طغيان عهدي المعتصم والواثق

عاش إمامنا علي الهادي (عليه السلام) عهوداً ستّةً في ظلّ ظلمٍ سافرٍ، إذ حمل أمر الله تبارك وتعالى بولاية النّاس طيلة ملك ستّةٍ من خلفاء بني العباس، هم: المعتصم، والواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعتزّ، ولاقى أثناء ذلك صنوفاً من الأذى
Friday, September 12, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
طغيان عهدي المعتصم والواثق
طغيان عهدي المعتصم والواثق

 






 

عاش إمامنا علي الهادي (عليه السلام) عهوداً ستّةً في ظلّ ظلمٍ سافرٍ، إذ حمل أمر الله تبارك وتعالى بولاية النّاس طيلة ملك ستّةٍ من خلفاء بني العباس، هم: المعتصم، والواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعتزّ، ولاقى أثناء ذلك صنوفاً من الأذى وأنواعاً من المكر، وعاشر فيها عتاةً متغطرسين حكموا المسلمين باسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وساروا وفق جاهليةٍ رعناء، ولم يعيشوا الإسلام إلاّ في مظاهر جوفاء!. ثم عمدوا إلى بني عليّ (عليه السلام) فأرعبوهم طيلة حياتهم التي ختموها معهم - كلّهم - بالسّمّ والقتل البشع، حرباً لله تعالى ورسوله!. ثم لم يخجلوا بأن تلقّبوا بألقابٍ كانوا أبعد عن معناها بعد السماء عن الأرض، إذ كان الرشيد غير رشيدٍ حين أطغاه الحكم، والمأمون غير مأمون على غير عباسيّته العنيدة، والمعتصم اعتصم بغير الله وبغير أهل الدّين ضدّ أهله، والواثق عرف الحقّ وعمل بغيره، والمتوكل توكّل على الشيطان دون سواه، والمنتصر انتصر بأبالسة التّرك والدّيلم على العرب والمسلمين، والمستعين لم يستعن بالله طرفة عين، ومثلهم المعتزّ، والمعتضد، وو... وقد أضافوا أسماءهم جميعها إلى اسم الله ولم يعرفوا الله، وتلبّسوا بخلافة فاقدةٍ لمحتواها، ثم حملوا أوزار سلطانٍ غاشم فعل الأفاعيل وجاء بالأباطيل، وغطّى على عهد الأمويّة الّذي سبق، وعلى عهد الوثنيّة التي سلفت!. فسحقاً لأصحاب ألقاب أغضبوا ربّ الأرباب لكثرة ما احتطبوا من الآثام ولشدّة ما ارتكبوا من الإجرام..
أجل، قد عاصر إمامنا (عليه السلام) هؤلاء الخلفاء الستّة المتجبّرين، فلوى كبرياءهم بجلالة قدره، وكفخ طغواهم بعزّته من ربّه، وتغلّب على كيدهم بما آتاه الله تعالى من العلم والفضل والكرامة.. وخرج منتصراً على زورهم وبهتانهم في سائر مناسبات حياته معهم، من غير أن يعلق بأذيال أردانه الطاهرة شيء من شوائبهم ومصائبهم، ودون أن يغبّر طريقه رماد قلوبهم المحترقة من عظمته، لأنهم كانوا كلّما نفخوا في نار حقدهم، أعمى الرّماد أبصارهم!.
ونحن إذا حاكمنا العباسيّين محاكمةً عادلةً، ونظرنا إلى أعمالهم بعين العقل والدّين، نرى أن جرائمهم ضدّ الإسلام وحملة الدّين تفوق جرائم الأمويّين الذين أقسم شيخهم أن لا جنّة ولا نار!. وقال معاويتهم: لم أقاتلكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، بل لأتأمّر عليكم وعلى رقابكم!. وقتل يزيدهم الحسين، ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ومزّق وليدهم القرآن وقال:
إذا ما جئت ربّك يوم حشرٍ فقل: يا ربّ مزّقني الوليد! فأولئك قوم أعادوها وثنيّةً جاهليّةً، بقالب قيصيريّةٍ كسرويةٍ حادت عن خطّ الإسلام من جهة، وكانت لهم ترات وذخول عند أمير المؤمنين (عليه السلام) من جهةٍ أخرى، فاعتبروا عملهم الجاهليّ معه ومع أبنائه أخذاً بالثأر..أمّا بنو العباس فقد جاءوا إلى الحكم على أساس تدمير تلك الوثنيّة وردّ الحقّ إلى مستقرّه، ولكنّه ما عتّم أن صار سكرهم يزري بسكر يزيد العربيد، وفسقهم يضمحلّ أمامه فسق الوليد، وجرائمهم مع أئمّة أهل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله) رجحت بجرائم كلّ جبّار عنيد!. فهم في ميزان خلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صفر وهباء، وفي ميزان السلاطين والملوك سفّاكون سفّاحون، وفي ميزان الحكّام العاديّين ظلمة جائرون، لم يربحوا معركةً مع أعداء الدّين، ولا خسروا معركةً مع أهل الحقّ من المسلمين!. قصورهم كانت مواخير، للسّكر والفسق والدعارة واللّواط، وأموال المسلمين كانت بين أيديهم نهباً للعملاء والسّمّار والمهرّجين والمغنّين والراقصات.. وأحكام قضاتهم جرت في رقاب أصحاب المذاهب، وسياطهم تقطّعت على جلود الفقهاء والعلماء.. وعنّا لأمرك يا ربّ في هؤلاء الخلفاء لرسولك الكريم (صلّى الله عليه وآله)!
