
قال الإمام مالك بن أنس (رضي الله عنه) : ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق ، فضلا وعلما وعبادة وورعا (1) . ونود في هذه المقدمة أن نشير ولو بإيجاز إلى الجوانب غير المعروفة من ثقافة الإمام وعلومه لنثير شوق الطالب إلى مزيد من البحث والتنقيب اغترافا من هذا البحر الزاخر . من رأي الإمام علي عليه السلام أن الإمام ينبغي أن يكون عالما بكل شيء ، وأعلم الناس في كل علم وفن ، فهو لسان ولغة ، كما إنه يراعي ما يقتضيه حكم العقل ، والإمامية ترى أن علم الإمام لا يدخل فيه الرأي والاجتهاد فيحاسب الإمام على المصدر والمسند ، وإنما علمه إلهي موروث ، ولدني غير اكتسابي (2) . فالإمام إذن في رأي الإمامية يعرف جميع العلوم والصنائع واللغات ،وقد أفرد الشيخ المفيد (قدس سره) فصلا في كتابه أوائل المقالات سماه (القول في معرفة الأئمة بجميع الصنائع وسائر اللغات) ، جاء فيه : أقول : إنه ليس يمتنع ذلك منهم ، ولا واجب من جهة العقل والقياس ، وقد جاءت أخبار عمن يجب تصديقه بأن أئمة آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قد كانوا يعلمون ذلك . . . ، وعلى قوله هذا جماعة من الإمامية . وقد خالفه فيه بنو نوبخت (رحمهم الله) ، وأوجبوا ذلك عقلا وقياسا ، ووافقتهم فيه المفوضة كافة وسائر الغلاة (3) . ولكي نعطي الطالب الدارس مفتاح عبقرية الإمام وشخصيته الفذة نشير إلى أنه (عليه السلام) كان يتقن لغات الأمم المتحضرة في عصره ، واللغة هي المفتاح أو المنفذ إلى ثقافة أهلها كما هو معروف ، وسنورد طرفا من اللغات التي كان يعرفها الإمام الصادق (عليه السلام) ويتحدث بها ، ثم طرفا من اهتمامه بالطب والفلك والكيمياء ، وهي علوم يدور حولها معظم أبحاث هذا السفر النفيس . معرفته باللغات مر في تأريخ حياة الإمام الباقر (عليه السلام) أنه كان يعرف العبرية والسريانية ، وأن جدته ، أي والدة الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليهم السلام) ، كانت الأميرة الفارسية شهربانو بنت كسرى يزدجرد . فلا عجب أن يعرف الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) هذه اللغات وثقافات أممها ، وأن ينطلق في التحدث أو القراءة والكتابة فيها ، وسيأتي أثناء عرضنا لبعض الروايات المأثورة عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام) ما يثبت ذلك ، وفضلا عن إتقانه لهذه اللغات ، كان يعرف النبطية والصقلبية والحبشية ويتحدث بها أيضا .
وكان مجلس درسه يجمع أحيانا بين العرب والعجم على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم ، فيحدث كلا منهم بلغته ، ويفهمه بلسانه . وعن أبان بن تغلب ، قال : غدوت من منزلي بالمدينة وأنا أريد أبا عبد الله (عليه السلام) ، فلما صرت بالباب ، وجدت قوما عنده لم أعرفهم ، ولم أر قوما أحسن زيا منهم ، ولا أحسن سيماء منهم ، كأن الطير على رؤوسهم ، فجعل أبو عبد الله (عليه السلام) يحدثنا بحديث ، فخرجنا من عنده ، وقد فهم خمسة عشر نفرا منا متفرقو الألسن ، منها اللسان العربي والفارسي والنبطي والحبشي والصقلبي ، فقال البعض : ما هذا الحديث الذي حدثنا به ؟ قال له آخر لسانه عربي : حدثني كذا بالعربية . وقال الفارسي : ما فهمت ، إنما حدثني كذا وكذا بالفارسية . وقال الحبشي : ما حدثني إلا بالحبشية . وقال الصقلبي : ما حدثني إلا بالصقلبية ، فرجعوا إليه ، فأخبروه ، فقال (عليه السلام) : الحديث واحد ، ولكنه فسر لكم بألسنتكم (4) .
وكثر التزاوج العرب وغير العرب، فتعلم البعض النبطية من هذا الاختلاط . وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يعرف النبطية ويتحدث بها . ولا شك أن أبناءه الكرام الذين تخرجوا من مدرسته وتخلقوا بأخلاقه هم حملة علمه ووارثو فضله . فمن خلال هذا العرض السريع والإشارات الواضحة ، يتبين أن الصادق (عليه السلام) كان على معرفة تامة بلغات أهل عصره وأبناء مجتمعه مهما بعدت أوطانهم واختلفت ثقافاتهم .
