يعتبر الاِيمان عنصراً أساسياً من عناصر التماسك الاجتماعي فهو يدفع أفراد المجتمع نحو التعاون والتفاهم ويبعدهم عن التنازع والتخاصم. ويمكن تلمّس آثار الاِيمان والكفر على المجتمع بالنقاط الآتية :
أولاً : الاخاء والاحترام والنصيحة :
يمثل الاِيمان نقطة إنطلاق كبرى في العلاقات البشرية فهو ينقل الناس من حالة العداء والبغضاء إلى حالة الود والاخاء، قال تعالى : ( إنَّما المُؤمِنُونَ إخوةٌ فأصلِحُوا بين أخَويكُم.. )(1)وقد ذكّر تعالى المؤمنين بنعمة الاخاء التي قلبت حياتهم الاجتماعية رأساً على عقب ونقلتهم من حالة الكفر والعداء إلى حالة الاِيمان والاخاء، قال عزَّ من قائل : ( واعتصمُوا بحبلِ اللهِ جَميعاً ولا تَفرَّقُوا واذُكرُوا نِعمتَ اللهِ عليكُم إذ كُنتُم أعدآءً فألّفَ بينَ قُلوبِكُم فأصبَحتُم بِنعمَتِهِ إخواناً وكُنتُم على شَفا حُفرةٍ مّن النَّار فأنقذكُم مِنها.. )(2)
أضف إلى ذلك أنّ الاِسلام يحث المؤمن على إبداء مظاهر الاحترام والمحبة لاخوانه ويُبشره عن ذلك بالثواب الجزيل ، عن أبي عبيدة قال :
سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول : « إذا إلتقى المؤمنان فتصافحا أقبل الله بوجهه عليهما وتتحاتُّ الذنوب عن وجوههما حتى يتفرقا » (3). ولا يقتصر الاَمر على مظاهر الاحترام والاِكرام بل يتعداهما إلى إبداء النصيحة ، قال الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « المؤمن أخو المؤمن لا يدع نصيحته على كلِّ حال» (4)
وتتسع مظاهر الاخاء إلى مجالات معنوية ومادية يمكن تبويبها وفق النقاط التالية :
1 ـ إدخال السرور على قلب المؤمن : وهو من أحب الاعمال إلى الله تعالى بدليل قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : « إنَّ أحب الاَعمال إلى الله تعالى إدخال السرور على المؤمنين » (5). وهذا العمل لا شك أنه يوجب الثواب الكبير، قال أبو عبدالله عليه السلام : « من سرَّ أمرءاً مؤمناً سرَّه الله يوم القيامة ، وقيل له : تمنَّ على ربّك ما أحببت فقد كنت تحب أن تسرَّ أولياءه في دار الدّنيا ، فيُعطى ما تمنى ويزيده الله من عنده مالم يخطر على قلبه من نعم الجنة »(6)
2 ـ عدم إذاعة سرّه : مما يُعكر صفو العلاقات الاَخوية وقد يعرّضها للقطيعة ، إذاعة المؤمن أسرار أخيه ، مما يترك أعمق الاَثر في نفسه ، ويؤدي ذلك إلى إنعدام الثقة به . ومدرسة الاِيمان من خلال توصياتها القيمة تُدين ـ بشدة ـ مثل هذا التصرف المنحرف . ويكفي مثلاً على ذلك: ما ورد عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام : قال : قال له : عورةالمؤمن على المؤمن حرام ، قال عليه السلام : « نعم ، قلت : يعني سفليه ؟ قال : ليس هو حيث تذهب ، إنّما هو إذاعة سرّه » (7)
3 ـ إعانته ونصرته : الاِيمان يدفع أفراد المجتمع أشواطاً بعيدة إلى التعاون والتناصر مما له أعمق الاَثر في القضاء على مظاهر التشتت والفرقة بين البشر . وليس أدل على ذلك من قول الاِمام الصادق عليه السلام : « ما من مؤمن يعين مؤمناً مظلوماً إلاّ كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام ، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته إلاّ ونصره الله في الدّنيا والآخرة ، وما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلاّ خذله الله في الدنيا والآخرة » (8)
4 ـ الاِحسان إليه : المؤمن حقاً من ينظر بعين العطف لاِخوانه المحتاجين ، والله تعالى يُشجع مثل هذا التوجه الاِجتماعي ويثيب عليه ، خصوصاً وأنّه يوفر للفئات المحرومة ما لا بدَّ لهم منه كالطعام والشراب والثياب ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال : « من أطعم مؤمناً من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ، ومن سقى مؤمناً من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ، ومن كسا مؤمناً كساه الله من الثياب الخضر»(9)
ومن الشواهد ذات الدلالة على تنمية أهل البيت عليهم السلام للشعور الاجتماعي تجاه المؤمنين ، خصوصاً وأنهم المنهل الثر للاِحسان إلى الغير ، ما قاله الاِمام الصادق عليه السلام : « لاَن أطعم مؤمناً محتاجاً أحبّ إليَّ من أن أزوره ولاَن أزوره أحبّ إليَّ من أن أعتق عشر رقاب » (10)
إذن هنالك أولوية وتقدم رتبي لبعض أعمال الاحسان على بعض وإنّ لكلِّ عمل خيري ثوابه الخاص به حسب أهميته ، وما يدخله من نفع أو خدمة على المؤمنين .