ففي عهد المعتصم الذي لم يعتصم إلاّ بسنّة آبائه كيداً للبيت العلويّ وحرباً لله، واجه إمامنا (عليه السلام) أزمتين من أعظم أزمات عمره، إذ تلقّى كارثة الفجيعة بأبيه الذي سمّه المعتصم مرتكباً جريمةً نكراء بقتل إمام منصّب من ربّه، ثم لاقى منه - هو وآله من العلويّين - عزلاً وضيقاً أشدّ من عزل الهاشميّين في شعب أبي طالب أيّام الجاهلية العمياء.. فإن حادثة قتل أبيه (عليه السلام) آذت كلّ ذي ضمير، وأفزعت كلّ إنسانٍ، واهتزّ من بشاعتها عرش الرحمن!. إلاّ ضمائر المؤرّخين المأجورين فإنها لم تتحرّك ولم تتأثّر وأبقت تفصيلات ذلك كلّه طيّ الكتمان.. وقد كان الخليفة يومئذ يولّي على مكة والمدينة كلّ جبّارٍ من ولاته، ثم يوصيه بالقسوة وأخذ العلويّين بالعنف، فأضيف ظلمه إلى ظلم ولاته القساة على أهل الحقّ، الجفاة لآل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأدّى ذلك التصرّف الأرعن إلى صرعةٍ شعبيّةٍ تركت الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ ظلم الخليفة شديد!!. فمن ذلك ما حصل على يد عمر بن الفرج الرّخّجيّ الذي أذاقهم ألواناً من الضّيق والحاجة، ومنع صلتهم والتعامل معهم، وسدّ في وجوههم أبواب الرّزق وسبل العيش، وأعطى أبشع صورةٍ عن جور ذلك العهد المشؤوم - كما سترى بعد قليل - حيث كان الإمام (عليه السلام) لا يزال ما بين السابعة والتاسعة من عمره الشريف.
ومع ذلك التعسّف الذي ما عليه من مزيد، لم يكن الأمام الغلام (عليه السلام) قابعاً في زاوية همّه وغمّه وحزنه على أبيه، بل كان يخرج إلى مسجد جدّه الأعظم (عليه السلام)، فيفتي ويقضي لمواليه ولسائر الناس ببيان ربّانيّ وبحجّة دامغةٍ، ناطقاً بالقرآن والسنّة، وحاكماً بما نزل من عند ربّه عزّ وعلا، فيرجع إليه مشايخ الفقهاء من الهاشميين وغيرهم، إذ لا يجدون الحقّ إلاّ عنده ولا يرون الصّدق إلاّ على لسانه، ويلمسون من علمه وفضله ورشده ما لا يتوفّر عند شيوخهم وكبرائهم في سائر أرجاء الدولة الإسلاميّة، لأنه ينطق عن علمٍ من علم الله تعالى، ورثة عن آبائه، عن جدّه صلوات الله عليه وعليهم، ولم يكتسبه من مدرسةٍ ولا من أستاذ، بل هو موهوب له وكأنّه مخلوق معه، قد زقّه زقّاً منذ طفولته المبكّرة.. وقد كانت تظهر للناس براهينه الساطعة وآياته الباهرة، ثم لا يخفى ذلك على قصر الإمارة ومن فيه، لأنّه كانت تتناول أحاديث عجائبه الرّكبان فتصل إلى كلّ مكان.
ومن أبرز ما حدث من دلائل عظمته يومها وهو بعد دون الحلم أنّ أحد الثقات من أصحاب أبيه وأصحابه الذين كانوا يتولّون العمل في الدولة، حبسه المعتصم وهدّده بالقتل وبمصادرة أملاكه لأنّه يتولّى الله ورسوله والّذين آمنوا!. ذاك هو اليسع بن حمزة العمّي الذي روى عنه محمد بن جعفر بن هشام الأصبغي قصته قائلاً:
(أخبرني عمرو بن مسعدة، وزير المعتصم الخليفة، أنه جاء عليّ بالمكروه الفظيع حتى تخوّفته على إراقة دمي وفقر عقبي. فكتبت إلى سيّدي أبي الحسن العسكريّ (عليه السلام) أشكو إليه ما حلّ بي!.
فكتب إليّ: لا روع عليك ولا بأس، فادع الله بهذه الكلمات يخلّصك الله وشيكاً ممّا وقعت فيه ويجعل لك فرجاً، فإنّ آل محمد (صلّى الله عليه وآله) يدعون بها عند إشراف البلاء وظهور الأعداء، وعند تخوّف الفقر وضيق الصّدر.
