
يظهر من مجموع الروايات ان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) اختص هؤلاء بعناية فائقة، ميّزهم بها عن سواهم، وهذا هو الذي دعانا إلى اعتبارهم الطليعة التي أعدّها الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) لتحمّل مسؤولية الرسالة بعده، كما دعانا إلى هذا الاعتبار أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ربط الأمة بهم، وأمر بلزوم طريقتهم. وعلى أي حال فالدلائل كلها تشهد أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) كان حريصاً على أن يضع كل الرسالة بيد هؤلاء، وعلى أن يتابع تربيتهم وإعدادهم خطوة فخطوة، ولعلنا نعرف بالضبط ما الذي دعا الرسول إلى ايثار هؤلاء، فان النضج والاخلاص والاندماج بالرسالة الذي يتمتع به هؤلاء كاف لتفسير هذا الإيثار.
وصور العناية بهؤلاء وتعبئتهم علمياً وروحياً وخلقياً مبثوثة في أكثر من مكان، ومظاهر الصلة والصداقة الحميمية بينه وبينهم تجدها حيث نظرت في صفحات تأريخهم.
لقد قال في عمّار: " انه لا يخيّر بين أمرين الاّ اختار أشدهما ".
وقال: " إن عماراً ملئ إيماناً إلى حشاشة ".
أما أبوذر: " فقد كان لرسول الله ملازماً وجليساً وعلى مسألته والاقتباس منه حريصاً والقيام على ما استفاد منه أنيساً وسأله عن الأصول وسأله عن الايمان والاحسان ".
وفي حديث ابي الدرداء:
كان رسول الله يبتدئ أباذر إذا حضر، ويتفقده إذا غاب وقد قال فيه: " ما اظلَّت الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء على ذي لهجة أصدق وأوفى من أبي ذر، فقال عمر: يا رسول الله: أفنعرف ذلك له؟ فقال: نعم فاعرفوه ".
وعن سلمان تحدثنا عائشة انه: " كان له مجلس عند رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ينفرد به بالليل " وقد قال فيه (صلی الله عليه وآله وسلم): " لقد أُشبعَ سلمان علماً ".
وحذيفة بن اليمان كان (صاحب سرّ رسول الله) باتفاق المؤرخين وأهل التراجم. وقد صار ذلك لقباً له وقد ورد في صحيح مسلم: " انّ رسول الله أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة ".
وقال فيه رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): " حذيفة بن اليمان من أصفياء الرحمن وأبصركم بالحلال والحرام ".
وقد ذكر المؤرخون أن رسول الله أعلمه بكثير من الغيبيات، وكان من علمه أنه يعرف المنافقين بأعيانهم، حتّى كان المسلمون يسألونه في ذلك.
وكان المقداد (صاحب رسول الله).
أما علي فالحديث عن صلته بالرسول، وملازمته له حديث عن الواضحات، ولقد كان واضحاً مثل وضوح الشمس ان علياً (عليه السلام) هو الوارث العلمي للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ولقد سئل ابن عباس: كيف ورث علي رسول الله؟
فقال: " لأنه كان أوَّلنا به لحوقاً وأشدّنا به لزوماً ".
وعن ابن عباس أيضاً: " كنا نتحدث أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عهد إلى علي سبعين عهداً لم يعهده إلى غيره ".
وعلي نفسه كان يقول: " كانت لي منزلة من رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) لم تكن لأحد من الخلائق، كنت أدخل على نبي الله كل ليلة، فان كان يصلي سبَّح فدخلت وان لم يكن يصلي أذِنَ لي فدخلت ".
وعنه أيضاً: " كان لي مع النبي مدخلان، مدخل بالليل، ومدخل بالنهار " لماذا اختصّ النبي علياً بذلك، وهل كان من باب الصدفة؟
النظرة التحليلية الشاملة تقنعنا في أن النبي كان يهدف إلى إعداده كاملا ووضع الرسالة كلها بين يديه وأمام عينيه، وكان يقصد ذلك قصداً، ويتعمده عمداً، فاذا سكت علي ابتدأ النبي، وإذا نفدت أسئلته تبرّع النبي بالعطاء.