والمثير في الاَمر هنا أنّ الاِمام الصادق عليه السلام ينظر لقضية الاِحسان من منظار أعمق وأرحب فهو يرى أنّ فضل المحتاجين عند الاِحسان إليهم يكون أعظم من فضل المحسنين أنفسهم ! . تمعّن جيداً في المحاورة التالية : عن حسين بن نعيم الصحّاف قال : قال أبو عبدالله عليه السلام : « أتحبُّ إخوانك يا حسين ؟ قلت : نعم ، قال : تنفع فقراءهم ؟ قلتُ : نعم ، قال : أما إنّه يحق عليك أن تحبَّ من يحبّ الله ، أما والله لا تنفع منهم أحداً حتى تحبّه . أتدعوهم إلى منزلك ؟ قلتُ : نعم ، ما آكل إلاّ ومعي منهم الرجلان والثلاثة والاَقلَّ والاَكثر ، فقال : أبو عبدالله : أما إنَّ فضلهم عليك أعظم من فضلك عليهم ، فقلتُ : فداك أطعمهم طعامي وأوطئهم رحلي ويكون فضلهم عليَّ أعظم ؟! قال : نعم ، إنَّهم إذا دخلوا منزلك دخلوا بمغفرتك ومغفرة عيالك وإذا خرجوا من منزلك خرجوا بذنوبك وذنوب عيالك » (11)
وهذا يعني أنّ الله تعالى جعل استضافة المؤمن سبباً لمغفرة الذنوب ، ثم أنّ دائرة الاِحسان إلى الاَخوان تتسع في أكثر من اتجاه ، وتتشعب على أكثر من صعيد كالاقراض والصدقة وما إلى ذلك .
