قال العيني : « اختلف العلماء فيمن هو أولى بالإمامة فقالت طائفة : الأفقه ن وقال آخرون : الأقرأ » فأجاب عن الإشكال بعدم التعارض : « لأنّه لا يكاد يوجد إذ ذاك قارئ إلاّ وهو فقيه : « وأجاب بعضهم بأنّ تقديم الأقرأ كان في صدر الإسلام » (1) .
قال ابن حجر بشرح عنوان البخاري المذكور :
« هذه الترجمة متنزعة من حديث أخرجه مسلم من رواية أبي مسعود الأنصاري وقد نقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنّ شعبة كان يتوقّف في صحّة هذا الحديث . ولكن هو في الجملة يصلح للاحتجاج به عند البخاري . قيل : المراد به الأفقه . وقيل : هو على ظاهره .
وبحسب ذلك اختلف الفقهاء قال النووي قال أصحابنا : الأفقه مقدّم على الأقرأ ، ولهذا قدّم النبي أبابكر في الصلاة على الباقين ، مع أنّه صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم نصّ على أنّ غيره أقرأ منه ـ كأنّه عنى حديث : أقرؤكم أبي ـ قال : وأجابوا عن الحديث بأنّ الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه » .
قال ابن حجر : « قلت : وهذا الجواب يلزم منه أنّ من نصّ النبي على أنّه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر ، فيفسد الاحتجاج بأنّ تقديم أبي بكر كان لأنّه الأفقه » .
قال : « ثمّ قال النووي بعد ذلك : إنّ قوله في حديث أبي مسعود : فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة ، فإن كانوا في السنّة سواء فأقدمهم في الهجرة . يدلّ على تقديم الأقرأ مطلقاً . إنتهى » .
قال ابن حجر : « وهو واضح للمغايرة » (2) .
فانظر إلى اضطراباتهم وتمحّلاتهم في الباب ، وما ذلك كلّه إلاّ دليلاً على عجزهم عن حلّ الإشكال ، وإلاّ فأيّ وجهٍ لحمل حديث تقديم الأقرأ على « صدر الإسلام » فقط ؟ أو حمله على أنّ المراد هو « الأفقه »؟! وهل كان أبوبكر الأفقه حقّاً؟!
وأمّا الوجه الآخر الذي نسبه النووي إلى أصحابه فقد ردّ عليه ابن حجر ... وتراهم بالتالي يعترفون بوجوب تقديم الأقرأ أو يسكتون !!
إنّ المتّفق عليه في كتابي البخاري ومسلم أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان هو الإمام في تلك الصلاة . وكذا جاء في حديث غيرهما ... فهذه طائفة من الأخبار صريحة في ذلك ...
وطائفة أخرى فيها بعض الإجمال ... كالحديث عند النسائي : « وكان النبي بين يدي أبي بكر ، فصلّى قاعداً ، وأبوبكر يصلّي بالناس ، والناس خلف أبي بكر » . والآخر عند ابن ماجة : « ثمّ جاء رسول الله حتّى جلس إلى جنب أبي بكر حتّى قضى أبوبكر صلاته » .
وطائفة ثالثة ظاهرة أو صريحة في صلاته خلف أبي بكر ، كالحديث عند النسائي وأحمد : « إنّ أبابكر صلّى للناس ورسول الله في الصفّ » والحديث عند أحمد : « صلّى الله خلف أبي بكر قاعداً » وعنده أيضاً « وصلّى النبي خلفه قاعداً » .
ومن هنا كان هذا الموضع من المواضع المشكلة عند الشرّاح ، حيث اضطربت كلماتهم واختلفت أقوالهم فيه ... قال ابن حجر : « وهو اختلاف شديد » (3) .
فابن الجوزي وجماعة اسقطوا ما أفاد صلاة رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم خلف أبي بكر عن الإعتبار ، بالنظر إلى ضعف سنده ، وإعراض البخاري ومسلم عن إخراجه (4) قال ابن عبدالبرّ : « الآثار الصحاح على أنّ النبي هو الإمام » (5) وقال النووي : « كان بعض العلماء زعم أنّ أبابكر كان هو الإمام والنبي مقتدٍ به ، لكنّ الصواب أنّ النبي كان هو الإمام وقد ذكره مسلم » (6) .