تدوين العلوم في عصر الصادق عليه السلام
کان يحق للامام الصادق أن يكون مهوى للأنظار وملاذا فريدا للباحثين ، وعونا للعارفين والموالين ، مهما بعدت أوطانهم ، فكانوا يأتونه من كل بقعة وأرض ، ويتوجهون إليه من كل ناحية وصوب ، يستحضرون الدواة والقرطاس ليكتبوا ما يمليه عليهم الإمام ، وقد كثر من استقى منه العلم ، حتى بلغ من عرف منهم أربعة آلاف أو يزيدون ، فهو منعطف هام في تأريخ الشيعة العلمي . أما الذين أخذوا عنه العلم من غير الإمامية ، فكانوا يرون جلالته وسيادته وإمامته ، وقد عدوا أخذهم عنه منقبة شرفوا بها وفضيلة اكتسبوها (5) . وفي صواعق ابن حجر : ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان . ومما قاله النووي : اتفقوا على إمامته (الصادق) وجلالته وسيادته . قال عمرو بن أبي المقدام : كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد ، علمت أنه من سلالة النبيين (6) . وهذا ابن أبي الحديد قد أرجع علم المذاهب الأربعة إليه في الفقه (7)
ولنفاسة العلم وشرفه حض على طلبه وإن كلف غاليا فقال : إطلبوا العلم ولو بخوض المهج وشق اللجج (8) . وحثهم على كتابة العلم ونشره ، فقال (عليه السلام) : اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا (9) . ومما قاله للمفضل بن عمر : اكتب وبث علمك في إخوانك ، فإن مت فورث كتبك بنيك ، فإنه يأتي زمان هرج ، ما يأنسون فيه إلا بكتبهم (10) . وقال (عليه السلام) : إحتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها (11) . وكان من تأثير توجيهه هذا أن جمع شطر من الأحاديث التي رويت عنه وعن آبائه وأبنائه في الأخلاق والآداب والأحكام وحدها ، فكانت الحصيلة أربعة كتب هي : الكافي و من لا يحضره الفقيه و التهذيب و الإستبصار . هذا بالإضافة إلى من ألف في مختلف العلوم من الطب والكيمياء والنجوم والفلك مما مر ذكره . فمن عصر الإمام الصادق (عليه السلام) ابتدأ التأليف ونشط التدوين عند الشيعة . فهذا جابر بن حيان يسجل تقريرات الإمام في خمسمائة رسالة وفي ألف ورقة (12) . وهذا إسماعيل بن مهران بن أبي نصر السكوني ، وهذا أبو جعفر أحمد ابن خالد البرقي ، وهذا أحمد بن الحسن بن أبي الحسن الفلكي الطوسي ، وهذا أبو النضر محمد بن مسعود العياشي التميمي ، وهذا أبو علي الحسن بن فضال وغيرهم من أصحاب الصادق وابنه (عليه السلام) ، لكل منهم تأليف وتدوين في الحديث والطب والفلك والكيمياء . ويطالعنا الكتاب بالجوانب غير المعروفة من حياة الإمام (عليه السلام) العلمية التي لم تنل حقها من عناية كتابنا الإسلاميين ، إذ كان جل اهتمام علماء المسلمين من الشيعة والسنة منصرفا - كما نعلم - إلى دراسة الفقه والتفسير والأخلاق ، وكل ما روي عن الرسول الأعظم في ما يتعلق بأمور العبادة والروح . فهذه إذن دراسة علمية وافية لجوانب أخرى مجهولة لنا من مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) ، وخاصة ما يتعلق منها بالعلوم التجريبية والنظرية كالطب والرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء ومبادئ علمية أخرى لم تظهر أهميتها بعد عصر النهضة في أوروبا مع ثورة الاختراعات الحديثة والاكتشافات العلمية المذهلة في هذه الميادين .
الطب
لا ريب في أن الإمام جعفرا الصادق (عليه السلام) كان على إلمام تام بالطب وما يتعلق به . وقد تحدث وأبان ، في ما روي عنه ، عن الطبائع والأمزجة ، وعن الأشياء ومنافعها ومضارها ، مما يثبت وقوفه على هذا العلم . وقد جمع بعض علماء السلف شيئا كثيرا من آراء الأئمة في الطب وسماه طب الأئمة . ويروي المجلسي (قدس سره) الكثير من هذا الكتاب في كتابه بحارالأنوار ، وكذلك الشيخ الحر العاملي في وسائل الشيعة ، إلا أن هذا الكتاب لا وجود له اليوم . وقد خصص الإمام الصادق (عليه السلام) في ما ألقاه على المفضل بن عمر الجعفي فصلا تحدث فيه عن الطبائع وفوائد الأدوية وتشريح الجسم ومعرفة وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) . وفي ثنايا كتب الأحاديث وما إليها حديث مستفيض من كلام الإمام الصادق (عليه السلام) عن خواص الأشياء وفوائدها وعلاج الأمراض والأوجاع والحمية والوقاية . وسنورد بعض هذه الأحاديث للتدليل على هذا القول تدليلا قاطعا . قال محمد بن مسلم : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ما وجدنا للحمى مثل الماء البارد . وفي حديث آخر : الحمى من قيح جهنم ، فاطفئوها بالماء البارد (13) . وفي وجوب غسل الفاكهة قبل الأكل قال (عليه السلام) : إن لكل ثمرة سما ، فإذا أتيتم بها فأمسكوها واغسلوها بالماء (14) . وفي الكافي عن أحمد بن محمد عن بعض أصحابه ، قال : كنت أجالس أبا عبد الله (عليه السلام) فلا والله ما رأيت مجلسا أنبل من مجالسه . قال : فقال لي ذات يوم : من أين تخرج العطسة ؟ فقلت : من الأنف . فقال لي : أصبت الخطأ .