فالمؤمن بركة على المؤمن ولا تنحصر بركته في مجال واحد ، يقول الاِمام الجواد عليه السلام : « المؤمن بركة على المؤمن ، وحُجَّة على الكافر » (12)، وحول إقراض المؤمن وثوابه العظيم ، ورد عن أبي عبدالله عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « من أقرض مؤمناً قرضاً ينتظر به ميسوره كان حاله في زكاة وكان هو في صلاة من الملائكة حتى يؤديه إليه » (13)
وقد أشار الاِمام الصادق عليه السلام إلى البعد الفردي للاحسان بقوله : « إذا أحسن العبد المؤمن ضاعف الله له عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف ، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ : ( واللهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ ) » (14). كما أشار إلى البعد الاجتماعي مضفياً عليه صبغة حقوقية ، عن أبي المأمون الحارثي قال : قلت لاَبي عبدالله عليه السلام : ما حق المؤمن على المؤمن ؟ قال عليه السلام : « إنَّ من حقّ المؤمن على المؤمن المودَّة له في صدره ، والمواساة له في ماله ، والخلف له في أهله ، والنصرة له على من ظلمه ، وإن كان نافلة في المسلمين وكان غائباً أخذ له بنصيبه ، وإذ مات الزيارة إلى قبره ، وأن لا يظلمه وأن لايغشّه وأن لا يخونه وأن لا يخذله وأن لا يكذّبه ، وأن لا يقول له أفّ ، وإذا قال له : أفّ فليس بينهما ولاية ، وإذا قال له : أنت عدوّي فقد كفر أحدهما ، وإذا اتهمه انماث الاِيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء »(15)
وقد عدّ أهل البيت عليهم السلام أداء حق المؤمن من أفضل العبادات قال الاِمام الصادق عليه السلام : « ما عُبد الله بشيء أفضل من أداء حق المؤمن » (16)
5 ـ قضاء حوائجه : الاِيمان يدفع الفرد إلى خدمة إخوانه بما يعود عليهم بالنفع والفائدة ، قال الاِمام الصادق عليه السلام : « المؤمنون خدم بعضهم لبعض ـ ولما قيل له ـ وكيف يكونون خدماً بعضهم لبعض ؟ قال عليه السلام : يفيد بعضهم بعضاً... » (17)
فالاَخوة تؤتي ثمارها الطيبة من خلال دفع الفرد لقضاء حوائج اخوانه المؤمنين ، ومن الملفت للانتباه في هذا السياق أنّ ثواب العمل الاجتماعي المتأتي عن هذا السبيل ، يفوق أضعافاً مضاعفة العمل العبادي المتأتي عن العتق أو الجهاد وما إلى ذلك . فقد ورد عن أبي عبدالله عليه السلام : « قضاء حاجة المؤمن خيرٌ من عتق ألف رقبة وخير من حملان ألف فرس في سبيل الله » (18)
كما أنّ قضاء الحوائج أحب إليه عليه السلام من الحج ، عن صفوان الجمّال قال: كنت جالساً مع أبي عبدالله عليه السلام إذ دخل عليه رجل من أهل مكة يقال له : ميمون فشكا إليه تعذّر الكراء عليه . فقال لي قم فأعن أخاك ، فقمت معه فيسّر الله كراه ، فرجعت إلى مجلسي فقال : أبو عبدالله عليه السلام : « ما صنعت في حاجة أخيك ؟ فقلت : قضاها الله بأبي وأمي فقال : أما إنك أن تعين أخاك المسلم أحبّ إليَّ من طواف اسبوع بالبيت.. » (19)
وقد ورد في أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما هو صريح بمضاعفة ثواب من يمشي في قضاء حاجة أخيه المؤمن ، فعن الاِمام الصادق عليه السلام : « ما من مؤمن يمشي لاَخيه المؤمن في حاجة إلاّ كتب الله عزَّ وجلَّ له بكل خطوة حسنة ، وحط عنه بها سيئة ، ورفع له بها درجة ، وزيد بعد ذلك عشر حسنات وشفّع في عشر حاجات » (20)، كما جاء عنه أيضاً : « من قضى لاَخيه المؤمن حاجة قضى الله له يوم القيامة مأة ألف حاجة » (21)
وعنه عليه السلام : «.. الله في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه »(22)
وكان أهل البيت عليهم السلام يعيبون على الذين لا يتحسسون حوائج إخوانهم ولا يشعرون بمعاناتهم ، عن الحسن بن كثير قال : شكوت إلى أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام الحاجة وجفاء الاخوان ، فقال : « بئس الاَخ أخٍ يرعاك غنياً ويقطعك فقيراً ، ثم أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبعمائة درهم وقال : استنفق هذه فإذا نفدت فاعلمني »(23)
وهكذا نجد أنّ مسألة الاَخوة وما تتطلبه من تعاون وتضامن تتصدر سلّم الاَولوية في اهتمامات الاَئمة عليهم السلام وتوجهاتهم الاجتماعية لكونها الضمان الوحيد والطريق الاَمثل لاِقامة بناء اجتماعي متماسك . لذلك حثوا شيعتهم على تحقيق أعلى درجة من التعاون والتضامن ، وفي ذلك يقول الاِمام الباقر عليه السلام لاَحد أصحابه : « يا اسماعيل أرأيت فيما قبلكم إذا كان الرجل ليس له رداء وعند بعض إخوانه فضل رداء يطرحه عليه حتى يصيب رداء ، فقلت : لا ، قال : فإذا كان له إزار يرسل إلى بعض اخوانه بإزاره حتى يصيب إزاراً ، فقلت : لا ، فضرب بيده على فخذه ثم قال : ما هؤلاء باخوة» (24)
ومن الشواهد الاُخرى على هذا المسلك المثالي ، عن سعيد بن الحسن قال : قال أبو جعفر عليه السلام : « أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه ؟! فقلت : ما أعرف ذلك فينا ، فقال أبو جعفر عليه السلام : فلا شيء إذاً ، قلتُ : فالهلاك إذاً ، فقال : إنَّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد » (25)
وصفوة القول أنّ الاِيمان يدفع أبناء المجتمع نحو الاِحسان إلى إخوانهم وخدمتهم ومدّ يد العون لهم وذلك من معطياته الاِجتماعية الهامة .