وحين كان يقول: " أنت تبيّن لأمتي من بعدي " كان يعني حقيقة ما يقول. فالأمة لا تملك تفاصيل الرسالة ولا استعدّت لذلك، إنما علي والصفوة المؤمنة هم القواعد بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)، وهم روافد الأمة.
ليس علي وحده هو الذي يحظى بالعناية الاستثنائية، إنما سلمان وأبوذر وعمار كان لهم حصَّة، كان لهم مدخل على الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) كما كان لعلي مدخل، وكان لهم بعد ذلك من العلم حظ وافر لا يدنو منه أحد من رجال هذه الأمة.
أليس ملفتاً للنظر أن هؤاء الصفوة مثلوا خطاً واحداً بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)، ومثّلوا خطاً واحداً أيام الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم). ما الذي جمعهم؟ ومن ربطهم؟ وكيف اتَّحدت كلمتهم؟
نعم، كان نصيب علي من تلك العناية أكبر، لأن علياً نفسه كان أكبر وأنضج.
كان علي نفس الرسول لحمه من لحمه، ودمه من دمه، وكان علي أخا الرسول، وكان علي من النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بمنزلة هارون من موسى. هكذا كان يقول رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، علي لم تلوّث قلبه نقطة من نقاط الجاهلية السوداء، علي لم يشترك في تربيته أحد سوى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قبل النبوة وبعد النبوّة، النبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)... حيث الطهارة، والصفاء، والنضج والخُلُق وسمو النفس. حتّى المجتمع الجاهلي لم يتصل به علي، وليم يتدنَّس بشائبة من شوائبه، هو في بيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قبل الإسلام وفي بيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بعد الإسلام، وإلى بيت من بيوت النبي بعد الاصهار بفاطمة.
وبعد فعلي من بيت كله شرف، ورفعه وبُعد عن سخافات قريش، وتعالي عن دناءاة قريش، حتّى الوراثة تعمل فيه عملها.
هل كان أبو طالب كما كانت قريش وشيوخ قريش حيث الانتهاز، والأنانيّة، والوصوليّة، والعفونة في التفكير وفي الخلق؟
تاريخه يقول لنا: انه فوق ذلك كله، والبيت الهاشمي معروف من قبل ومن بعد بالتفوّق على الانحطاطات.
هذا هو علي ربيب النبي ثم أخوه ثم نفسه.
ولقد كان علي قمة الطليعة كما أراد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وكان المحور والمركز والمَثَل للطليعة أنفسهم، لقد كان باب مدينة علم الرسول وكفى. ومن هنا كانت الطليعة كلها شيعة لعلي، وعرفت بذلك على عهد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم).
يحدّثنا الرواة: " انّ أول اسم ظهر في الإسلام على عهد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) هو الشيعة وكان هو لقب أربعة من الصحابة وهم أبوذر وسلمان والمقداد وعمار ".
ولم يكن الإعداد علمياً فقط، لقد كان النبي يعدّهم نفسياً ومعنوياً أيضاً.
كان يحدّثهم بمسؤوليّتهم فيما بعد، وكان يحدّثهم عن دورهم، وإذ كان يعلم أن قريشاً ستنحرف عنهم، فقد كان يوصيهم بالتماسك وعدم الانهيار والتمتع بالنَفَس الطويل.
لقد كان يحدّث علي بتفاصيل ما يجري عليه، وكان يحدِّث الطليعة بمثل ذلك.
الاندماج مع الرسالة:
وهؤلاء الطليعة الذين ملكوا النضج الذاتي، وحباهم رسول الله بالإعداد الرسالي كم كان أنصهارهم بمفاهيم وقيم الرسالة الالهيّة؟وما هي درجة تفاعلهم ودرجة تضحيتهم ودرجة شعورهم بالمسؤولية.
هنا أيضاً نلاحظ التفوق منذ البداية حتّى النهاية.
إذا أردتم أن تنظروا إلى علي، فلا تنظروا إليه وإنما قارنوا بين مواقفه ومواقف سائر المسلمين، على اختلاف درجاتهم.
قارنوا بين مواقفه في معركة الأحزاب وموقفهم، حيث الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ينادي قائلا من يبرز له ـ عمرو بن ود ـ وأنا أضمن له على الله الجنة فلا يقوم أحد الاّ علي ثلاث مرّات.
