تكامل النبوات

إن إشكالية الثابت والمتغير أو الثابت والمتحول تطرح نفسها بقوة لا في المجال الفقهي والتشريعي فقط وانما تمتد لتفرض نفسها في المجال الفكري والعقائدي حيث يثار التساؤل القديم الجديد: كيف يعالج الدين بصيغته الثابتة وتعاليمه المحدودة المحصورة في صيغ
Saturday, August 2, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
تكامل النبوات
 تكامل النبوات

 






 

إن إشكالية الثابت والمتغير أو الثابت والمتحول تطرح نفسها بقوة لا في المجال الفقهي والتشريعي فقط وانما تمتد لتفرض نفسها في المجال الفكري والعقائدي حيث يثار التساؤل القديم الجديد: كيف يعالج الدين بصيغته الثابتة وتعاليمه المحدودة المحصورة في صيغ معينة ومفاهيم محدودة وأحكام مخصوصة كل قضايا الانسان ومشاكله وهمومه وآفاقه على مدى الزمن التي لا يحدها شيء؟ لقد فحص هذه الاشكالية العديد من المفكرين الاسلاميين ولئن تعددت الاجابات إلاّ أنها تلتقي تقريباً حول نفس المبدأ(1)، وهو أن تكامل الرسالات مهما امتد واستمر لابد أن ينتهي عند نقطة يبلغ معها نهايته ومن المستحيل أن يستمر إلى ما لا نهاية لابدّ أن نصل إلى رسالة خاتمة تختزن داخلها كل المقومات الاساسية لقيادة الانسان وهدايته وتستوعب كل الحلول لكل المشاكل والهموم التي يفرضها التقدم التقني والصناعي والاجتماعي.
لقد أجاب (باقر الصدر) عن السؤال السابق في بحثه (التغير والتجديد في النبوة) فاستعرض عوامل هذا التجديد وهي أربعة أسباب أساسية:
أولا: أن تكون النبوة قد استنفذت اغراضها واستكملت أهدافها بأن تكون النبوة جاءت وصفة لمرض طارىء في المجتمع الانساني مرضاً من الناحية الفكرية أو الروحية أو خللا في النظم الاجتماعية، فحينئذ لا يمكن أن تصلح النبوة كوصفة مؤقتة لكل زمان ومكان مثل ذلك ما يقال عن المسيحية من أنها تحث إلى التركيز على النواحي الروحية نتيجة لإفراط بني اسرائيل في الانغماس في الدنيا.
ثانياً: أن لا يبقى تراث يمكن أن يقوم على أساسه العمل والبناء ويمكن تصور ذلك في فرض موت النبي وتولد ظروف وانحرافات تعصف بالرسالة وتذهب التراث الروحي والمفاهيمي حينذاك تبقى النبوة مجرد مسألة تاريخية ولا يوجد في حياة الناس ما يجسد مفهومها ومنظارها إلى الحياة.
ثالثاً: السبب الثالث لمحدودية الرسالة بأعتبار محدودية النبي نفسه فالأنبياء كغيرهم من البشر غير متساوين في درجات تلقيهم للمعارف الإلهية عن طريق الوحي فبعضهم غير مؤهل لأن يحمل هموم البشرية على الاطلاق في كل زمان ومكان بل هو مؤهل لأن يحمل هموم عصره فقط أو هموم مدينته أو هموم قبيلته فقط. (فإذا كانت النبوة محدودة بطبيعة هذا النبي كان لابد في خارج هذه الحدود الزمانية والمكانية من نبوة أخرى تمارس عملها في سبيل الله سبحانه)(2)
رابعاً: تطور البشرية: فان هذا التطور يجعل الرسالة السابقة غير مهيأة لهداية الانسان الجديد وهنا يؤكد باقر الصدر على مفهوم تكامل الرسالات مصرّحاً بأن كل رسالة تهيء الانسان لرسالة جديدة فـ (فالانسان المدعو يتصاعد بالتدرج لا بالطفرة وينمو على مرّ الزمن في أحضان هذه الرسالات الإلهية فيكتسب من كل رسالة الهية درجة من النمو تهيئه وتعده لكي يكون على مستوى الرسالة الجديدة وأعبائها الكبيرة مسؤولياتها الأوسع نطاقاً)(3). ويحلّل باقر الصدر أبعاد ومستويات التطور البشري فيرجعها إلى ثلاثة أبعاد:

أ) الوعي التوحيدي.