أما الذين كفروا فلعدم إيمانهم بالمنهج الديني في الحياة فإنهم يبخلون، وفوق ذلك يأمرون الناس بالبخل ! وقد نقل لنا القرآن الكريم محاورة قيمة بين المؤمنين والكافرين ، أوجزتها آية واحدة ببلاغة فريدة : ( وإذا قِيلَ لَهُم أنفِقُوا ممّا رَزقكُم اللهُ قالَ الَّذينَ كفرُوا للَّذينَ آمنُوا أنُطعِمُ مَن لو يشاءُ اللهُ أطعمهُ إن أنتُم إلاّ في ضَلالٍ مّبينٍ ) (26)
ومن روائع القرآن تصويره البديع للسان حال الكافرين إذ يقولون في اليوم الآخر بعد أن يسألهم المؤمنون : ( ما سَلكَكُم في سَقر * قالُوا لم نَكُ مِن المُصلّينَ * ولم نَكُ نُطعِمُ المِسكِينَ ) (27)
هكذا يدفع الكفر الفرد نحو البخل ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يقال للكافر يوم القيامة ، لو كان لك ملأ الاَرض ذهباً أكنت تفتدي به فيقول : نعم، فيقال له : كذبت قد سئلت ما هو أهون عليك من هذا فأبيت » (28)
ثانياً : تغيير الروابط الاجتماعية :
بينما يدفع الكفر بأبناء المجتمع نحو هاوية العصبية المقيتة ويركز على روابط الدم والرَّحم ومظاهر اللون والمكان وما إلى ذلك من روابط جاهلية، كما قال تعالى : ( إذ جَعَلَ الَّذينَ كفرُوا في قُلُوبِهِم الحَميّةَ حَمِيّةَ الجَاهليةِ ) (29)نجد أنّ الاِيمان يفتح آفاقاً جديدة من العلائق بين البشر ترتكز على الاَخاء والمساواة ، وغدا معيار التفاضل الوحيد بين البشر يقوم أساساً على الاِيمان والتقوى والفضيلة ، قال تعالى : ( يا أيُّها النَّاسُ إنّا خلقنَاكُم من ذَكَر وأُنثى وجعلنَاكُم شُعوباً وقَبائلَ لِتَعارفُوا إنَّ أكرَمَكُم عندَ اللهِ أتقاكُم.. ) (30)
وهكذا نجد أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد ركّز في عمله التبليغي على إزالة غيوم العصبية السوداء ، وعمل جاهداً على إزالة الرواسب الجاهلية من نفوس أصحابه والمحيطين به ، ومن الشواهد الدالة على هذه الحالة ، أنّ الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه الذي رفعه الاِيمان من أسفل القاع الاجتماعي إلى القمة ، فبعد أن كان عبداً فارسياً أصبح حراً ومن أهل البيت عليهم السلام ينظر له المسلمون بعين الاحترام ، ويقابلوه بالتعظيم والاِكرام الاَمر الذي أثار حفيظة بعض الاَصحاب كعمر بن الخطاب الذي لم تغادر العصبية ـ يومئذ ـ قاع وعيه ولم تنفك رواسبها تتحكم في مشاعره ، فقد دخل سلمان الفارسي ـ ذات يوم ـ مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعظّموه وقدّموه وصدّروه إجلالاً لحقه وإعظاماً لشيبه واختصاصه بالمصطفى وآله صلوات الله عليهم . فدخل عمر فنظر إليه فقال : من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب ؟! فصعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنبر فخطب فقال : « إنَّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط ، لا فضل للعربي على العجمي ولا للاَحمر على الاَسود إلاّ بالتقوى » (31)
كما وجّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اللَّوم والعتاب للصحابي الجليل أبي ذر ـ إنْ صحّ الحديث ـ ، فعن المعرور بن سويد قال : «مررنا بأبي ذر بالرَّبذة وعليه بُرد وعلى غلامه مثله، فقلنا : يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حُلّة ؟! فقال: إنَّهُ كان بيني وبين رجل من إخواني كلامٌ ، وكانت أُمَّهُ أعجميَّة ، فعيَّرتهُ بأُمَّه ، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلقيت النبي فقال : « يا أبا ذرٍّ إنَّك أمرؤٌ فيك جاهلية ! .