لقد كان الايمان كله يبرز إلى الشرك كله على حدّ تعبير الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم).
هنا المسلمون فقدوا إرادتهم ونسوا مسؤوليتهم، ومن هنا كان علي وحده الإيمان كله!!
وقارنوا بين موقفه يوم خيبر وموقفهم ـ أرأيت كيف انهزموا قبل أن يضربوا بسهم أو يطعنوا برمح ـ لمجرد الرؤية إنهزموا أمّا علي فأنت تعرف ما صنع.
قارنوا بين موقفه يوم حنين وموقفهم، لقد تركوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وتركوا الرسالة، ونفضوا أيديهم من المسؤولية أرأيتم كيف ولّوا مدبرين؟!
أما علي فإلى اللحظة الأخيرة كان يمزّق الكتائب، ويبعثر الصفوف، ويرد عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، ربما لا عن قصد جاء حديثي عن الشجاعة لكن الامام علي (عليه السلام) لا يملك الشجاعة وحدها، وإنما يملك الكفاءة الكاملة في أداء الرسالة، لقد قال له الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يوم استخلفه على المدينة: " إنه لا يصلح لها الاّ أنا وأنت " ولقد قال له يوم بعثه بسورة براءة وردّ أبابكر: " إنّه لا يؤدي عني إلا أنت " أليس هو إذن صنو النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، خذوا من شئتم سلمان، عمار، أباذر، أو مقداد أو حذيفة، لمن قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كما قال لعمار؟
" أبو اليقضان على الفطرة، أبو اليقظان على الفطرة، لن يدعها حتّى يموت " ولمن قال كما قال لـ (أبي اليقظان):
" من يعادي عمّاراً يعاديه الله، ومن يبغض عماراً يبغضه الله ".
اسمعوا أم المؤمنين عائشة تقول: " ما من أحد من أصحاب رسول الله أشاء أن أقول فيه الاّ قلت، الاّ عماراً فانّي سمعت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: انه ملئ إيماناً إلى أخمص قدميه ".
ولمن قال مثل ما قال عن (ابن سميّة):
" ما لهم ولعمار، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار، إن عماراً جلدةٌ ما بين عيني، إن عماراً جلدةُ أنفي " وهذا هو عمار البطل، والرسالي العظيم في كل عمره، هو عمار في الحرب ضد الشرك، وفي الحرب ضد التحريف أيام عثمان، وفي الحرب ضد القاسطين والمارقين والناكثين.(1)
اُنظروا أباذر، ورمز البطولة، والمثل الرسالي العنيد.
اُنظروا عشقه للإسلام، وتلهّفه للرسالة الجديدة. فيوم أسلَم وقد كانت الدعوة سريّة، قال: " والذي نفسي بيده لأصوتنّ بها بين ظهرانيهم، فخرج حتّى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا اله الاّ الله وأشهد انّ محمداً رسول الله ".
هو يعرف ماذا يعني هذا الكلام، وماذا ينتظر من هذا الكلام. لقد ثار القوم إليه وضربوه حتّى أضجعوه.
أرأيتم أباذر هذا " العابد الزهيد، القانت الوحيد، رابع الإسلام، ورافض الأزلام قبل نزول الشرع والأحكام، تعبَّد قبل الدعوة بالشهور والأعوام، وأول من حيّا الرسول بتحية الإسلام، لم تكن تأخذه في الحق لومة اللوام، ولا تفزعه سطوة الولاة والحكام، أول من تكلم في علم البقاء والفناء، وثبت على الشقة والعناء، وحفظ العهود والوصايا، وصبر على المحن والرزايا، واعتزل مخالطة البرايا... " (2)
" رحم الله أباذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده " كم هو عظيم أبوذر في عين الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إذ يحدّث عنه بهذه الكلمات.
وحين أسلم أبوذر كان يعرف حقيقة إسلامه، ولقد كان يعرف كيف سيصنع تأريخه الرسالي.
إذا كان قد أسلم فأنما " بايع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) على أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وعلى أن يقول الحق وإن كان مرّاً " (3)هكذا حدّثونا.
