الإسلامیة وولایة الفقیه / الاستاذ محمد تقی مصباح الیزدی
/ج