ب) المسؤولية الاخلاقية في تحمل أعباء الرسالة.
ج) خط التقدم الفني والتقني والسيطرة على الطبيعة.

ويرى ان التطور بلغ اوجّه في البعد الأول (كما أشرنا في النموذج الأول) وكذلك في البعد الثاني حين ارتقت النبوات بالإنسان وعودته على التضحية في سبيل الرسالة إلى أن بلغ أعلى المراتب.
أما البُعدِ الثالث فهو خط متطور دائماً لا يمكن أن يتوقف لأن التقدم التقني والتكنولوجي الصناعي يمتاز بالتراكم الكمّي فكلما سيطر الإنسان على مجال ما في الطبيعة رمى بصره نحو ميدان آخر وهكذا.. وتغير النبوات قانون أو سنة ترتبط بالبعد الأول والثاني ولكنها لا تتأثر بالعنصر الثالث ولا تنفعل به وإلاّ لو كانت متوقفة عليه لكَانت النبوة متغيرة ومتجددة بين الحين والآخر خاصة في عصورنا الاخيرة حيث يشهد العالم نقلات سريعة في مجال التقدم العلمي والصناعي. ولكن لما كانت النبوة مرتبطة فقط بخط الوعي التوحيدي وخط المسؤولية الاخلاقية ولما بلغ هذان الخطان نهايتهما ختمت النبوة مع رسالة الإسلام التي تمثّل (رسالة شاملة كاملة عامة للحياة جاءت على أبواب وصول الإنسان إلى رشده الكامل من ناحية استعداده لتقبّل وعي توحيدي صحيح كامل شامل ومن ناحية تحمله لمسؤولية اعباء الدعوة)(4)
ولقد تصدّى أحد أبرز طلاب باقر الصدر(5) لتعميق هذا المفهوم (تكامل النبوات) وحقب تاريخ الأنبياء وقسمه إلى مراحل عديدة مهدت لبلوغ الإنسانية أوج استعدادها لتلقّي الاطروحة الكاملة والنهائية التي ستطبق في المجتمع العالمي المنشود على يد صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشریف)
وطرح أربع مراحل كنسق تكاملي يحكم تطور النبوات:

أ) النبوات العقائدية.
ب) النبوات التشريعية.
ج) النبوات القبلية.
د) النبوات العالمية(6)

في التحليل السابق لاحظنا كيف تعامل باقر الصدر مع النبوة في تكاملها الزمني بلحاظ جذورها في التاريخ ويشهد له بحثه حول الولاية تعاملا مع نفس ظاهرة النبوة ولكن هذه المرة في تكاملها وامتدادها في المستقبل حيث اثبت بمنهجية فريدة مبتكرة قائمة على طريقة الاحتمالات ضرورة الولاية كإستمرار لخط النبوة في التاريخ وسنعود لهذه النقطة في الفصل الثالث من الدراسة بحول الله تعالى.
النقلة المنهجية الرابعة: الابعاد الاجتماعية للعقيدة:
من عقيدة الفرد إلى عقيدة المجتمع
بحكم المهام التي آمن بها المتكلمون وحددوها (ذكرناها في الفصل الأول) اصطبغ هذا العلم بصبغة تجريدية تستند على الجدل والتبكيت ومحاولة تبرير التناغم والانسجام بين معطيات العقيدة وضرورات العقل بعيدة نسبياً عن الواقع وعالم الانسان. لقد انقلبت وتحولت العلاقة الثنائية بين الانسان والعقيدة ففيما كانت هذه العلاقة في فجر الرسالة قائمة على اعتبار الوحي في خدمة الإنسان والدفاع عنه وعن قضاياه صار الإنسان في صراع جدلي حول الوحي بعيداً عن طموحاته وأهدافه والبحث الدؤوب عن حلول لِمَشاكل الحياة في مختلف مجالاتها.
هذه الاتجاه عمق من جانب آخر الصبغة الفردية لعلم الكلام حيث تعالج العقيدة كعقيدة فرد وتتعاطى مع قضية المسلم فيما يجب معرفته واعتقاده وتوسّعت هذه النزعة التجريدية بمنأى عن واقع الناس وهموم الجماهير بل استغرقت أكثر فأكثر في عالم خاص من المصطلحات والرموز والصياغات البرهانية.. تضخم مع مرور الأيام.. ليعلن الانفصال عن التحديات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تواجه المسلمين خاصة في عصرنا الحالي.