قال اليسع بن حمزة: فدعوت الله بالكلمات التي كتب إليّ سيّدي بها، في صدر النّهار. فوالله ما مضى شطره حتى جاءني رسول عمرو بن مسعدة فقال لي: أجب الوزير! فنهضت ودخلت عليه. فلمّا بصر بي تبسّم إليّ، وأمر بالحديد ففكّ عنّي، والأغلال فحلّت منّي، وأمر لي بخلعةٍ من فاخر ثيابه، وأتحفني بطيب، ثم أدناني وقرّبني وجعل يحدّثني ويعتذر إليّ، وردّ عليّ جميع ما كان استخرجه منيّ، وأحسن رفدي وردّني إلى الناحية التي كنت أتقلّدها وأضاف إليها الكورة التي تليها)(1).
ثم ذكر الدعاء، وهو هذا:(يا من تحلّ بأسمائه عقد المكاره، ويا من يفلّ بذكره حدّ الشّدائد، ويا من يدعى بأسمائه العظام من ضيق المخرج إلى محلّ الفرج، ذلّت لقدرتك الصّعاب، وتسبّبت بلطفك الأسباب، فهي بمشيئتك دون أمرك مؤتمرة، وبإرادتك دون وحيك منزجرة، وأنت المرجوّ للمهمّات، وأنت المفزع للملمّات، لا يندفع منها إلاّ ما دفعت، ولا ينكشف منها إلاّ ما كشفت. وقد نزل بي من الأمر ما فدحني ثقله، وحلّ بي منه ما بهضني حمله، وبقدرتك أوردت عليّ ذلك، وبسلطانك وجّهته إليّ، فلا مصدر لما أوردت، ولا ميسّر لما عسّرت، ولا صارف لما وجّهت، ولا فاتح لما أغلقت، ولا مغلق لما فتحت، ولا ناصر لمن خذلت إلاّ أنت. فصلّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ وافتح لي باب الفرج بطولك، واصرف عنّي سلطان الهمّ بحولك، وأنلني حسن النّظر فيما شكوت، وارزقني حلاوة الصّنع فيما سألتك، وهب لي من لدنك فرجاً وحيّاً، واجعل لي من عندك مخرجاً هنيئاً، ولا تشغلني بالاهتمام عن تعاهد فرائضك واستعمال سنّتك، فقد ضقت بما نزل بي ذرعاً، وامتلأت بحمل ما حدث عليّ جزعاً، وأنت القادر علي كشف ما بليت به، ودفع ما وقعت فيه، فافعل ذلك بي وإن كنت غير مستوجبه منك يا ذا العرش العظيم وذا المنّ الكريم، فأنت قادر يا أرحم الرّاحمين، آمين ربّ العالمين)(2).
فمذ رفع الإمام الغلام (عليه السلام) كفّ الابتهال إلى ربّه جلّ وعلا بشأن اليسع بن حمزة استجاب الله تعالى دعاءه وفرّج عنه فكتب إليه: لا روع عليك، ولا بأس!.
فما هذه الثّقة الإيمانيّة التي يحملها ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في قلبه!. وما هذا الاطمئنان النفسيّ الّذي أبلغه لصاحبه المكبّل بالحديد في غياهب السّجن، حين قال له بجزم: ادع الله بهذه الكلمات يخلّصك الله وشيكاً ممّا وقعت فيه؟!. فكيف ضمن له الخلاص وأكّد له سرعته، فتمّ في جزءٍ من النّهار؟!.
إنّ هذا الإمام الغلام وإن يكن صغيراً فهو كالكبير من أهل هذا البيت الّذين أمرهم من أمر الله سبحانه، وسرّهم من سرّه، وعظمتهم من عنده.. من تقدّمهم ضلّ، ومن تأخّر عنهم زلّ وقطع صلته بآل الله ولم يكن له حظ من الله ولا نصيب يوم تزلّ فيه الأقدام. فهم باب رحمته سبحانه، ومفاتح النجاة بين يديه، ما خاب من تمسّك بهم، وأمن من لجأ إليهم لأن الحقّ معهم، وفيهم، ولهم.. ما نازعهم إيّاه إلاّ شقيّ ولا تعدّى عليهم فيه إلاّ غويّ مبين..
ثم (إنّ المعتصم استعمل على المدينة المنوّرة ومكة المكرّمة عمر بن الفرج الرّخّجيّ الذي مرّ ذكره، والّذي كان يقسو على آل أبي طالب ويضيّق عليهم - أيّام حداثة الإمام الجواد (عليه السلام) - وكان يمنعهم سلوك سبل العيش، ويحول بينهم وبين مساءلة الناس لهم، ويحذّر الناس برّهم وصلتهم، حتى أنّه كان لا يبلغه عن أحد برّهم بشيء وإن قلّ، إلاّ أنهكه عقوبة وأثقله غرماً وأشبعه عذاباً!!! فبلغ بهم ضيق الحال أن صارت العلوّيات يصلّين في القميص الواحد واحدةً بعد واحدةٍ لأنهنّ لا يملكن غيره، ثم يرقعنه إذا تخرّق، ويجلسن في منازلهنّ عواري حواسر!!)(3).