لكن فيه : أنّه إن كان دليل الردّ ضعف السند ، فقد عرفت أنّ جميع ما دلّ على أمره أبابكر بالصلاة ضعيف ، وإن كان دليل الردّ إعراض الشيخين فقد ثبت لدى المحقّقين أنّ إعراضهما عن حديث لا يوهنه ، كما أنّ إخراجهما لحديث لا يوجب قبوله . نعم ، خصوم ابن الجوزي وجماعته ملتزمون بذلك .
وعبد المغيث بن زهير وجماعة قالوا : كان أبوبكر هوالإمام أخذاً بالأحاديث الصريحة في ذلك ، قال الضياء المقدسي وابن ناصر : « صحّ وثبت أنّه صلّى خلفه مقتدياً به في مرضه الذي توفّي فيه ثلاث مرّات ، ولا ينكر ذلك إلاّ جاهل لا علم له بالرواية » (7) .
لكن فيه : أنّها أحاديث ضعيفة جدّاً ، ومن عمدتها ما رواه شبابة بن سوار المدلّس المجروح عند المحقّقين ... على أنّ قولهما : « ثلاث مرّات » معارض بقول بعضهم « كان مرّتين » وبه جزم ابن حبّان (8) وأمّا رمي المنكرين بالجهل فتعصّب ...
والعيني وجماعة على الجمع بتعدّد الوقعة ، قال العيني : « روي حديث عائشة بطرقٍ كثيرة في الصحيحين وغيرهما ، وفيه اضطراب غير قادح .
وقال البيهقي : لا تعارض في أحاديثها ، فإنّ الصلاة التي كان فيها النبي إماماً هي صلاة الظهر يوم السبت أو يوم الأحد ، والتي كان فيها مأموماً هي صلاة الصبح من يوم الاثنين وهي آخر صلاهٍ صلاّها حتّى خرج من الدنيا .
وقال نعيم بن أبي هند : الأخبار التي وردت في هذه القصة كلها صحيحة وليس فيها تعارض ، فإنّ النبي صلّى في مرضه الذي مات فيه صلاتين في المسجد ، في إحداهما كان إماماً وفي الأخرى كان مأموماً » (9) .
أوّلاً : إنّ كلام البيهقي في الجمع أيضاً مضطرب ، فهو لا يدري الصلاة التي كان فيها إماماً أهي صلاة الظهر يوم السبت أو يوم الأحد!؟ وكأنّ المهمّ عنده أن يجعل الصلاة الأخيرة ـ يوم الأثنين ـ صلاته مأموماً كي نثبت الإمامة العظمى لأبي بكر بالإمامة الصغرى!!
وثانياً : إنّ نعيم بن أبي هند ـ الذي حكم بصحّة كلّ الأخبار ، وجمع كالبيهقي بالتعدّد لكن من غير تعيين ، لجهله بواقع الأمر! ـ رجل مقدوح مجروح لا يعتمد على كلامه كما تقدّم في محلّه .
وثالثاً : إنّه اعترف بوجود الاضطراب في حديث عائشة ، وكذا اعترف بذلك ابن حجر ، ثمّ ذكر الاختلاف ، وظاهره ترك المطلب على حاله من دون اختيار ، ثمّ أضاف أنّه « اختلف النقل عن الصحابة غير عائشة ، فحديث ابن عبّاس فيه : أنّ أبابكر كان مأموماً وحديث أنس فيه : أنّ أبابكر كان إماماً . أخرجه الترمذي وغيره » (10) .
إنّ القصّة واحدة لا متعدّدة ، فالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج في تلك الوقعة إلى المسجد ونحّى أبابكر عن المحراب ، وصلّى بالناس بنفسه وكان هو الإمام وصار أبوبكر ماموماً ...
هذا هو التحقيق بالنظر إلى الوجوه المذكورة ، وفي متون الأخبار ، وفي تناقضات القوم ، وفي ملابسات القصّة ... ثمّ وجدنا إمام الشافعيّة يصرّح بهذا الذي انتهينا إليه ... قال ابن حجر :
« صرّح الشافعي بأنّه صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم لم يصل بالناس في مرض موته في المسجد إلاّ مرّة واحدة ، وهي هذه التي صلّى فيها قاعداً ، وكان أبوبكر فيها أوّلاً إماماً ثمّ صار مأموماً يسمع الناس التكبير » (11) .