قلتُ : يا رسول الله من سبَّ الرجال سبَّوا أباهُ وأُمَّهُ .
قال : يا أبا ذرّ إنَّك أمرؤٌ فيك جاهلية ، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم ممّا تأكلون ، وألبسوهم ممّا تلبسون » (32)
وقد زود الاِسلام المؤمن بنظرة واعية عميقة تحصّنه من الانزلاق في حضيض العنصرية وتفاخرها بالاحساب والانساب ، ويكفي مثلاً على ذلك أنّه لما : «تفاخرت قريش عند سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : لكن خلقت من نطفة قذرة ، وأعود جيفة منتنة ثم إلى الميزان فإن ثقل فأنا كريم وإن خفّ فأنا لئيم» (33)
ولعل من أجلى مظاهر التغيير الاِجتماعي الذي أحدثه الاِيمان أنّ أفراداً كانوا في أسفل السلّم الاجتماعي قبل الاِسلام أصبحوا ـ على حين غرة ـ بعد الاِسلام في مواقع اجتماعية عالية يتزوجون من بيوتات مرموقة، يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « إنَّما زوّجت مولاي زيد بن حارثة زينب بنت جحش ، وزوّجت المقداد ضباعة بنت الزبير لتعلموا أنّ أكرمكم عند الله أحسنكم إسلاماً » (34). كما تبوأ البعض مناصب رفيعة كبلال الحبشي الذي أصبح مؤذناً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وكان أُسامة بن زيد شاباً يافعاً فأصبح قائداً عسكرياً أناط به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قيادة الجيش الاِسلامي المتجه إلى «مؤتة» لمواجهة دولة عظمى هي دولة الروم، وأدخل تحت إمرته أبا بكر وعمر وكبار المهاجرين والاَنصار .
زد على ذلك دفع الاِيمان على إقامة عادات وتقاليد جديدة بدلاً من التقاليد البالية التي تمجّد الثراء والرفعة فقد ترك الدين بصماته وآثاره حتى على مراسم الزواج وعاداته فبينما كان معيار الاختيار يتم على أساس المال والثروة والجاه غدا يتمحور على التقوى والفضيلة ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « من زوّج كريمته من فاسق فقد قطع رحمه » (35)
وجاء رجل إلى الحسن عليه السلام يستشيره في تزويج ابنته ؟ فقال عليه السلام : «زوّجها من رجل تقي ، فإنّه إنّ أحبّها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها »(36)
ثم إنّ الاِسلام حارب التقاليد البالية التي تمجد المراسم الفارغة التي لاتنسجم مع بساطة الاِسلام والتي لا تنفع بقدر ما تولد العنت والمشقة وتضع الحواجز النفسية والاجتماعية خاصة بين الحاكم والمحكوم . وكان الاِمام علي عليه السلام نموذجاً للحاكم الاِسلامي الذي يحب البساطة والتواضع ويكره التكلّف والتعظّم بدليل أنّه : «لما لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الاَنبار ، فترجلوا له واشتدوا بين يديه ، فقال عليه السلام : « ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا : خُلق منّا نعظِّم به أُمراءَنا ، فقال عليه السلام : والله ما ينتفعُ بهذا أمراؤكم ! وإنَّكم لتشقُّون على أنفسكم في دُنياكم ، وتشقون به في آخرتكم.. » (37)