ثم تمّت فصول رواية ظلم المعتصم للطالبيّين بأن اغتال الإمام الجواد (عليه السلام) بالسّم، وتلطّخت يداه الآثمتان بتلك الجريمة الكبرى، ومع ذلك لم يبرد غليله بل ثارت ثائرة الحقد في صدره وشرهت نفسه إلى التشفّي من أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يحكم المسلمين باسمه وباسم دينه، ولا يخجل منه ولا يخاف عقبى عمله الكافر السافر، ناسياً موقفه المخزي بين يدي الله عزّ وجلّ وأمام رسوله (صلّى الله عليه وآله) إن كان يؤمن بيوم البعث والحساب!.
لكن، من قتل إماماً (منصوباً) من لدن ربّه تبارك وتعالى، و(منصوصاً) عليه من رسوله الأعظم، و(موصىً) له من آبائه الكرام، و(حاملاً) لكلمة الله إلى عباده، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، مقيماً للحقّ، مزهقاً للباطل - أقول: من قتل مثل ذلك الإمام من أجل ملكٍ يدوم عدّة أعوام، يكون عميلاً للشيطان لا خليفةً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويكون من أسفه من خسرت تجارتهم حين باعوا آخرتهم بدنياهم (فباءوا بغضبٍ على غضبٍ..)(4) واستحقّوا العذاب المهين.
فيا أيّها المعتصم بالعصبيّة الجاهلية: لم يسيء أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) إلى أجدادكم، بل أحسن إليهم وولّى أربعة من أولاد عمّه العباس بالذات!. فيا ليتك ارتفعت إلى منزلة الجاهليّين وقابلت الإحسان بالإحسان يا أمير (المتأسلمين) الضائعين مثلك عن الحقّ.. لكنت إذاً ممّن لا يسيئون إلى من أحسن إليهم..
نعم كان الإمام في هذا العهد غلاماً، ولكنّه مهيب مرهوب، مفروض احترامه وتوقيره على الجميع بلا استثناء أحدٍ من الخلق، عطاءً من ربّه عزّ اسمه. وسترى آيات ذلك طيّ فصول هذا الكتاب فتقف على حقيقة كون الأئمّة بشراً من غير سنخ البشر.
وإذا أحببت أن تسمع مثلاً على ذلك، وتلمس هيبته في هذا السنّ المبكّرة فاستمع إلى ما ذكره الحسن بن محمد بن جمهور العمّي الذي قال: (حدثني سعيد بن عيسى قائلاً:رفع زيد بن موسى بن جعفر الصادق (عليه السلام)، عمّ أب الإمام الهادي (عليه السلام) إلى عمر بن الفرج - الوالي علي مكة والمدينة المنوّرة الذي مرّ ذكره - مراراً يسأله أن يقدّمه على ابن أخيه الهادي (عليه السلام) ويقول: إنّه حدث وأنا عمّ أبيه.
فقال عمر: ذلك لأبي الحسن (عليه السلام).
فقال: افعل واحدةً، أقعدني غداً قبله ثم انظر.
فلمّا كان في الغد أحضر عمر أبا الحسن (عليه السلام)، فجلس في صدر المجلس. ثم أذن لزيد بن موسى فدخل فجلس بين يدي أبي الحسن (عليه السلام).
فلمّا كان يوم الخميس أذن لزيد بن موسى قبله، فجلس في صدر المجلس. ثم أذن لأبي الحسن (عليه السلام)، فدخل.. فلمّا رآه زيد قام من مجلسه وأقعده وجلس بين يديه)(5).
فلماذا تصاغر أمام الإمام عمّ أبيه؟!. وما الذي أزاحه عن صدر المجلس، وأزاله عن مقام كبريائه، وأقعده مؤدّباً بين يدي ابن ابن أخيه؟!! وما الّذي جعله ينهزم أمام الغلام الحدث يا ترى؟!!
الجواب غير خافٍ على أحد وإن كان الناس قد (جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً)(6) كقوم نوح الذي دعاهم نبيّهم جهاراً، وأسرّ لهم إسراراً، فلم يزدهم دعاؤه إلاّ فراراً!. فالقوم أبناء القوم، ولا فرق بين الأمس واليوم.. وقد جرف الناس طوفان الكبر على أوامر الله تبارك وتعالى.. وأخني على عنادهم الدهر!. وما أبعد أهل العناد عن اتّباع سبيل الرشاد!.
ولن ننتقل إلى موضوعٍ آخر قبل أن نعرض للقارئ شيئاً من شريط نهاية أمر عمر بن الفرج الرّخّجي الذي كان والياً في أطراف البلاد حتى اشتهر ظلمه لآل أبي طالب، فنقل إلى القصر كاتباً فموظّفاً كبيراً، وكوفئ فصار مستشاراً جبّاراً في قصر سامرّاء أيام المتوكل، وكان من أكثر موظّفي القصر إيذاءً للإمام الهادي بعد إيذاء أبيه (عليهما السلام)، ومن أشدّ الناس حرباً عليهما وكيداً لهما ولآلهما.. فمن نتائج إفكه وافترائه على الإمام الجواد (عليه السلام)، وما رواه محمد بن سنان الذي قال:
دخلت على أبي الحسن - الهادي (عليه السلام) - فقال: يا محمد، هل حدث بآل فرج حدث؟
فقلت: مات عمر.