ثمّ إنّ هذا الذي صرّح به الشافعي من أنّ أبابكر « صار مأموماً يسمع الناس التكبير » ممّا شقّ على كثيرٍ من القوم التصريح به ، فجعلوا يتّبعون أهواءهم في رواية الخبر وحكاية الحال ، فانظر إلى الفرق بين عبارة الشافعي وما جاء مشابهاً لها في بعض الأخبار ، وعبارة من قال :« فكان أبوبكر يصلّي بصلاة رسول الله وهو جالس ، وكان الناس يصلّون بصلاة أبي بكر » .
ومن قال :« فكان أبوبكر يصلّي قائماً ، وكان رسول الله يصلّي قاعداً ، يقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله ، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر » .
ومن قال :« فصلّى قاعداً وأبوبكر يصلّي بالناس ، والناس خلف أبي بكر » .
ومن قال :« فكان أبوبكر يأتمّ بالنبي والناس يأتمون بأبي بكر » .
ومن قال :« جاء رسول الله حتى جلس إلى جنب أبي بكر حتّى قضى أبوبكر صلاته » .
إنّهم يقولون هكذا كي يوهموا ثبوت نوع إمامة لأبي بكر !! وتكون حينئذٍ كلماتهم مضطربة مشوّشة بطبيعة الحال!! وبالفعل فقد وقع التوهمّ ... واختلف الشرّاح في القضيّة وتوهّم بعضهم فروعاً فقهيّة ، كقولهم بصحّة الصلاة بإمامين!! :
فقد عقد البخاري : « باب الرجل يأتمّ بالإمام ويأتمّ الناس بالمأموم » وذكر فيه الحديث عن عائشة الذي فيه : « وكان رسول الله يصلّي قاعداً ، ويقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله ، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر » (12) .
وقال العيني بعد الحديث : « قيل للأعمش : وكان النبي يصلّي وأبوبكر يصلي بصلاته والناس يصلّون بصلاة أبي بكر ؟ فقال برأسه : نعم ! » .
قال : « استدلّ به الشعبي على جواز ائتمام بعض المأمومين ببعضٍ وهو مختار الطبري أيضاً ، وأشار إليه البخاري ـ كما يأتي إن شاء الله تعالى ـ .
وردّ بأنّ أبابكر كان مبلّغاً ، وعلى هذا فمعنى الاقتداء اقتداؤه بصوته ، والدليل عليه أنّه صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم كان جالساً وأبوبكر كان قائماً ، فكانت بعض أفعاله تخفى على بعض المأمومين ، فلأجل ذلك كان أبوبكر كالإمام في حقهم » (13) .
ولذا شرح السيوطي الحديث في الموطّأ بقوله :
« أي يتعرّفون به ما كان النبيّ يفعله لضعف صوته عن أن يسمع الناس تكبير الانتقال ، فكان أبوبكر يسمعهم ذلك » (14) .
ويشهد بذلك الحديث المتقدّم عن جابر : « اشتكى رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم فصلّينا وراءه وهو قاعد ، وأبوبكر يسمع الناس تكبيره » .
بل لقد عقد البخاري نفسه : « باب من أسمع الناس تكبير الإمام » أخرج الحديث تحته (15)!!