ثالثاً الاِيمان يمنح البركة والقوّة :
الاِيمان يدفع الاَفراد نحو التقدم المطرَّد ، والسير إلى الاَمام وعدم الانكفاء إلى الوراء ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « من اعتدل يوماه فهو مغبون ، ومن كان غده شراً من يومه فهو ملعون ، ومن لم يتفقد النقصان من نفسه فهو في نقصان ، ومن كان في نقصان فالموت خيرٌ له » (38). وعن علي بن الحسين عليه السلام قال : « بينما أمير المؤمنين ذات يوم جالس مع أصحابه يعبيهم للحرب إذ أتاه شيخ عليه شحبة السفر.. فقال : إنّي أتيتك من ناحية الشام وأنا شيخ كبير وقد سمعتُ فيك من الفضل ما لا أحصيه وإنّي أظنّك ستُغتال ! فعلمني ما علمّك الله قال : نعم يا شيخ من اعتدل يوماه فهو مغبون.. ومن كان في نقص فالموت خير له » (39)إذن فالاِيمان يُحفز أفراد المجتمع على التقدم نحو الاَفضل ،والاستفادة من طاقاتهم وقدراتهم على النحو الاَكمل .
وعلى هذا الصعيد لا بدَّ من التنويه على أنّ التوجه المخلص لله تعالى تنعكس آثاره النافعة على الطبيعة التي يعيش فيها الاِنسان فتجود ـ بإذن الله تعالى ـ بالخير والبركة الاَمر الذي يساعد على زيادة القوة سواءاً كانت قوة إقتصادية أم اجتماعية وما إلى ذلك . ومن الشواهد القرآنية على ذلك ما قاله النبي هود عليه السلام لاَبناء مجتمعه الذين أصابهم القحط والجدب بسبب كفرهم وإعراضهم عن الله تعالى : ( ويا قَومِ استغفِرُوا ربَّكُم ثمَّ تُوبُوا إليهِ يُرسِلِ السَّماءَ عَليكُم مِدراراً ويَزدكُم قُوّةً إلى قُوَّتِكُم ولا تَتولوا مُجرِمِينَ ) (40)
لقد بدا واضحاً أنّ هود عليه السلام قد أعلم قومه الكافرين بأنّ طريق الاِيمان والهداية يؤدي إلى حصول الخير والبركة للمجتمع حيثُ ترسل السماء مطرها الغزير وتجود الاَرض بالخصب فتتضاعف القوة . أما الاعراض على طريق الاِيمان فسوف يُنذر بعواقب خطيرة تبرز مؤشراتها المأساوية بارتفاع البركات المؤدي إلى تدمير المجتمعات ، قال تعالى : ( وَضَرَبَ اللهُ مَثلاً قَريةً كانت آمِنَةً مُطمئنةً يأتِيها رِزقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مكانٍ فَكَفَرتْ بأنعُمِ اللهِ فأذاقَها اللهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوفِ بِما كانُوا يَصنَعُونَ * وَلَقَد جاءهُم رَسُولٌ مِنهُم فكذَّبُوهُ فأخذهُم العَذابُ وهُم ظَالِمُونَ )(41)
وهكذا نجد أنّ الكفر عامل أساسي في تدمير المجتمع وفناءه .
وقد دمّر الله تعالى الاُمم الكافرة بمختلف ألوان وأشكال العذاب وكانت الطبيعة أداةً هامة في تنفيذ العقوبة الاِلهية .