وخذوا سلمان وما أدراكم ما سلمان!!
" لقد أُشبع سلمان علماً " (4)هكذا قال الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم). وكان خيّراً فاضلا حبراً عالماً زاهداً، كما قال ابن حجر.
أليس هو سلمان الذي كان له مجلس عند رسول الله ينفرد به بالليل، أليس هو سلمان الذي من محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن أهل البيت.
أي فارسي هذا الذي يتنازعه المسلمون، فيريده المهاجرون ويريده الأنصار، ولكن يريده رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً فيكون سلمان المحمدي. وهنا أود أن أُلفت إلى حقيقة:
حينما حكمت أُميّة الصريحة العداء للإسلام، أرادت التشويه على هذه الطليعة وتحريف ماضيها والتشكيك في تأريخها ورسالتها.
لقد كانت أُميّة تعرف أن هذه الطليعة هي لبّ الإسلام الحقيقي، وعرقه النابض، ان أميّة تريد أن تحكم بإسم الإسلام وباسم الرسالة، ومن هنا عمدت إلى التضليل والتعتيم وجرّ الأسدال على طليعة هؤلاء الرجال.
ربط الأُمَّة بالطليعة:
كان بناء الفئة الطليعة، المخلصة والمستوعبة، هو الخطوة الاولى على الطريق، طريق بناء مستقبل الرسالة، طريق الاحتياط لضمان نجاح التجربة الإسلاميّة بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم).لكن بناء الطليعة ليس هو كل المهمة، إنه لابدّ من خطوة ثانية على الطريق، لابدّ من ربط الأمة بالطليعة وتوطيد ثقتها بها، وتمكين الطليعة من إمساك زمام القيادة فيما بعد، لتكون المسيرة واعية، ومتبصرة وقادرة على مواجهة الصعوبات.
ليس كل المطلوب أن توجد فئة واعية ومملوءة، إن ذلك لن يحقق شيئاً كثيراً إذا كانت هذه الفئة غير قادرة على التحرك، وغير قادرة على توجيه المسيرة، ولا متمكنة من تحقيق أهدافها، إنه لابدّ من تسليم المفاتيح بيد الطليعة لتمكينها من التوجيه والتحريك المناسب.
ومن ذلك كانت الخطوة الثانية على الطريق، أن يوفّر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) للطليعة فرصة قيادة الأمّة، وزعامة التجربة.
ولقد سعى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في ذلك حثيثاً، وكان سعيه على ثلاث مراحل.
أولا: التعريف بالطليعة:
لقد سعى أولا لابراز الطليعة في المجتمع الرسالي، بغاية تركيز وجودهم، وتعزيز ثقة الأمة بهم، وتحصيل الولاء العام لهم.وفي هذا يأتي سيل من الثناء والأطراء والأشادة، والتكريم والتمجيد والحفاوة.
عشرات الأحاديث جاءت وفي عشرات المواقع كان الرسول يبيّن ضرورة حبّهم وودّهم ويحذّر من بغضهم ومعاداتهم، لقد كان ذلك أمراً مدروساً ومقصوداً جداً.
كان يقول باجماع المؤرخين والمحدثين:
" انّ الله أمرني بحبّ أربعة، وأخبرني أنه يحبّهم.
قيل: يا رسول سمّهم لنا.
قال: علي منهم ـ يقول ذلك ثلاثاً ـ وأبوذر والمقداد وسلمان، أمرني بحبهم وأخبرني أنه يحبّهم ".
وكان له في كل واحد منهم قولا كثيراً، قرأنا شطراً منه، كان يجمعهم مرّة ويفردهم أخرى، يأمر بحبّهم ويحذّر معاداتهم ويخبر عن الله بحبهم، وعن نفسه أنه يودّهم. حتّى الآيات نزلت فيهم، تمجّد، تعظّم، وتثني.
وهو (صلی الله عليه وآله وسلم) شخصياً كان يقرّبهم إليه، ويفردهم بمجلسه ويعطيهم من نفسه ووقته أكثر مما يعطي للآخرين وإذا كان علي (عليه السلام) هو القمة في هؤلاء، وكانوا له شيعة ومحبين، فقد دعا ملياً إلى الدخول في صف الشيعة، وهو يقصد الطليعة التي عرفت مكان علي ومقامه في الإسلام.