لا يجوز لأحد التقدّم على النبيّ :
هذا كلّه بغضّ النظر عن أنّه لا يجوز لأحد أن يتقدّم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأمّا بالنظر إلى هذه القاعدة المسلّمة كتاباً وسنّةً فجميع أحاديث المسألة باطلة ، ولقد نصّ على تلك القاعدة كبار الفقهاء ، منهم : إمام المالكية وأتباعه ، وعن القاضي عياض إنّه مشهور عن مالك وجماعة أصحابه ، قال : وهو أولى الأقاويل (16) وقال الحلبي بعد حديث تراجع أبي بكر عن مقامه : « وهذا استدلّ به القاضي عياض على أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يؤمّه صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ، لأنّه لا يصحّ التقدّم بين يديه ، في الصلاة ولا في غيرها ، لا لعذرٍ ولا لغيره ، ولقد نهى الله المؤمنين عن ذلك ، ولا يكون أحد شافعاً له ، وقد قال : أئمّتكم شفعاؤكم . وحينئذٍ يحتاج للجواب عن صلاته خلف عبدالرحمن بن عوف ركعةً ، وسيأتي الجواب عن ذلك » (17) .قلت : يشير بقوله : « وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك » إلى قوله عزّ وجلّ :
( يا أيّها الّذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله ) (18)
وقد تبع في ذلك إمامه مالك بن أنس كما في فتح الباري (19)
لكن من الغريب جدّاً قول ابن العربي المالكي : « قوله تعالى ( لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله ) أصلّ في ترك التعرّض لأقوال النبي ، وإيجاب أتّباعه والاقتداء به ، ولذلك قال النبي في مرضه : مروا أبابكر فليصلّ بالناس . فقالت عائشة لحفصة : قولي له : إنّ أبابكر رجل أسيف ، وإنّه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء ، فمر عليّاً (فكان الحديث بثلاثة ألفاظ 1 ـ « فمر غيره » 2 ـ « فمر عمر » 3 ـ « فمر علّياً » وهذا من جملة التعارضات الكثيرة الموجودة بين ألفاظ هذه القضيّة الواحدة !! لكنّا نغضّ النظر عن التعرّض له خوفاً من الإطالة ... إلاّ أنّه لا مناص من ذكر الأمر الأغرب من هذا الرجل! وهو التناقض والتعارض الموجود بين هذا الذي نقلناه عن كتابه ( أحكام القرآن ) وبين الموجود في كتابه الآخر ( العواصم من القواصم : 192) حيث يقول في سياق ردّه وطعنه على الإماميّة!! : « ولا تستغربوا هذا من قولهم ، فهم يقولون إن النبي كان مدارياً لهم معيناً لهم على نفاقٍ وتقية وأين أنت من قول النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم حين سمع قول عائشة : مروا عمر فليصل بالناس ـ : انكن لأنتنّ صواحب يوسف ، مروا أبابكر فليصلّ بالناس » .) فليصلّ بالناس ، فقال النبي : إنّكنّ لأنتنّ صواحب يوسف ، مروا أبابكر فليصلّ بالناس .
يعني بقوله : صواحب يوسف الفتنة بالردّ عن الجائز إلى غير الجائز» (20) .
إنّ الرجل يعلم جيّداً بأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يتمثّل بقوله : « إنّكنّ صواحب يوسف » إلاّ لوجود فتنةٍ من المرأتين ، فحرّف الحديث من « فمر عمر » إلى « فمر عليّاً » ليتمّ تشبيه النبي المرأتين بصويحبات يوسف ، لأنّ المرأتين أرادتا الردّ عن الجائز « وهو صلاة أبي بكر ! » إلى غير الجائز « وهو صلاة عليّ! » .
إذن ، جميع أحاديث المسألة باطلة .
أمّا التي دلّت على الصلاة النبي خلف أبي بكر فواضح جدّاً .
وأمّا الّتي دلّت على أنّه كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الإمام فلاشتمالها على استمرار أبي بكر في الصلاة ، وقد صحّ عنه أنّه في صلاته بالمسلمين عندما ذهب رسول الله إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم ... لمّا حضر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في الصلاة « استأخر » ثمّ قال : « ما كان لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول الله » ...
وهذا نصّ الحديث عن سهل بن سعد الساعدي :
« إنّ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة ، فجاء المؤذّن إلى أبي بكر فقال : أتصلّي للناس فأقيم ؟ قال : نعم . فصلّى أبوبكر . فجاء رسول الله والناس في الصلاة ، فتخلّص حتّى وقف في الصفّ ، فصفّق الناس ، وكان أبوبكر لا يلتفت في صلاته .
فلمّا أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ، فأشار إليه رسول الله أن امكث مكانك . فرفع أبوبكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله من ذلك ، ثمّ استأخر أبوبكر حتى استوى في الصفّ ؛ وتقدّم رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم فصلّى .
فلمّا انصرف قال : يا أبابكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك ؟ فقال أبوبكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول الله ... » .
وقد التفت ابن حجر إلى هذا التعارض فقال بشرح الحديث :
« فصلّى أبوبكر . أي : دخل في الصلاة ، ولفظ عبدالعزيز المذكور : وتقدّم أبوبكر فكبّر . وفي رواية المسعودي عن أبي حازم : فاستفتح أبو بكر الصّلاة وهي عند الطبراني .