فقال (عليه السلام): الحمد لله!. حتى أحصيت له أربعاً وعشرين مرّة!.
فقلت: يا سيّدي لو علمت أنّ هذا يسرّك، لجئت حافياً أعدو إليك.
فقال: يا محمد، أو لا تدري ما قال لعنه الله لمحمد بن عليّ أبي؟!.
قلت: لا.
قال: خاطبه في شيءٍ، فقال: أظنّك سكران!!! فقال أبي: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي أمسيت لك صائماً، فأذقه طعم الحرب وذلّ الأسر!. فوالله ما ذهبت الأيام حتى حرب ما له وما كان له - أي حرم منه وسلبه - ثم أخذ أسيراً!. وهو ذا قد مات - لا رحمه الله - وقد أدال الله عزّ وجلّ منه، وما زال يديل أولياءه من أعدائه)(7).
أما تفصيل الحال السيّئة التي وصل إليها عمر بن الفرج بفعل دعاء الإمام (عليه السلام)، فقد ذكره ثلاثة مؤرّخين أجلاّء وهم: المسعودي، وابن الأثير، والطبريّ.. فقد قال المسعودي - وقريب منه ما قاله ابن الأثير (في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، سخط المتوكل على عمر بن الفرج الرّخّجيّ، وكان من علية الكتّاب، وأخذ منه مالاً وجواهر نحو مائة ألفٍ وعشرين ألف دينار، وأخذ من أخيه نحو مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار!. ثم صولح عمر على أحد وعشرين ألف ألف درهم - 21 مليوناً - على أن يردّ عليه ضياعه.. ثم غضب عليه غضبةً ثانيةً وأمر أن يصفع في كلّ يوم، فأحصي ما صفع فكان ستّة آلاف صفعة!. وألبس جبّة صوف.. ثم رضي عنه، وسخط عليه ثالثةً وأحدر إلى بغداد وأقام بها حتى مات)(8).
وهذا من نهاية الذّل والهوان حيث سلب ماله وضياعه، وأسر وضرب حتى شبع ومات بحسرته سكراناً من صفع غطرسته المتطاولة على أولياء الله وأهل الكرامة من عبادة.
وقال أبو جعفر الطبريّ: (وفيها - في سنة 233 هـ - غضب المتوكل على عمر بن فرج، وذلك في شهر رمضان، فدفع إلى إبراهيم بن إسحاق بن مصعب، فحبس عنده, وكتب في قبض ضياعه وأمواله. وصار نجاح بن سلمة إلى منزله فلم يجد فيه إلاّ خمسة عشر ألف درهم. وحضر مسرور سمانة فقبض جواريه، وقيّد عمر ثلاثين رطلاً! - أي كان ثقل قيد الحديد في يديه ورجله بهذا الوزن - . وأحضر مولاه نصر من بغداد فحمل ثلاثين ألف دينار، وحمل نصر من مال نفسه أربعة عشر ألف دينار، وأصيب له بالأهواز أربعون ألف دينار، ولأخيه محمد بن فرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار. وحمّل من داره من المتاع ستّة عشر بعيراً فرشاً، ومن الجواهر قيمة أربعين ألف دينار، وحمل من متاعه وفرشه على خمسين جملاً كرّت مراراً!. وألبس فرجيّة صوفٍ وقيّد فمكث بذلك سبعاً، ثم أطلق عنه وقبض قصره، وأخذ عياله ففتّشوا، وكنّ مائة جارية!. ثم صولح على عشرة آلاف ألف درهم - أي عشرة ملايين - على أن يردّ عليه ما حيز عنه من ضياع الأهواز فقط، ونزعت عنه الجبّة الصوف والقيد، وذلك في شوّال.. وقال علي بن الجهم بن بدر لنجاح بن سلمة يحرّضه على عمر بن الفرج:
أبلغ نجاحاً، فتى الكتّاب، مألكةً يمضي بها الرّيح إصداراً، وإيراداً
لا يخرج المال عفواً من يدي (عمرٍ) أو يغمد السيف في فوديه إغمادا
الرّخّجيّون لا يوفون ما وعدوا والرّخّجيّات لا يخلفن ميعادا!)(9)
وويل لمن كفّره النمرود!. فقد ذمّ هذا الشاعر البذيء السّكّير الخمّير عمر بن الفرج وعشيرته وهجاهم بأقبح الهجاء، إذ رماهم بعدم الوفاء بالعهود، ثم ذمّ نساءهم بأخسّ من ذلك وجعلهنّ - جميعهنّ - وفيّاتٍ مع من يطلب وصالهنّ، وفاجراتٍ لا يخلفن موعداً مع عشيق أو طالب هوى وفسق!
وقال عليّ بن محمدٍ النوفليّ: (قال لي محمد بن فرج الرّخّجيّ - وهو أخو عمر المذكور، ولكنه كان على عكس أخيه مذهباً ومسلكاً، إذ كان من المتشيّعين للإمام (عليه السلام)، وإن كان قد أخذ بجريرة أخيه حين غضب المتوكل - قال:
إنّ أبا الحسن (عليه السلام) كتب إليه: يا محمد اجمع أمرك، وخذ حذرك!.