كان (صلی الله عليه وآله وسلم) يحدّث عن مقامه، فيقول: " علي مع الحق والحق مع علي "، " علي سيد العرب "، " علي سيد الأصحاب "، " علي سيد المسلمين وأمير المؤمنين وامام المتقين وقائد الغرِّ المحجَّلين "، " علي مع القرآن والقرآن مع علي "، " أنا مدينة العلم وعلي بابها ".(5)
ويقول علناً وبجمع من الناس: " أنت منّي بمنزلة هارون من موسى " وكان يحدّث عن حبّه فيقول: " من أحبّ علياً فقد أحبّ الله ومن أبغض علياً فقد أبغض الله "، " حبّ علي ايمان وبغضه نفاق "، " عادى الله من عادى علياً "، " من آذى علياً فقد آذاني ".
وعشرات ومئات من أمثال ذلك، حتّى لقد جعل منه ميزاناً يفرّق بين الايمان والنفاق، فاذا المسلمون على عهد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يعرفون المنافقين ببغض علي، على ما تواتر بنقله المؤرخون.
وكان يحدّث عن شيعته، فيقول: " يا علي أنت وأصحابك في الجنة "، " ان هذا ـ علي ـ وشيعته لهم الفائزون "، " انك ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين، ويقدم أعداؤك غضاباً مقمحين ".
وهكذا يصعد بعلي ويصعد عالياً عالياً، حتّى كان أصحاب رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) إذا أقبل علي يقولون: " جاء خير البريّة " وكم مرّة انفجر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في وجه الساخطين الحاسدين المنافقين لأنهم نالوا من علي وطعنوا فيه!! كم مرّة قال لهم: " ما لكم وما لي؟ من آذى علياً فقد آذاني ".
" من تنقَّص علياً فقد تنقَّصني، ومن فارق علياً فقد فارقني، وإن علياً مني وأنا منه ".
ويُعرف الغضب في وجهه مرّة وهو يقول: " ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ان علياً مني وأنا منه ".
من يسأل نفسه: هل كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) غارقاً في هوى ابن عمه؟ وسواء أحبوه أو أبغضوه فهل ذلك يعني النفاق، ولماذا الاغراق في الثناء عليه؟ فليكن مؤمناً رسالياً، فهل يدعو ذلك لأن تكون معاداته معاداة الله؟ كثيرون هم المؤمنون، أو هم الأبطال، فَلِمَ لا يكونوا كذلك؟
لا، لم يكن النبي مبالغاً ولا متعصباً، لقد كان يعرف ويعني ما يقول جيداً.
كان علي (عليه السلام) القاعدة الحصينة المنيعة في هذه الرسالة، ولقد كان ـ ويكون ـ
الصخرة التي تتهشم عليها قبضات المشركين والمنافقين والوصوليين، ولقد كانوا يعرفون ذلك.
ولولا أنه بهذه المثابة إذن لم يكونوا يبغضوه، ولا كان بغضه علامة النفاق.
إنه بمقدار مقام علي من الرسالة ومن الرسول كانت قريش ـ المشركة بالأمس والطامعة بالسلطان اليوم ـ تبغضه وتضمر له العداوة، لقد كانت صدورها تغلي بهذا الغضب وأفئدتها تحترق بهذه الضغينة، وها هو علي يصعد ويرتفع ويعلو.
والمنافقون ـ الذين لا تعلمهم الله يعلمهم ـ يكيدون للرسالة ويكيدون للرسول، لكن علياً هنا، ولن يتخلى عن رسالته ولا رسوله، فكيف المصير؟
لقد كان عداءاً أي عداء.
ثأرٌ للماضي، وحسدٌ للحاضر، ومنافسة على المستقبل، كلها تجمَّعت واتَّضحت في وجه قريش، حتّى تكاد تهتك نفسها، وتعلن خبث سريرتها، والرسول يتمزق لهذه المأساة.
" ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، انّ علياً مني وأنا منه ".
وعلى أي، فقد كان السعي حثيثاً لتركيز وجوه الطليعة، وكسر الجدر النفسية بينهم وبين الأمة.