وبهذا يجاب عن الفرق بين المقامين ،حيث امتنع أبوبكر هنا أن يستمر إماماً وحيث استمرّ في مرض موته صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم حين صلّى خلفه الركعة الثانية من الصبح كما صرّح به موسى بن عقبة في المغازي . فكأنّه لمّا أن مضى معظم الصلاة حسن الاستمرار ، ولمّا أن لم يمض منها إلاّ اليسير لم يستمرّ» (21) .
وهذا عجيب من ابن حجر!!
فقد جاء في الأحاديث المتقدّمة : « فصلّى » كما في هذا الحديث الذي فسّره بـ « أي : دخل في الصلاة » : فانظر منها الحديث الأوّل والحديث السابع من الأحاديث المنقولة عن صحيح البخاري .
بل جاء في بعضها : « فلمّا دخل في الصلاة وجد رسول الله في نفسه خفّة » فانظر الحديث الثامن من أحاديث البخاري .
لكنّ بعض الكذّابين روى في هذا الحديث أيضاً : « فصلّى رسول الله خلف أبي بكر » قال الهيثمي : « رواه الطبراني وفي إسناده عبدالله بن جعفر بن نجيح وهو ؛ ضعيف جدّاً » (22) .
فظهر أن لا فرق ... ولا يجوز لأبي بكر ولا لغيره من أفراد الأمّة التقدّم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا في الصلاة ولا في غيرها ...
خطبته صلّى الله عليه وسلّم بعد الصلاة :
ثمّ إنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قام معتمداً علىعلي والفضل حتى جلس على المنبر وعليه عصابة فحمدالله وأثنى عليه وأوصاهم بالكتاب وعترته أهل بيته ونهاهم عن التفافس والتباغض وودّعهم (23) .
رأي أمير المؤمنين عليه السلام في القضيّة :
وبعد أن لاحظنا متون الأخبار ومداليلها ، ووجدنا التعارض والتكاذب فيما بينها ، بحيث لا طريق صحيح للجمع بينها بعد كون القضيّة واحدة ... واستخلصنا أنّ صلاة أبي بكر في مرض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم تكن بأمر منه قطعاً ... فلنرجع إلى مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لنرى رأيه في أصل القضية فيكون شاهداً على ما استنتجناه ، ولنرى أيضاً أنّ صلاة أبي بكر بأمر من كانت؟؟لقد حكى ابن أبي الحديد المعتزلي عن شيخه أبي يعقوب بن إسماعيل اللمعاني حول ما كان بين أمير المؤمنين وعائشة ، جاء فيه :
« فلمّا ثقل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مرضه ، أنفذ جيش أسامة وجعل فيه أبابكر وغيره من أعلام المهاجرين والأنصار ، فكان عليّ عليه السلام حينئذٍ بوصوله إلى الأمر ـ إن حدث برسول الله حدث ـ أوثق ، وتغلّب على ظنّه أنّ المدينة ـ لو مات ـ لخلت من منازع ينازعه الأمر بالكليّة ، فيأخذه صفواً عفواً ، وتتمّ له البيعة فلا يتهيّأ فسخها لو رام ضدّ منازعته عليها . فكان من عود أبي بكر من جيش أسامة بإرسالها إليه وإعلامه بأنّ رسول الله يموت ما كان ، ومن حديث الصلاة بالناس ما عرف .
فنسب عليّ عليه السلام إلى عائشة أنّها بلالاً ـ مولى أبيها ـ أن يأمره فليصلّ بالناس ، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما روي قال : « ليصلّ بهم أحدهم » ولم يعيّن ، وكانت صلاة الصبح ، فخرج رسول الله وهو في آخر رمق يتهادي بين عليّ والفضل بن العبّاس ، حتّى قام في المحراب ـ كما ورد في الخبر ـ ثمّ دخل ، فمات ارتفاع الضحى ، فجعل يوم صلاته حجّةً في صرف الأمر إليه ، وقال : أيّكم يطيب نفساً أن يتقدّم قدمين قدّمهما رسول الله في الصلاة ؟! ولم يحملوا خروج رسول الله إلى الصلاة لصرفه عنها ، بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن .
فبويع على هذه النكتة التي اتّهمها عليّ عليه السلام على إنّها ابتدأت منها .
وكان عليّ يذكر هذا لأصحابه في خلواته ويقول : إنّه لم يقل صلّى الله عليه وآله وسلّم إنّكنّ لصويحبات يوسف إلاّ إنكاراً لهذه الحلال وغضباً منها ، لأنّها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما ، وإنّه استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب ، فلم يجد ذلك ولا أثّر ، مع قوّة الداعي الذي كان يدعو إلى أبي بكر ويمهّد له قاعدة الأمر تقرّر حاله في نفوس الناس ومن اتّبعه على ذلك من أعيان المهاجرين والأنصار ...