من هنا كان علم الكلام بحاجة إلى نقلة ثورية تعيده إلى مهمته الأساسية في نحت الانسان وهدايته انطلاقاً من قاعدة فكرية أساسية لأن العقيدة في قاموس الصدر هي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون وهذا لم يغب عن وعي العديد من زعماء الاصلاح في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حين اتفق هؤلاء حول اعطاء العقيدة عامة والتوحيد خاصة مدلوله الاجتماعي والسياسي في حياة المسلمين حتى ينفضوا عن أنفسهم غبار التخلف ويهبوا مندفعين نحو قيام مجتمع متحضر ومتقدم يحتل مكانة على الأرض بجدارة ولا يرضى بالهوان والضعف(7)، ويلتقي مع هؤلاء بعض المفكرين المحدثين أيضاً: (لقد أدرك بعض المفكّرين المسلمين المحدثين إشكالية علم الكلام هذه فراحوا يبحثون عن علم كلام جديد إن أمكن القول علم للكلام يكون فيه للتوحيد وظائف جديدة ويكون علماً محرراً للإنسان وعلماً خالصاً صافياً من الشوائب والأكدار وان علماً تكون له هذه الخصائص بقادر حقاً على ان يدفع بأصحابه إلى الإمام)(8) وبقراءة هذه المحاولات الهامة في بناء هذه القواعد الجديدة يبدو مشروع باقر الصدر متميزاً لأنه قام على معالجة أصول الدين معالجة اجتماعية نهضوية تسعى أساساً لتقديم الدين كحل للمشكلة الاجتماعية والتوحيد كبرنامج ثوري ضد الظلم والجهل والانحراف والنبوة كصلة موضوعية بين الله والانسان تقود زمام هذه الثورة الالهية وتنتصر لطموحات البشر في الكمال والسعادة، لقد قرأ الصدر هذه الاصول الاعتقادية قراءة مستحدثة مستنيرة لم تفصل الله عن الانسان والسماء عن الأرض والاعتقاد عن الحياة.. والتصور عن العمل والحركة ان هذه الازدواجية بين الغيب والشهادة بين الأرض والسماء تتهاوى عندما تتحرك عقيدة الامة في اتجاه إلباس الأرض أطر السماء(9) وتعميم روح المسجد على كل فضاء.
ان هذه النقلة الهامة يتحول معها الدين من شأن فردي وقضية شخصية إلى مشروع مجتمعي ويغدو حينذاك الملاذ الواقعي الصحيح لحل المشكلة الاجتماعية، ولا غرابة ان يعمد باقر الصدر لاحداث هذه النقلة إذا التفتنا إلى أن حل المشكلة الاجتماعية كان دائماً هاجسه الكبير لذلك حاول على طول مسيرته العلمية أن يؤسس النظريات الإسلامية التي تقدم حلولا لهذه المشكلة في ابعادها المختلفة: السياسية والاقتصادية والدستورية.. الخ.
لقد كان همه الأكبر الوصول إلى صياغة دقيقة متكاملة للنظام الاجتماعي الأصلح في بحث دؤوب عن الاجابة عن سؤال محوري هام: (ما هو النظام الذي يصلح للانسانية وشعوبها في حياتها الاجتماعية؟) هذه المشكلة متجذرة في أعماق تاريخ الانسان لأنها طغت على السطح منذ أن تشعبت النواة الأولى للمجتمع الانساني وظهر أفراد عديدون تتجاذبهم ميولات مختلفة وطموحات متفاوته وتجمعهم من جهة أخرى هموم مشتركة ومصالح موحدة.
ولكن الاحساس المعاصر بهذه القضية أقوى وأشد لأن الإنسان المعاصر يعي جيداً ان المشكلة هو الذي صنعها ولا تُعرض عليه من فوق إضافة إلى أن التراكم التاريخي للتجارب العديدة والنظم المختلفة والتي باء أغلبها بالفشل عمق في الوعي الانساني الحاجة إلى التمحيص والتدقيق في المسألة.
