توجد في لبنان حرکات اسلامية صغيرة وکبيرة متعددة ابرزها حزب الله اللبناني والذي تاسس في العام 1982، على أساس إيمانه برسالة الإسلام، وحدَّد أهدافه التي يريد تحقيقها في ساحة عمله في لبنان، كان المؤسسون بحاجة إلى التأكد من شرعية عملهم وانسجامه مع إيمانهم وتكليفهم، فحصلوا على الشرعية بامضاء الولي الفقيه الإمام الخميني قدس سره لمشروعهم كحزب إسلامي يريد العمل في ساحته لبنان. وهكذا انطلق "حزب الله" منسجماً مع ما قدمناه من وجوب الطاعة للقيادة الشرعية من الموقع الديني الإسلامي، ثم تحمَّلت قيادته المتمثلة بالشورى المنتخبة من كوادر الحزب مسؤولية تحقيق الأهداف والبرامج والدفاع عنها.
اقتصر الحزب في حركته خلال السنوات العشر الأولى لانطلاقته على العمل الجهادي والسياسي خارج إطار الدولة ومؤسساتها. وقد كان البلد منقسماً خلال تلك الفترة بين منطقتين وحكومتين، ثم واجه في العام 1992 قضية رئيسة تُعتبر مفصلية في العمل السياسي وهي المشاركة في الانتخابات النيابية.
جرى نقاشٌ موسَّع داخل الأطر القيادية للحزب حول مشروعية المشاركة في الانتخابات النيابية وآثارها العملية، "وتمحورت النقاشات حول الأسئلة التالية:
1- ما مدى مشروعية الدخول في مجلس نيابي يعتبر جزءاً من نظام سياسي طائفي ولا يعبِّر عن رؤية الحزب للنظام الأصلح؟
2- إذا حُلت أزمة المشروعية، فهل تعتبر المشاركة موافقة على واقع النظام السياسي، ما يرتب مسؤولية في الدفاع عنه وتبنِّيه، وتنازل عن الرؤية الإسلامية؟
3- ما هي حجم المصالح والمفاسد التي تترتَّب على هذه المشاركة أو عدمها؟ وهل يوجد ما يُغلِّب أحدهما على قاعدة المصالح الأكيدة والواضحة؟
4- هل تؤدِّي المشاركة إلى تعديل في الأولويات، بحيث يتم التخلِّي عن المقاومة لمصلحة الانخراط في اللعبة السياسية الداخلية؟"(1)
إنَّ المشاركة في نظام غير إسلامي تتطلب موافقة الولي الفقيه. وهو نقاش مفتوح بين الفقهاء تاريخياً بين من يرى حرمة المشاركة في نظام غير إسلامي على قاعدة وجوب السعي لإقامة الحكم الإسلامي في كل مكان، وبين من يفتح الباب للمشاركة شرط رعاية الضوابط الشرعية بعدم الموافقة على المحرمات وتقريب القوانين من الأحكام الإسلامية وضوابطها.
أعطى الولي الفقيه الإمام الخامنئي دام ظله موافقته على المشاركة في الانتخابات، وهي جزء من المشاركة في تركيبة النظام اللبناني، شرط رعاية الضوابط الشرعية.
الولي الفقيه سبيلُ الحزب إلى الاطمئنان على مشروعية الرؤية الإيمانية السياسية التي يتم رسم أهدافه وبرامجه على أساسها. وهذا أمر تأسيسي يعني الحزب في تكوينه وحضوره واستمراريته، ولا علاقة للآخرين في كيفية حصوله على مشروعية رؤيته، إنما لهم أن يناقشوا أهدافه وسياساته وبرامجه ويقيِّموها، قبولاً أو رفضاً، ويسائلوه على مستوى النتائج، ولهم أيضاً أن يناقشوا في إيمانه المبدئي من موقع الحوار والحجة، وأن يختلفوا معه، ولكن ليس من حقهم أن يسيئوا لحكم شرعي مبني على الإيمان بولاية الفقيه بالتوهين أو الإهانة.
ما هو مهمٌّ في نظرتنا لأي جهة سياسية هو رؤيتها، التي تعرض من خلالها أهدافها وبرنامجها، فنناقشها لتحديد صوابية أو خطأ هذه الرؤية، ونحلل أبعادها ونتائجها، ونقيِّمها إذا ما كانت تبني الوطن أو تهدمه، وإذا ما كانت تساهم في تعزيز المشتركات بين القوى السياسية أم تباعد بينها. فالرؤية تُقيَّم على المستوى الوطني بأهدافها وبرامجها ونتائجها، ولا تقيَّم بكيفية تشكُّلها وقناعة القيمين عليها.