قال: فأنا في جمع أمري لست أدري ما الذي أراد بما كتب به إليّ، حتى ورد عليّ رسول فحملني من مصر مصفّداً - مقيّداً - بالحديد، وضرب علي كلّ ما أملك - أي صادره - . فمكثت في السجن ثماني سنين.
ثم ورد عليّ منه كتاب وأنا في السّجن: يا محمد بن الفرج، لا تنزل في ناحية الجانب الغربيّ.
فقرأت الكتاب وقلت في نفسي: يكتب أبو الحسن (عليه السلام) إليّ بهذا وأنا في السّجن؟!! إنّ هذا لعجيب!.
فما مكث إلاّ أياماً يسيرةً حتى أفرج عنّي، وحلّت قيودي، وخلّي سبيلي.
قال علي بن محمد النوفلي: فلمّا شخص محمد بن الفرج الرّخّجي إلى العسكر - سامراء - كتب له بردّ ضياعه، فلم يصل الكتاب إليه حتى مات)(10).
وقال عليّ بن محمدٍ النوفليّ نفسه: (وكتب أحمد بن الخصيب - وهو الوزير - إلى محمد بن الفرج الخروج إلى العسكر. فكتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يشاوره، فكتب إليه أبو الحسن (عليه السلام): اخرج فإنّ فيه فرجك إن شاء الله.. فخرج، فلم يمكث إلاّ يسيراً حتى مات).
وقال أحمد بن (محمد): (أخبرني أبو يعقوب، قال: رأيت محمد بن الفرج قبل موته بالعسكر في عشيّةٍ من العشايا وقد استقبل أبا الحسن (عليه السلام)، فنظر إليه نظراً شافياً، فاعتلّ محمد بن الفرج من الغد. فدخلت عليه عائداً بعد أيام من علّته وقد ثقل، فحدّثني أن أبا الحسن (عليه السلام) قد أنفذ إليه بثوبٍ وأرانيه مدرجاً - مطويّاً - تحت رأسه.قال: فكفّن والله فيه)(11).
فانظر إلى الفرق بين الأخوين - عمر، ومحمد - وإلى موقفي الإمامين (عليهما السلام) من كلّ منهما، وكيف استجيب دعاء الإمام الجواد (عليه السلام) بشأن عمر الأفّاك منهما وكيف كانت عناية الإمام الهادي (عليه السلام) بمحمدٍ المؤمن المهتدي.. ثم لا تنس ما في الأحداث من أعلام الغيب ومن الكرامات التي انفرد بها أهل هذا البيت النّبويّ صلوات الله وسلامه عليهم.. واعلم بأن القوم كانوا قساةً جفاةً لا يتأثّرون بمثل تلك الآيات بعد أن أعمت أبصارهم وبصائرهم لذائذ الحياة ومغريات الدّنيا.
وفي عهد الواثق(12) كان الإمام (عليه السلام) لا يزال يلملم شتات أشياعه فيسدّدهم، ويقوّي قلوبهم، ويجمعهم علي الإيمان والعمل بما يرضي الله عزّ وجلّ، ولا يغادر بيته إلاّ إلى بيت ربّه عزّ وعلا في موسم الحج، أو إلى مسجد جدّه (صلّى الله عليه وآله) في باقي أيام السنة.. وممّا سمع عنه في ذلك الوقت قول خيران الأسباطيّ الذي قال:
(قدمت على أبي الحسن، عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام)، المدينة فقال لي: ما خير الواثق عندك؟
قلت: جعلت فداك، خلّفته في عافية. أنا من أقرب الناس عهداً به. عهدي به منذ عشرة أيام.
قال لي: إنّ أهل المدينة يقولون إنه قد مات.
فقلت: أنا أقرب الناس به عهداً.
فقال لي: إنّ الناس يقولون: إنه مات.
فلمّا قال لي: إنّ الناس يقولون، علمت أنّه يعني نفسه.
ثم قال لي: ما فعل جعفر؟ أي المتوكل.
قلت: تركته أسوأ الناس حالاً في السّجن.
فقال لي: أما إنه صاحب الأمر.
ثم قال: ما فعل ابن الزيّات؟
قلت: الناس معه، والأمر أمره.
فقال: أما إنه شؤم عليه.. ثم إنه سكت.. وقال لي: لابدّ أن تجري مقادير الله وأحكامه.. يا خيران، مات الواثق، وقد قعد جعفر المتوكل، وقد قتل ابن الزيّات.
قلت: متى، جعلت فداك؟!.
قال: بعد خروجك بستّة أيام. وكان كذلك)(13).فقد فجأ الإمام (عليه السلام) خيران هذا بسؤاله له: ما خبر الواثق؟ ليلفت نظره - كواحدٍ من الأصحاب الأخيار - إلى أنّ الإمام يعلم ما لا يعلمه الناس، ويعرف الحوادث وقت وقوعها بالذات ولا تخفى عليه خافية لدقّة وسائل إعلامه الربّانيّة التي تفنى أمامها المسافات، وتضمحلّ المشقّات، وتنكشف الأسرار والمخبّئات.. ولذلك فإنه في آخر الحديث أخبر صاحبه بالانقلاب السلطانيّ الذي تمّ بعد مغادرته لبغداد بستة أيام على التحقيق..