ثانياً: الدعوة لإلتزامهم:
ولقد سعى الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) ثانياً في تحفيز الأمة نحو التزام خط الطليعة الذي يمثّله الامام علي (عليه السلام) عند إفتراق الخطوط.فالولاء الذي أكّد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ضرورته لعلي، لا يجوز أن يبقى ولاء العواطف فقط، إنّما لابدّ أن ينعكس على الموقف والاتجاه.
وإذا كانت الاتجاهات غير بارزة على السطح أيام الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فهو على أي حال قد تنبأ بها ولمس خيوطها كان يقرأ تلك الاتجاهات في وجوه قريش وفي وجوه عدد من الصحابة، وكان يعرف حجم الفتن التي ستجابه الأمة.
ومن هنا كان يؤكد دوماً ان اتجاه علي هو الحق عند افتراق الاتجاهات، وان جبهة علي هي الحق عند تعدد الجبهات، لقد كان يقول ويكرر القول:
" ستكون بعدي فتنة، فاذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب، فانه أول من يراني، وأول من يصافحني يوم القيامة ".
علي هو الطليعة مجتمعة في واحد، وعلي هو قمة الطليعة متفرقة في أفراد، ولذا فهو أول من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة. ولزوم علي بن أبي طالب هنا لا يعني مفهوماً مرناً يقبل النقائض، إنما هو التزام إتجاهه وخطه في كل مجالات الاختلاف ومجالات الفتن. أما التودّد وإضمار المحبة له دونما اتّباع، فليس هو المطلوب بالأساس وهكذا كان يقول (صلی الله عليه وآله وسلم): " تكون بين الناس فرقة واختلاف فيكون هذا وأصحابه على الحق، وإذا كان علي يمثِّل الطليعة، فخطه هو خط الطليعة كلها، هو خط سلمان، وأبي ذر، وعمار، والمقداد، وحذيفة خط واحد هو الحق لا سواه.
ولذا فأن " عمّار مع الحق والحق مع عمّار " كما قال (صلی الله عليه وآله وسلم) ولذا أيضاً: " إذا اختلف الناس فابن سميّة مع الحق " كما قال (صلی الله عليه وآله وسلم) لأن ابن سمية من الطليعة، ومن شيعة علي، فهو في نفس الخط وهو (صلی الله عليه وآله وسلم) نفسه يقول لعمار:
" يا عمار بن ياسر: ان رأيت علياً قد سلك وادياً، وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي فانه لن يدليك في سدىً ولن يخرجك من هدىً ".
وتعبيراً عن هذه الوحدة أيضاً، الوحدة في الخط، قيل: يا رسول الله عمّن نكتب العلم؟ فقال: عن علي وسلمان.
وعلى أي حال، فالرسول هنا يدعم الخط ويدفع المسلمين نحوه، لأن الخطوط الأخرى كلها منحرفة، مفرّغة، مزيّفة، لأنها ناشئة من عدم إستيعاب الرسالة، وعدم الإندماج مع أهدافها.
الرسول هنا يقيّم خط الطليعة، ويُعلن عن موقفها من الرسالة وأهداف الرسالة، بغاية ربط الأمة بها، بطليعتها الواعية المخلصة المؤمنة حقيقة الايمان.
في جانب آخر كان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يوطّد المودّة والصلة بين الأمة والطليعة، وهو في هذا الجانب يحدّد الخطّ الصحيح، ويقول الكلمة الثانية في الطليعة، فليسوا فقط أصحاب وعي واخلاص يدفع نحو مودّتهم، إنّما هم يعيشون الرسالة كلها، ويدركون الرسالة كلها، منصهرين مع الرسالة تماماً. إذن فخطهم وحدهم على الحق والخطوط الأخرى مزيّفة خطرة.