ولكل جهة أن تبحث عن مشروعية عملها بالطريقة التي تطمئن بها. ولا يملك أحد حصرية تحديد طريقٍ معيَّن للمشروعية، بل هو أمر اعتقادي عقلي يتشكَّل عند كل جهة بحسب تفكير قياداتها ومؤسسيها.
فالذين اعتبروا أنفسهم مصدر المشروعية، وأن لا قيادة فوقهم، وصلوا إلى هذه القناعة باعتقاد وتفكير، كما أن الذين لجأوا إلى قيادة أعلى منهم داخل أو خارج بلدهم، أو رؤية ليست مطروحة في وطنهم، استفادوا منها بهذا التبادل الإنساني العالمي، ووصلوا إلى قناعتهم هذه باعتقاد وتفكير أيضاً.
النقاش في المشروعية نقاش عقلي نظري. فمن يؤمن بولاية الفقيه، ينطلق من الإيمان بالإسلام كمنهج للحياة، ويتبنى الأهداف والبرامج التي يمضيها ولي الأمر، الفقيه القائد، واجب الطاعة، الذي يعطي المشروعية للعمل. ومن يؤمن بقيادة شخص أو زعيم من موقع التزام العلمانية، ينطلق من القواعد العلمانية التي رسمها مفكرون في العالم، ويتبنى الأهداف والبرامج التي تنسجم معها، ويتبنى إمضاء هذا الزعيم الذي يعطيها المشروعية التي يحتاج إليها من يؤمن بآرائه وقناعاته ومشروعية دوره.
هنا يكون النقاش في المشروعية جزءاً من النقاش في المبدأ والمنطلقات.
لا مجال للعودة إلى قاعدة أو مقياس معترفٍ به بين البشر لحسم الجدل حول المبدأ والمنطلقات الأصوب، فكلّ فريق يدَّعي الأصوب بما أرشدته إليه عقولهم، فإذا ما حصل نقاشٌ مبدئي بين مختلفين، فإمَّا أن يُقنع أحدهما الآخر فيتفقان، وإمَّا أن يتمسك كل واحد منهما برأيه فيختلفان، وإمَّا أن يضيِّقا من مساحة اختلافهما لكنهما يبقيان أيضاً في إطار قناعتين مختلفتين، وهذا هو ديدن البشرية عبر التاريخ، فهذا ما خلقه الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾(2).
نحن أمام رؤىً لكل منها طريقٌ لمشروعيتها. فمن أراد الحوار أو الجدال أو الاقناع أو تثبيت الاختلاف فعليه النقاش في الرؤية، لأنَّه لا ينتفع ولا يعنيه كيفية تحصيل المشروعية لهذه الرؤية. فمن اختلف مع حزب الله يمكنه مناقشته في رؤيته الإسلامية، لكنه لن ينتفع بإثارة طريقه للمشروعية بإيمانه بولاية الفقيه، لأنها حكمٌ شرعي ديني يعني المؤمنين بها، وهي جزء من الرؤية المتكاملة.
وهذا لا يعني سد باب النقاش، وإنما منع التراشق السياسي في مسألة إيمانية. كما لا يستفيد حزب الله من مناقشة تحصيل المشروعية عند القوى الأخرى، فالمهم هو رؤيتهم وانعكاسها أهدافاً وبرامج على الواقع في لبنان.
إذاً نحن أمام رؤية فكرية سياسية ومشروعية دينية أو فكرية أو سياسية لطمأنة أصحاب الرؤية حول سلامتها. فالمشروعية طريق إلى الرؤية، التي تتضمن المنطلق والأهداف ويتفرع عنها البرامج والسياسات والمواقف. وإنما يتواجه المختلفون بالرؤية، بينما تندرج المشروعية في داخلها وتكون من خصائصها ومستلزماتها الذاتية، والعبرة بإثبات أحقية الرؤية.
ترجمة الولاء للوطن: إذاً كيف يكون تقييم الولاء للوطن مع اختلاف المبادئ والقناعات؟
يترجَمُ الولاء للوطن من خلال الأهداف والبرامج التي تنعكس أداءً ونتائج تؤشر إلى حقيقة الموقف.
