الكلّ يعلم ما للأمور العقائدية من اهمّية في بناء فكرالفرد المؤمن و مبادئه،و يستتبعها وجوده الخاصّ من خلال المواقف التي يتّخذها كلّ يوم في خضمّ التيّارات والاتّجاهات الفكرية المختلفة التي تسودالعالم اليوم.
ومن تلك الأمور التي امتازت به الإمامية عن غيرها ـ تبعاً لكتاب الله وسُنّة رسوله الأ كرم صلّى الله عليه و آله و سلّم ـ هو القول با لبداء.
ممّا جعل بقيّة الفرق التي لم تتّخذ مدرسة أهل البيت عليهم السلام منهجاً لها، جعلها تشنّع على الإمامية عقيدتهم هذه،تجاهلاً أو جهلاً بأدلّتهم عليها.
ولو أنّهم كلّفو أنفسهم جهداً قليلا، و بحثوا في ما كتبه علماء الإمامية في البداء و مفهومه،لوجدوا أنّ الحقّ معهم.
ولذالك انبرى علماءالإمامية للردّ على افتراءات المفترين و شبهات المبطلين، فأ ودعوا موسوعاتهم الحديثية ما ورد في البَداء من روايات عن العترة الطاهرة عليهم السلام،وكتبوا فيه فصولاً ومباحث خاصّة في كتبهم الكلامية والعقائدية و غيرها، كما أفردوا له كتباً و رسائل خاصّة، فلا يكاد يخلوأيّ كتاب أُلّف في العقائد أو الكلام ـوربما في غيرهاـ من البحث في البَداء.
فقد أحصى الشيخ آقا بزرك الطهراني ـرحمه الله ـفي موسوعته القيّمة«الذريعة» نحواً من 30 كتاباً أو رسالة مستقلّة صنّفت في هذا المجال،توضيحاً لمفهومه العقائدي و ما المراد منه،أو دفاعاً عن الاعتقاد به،وردّاً للشكوك والشبهات المحاكة حوله (1).
وإذا أضفنا إلى ما تقدّم كتبأً و رسائل أخرى قد ألّفت في نفس الموضوع،في الفترة التي تلت إتمام تأليف «الذريعة» أومما فات الشيخ الطهراني تسجيله فيها،لكان العدد المحصى غير هذا.
أمّا إذا حاولنا استقصاء ما كتب عن البداءـ كفصول و بحوث ـ ضمن الكتب المختلفة،لكان إحصاء ذلك أمراً عسيرًا.
نحن نقف اليوم أمام عَلَمين من جهابذة أعلام علمائنا الإمامية في القرن الأخير،رضوان الله عليهم، فقد كانا مصداقاً حقيقياً لما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حينما سأله معاوية بن عمّار قائلاً:
قلت لأبي عبدلله عليه السلام: رجل راوية لحديثكم،يبثُ ذالك في الناس، و يشدّده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ، و لعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الراوية، أيّهما أفضل ؟
قال:الراوية لحديثنا،يشدّد قلوب شيعتنا، أفضل من ألف عابد(2)
و هما:
1 ـ العلّامة المجاهد آية الله الشيخ محمّد جواد البلاغي (1282 ـ 1352 هـ)
الذي ما فتئ يقارع الفرق الباطلة و الأفكار الهدّامة،و يدكّ حصونها و يفنّد مزاعمها و مفترياتها،فبرع في ردّ كيدهم و دحض أبا طيلهم، فكان أكثر من نصف مجموع ما جاد به يراعه الشريف ـ الذي تجاوز الخمسين مصنّفاً ـ هو في مجال العقائد، و البقيّة في الفقه و الأصول و التفسير و غيرها.
فكان من الأفذاذ الذين يندر وجودهم في الأزمان ممّن حامى و ذبّ عن قدس الشريعة و المذهب؛ قدّس الله نفسه الزكية، و نوّر مرقده،و جعل الجنّة مأواه (3).
2ـ آيةالله العظمى السيد أبوالقاسم الموسوي الخوئي (1317 ـ 1413هـ)
الذي كان نجماً لامعاً في سماء المرجعية الدينية و الحوزات العلمية، فربّى و تخرّج على يديه- في غضون أكثر من ستّين سنة من التدريس و الإفادة - مئات من العلماء و الأفاضل و المجتهدين، فصار منهم من هو مرجع تقليد للشيعة اليوم، و منهم المتخصّصين في شتّى علوم المعرفة، كفقهاء و محقّقين و باحثين و مفكّرين و خطباء و مرشدين وأساتذة أكفاء في الحوزات العلمية.