فقلت : جعلت فداك ، من أين تخرج ؟ فقال : من جميع البدن ، كما وإن النطفة تخرج من جميع البدن . . . أما رأيت الإنسان إذا عطس نفض أعضاءه ؟ (15) وهذا ابن ماسويه (16) ، أشهر أطباء عصره ، ينصت للإمام الصادق (عليه السلام) في شرحه وتوضيحه للطبائع وعلل الأمراض . وحدث أبو هفان في محضر ابن ماسويه بأن جعفرا بن محمد (عليه السلام) قال : الطبائع أربع : الدم وهو عبد ، وربما قتل العبد سيده . والريح وهو عدو ، إذا سددت له بابا أتاك من آخر . والبلغم وهو ملك يدارى . والمرة وهي الأرض إذا رجفت رجفت بمن عليها . فقال ابن ماسويه : أعد علي ، فوالله ما يحسن جالينوس أن يصف هذا الوصف (17) . وهذا طبيب المنصور يحضر عنده ليقرأ عليه كتب الطب ، فإذا به يحضر مرة وعنده الصادق (عليه السلام) ، فجعل ينصت لقراءته ، فلما فرغ ، قال : يا أبا عبد الله ، أتريد مما معي شيئا ، قال : لا ، لأن ما معي خير مما هو معك . قال : ما هو ؟ قال : أداوي الحار بالبارد ، والبارد بالحار ، والرطب باليابس ، واليابس بالرطب ، وأرد الأمر كله إلى الله ، وأستعمل ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأعلم أن المعدة بيت الأدواء وأن الحمية هي الدواء ، وأعود البدن ما اعتاد . قال (الطبيب) : وهل الطب إلا هذا ؟ قال الصادق : أتراني عن كتب الطب أخذت ؟ قال : نعم . قال : لا والله ما أخذت إلا عن الله سبحانه وتعالى . فأخبرني : أأنا أعلم بالطب أم أنت ؟ قال الطبيب : بل أنا . قال الصادق : فأسألك ؟ قال : سل . فسأله عشرين مسألة ، وهو يقول : لا أعلم . فقال الصادق (عليه السلام) : ولكني أعلم (18) . وبدأ بشرحها وتفصيلها . وهذا مذكور في كتب الحديث . وقد فصل (عليه السلام) الحديث عن الهيكل العظمي والأعصاب والجوارح في جسم الإنسان وشرحها شرحا دقيقا عندما سأله الطبيب النصراني عن ذلك . فقد روى سالم الضرير : إن نصرانيا سأل الصادق (عليه السلام) تفصيل الجسم ، فقال (عليه السلام) : إن الله تعالى خلق الإنسان على اثني عشر وصلا ، وعلى مائتين وستة وأربعين عظما ، وعلى ثلاثمائة وستين عرقا . فالعروق هي التي تقي الجسد كله ، والعظام تمسكها ، والشحم يمسك العظام ، والعصب يمسك اللحم ، وجعل في يديه اثنين وثمانين عظما في كل يد واحد وأربعون عظما ، منها في كفه خمسة وثلاثون عظما ، وفي ساعده اثنان ، وفي عضده واحد ، وفي كتفه ثلاثة ، وكذلك الأخرى . وفي رجله ثلاثة وأربعون عظما ، منها في قدمه خمسة وثلاثون عظما ، وفي ساقه اثنان ، وفي ركبته ثلاث ، وفي فخذه واحد ، وفي وركه اثنان ، وكذلك في الأخرى .
المصادر :
1- المناقب : 4
2- الإمام الصادق ، محمد المظفر : 139 - 185
3- أوائل المقالات في المذاهب والمختارات ، الشيخ المفيد : 38
4- بحار الأنوار 47 : 99
5- تهذيب الأسماء واللغات ، وشرح النهج لابن أبي الحديد 1 : 6
6- تهذيب الأسماء واللغات 1 : 149 - 150
7- شرح النهج 1 : 6
8- بحار الأنوار 46 : 265
9- البحار 2 : 152 / 38
10- كشف المحجة : 84 ، الكافي 1 : 52 / 11
11- البحار 2 : 152 / 38
12- الفهرست : 450 - 498
13- وسائل الشيعة 2 : 647
14- وسائل الشيعة 3 : 276
15- الأصول من الكافي 3 : 657
16- هو يوحنا بن ماسويه من أطباء العصر العباسي المشهورين ، وقد توفي عام 234 ه
17- المناقب 4 : 259
18- المناقب 4 : 260
/ج