ثالثاً: التأكيد على قيادتهم:
ولقد سعى ثالثاً في تأكيد الكلمة الثالثة والأخيرة.وكانت الكلمة الأخيرة انّ خط الطليعة هو الخط القائد والموجّه والزعيم، وأن هؤلاء الطليعيون هم قادة التجربة بعده، ولهم وحدهم حق زعامتها، لأنهم وحدهم على الحق، أما الخطوط الأخرى فغير جديرة ولا مؤهلة للقيادة، ولا مأمونة الانحراف. هؤلاء الطليعة هم الذين كرسَّهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لهذه المهمة، ولذا فهم اكثر إستيعاباً وإخلاصاً. وهم يعرفون جيداً وبلا دهشة ولا إنهيار ولا خلل أين هو موضع الخطوة الثانية والثالثة والرابعة للرسالة.
لقد اُشبعوا علماً، ولقد كانوا على الحق، ولقد ملؤا ايماناً، فبهذا حدَّث عنهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم).
القطاعات التي لم تستوعب الرسالة، ولم تلتحم معها تماماً، لا يمكن أن تعطى القيادة لأنها سوف تعثر وتنحرف، ثم تضيع التجربة كلها بتضخم واتساع الانحراف بالتدريج.
والتجربة ما زالت طريّة وفنية، ولا تستطيع أن تحصِّن نفسها ما لم تكن تحت إشراف وقيادة الطليعة المستوعبة المملوءة علماً وحقانيةً.
ولذا جاءت الكلمة الثالثة، جاءت شديدة، وجديّة، وقاطعة، ومؤكدة. جاءت يوم اجتمع المهاجرون والأنصار وألوف الأعراب، في أخطر وأهمّ وأكبر حشد اسلامي في تاريخ الرسالة كلّه.
اجتماع رهيب ومفاجئ، فيه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وفيه المهاجرون، وفيه الأنصار، وفيه المسلمون جميعاً، وفيه الوحي يهبط بالكلمة على قلب الرسول.
{يَا اَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا اُنْزِلَ اِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَاِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} مصير الرسالة كلّه يتوقف على هذه الكلمة، ولذا قال تعالى: {اِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} لقد صنعت الطليعة، هذه خطوة اُولى على الطريق.
والآن بلّغ ما أنزل اليك، إنَّ هذه الطليعة هي القائدة والموجّهة.
ونهض الرسول، كما نهض لإعلان البيان الأوّل في الإسلام، يوم هبط عليه الوحي {وَاَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ}، هنا نهضة مشابهة في خطورتها، وموقعها من الرسالة.
انظروا كيف نهض؟
نهض وهو واثق بأن الذين عارضوه أمس سيعارضوه اليوم، والذين سخروا منه أولا سيسخرون أخيراً، لكنه على أي حال نهض لأن الله يعصمه من الناس وانظروا كيف قال...؟
إنّه وضع الرسالة أمامهم، وكأنه يقول: انّ كلمتي هذه هي الخطوة الثانية في الرسالة، وهي تحديد مصير الرسالة كلّه: " أليس تشهدون أن لا اله الاّ الله وأن محمداًعبده ورسوله، وأن جنته حق، وأن ناره حق، وان الموت حق، وان البعث حق بعد الموت، وان الساعة آتية لا ريب فيها، وان الله يبعث من في القبور؟ " ها هو يعرض الرسالة كلها، فماذا بقي؟؟ لقد قالوا بلى على كل هذا العروض، بلى نشهد بذلك.
وهنا قال (صلی الله عليه وآله وسلم): " يا أيها الناس ان الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره، واخذل من خذله ".
ثم قال:
" أيها الناس اني فرطكم، وانكم واردون عليَّ الحوض.. واني سائلكم حين تردون عليَّ عن الثقلين كيف تخلّفوني فيهما، الثقل الأكبر كتاب الله عزّ وجلّ.. وعترتي أهل بيتي، فانه قد نبأني اللطيف الخبير انهما لن ينقضيا حتّى يردا عليَّ الحوض ".
وبهذا تمت الرسالة، لأن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قد مارس ماضيها، وحدّد مستقبلها وبهذا نزل الوحي " اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً ".
وبهذا أيضاً كان التشيع ـ الذي يعني الإسلام كاملا وغير مجزئ ـ قد وضع فكان هذا العصر عصر تأسيس النظرية.
غير ان هذه الكلمة الأخيرة لم تأت مفاجئة، إنّما في تاريخ الرسالة كلّه كان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يربط حروفها، وينسج خيوطها.