وقد كان سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله واضحاً وصريحاً عندما حدَّد رؤية الحزب في نظرته إلى الحكم في لبنان، وتقدير المصلحة في ذلك، وضرورة تكاتف جميع أبنائه لبنائه، فقال في كلمة له في ذكرى التحرير والانتصار في 26/5/2008: "نحن لا نريد السلطة في لبنان لنا، ولا نريد السيطرة على لبنان، ولا نريد أن نحكم لبنان، ولا نريد أن نفرض فكرنا أو مشروعنا على الشعب اللبناني، لأنَّنا نؤمن بأنَّ لبنان بلدٌ خاص ومتنوع ومتعدد... لا قيامة لهذا البلد إلاَّ بمشاركة الجميع، وتعاون الجميع، وتكاتف الجميع، وهذا ما كنا نطالب به...ثم قال: إنَّ ولاية الفقيه تقول لنا: إنَّ لبنان المتنوع المتعدد يجب أن تحافظوا عليه".
يعتبرُ حزب الله لبنان وطناً لجميع أبنائه، ولا يقبلُ تصنيف المواطنين وفق درجات متفاوتة على أساس انتماءاتهم الدينية والسياسية، بل يجب أن يتساوى المواطنون بالحقوق والواجبات، ويقبل بخيارات الناس لممثليهم في التعبير عن قضاياهم، ويدعو إلى مشاركة جميع القوى للنهوض والاعمار والإصلاح وحماية البلد، ويعارض الاستئثار والإقصاء الفئوي أو المناطقي أو الطائفي أو المذهبي، ويقبل دستور الطائف سياسياً وتنفيذياً كنظام تعاقد عليه اللبنانيون واتفقوا عليه لإدارة شؤونهم، وهو الذي يشكل الحد الأدنى للاستقرار السياسي الضروري، ويؤكد على إبقاء الفرصة متاحة لتطوير النظام السياسي في لبنان نحو الأفضل.
ويدعو إلى معالجة القضايا المختلفة في إطار المؤسسات الدستورية، ويؤكد على حفظ وحماية وتدعيم السلم الأهلي، ويرفض تشكيل الميليشيات المسلَّحة أو استخدام العنف والإرهاب لتحقيق الغلبة السياسية أو الاجتماعية، ويؤمن بالدفاع عن لبنان بكل الوسائل الممكنة وعلى رأسها المقاومة المسلحة لتحرير أرضه وحمايته من أخطار الاعتداء والاحتلال والتهديد، ويرفض الوصاية الأجنبية على لبنان أو جعله ملحقاً بأي جهة إقليمية أو دولية، ولا يقبل توطين الفلسطينيين في لبنان إيماناً منه بحقهم في العودة إلى أرضهم الفلسطينية وتحريرها من المحتل الإسرائيلي، ويولي اهتماماً كبيراً لمصالح الناس الاقتصادية والاجتماعية، وأن تكون سياسات الدولة إنسانية في تأمين حاجات مواطنيها، وأنه يجب أن يكون لدينا جيش قوي، وقضاء مستقل غير مسيَّس، وأن تتم محاسبة المرتكبين والمجرمين والعملاء والخونة لحماية الساحة.
لا يكون الولاء للوطن بالخطب الرنَّانة، ولا بالشعارات المخادعة، ولا بالعمالة لإسرائيل، ولا بقبول الاحتلال أو التغاضي عنه، ولا باستقدام الأجنبي والاستنصار به على الآخرين، ولا بالتحريض الطائفي أو المذهبي أو المناطقي، ولا بالبهتان وبث الإشاعات والأكاذيب لتضليل الرأي العام، ولا بالمواقف المستندة إلى مقدمات ومعطيات خاطئة تؤدي إلى التصادم والتوتير.
لولاء للوطن سلوك تعكسه المبادئ والقناعات من خلال الأهداف والبرامج عند تطبيقها عملياً.
وهنا يكون النقاش في السلوك. وهل هناك وطني أشرف ممن يقاتل لتحرير أرضه مقدماً دمه وماله من أجل قضيته؟ هذا هو المعيار الأساس الذي نجح فيه من قاتل أو أيَّد أو نصر أو دعا أو آزر أو دافع... فوطنيته عَلَمٌ وولاؤه ساطع. أمَّا من برَّر للعدو أو تعامل معه أو وضع العراقيل أو ثبَّط العزائم والهمم... فقد ارتكب خيانة للوطن، تتطلب توبة عنها لمن أراد أن يكون وطنياً.
المصادر :
1- حزب الله: المنهج، التجربة، المستقبل، ص: 333-335.
2- -هود: 118.
اقتصر الحزب في حركته خلال السنوات العشر الأولى لانطلاقته على العمل الجهادي والسياسي خارج إطار الدولة ومؤسساتها. وقد كان البلد منقسماً خلال تلك الفترة بين منطقتين وحكومتين، ثم واجه في العام 1992 قضية رئيسة تُعتبر مفصلية في العمل السياسي وهي المشاركة في الانتخابات النيابية.