لقد ابدع باقر الصدر حقاً في مناقشة المدارس الكبرى التي طرحت حلا لهذه المشكلة وخاصة المدرسة الماركسية والرأسمالية في كتابيه (فلسفتنا واقتصادنا) وأبرز فشل هذين المذهبين في تشخيص حقيقة المشكلة وبالتالي في وصف النظام الذي يقود إلى السعادة والكمال والرفاه، ان الخطوة الأولى للوصول إلى النظام الاجتماعي الاصلح: دراسة جوهر المشكلة النابعة من طبيعة الإنسان والتي جبلت على حب الذات والأثرة أقوى الغرائز الإنسانية المؤثرة على المسار الاجتماعي ومن جهة ثانية: ان التواصل الانساني والعلاقات الاجتماعية يقتضيان التنازل عن جملة من المصالح الفردية ولا تستقيم حياة المجموعة إلاّ من خلال نظم حاكمة تحد من مصالح كل فرد لأجل الصالح العام: هنا يصطدم النظام الاجتماعي بهذه العقبة: كيف نوفق بين الدوافع الذاتية ومقتضيات الحياة الاجتماعية؟ سلكت الرأسمالية طريقاً ضحت معه بالمصالح الجماعية من أجل الفرد وسلكت الاشتراكية طريقاً موازياً: قمدت فيه مصالح الجماعة على الفرد وعمقت كل هذه الاتجاهات وغيرها الأزمة الاجتماعية ولم تحلها بسبب تفسيرها المادي للحياة ورؤيتها المحدودة للكون والإنسان ورسالته في الوجود مما جعل الإنسان أسير الحاجات المادية يعيش أزمة عميقة في نفسه نتيجة هذا التمزق الشديد بين الفرد والجماعة.. والانشطار بين المادة التي أوغل في متطلباتها والآفاق الروحية التي... أُقصي عنها... اما الصدر: فهو يبدأ بداية مغايرة: (ان يطور المفهوم المادي للإنسان عن الحياة وبتطويره تتطور طبيعياً أهدافها ومقايسها)(10)، (فالاسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية وما إليه من انظمة... فإن نقطة الارتكاز الاساسية لما ضجت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء وألوان المآسي هي النظرة المادية إلى الحياة التي يختصرها بعبارة مقتضية في.. افتراض حياة الإنسان في هذه الدنيا في كل ما في الحساب من شيء وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكل فعالية ونشاط)(11). فالبشرية بحاجة إلى معين آخر غير التصورات المادية عن الكون التي تسجن الإنسان في سجن الطبيعة وضيق التاريخ، يستقي منه نظامه الاجتماعي بلغة باقر الصدر لابدَّ من (وعي سياسي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقية للحياة ويتبنى القضية الإنسانية الكبرى ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم)(12)
فالعقيدة هي القاعدة الفكرية المركزية التي ينبثق عنها هذا النظام العادل الكفيل بتحقيق السعادة المنشودة. فالاسلام يمنح الإنسان نظرة روحية للحياة ومقياساً خلقياً جديداً يشخص من خلاله: ما يجب وما لا يجب فيخترق بذلك حجب الأنانية والانغلاق على الذات لينفتح على الآخرين وهمومهم ومشاكلهم بل ليقدم مصالحهم على مصالحه وهو بذلك يوفق بين الدوافع الذاتية المركوزة فطرياً في الإنسان وبين مقتضيات الحياة الاجتماعية القائمة على المصالح المشتركة.. إن هذا المقياس الخلقي الجديد تغذيه عقيدة المعاد والإيمان باليوم الآخر وان الحياة الدنيا شوط عابر نحوالحياة الآخرة الخالدة حين توفى كل نفس ما عملت ولا تظلم مقدار ذرة.
ويشرح باقر الصدر مفصلا محاولة التوفيق التي يعتمدها الدين: (ان التوفيق الوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة وتتخذ العملية اسلوبين:
الأسلوب الأول: هو تركيز التفسير الواقعي للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح كمقدمة تمهيدية إلى حياة أخروية يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياتها المحدودة هذه في سبيل تحصيل رضا الله. فالمقياس الخلقي أو رضا الله تعالى يضمن المصلحة الشخصية في نفس الوقت الذي يحقق فيه اهدافه الاجتماعية الكبرى...