وقد خاطب تعالى الكافرين محذراً من الاغترار بدوام حالة الاَمن التي يعيشونها ، فإنّ من سُنته الاِمهال قبل حلول النكال ، قال لهم بصيغة الاستفهام الانكاري : ( أفأمنتُم أن يَخسِفَ بكُم جَانبَ البر أو يُرسِلَ عَليكُم حاصِبَاً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُم وكيلاً * أم أمنتُم أن يُعيدَكُم فِيه تارةً أُخرى فَيُرسِلَ عَليكُم قاصِفاً مِنَ الرِيحِ فَيُغرِقَكُم بِما كَفرتُم ثُمَّ لا تَجِدوا لكُم عَلينا بِهِ تَبِيعاً ) (42)
ومن يقرأ سورة هود يلاحظ أنها تستعرض سريعاً أوجه الدمار الذي حلَّ بالمجتمعات الكافرة ابتداءاً من قوم عاد إلى قوم فرعون . وتستخلص السورة من كلِّ ذلك عبرة قيّمة مفادها أنّ الظلم كان السبب وراء تدمير المجتمعات : (.. وَكَذلِكَ أخذُ رَبِكَ إذا أخَذَ القُرى وهِيَ ظَالِمةٌ إنَّ أخذَهُ أليمٌ شَدِيدٌ )(43)
وهذا بخلاف الاِيمان الذي تمتد بركاته وثماره لا إلى حياة المؤمن فحسب وإنما إلى أبنائه وأحفاده قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته لاَبي ذر : «ياأبا ذرّ إنَّ الله يصلح بصلاح العبد ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته والدور حوله ما دام فيهم » (44)
وصفوة القول إنّ الاِيمان بمثابة السور الوقائي الذي يقي المجتمع من الدمار ويحقق له البركة والرفاهية ويمنحه القوة . أما الكفر وما يرافقه من الظلم فإنّه ينطوي على نتائج مأساوية كالدمار والبوار .
والحمدُ لله ربِّ العالمين ،والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين
المصادر:
1- سورة الحجرات 49 : 10
2- سورة آل عمران 3 : 103
3- اُصول الكافي 2 : 182 / 17
4- كنز العمال 1 : 142 / خ 687
5- اُصول الكافي 2 : 189
6- ثواب الاَعمال ، للصدوق : 181
7- معاني الاخبار : 255
8- ثواب الاَعمال ، للصدوق : 179
9- ثواب الاعمال : 166
10- اُصول الكافي 2 : 203 / 18 كتاب الاِيمان والكفر
11- اُصول الكافي 2 : 201 ـ 202 / 8 كتاب الاِيمان والكفر
12- تحف العقول : 489
13- ثواب الاَعمال : 168
14- المصدر السابق : 202 . والآية من سورة البقرة 2 : 261
15- اُصول الكافي 2 : 171 / 7 كتاب الاِيمان والكفر
16- اُصول الكافي 2 : 170 / 4 كتاب الاِيمان والكفر
17- المصدر السابق : 167 / 9
18- المصدر السابق 2 : 193 / 2 كتاب الاِيمان والكفر
19- اُصول الكافي 2 : 198 / كتاب الاِيمان والكفر
20- المصدر السابق : 197 / 5
21- المصدر السابق : 192 ـ 193 / 1
22- المصدر السابق : 200 / 5
23- الارشاد ، للشيخ المفيد : 266
24- تنبيه الخواطر 2 : 85
25- اُصول الكافي 2 : 173 ـ 174 / 13 كتاب الاِيمان والكفر
26- سورة يس 36 : 47
27- سورة المدثر 74 : 42 ـ 44
28- تنبيه الخواطر 2 : 226
29- سورة الفتح 48 : 26
30- سورة الحجرات 49 : 13
31- الاختصاص ، للشيخ المفيد : 341
32- صحيح مسلم ، للنيشابوري 3 : 1282 دار إحياء التراث العربي ط1
33- تنبيه الخواطر 1 : 203
34- كنز العمال 1 : 78 / 313
35- مكارم الاخلاق ، للطبرسي : 204
36- مكارم الاخلاق ، للطبرسي : 204
37- نهج البلاغة ، ضبط صبحي الصالح : 475 / حكم 37
38- تنبيه الخواطر 2 : 29 .
39- تنبيه الخواطر 2 : 173
40- سورة هود 11 : 52
41- سورة النحل 16 : 112 ـ 113
42- سورة الاسراء 17 : 68 ـ 69
43- سورة هود 11 : 102
44- مكارم الاخلاق ، للطبرسي : 465 منشورات الاعلمي ـ بيروت 1403 هـ ط5
/ج