أمّا حين قال له: أن الناس يقولون.. فإنه عنى نفسه دون غيره إذ لم يعرف الخبر سواه، ولذلك أدرك صاحبه خيران قصده بوضوح.. ثم أخذه الفكر بعدها بأنّ الذي علم بموت الواثق، وخروج المتوكل من الحبس إلى العرش، وقتل ابن الزيّات - الوزير المتكبّر - هو الجدير بأن يلفت النظر إلى علمه اللّدنيّ الذي يأتيه من ظهر الغيب.. وهو، هو الحريّ بإمامة الناس الذي سخّر الله تعالى له ما لم يسخّره لغيره من سائر الخلق..والإمام (عليه السلام)، عندما فاتح صاحبه بهذا الحديث لم يشأ أن يزفّ إليه ببشارةٍ ولا أن ينبئه بخبرٍ، ولا كانت غايته تقطيع الوقت بأحداث جرت أو تجري.. بل رمى إلى ما هو أبعد من ذلك، وأراد - أقلاًّ - أن ينشر هذا الجليس ذلك الخبر عن لسان سيّده ليثبّت أصحابه على (ولاية) إمام يعرف الكثير من الغيب المحجوب عن الآخرين، إلى جانب علمه وفضله وعالي قدره، وليشاع هذا السرّ عن مصدرٍ مرتبطٍ بالسماء يتلقّى الأمور عن عليم خبير يقدّر الأمور ويقضي بما يشاء.. فيسمع من يسمع.. ويتفكّر ويتدبّر من يريد أن ينظر إلى نفسه فيفتح الله تعالى عليه باباً للهدى إلى الحقّ والتمسّك بأهل الحق.
وإنّ من شأن الإمام أن لا يقعد ساكتاً إذا تشرّف بحضرته جليس؛ فهو إمّا أن يسأل فيجيب ليوضح ما استبهم على الناس، وإمّا أن يبتدئ بالكلام الذي يفيد جليسه وغير جليسه فيبيّن الأحكام ويطلق كلمة الحقّ في تفسير القرآن وبيان السنّة النبويّة اللّذين هما دستور الدّين الإسلاميّ الكريم.. أي أنه لابدّ أن يقوم بوظيفته الربّانية من إذاعة الحقّ والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والوقوف بوجه الباطل وإفتاء الناس بما لا يعلمون.. وهكذا يؤدّي رسالته التي انتدبته من أجلها العزّة الإلهية.
قال أبو هاشم الجعفري: (كنت بالمدينة حين مرّ بها بغا - قائد جيش الخليفة - أيام الواثق - في طلب الأعراب(14) - فقال أبو الحسن (عليه السلام): اخرجوا بنا حتى ننظر إلى تعبئة هذا التّركيّ.فخرجنا، فوقفنا، فمرّت بنا تعبئته.فمرّ بنا تركيّ، فكلّمه أبو الحسن (عليه السلام) بالتّركيّة، فنزل عن فرسه وقبّل حافر دابّته. - أي دابّة الإمام - .قال: فحلّفت التّركيّ: ما قال لك الرّجل؟! أي الإمام (عليه السلام).
قال: أنبيّ هو؟!. هذا نبيّ؟!.
قلت: لا، ليس هذا بنبيّ.
قال: هذا دعاني - تكنّاني - باسمٍ سمّيت به في صغري في بلاد التّرك، ما علمه أحد إلى الساعة)(15).
فإذا خطر ببالنا أنّ الإمام (عليه السلام) قد خرج (ليتفرّج) على تعبئة الجيش، ويتنزّة ويسرّي عن نفسه، نكون من البسطاء الذين يجهلون مرتبة الإمامة، بالرغم من أنه كان يومئذٍ في العشرين من عمره الشريف وفي مطلع شبابه؛ فإنّ الأئمّة (عليهم السلام) ما خلقهم الله تعالى للّهو ولا للتفرّج والتنزّة وشمّ النّسيم، بل للأمر العظيم الذي أناطه بهم حين جعلهم الأدلاّء عليه والهداة إليه.. فلم يخرج (عليه السلام) وقتئذٍ إلاّ ليطلق هذه الآية البيّنة من علمه، لتحملها الألسن من صقع إلى صقع، ومن سمع إلى سمع.. ذاك كأنه كان على موعدٍ مع ذلك الجنديّ التّركيّ يصطنع منه عصا موسى (عليه السلام)، ليلقيه (قنبلة) ينبّه تفجيرها أفراد الجيش، ويصل انتشار غبارها الذرّيّ إلى مركز القيادة ليهزّ ضميرها الخائر ويعيد إلى الأذهان - عامّةً - حيويّة التفكير بالدّين وبالعقيدة المستقيمة.. إذ ما إن مرّ الخبر ببغا - القائد التّركيّ - حتى انفتح عليه باب الهدى إلى (الولاية) والإيمان.. ثم مرّ كذلك بجنودٍ آخرين كثيرين صاروا إلى حظيرة الإيمان بعد أن لمسوا أعظم برهان.. ثم وصل إلينا وسيصل إلى غيرنا آيةً على حجّيّة ذلك الإمام المنصّب من ربّه رحمةً لعباده.