وأما الأسلوب الثاني: الذي يتخذه الدين للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم أو لمصالح الاجتماعية فهو التعهد بتربية اخلاقية خاصة تعنى بتغذية الإنسان روحياً وتنمية العواطف الإنسانية والمشاعر الخلقية فيه...)(13).. في ضوء هذه الرسالة الحضارية الهامة للدين يقدم الصدر أخصر تعريف للإسلام ليكشف عن مركزية ومحورية العقيدة: (وهذا هو الإسلام في اخصر عبارة واروعها فهو عقيدة معنوية وخلقية ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية يرسم لها شوطها الواضح المحدد ويضع لها اهدافاً أعلى في ذلك الشوط ويعرفها على مكاسبها منه)(14)
هذه الاطروحة للدين في قاعدته العقائدية والمفاهيمية وكيف تمثل حلا للمشكلة الاجتماعية يرتقي بها باقر الصدر ويطورها أكثر في (المدرسة القرآنية) حيث يؤصل أكثر فأكثر هذه النظرية في بحث مقارن بين النظرية الاجتماعية الإسلامية والنظريات الوضعية الأخرى حيث تستند الثانية إلى صيغة اجتماعية ثلاثية مقابل الصيغة الاجتماعية الرباعية التي تؤمن بها النظرية الاسلامية: ان كل المجتمعات تؤمن بوجود عصرين اساسيين: الإنسان والطبيعة ففي كل مجتمع لابدَّ من انسان ولابدَّ من ارض وموارد طبيعية ليمارس في ظلها الإنسان دوره الاجتماعي.
لكن العنصر المرن والمختلف من نظام اجتماعي إلى نظام آخر هو العلاقة الاجتماعية فلكل مجتمع خصوصيات في نسج هذه العلاقة المعنوية بين الإنسان واخيه الإنسان وبين الإنسان والطبيعة.
هذا العنصر المرن له صيغتان:
ـ صيغة ثلاثية: لأنها تحدد الأطراف في ثلاثة (الإنسان ـ الطبيعة ـ الإنسان).
ـ صيغة رباعية لأنها تؤمن باربعة أطراف (الله ـ الإنسان ـ الطبيعة ـ الإنسان)
ولا يتوهم أن الصيغة الرباعية تمتاز باضافة عددية لعنصر جديد فحسب بل (إن هذه الإضافة تحدث تغييراً نوعياً في بنية العلاقة الاجتماعية وفي تركيبة الاطراف الثلاثة الاخرى نفسها من هنا ليس هذا مجرد عملية جمع ثلاثة زائد واحد بل هذا الواحد الذي يضاف إلى الثلاثة سوف يعطي للثلاثة روحاً اخرى ومفهوماً آخر سوف يحدث تغييراً أساسياً في بنية هذه العلاقة... إذ يعود الإنسان مع أخيه الإنسان مجرد شريك في حمل هذه الامانة والاستخلاف وتعود الطبيعة بكل ما فيها من ثروات وبكل من عليها وما عليها مجرد امانة لابدَّ من رعاية واجبها وأداء حقها)(15)
ان الطرف الرابع مغيّر نوعي لتركيب العلاقة: فتنقلب العلاقة مع الطبيعة من هيمنة واستئثار إلى استخلاف واستئمان وعلاقة الإنسان باخيه الإنسان من تجاذب استغلالي إلى تكامل وشراكة في المسؤولية والخلافة هذه الصيغة الرباعية هي المدلول الاجتماعي العام للتوحيد والقرآن يقدّمها بما هي سنة تاريخية وقانون عام والعرض القرآني لهذه السنة يتخذ شكلين اثنين تارة يعرضها من زاوية دور الله في الكون بما هي عملية ربانية (إني جاعل في الأرض خليفة) فتتخذ مفهوم الخلافة وتارة أخرى يعرضها من جهة تقبل الإنسان لها (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها وحملها الإنسان) (16)
(إن هذه العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الأربعة لم تكن لتصبح قانوناً تاريخياً إلاّ لأنها داخلة في تكوين الإنسان في تركيب مسار الإنسان الطبيعي والتاريخي) فالله قد صاغ هذا الإنسان باستعدادات وقابليات وميول منسجمة تماماً مع العلاقة الاجتماعية الرباعية.