والعجيب ان هذه الكلمة الأخيرة كانت هي الكلمة الأولى في الرسالة أيضاً. مما يعني انها مركَّب واحد، هو كل محتوى الرسالة.
منذ البيان الأول للرسالة، وحين دعا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) عشيرته للإسلام، قال لهم: " أيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟
فقام علي وقال: " أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه ".
فقال: " انّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ".
وعلى طول الخط كان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يقرِّب الفكرة، ويشرحها، لقد كان يقول: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى ".وكان يقول: " علي سيد المسلمين، وأمير المؤمنين، وامام المتقين، وقائد الغرّ المحجّلين ".
وفي عشرات المرات قال: (وليي) و (خليفتي) و (وزيري).
يبقى ان النظرية الشيعية تؤمن بامامة الاثنى عشر من أهل البيت، وليس علياً فقط، فهل عني الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بتأكيد ذلك والاشارة إليه؟
وقبل الاجابة نريد أن نقول:
ان النظرية الشيعية لا تحتاج في تصحيح تصوّرها من أهل البيت (عليه السلام) إلى نصوص من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)، زائدة على نصوصه في استخلاف علي (عليه السلام).
انه يكفي لتدعيم النظرية أن يكون الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قد أوصى إلى علي، ثم هو أوصى إلى الحسن، وحتّى تنتهي الوصية إلى الامام الثاني عشر، الواقع ان طريقة التفكير هذه هي عين الطريقة التي آمن بها الفكر السنِّي، واستخدمها لاثبات خلافة عمر، فرغم أنهم يؤمنون نظرياً بنظام الشورى الاّ انهم اعتبروا وصية أبي بكر نافذة، بوصفه ولي أمر المسلمين.
نفس الشيء يمكن أن تقوله النظرية الشيعية لتصحيح امامة الائمة الاثني عشر ـ عليهم السّلام ـ، بلا افتقار إلى نصوص مسبقة من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)، والتزام النظرية الشيعية بهذا الرأي يكون منطقياً جداً ومتناسقاً مع أصل رأيها في الامامة وأنها ليست بالشورى وإنّما هي بالنص. أمّا في الفكر السنّي فالتزام هذه الطريقة يوقعهم في تهافت واضح مع نظام الشورى.
وعلى أي حال فالنظرية الشيعيّة قادرة على اثبات رأيها في إمامة الائمة الاثني عشر (عليه السلام) دونما ضرورة إلى اثبات النصوص الخاصة بإمامتهم من رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ومضافاً إلى ذلك فنصوص الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وافية لأداء هذا الجزء من النظرية فقد ثبت بالتواتر أنه قال في أكثر من مناسبة: " انّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً ".لقد كان (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: " من أحبّ أن يركب سفينة النجاة ويتمسك بالعروة الوثقى ويعتصم بحبل الله المتين فليوال علياً بعدي وليعادي عدوّه، وليأتم بالأئمة الهداة من ولده فانهم خلفائي وأوصيائي وحجج الله على خلقه بعدي وسادات أمتي وقادات الأنبياء إلى الجنّة، حزبهم حزبي، وحزبي حزب الله، وحزب اعدائهم حزب الشيطان " وقال (صلی الله عليه وآله وسلم): " مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلَّف غرق " إلى غير ذلك من الأقوال الموجودة في كتب المذاهب، على أنه (صلی الله عليه وآله وسلم) ذكر حتّى اسماءهم وعددهم، فقد ثبت باجماع أهل الحديث أنه قال: " يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش " وقال (صلی الله عليه وآله وسلم): " لا يزال الإسلام عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة " وقد سُئلت عائشة عن اسمائهم فقالت: أسماؤهم عندي مكتوبة باملاء رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم).
فقيل لها: فأعرضيه، فأبت.
وفي رواية أخرى انها قالت: اسماؤهم في الوصية
المصادر :
1- تاريخ دمشق لابن عساکره رقم الحديث 45882
2- هكذا قال عنه أبو نعيم في حلية الأولياء.
3- اسد الغابة في معرفة الصحابة
4- الطبقات الکبری لابن سعد 4/361
5- اخبار اصبهان لابی نعیم 1/362 ، تاریخ دمشق لابن عساکره 42/305
/ج