هذا، مضافاً إلى أن أبا هاشم الجعفري - رحمه الله - كان (مدير إعلام) للإمام (عليه السلام) إذا صحّ التعبير، لأنه من أجلّ ثقاته وثقات وثقات أبيه من قبله، ومن النّجباء المصدّقين الذين يحدثون في النفوس أعظم الأثر، ويتركون بصماتهم على قلوب عشرائهم فيردّونهم إلى الطريق المستقيم إذا مالت بهم الطّرق المنحرفة.
فالإمام لا يتحرّك إلاّ بأمر ربّه عزّ وسما، ولا يقول، ولا يعمل إلاّ بإلهامه سبحانه وتوجيهه، وهو أبعد البشر عن اللّهو وتقطيع الوقت فيما لا ينفع الناس.
قال محمد بن يحيى: (قال يحيى بن أكثم في مجلس الواثق والفقهاء بحضرته: من خلق رأس آدم (عليه السلام) حين حجّ؟ فتعايى القوم. أي عجزوا عن الجواب.
فقال الواثق: أنا أحضركم من ينبئكم بالخبر.
فبعث إلى عليّ بن محمد، الهادي (عليه السلام)، فأحضره، فقال: يا أبا الحسن، من خلق رأس آدم حين حجّ؟
فقال: سألتك يا أمير المؤمنين إلاّ أعفيتني.
فقال: أقسمت عليك لتقولنّ.
فقال: أمّا إذا أبيت، فإنّ أبي حدّثني، عن جدّي، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أمر جبرائيل أن ينزل بياقوتةٍ من الجنّة، فهبط بها، فمسح بها رأس آدم فتناثر الشّعر منه. فحيث بلغ نورها صار حرماً).
وورد هذا الخبر بشكل آخر عن يحيى بن هرثمة الذي قال: (تذاكر الفقهاء بحضرة المتوكل من حلق رأس آدم (عليه السلام)، فلم يعرفوا من حلقه.
فقال المتوكل: أرسلوا إلى عليّ بن محمد، بن علي الرّضا، فأحضروه.
فأحضروه، فقالوا له ذلك، فقال: إنّ الله أمر جبرائيل أن ينزل بياقوتهٍ من يواقيت الجنّة، فمسح بها رأس آدم فتناثر الشّعر منه. فحيث بلغ نورها صار حرماً)(16).
وقد روي هذا الخبر مرفوعاً إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(17).
ولن نقف طويلاً بين رواية محمد بن يحيى. ورواية يحيى بن هرثمة، فإن الحادثة وقعت في عهد المتوكل بحسب الظاهر لا في عهد الواثق، لأن الإمام (عليه السلام) كان - في عهد الواثق - لا يزال مقيماً في مدينة جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله)، والذي استقدمه إلى دار الخلافة هو المتوكل.. وفي أيّ العهدين كان ذلك الإشكال، فإنهم لن يجدوا حلّه إلاّ عند الإمام (عليه السلام) الذي لا يعيا بجواب ولا يكلّ عند خطاب بقدرة الله تعالى وتسديده.. ومن أجل ذلك ناصبوه العداء، وقتلهم الحقد!.
المصادر :
1- بحار الأنوار: ج 50 ص 224 ومنهج الدعوات: ص 272.
2- انظر المصدر السابق، وهذا الدعاء موجود في أكثر كتب الأدعية مع اختلافٍ قليلٍ في النادر من ألفاظه الشريفة.
3- حلية الأبرار: ج 2 ص 435 - 436.
4- البقرة: 90
5- إعلام الورى: ص 347 ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 410 وفي بحار الأنوار: ج 50 ص 190
6- نوح: 7.
7- الكافي: م 1 ص 496 وبحار الأنوار: ج 50 في هامش الصفحة 221
8- مروج الذهب: ج4 ص 19 - 20 وبحار الأنوار: ج 50 في هامش الصفحة 221 والكامل لابن الأثير: ج 5 ص 269
9- تاريخ الأمم والملوك: ج 7 ص 347.
10- الإرشاد: ص 311 وكشف الغمة: ج 3 ص 170 وإعلام الورى: ص 342 وبحار الأنوار: ج 50 ص 140 - 141
11- انظر مصادر الرقم السابق جميعها.
12- توفي الواثق سنة 232 هـ.
13- الإرشاد: ص 309 وكشف الغمة: ج 3 ص 168 وإعلام الورى: ص 341 وبحار الأنوار: ج 50 ص 151 - 152 ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 410 والكافي م 1 ص 498 ومدينة المعاجز: ص 539 - 540.
14- كان ذلك سنة 232 هـ. كما في الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 270.
15- كشف الغمة: ج 3 ص 187 وإعلام الورى: ص 343 وبحار الأنوار: ج 50 ص 124 ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 408 والأنوار البهية: ص 245 - 246 ومدينة المعاجز: ص 545.
16- الأنوار البهية: ص 254 - 255 وبحار الأنوار: ج 50 ص 171 في الهامش.
17- تذكرة الخواص: ص 203 وص 375.



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.