وبالتفاتة ذكية رائعة يطابق بين مدلول الآيتين اللتين تحدثنا عن الصيغة الرباعية (17)وبين الآية: (.. فاقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)(18)
فالتعبير بالدين القيم تأكيد على أن ما هو الفطرة وما داخل في تكون الإنسان وتركيبه وفي مسار تاريخه هو الدين القيم يعني أن يكون هذا الدين قيماً على الحياة أن يكون مهيمناً على الحياة هذه القيمومة في الدين هي التعبير المجمل في تلك الآية عن العلاقة الاجتماعية الرباعية التي طرحت في الآيتين في آية: (اني جاعل في الأرض خليفة) وآية: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض) اذن فالدين سنة الحياة والتاريخ والدين هو الدين القيم والدين القيم هو العلاقة الاجتماعية الرباعية الاطراف التي يدخل فيها الله بعداً رابعاً)(19)
ولكننا بحاجة ماسة في اطار النظرية الإسلامية للصيغة الرباعية ان نوضح أكثر فعالية الله في المجتمع والتاريخ حتى ندفع توهّم قد يثيره الخصوم وهو ان هذه الصيغة بإدخالها العنصر الرابع (الله) جل جلاله تلغي دور الإنسان وتفسر كل الظواهرالاجتماعية تفسيراً غيبياً لاهوتياً يعزل هذه الظواهر عن أسبابها وعن القوانين التي تحكمها لتربطها مباشرة بالإرادة الإلهية.. وتقصي نهائياً إرادة الإنسان في التاريخ.. وتسقطنا في حبائل الجبر والصرف.. ان هذا التوهم مدفوع بحزم وقوة... لأن فعالية (الله) في المجتمع والطبيعة والتاريخ لا تعني البتة تحنيط الإنسان وتجميد إرادته... (وسنبيّن في الفصل الثالث ذلك من خلال شرح مفصل لهذا الدور الإلهي.. في حياة الإنسان...).
وعلى مستوى (الدولة) لا تخلو العقيدة من مدلولات هامة... ففي رسالة (منابع القدرة في الدولة الإسلامية) تحدث باقر الصدر عن عطاءات العقيدة في هذا المضمار واعتبر الدولة الإسلامية نموذجاً فريداً لما تمتاز به من خصائص تجعل حركتها الحضارية حركة مستمرة لاستنادها إلى عقيدة توحيدية صلبة. فالتركيب العقائدي للدولة الإسلامية الذي يقوم على أساس الإيمان بالله وصفاته وتجعل من الله هدفاً للمسيرة وغاية للتحرك الحضاري الصالح على الأرض هو التركيب العقائدي الوحيد الذي يمد الحركة الحضارية للإنسان بوقود لا ينفذ(20)
ان العقيدة الإسلامية تحول عمل المسلم وحركته في ظل المجتمع المسلم والدولة المسلمة إلى عبادة تتهاوى معها الحواجز بين السماء والأرض.. والحياة والغيب ويندمج الإنسان في مسيرة متوازنة بالله نَحوَهُ سبحانه وتعالى.
المصادر :
1- لاحظ بحث الشهيد مطهري: ختم النبوة، ودراسة السيد الطباطبائي حول النظام الاجتماعي في الإسلام
2- محمد باقر الصدر: أهل البيت /ص38
3- محمد باقر الصدر: أهل البيت / ص38
4- میزان الحکمة / ص43
5- السيد محمد الصدر: في موسوعة الإمام المهدي (عج): الجزء الرابع، اليوم الموعود
6- انظر تفاصيل وخصائص كل مرحلة في كتاب: اليوم الوعود للسيد محمد الصدر من ص426 فما فوق
7- انظر أمين أحمد: زعماء الإصلاح في العصر الحديث
8- فهمي جدعان: اسس التقدم، (مصدر سابق)، ص189
9- محمد باقر الصدر: منابع القدرة في الدولة الإسلامية (الإسلام يقود الحياة)، دار التعارف، ص228
10- محمد باقر الصدر، المدرسة الإسلامية، دار الكتاب الإيراني، ص84
11- میزان الحکمة / ص87
12- میزان الحکمة / ص88
13- میزان الحکمة / ص91 إلى 93
14- میزان الحکمة / ص97
15- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية /ص131
16- الاحزاب / 72
17- الآية: 30 البقرة / الآية: 72 الأحزاب
18- الروم: 30
19- میزان الحکمة / ص134ص136
20- محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، (م. س) ص202



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.