فقلت له رحمه الله : أفتقول أنت : إنّ عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول الله لم يعيّنه؟!
فقال : أمّا أنا فلا أقول ذلك ، ولكنّ عليّاً كان يقوله ، وتكليفي غير تكليفه ، كان حضراً ولم أكن حاضراً ... » (24) .
نتيجة البحث :
لقد استعرضنا أهمّ أحاديث القضيّة ، وأصحهّا ، ونظرنا أوّلاً في أسانيدها ، فلم نجد حديثاً منها يمكن قبوله والركون إليه في مثل هذه القضية ، فرواة الأحاديث بين « ضعيف » و« مدلّس » و« عثماني » و« خارجيّ » ... وكونها في الصحاح لا يجدي ، وتلقّي الكلّ إياها بالقبول لا ينفع ...
ثمّ نظرنا في متونها ومداليلها بغضّ النظر عن أسانيدها ، فوجدناها متناقضة متضاربةً يكذّب بعضها بعضاً ... بحيث لا يمكن الجمع بينها بوجه ... بعد أن كانت القضيّة واحدة ، كما نصّ عليه الشافعي ومن قال بقوله من أعلام الفقه والحديث ...
ثمّ رأينا أنّ الأدلّة والشواهد الخارجيّة القويمة تؤكّد على استحالة أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي أمر أبابكر بالصلاة في مقامه .
وخلاصة الأمر الواقع : أنّ النبي لمّا مرض كان أبوبكر غائباً بأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث كان مع أسامة بن زيد في جيشه ، وكان النبي يصلّي بالمسلمين بنفسه ، حتّى إذا كانت الصلاة الأخيرة حيث غلبه الضعف واشتدّ به المرض طلب عليّاً فلم يدع له ، فأمر بأن يصلّي بالناس أحدهم ، فلمّا التفت بأنّ المصلّي بهم أبوبكر خرج معتمداً على أمير المؤمنين ورجل آخر ـ وهو في آخر رمقٍ من حياته ـ لأن يصرفه عن المحراب ويصلّي بالمسلمين بنفسه ـ لا أن يقتدي بأبي بكر! ـ ويعلن بأنّ صلاته لم تكن بأمر منه ، بل من غيره!! .
ثمّ رأينا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يرى أنّ الأمر كان من عائشة و « عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ » (25) .
وصلّى الله على رسوله الأمين ، وعلى أمير المؤمنين والأئمة المعصومين ، والحمد الله ربّ العالمين .
المصادر :
1- عمدة القاري 5 / 203 .
2- فتح الباري 2 / 135 .
3- فتح الباري 2 / 120 .
4- لابن الجوزي رسالة في هذا الباب أسماها « آفة أصحاب الحديث » .
5- عمدة القاري 5 / 191 .
6- المنهاج ، شرح صحيح مسلم 3 / 52 .
7- عمدة القاري 5 / 191 ، لعبد المغيث رسالة في هذا الباب ، ردّ عليها ابن الجوزي برسالته المذكورة .
8- عمدة القاري 5 / 191 .
9- عمدة القاري 5 / 191 .
10- فتح الباري 2 / 120 .
11- فتح الباري 2 / 138 .
12- صحيح البخاري ـ بشرح العيني ـ 5 / 250 .
13- عمدة القاري 5 / 190 .
14- تنوير الحوالك ـ شرح موطأ مالك 1 / 156 .
15- فتح الباري 2 / 162 .
16- نيل الأوطار 3 / 195 .
17- السيرة الحلبية 3 / 365 .
18- سورة الحجرات 49 : 1 .
19- فتح الباري 3 / 139 .
20- أحكام القرآن 4 / 145 .
21- فتح الباري 2 / 133 .
22- مجمع الزوائد 5 / 181 .
23- جواهر العقدين : 168 . مخطوط .
24- شرح نهج البلاغة 9 / 196 ـ 198 .
25- صحيح الترمذي 3 / 166 ، المستدرك 3 / 124 ، جامع الأصول 9 / 20 ، مجمع الزوائد 7 / 233 وغيرها .