فهو بحقّ أستاذ الفقهاء والمجتهدين، وزعيم الحوزات العلمية، و مروّج الشريعة في العقود الأخيرة، إذ لا تكاد تجد قضيّة من القضايا أو مسأ لة من المسائل لم يكن له فيها رأي، مع الدقّة في العرض و القوه في الاستدلال والمبنى؛ قدّس الله روحه الطاهرة، و نوّر مضجعه، و جعل الجنّة مآله و مثواه (4).
الرسالتان... و منهج العمل فيهما
هما من أفضل ما كُتب في «البداء» فهما بعيدتان عن الاختصار المخلّ، والتطويل المملّ، و هما على قصرهما تغنيان الباحث عن الحق عن غيرهما، ممّا يثبت و يؤكّد منزلة المؤلفَيْن العلمية السامية، فقد كتبتا بأسلوب واضح جليّ، و بنيتا على استدلال جميل ظاهر، ولم تشحنا بالاصطلاحات العلمية و التعبيرات الغامضة التي لا يفهمها الكثيرون، و قد استقصى المؤلفان - قدّس الله سرّهما -فيهما كلّ جوانب المسألة، و لم يتركا تساؤلاً إلا وأجابا عنه بالدليل القويّ المقنع.
امّا الرسالة الْأولى،
فهي للشيخ البلاغي عطّرالله مرقده، كان قد حرّرها جواباً عن استفسار ورد إليه عن البَداء.كانت قد نشرت لأ ول مرّة في أواسط الخمسينات من هذا القرن الميلادي، باسم:«مسألة في البداء» في آخر المجموعة الرابعة من سلسلة «نفائس المخطوطات» التي كان يصدرها في بغداد الشيخ محمّد حسن آل ياسين.
فأعدت العمل عليها بما يناسب عصرنا الحالي من الإ خراج الفنّي، مثل توزيع النصّ و الاستفادة من علامات الترقيم الحديثة، و تخريج الروايات اعتماداً على مصادرها الأ صلية، فأدرجت هذه في الهامش مع توضيحات أخرى.
أمّا تعضيد الروايات الواردة فيها بمصادر أ خرى لم نقدّم الأ ولى على الثانية إلا لأنّها أقدم تاريخاً، و أصغر حجماً؛ ولأنّ الشيخ البلاغي كان أستاذ السيّد الخوئي في علم الكلام، رحمهما الله رحمة واسعة.
امّا الرسالة الثانية
فهي احدى فصول كتاب «البيان في تفسير القرآن» للسيد الخوئي طيب الله مضجعه، تحت عنوان: «البداء في التكوين» كتبه استطراداً لمبحث «النسخ في التشريع» .إذ ربما نقل السيّد الخوئي - قدس سره - الرواية بالواسطة لا من المصدر الأصلي، و ذلك بإ حالتها على مصادرها الأ صلية أوّلاً، و أثبتّ ما تضمّنته من اختلافات، و من ثمّ ألحقت بها المصادر الوسيطة، كالجوامع الحديثية: بحار الأنوار و الوافي .المصادر :
1- الذريعه 3/51ـ57 رقم 131ـ151 و 11/127رقم 790 و 26/87 رقم 419
2- الكافي 1/25ح 9،و قد نقل شيخ الإسلام العلامة المجلسي ما بمعناه عن مصادر شتّى في بحارالأنوار 2/1ـ25ح 1ـ92 باب «ثواب الهداية والتعليم،و فضلهما و فضلهما، و فضل العلماء، و ذمّ إضلال الناس»
3- لمزيد الاطلاع على ترجمة - قدّس سرّه - انظر على سبيل المثال:أعيان الشيعة 4/255، نقباء البشر في القرن الرابع عشر 1/323 رقم 663، الكنى و الأ لقاب 2/83 رقم 5، ا لأعلام 6/74.
4- لمزيد الاطلاع على ترجمته - قدّس سرّه - انظر على سبيل المثال:معجم رجال الحديث 22/17 رقم 14697، نقباء البشر في القرن الرابع عشر 1/71 رقم 164.
/ج