جرى نقاشٌ موسَّع داخل الأطر القيادية للحزب حول مشروعية المشاركة في الانتخابات النيابية وآثارها العملية، "وتمحورت النقاشات حول الأسئلة التالية:
1- ما مدى مشروعية الدخول في مجلس نيابي يعتبر جزءاً من نظام سياسي طائفي ولا يعبِّر عن رؤية الحزب للنظام الأصلح؟
2- إذا حُلت أزمة المشروعية، فهل تعتبر المشاركة موافقة على واقع النظام السياسي، ما يرتب مسؤولية في الدفاع عنه وتبنِّيه، وتنازل عن الرؤية الإسلامية؟
3- ما هي حجم المصالح والمفاسد التي تترتَّب على هذه المشاركة أو عدمها؟ وهل يوجد ما يُغلِّب أحدهما على قاعدة المصالح الأكيدة والواضحة؟
4- هل تؤدِّي المشاركة إلى تعديل في الأولويات، بحيث يتم التخلِّي عن المقاومة لمصلحة الانخراط في اللعبة السياسية الداخلية؟"(1)
إنَّ المشاركة في نظام غير إسلامي تتطلب موافقة الولي الفقيه. وهو نقاش مفتوح بين الفقهاء تاريخياً بين من يرى حرمة المشاركة في نظام غير إسلامي على قاعدة وجوب السعي لإقامة الحكم الإسلامي في كل مكان، وبين من يفتح الباب للمشاركة شرط رعاية الضوابط الشرعية بعدم الموافقة على المحرمات وتقريب القوانين من الأحكام الإسلامية وضوابطها.
أعطى الولي الفقيه الإمام الخامنئي دام ظله موافقته على المشاركة في الانتخابات، وهي جزء من المشاركة في تركيبة النظام اللبناني، شرط رعاية الضوابط الشرعية.
الولي الفقيه سبيلُ الحزب إلى الاطمئنان على مشروعية الرؤية الإيمانية السياسية التي يتم رسم أهدافه وبرامجه على أساسها. وهذا أمر تأسيسي يعني الحزب في تكوينه وحضوره واستمراريته، ولا علاقة للآخرين في كيفية حصوله على مشروعية رؤيته، إنما لهم أن يناقشوا أهدافه وسياساته وبرامجه ويقيِّموها، قبولاً أو رفضاً، ويسائلوه على مستوى النتائج، ولهم أيضاً أن يناقشوا في إيمانه المبدئي من موقع الحوار والحجة، وأن يختلفوا معه، ولكن ليس من حقهم أن يسيئوا لحكم شرعي مبني على الإيمان بولاية الفقيه بالتوهين أو الإهانة.
ما هو مهمٌّ في نظرتنا لأي جهة سياسية هو رؤيتها، التي تعرض من خلالها أهدافها وبرنامجها، فنناقشها لتحديد صوابية أو خطأ هذه الرؤية، ونحلل أبعادها ونتائجها، ونقيِّمها إذا ما كانت تبني الوطن أو تهدمه، وإذا ما كانت تساهم في تعزيز المشتركات بين القوى السياسية أم تباعد بينها. فالرؤية تُقيَّم على المستوى الوطني بأهدافها وبرامجها ونتائجها، ولا تقيَّم بكيفية تشكُّلها وقناعة القيمين عليها.
ولكل جهة أن تبحث عن مشروعية عملها بالطريقة التي تطمئن بها. ولا يملك أحد حصرية تحديد طريقٍ معيَّن للمشروعية، بل هو أمر اعتقادي عقلي يتشكَّل عند كل جهة بحسب تفكير قياداتها ومؤسسيها.
فالذين اعتبروا أنفسهم مصدر المشروعية، وأن لا قيادة فوقهم، وصلوا إلى هذه القناعة باعتقاد وتفكير، كما أن الذين لجأوا إلى قيادة أعلى منهم داخل أو خارج بلدهم، أو رؤية ليست مطروحة في وطنهم، استفادوا منها بهذا التبادل الإنساني العالمي، ووصلوا إلى قناعتهم هذه باعتقاد وتفكير أيضاً.
النقاش في المشروعية نقاش عقلي نظري. فمن يؤمن بولاية الفقيه، ينطلق من الإيمان بالإسلام كمنهج للحياة، ويتبنى الأهداف والبرامج التي يمضيها ولي الأمر، الفقيه القائد، واجب الطاعة، الذي يعطي المشروعية للعمل. ومن يؤمن بقيادة شخص أو زعيم من موقع التزام العلمانية، ينطلق من القواعد العلمانية التي رسمها مفكرون في العالم، ويتبنى الأهداف والبرامج التي تنسجم معها، ويتبنى إمضاء هذا الزعيم الذي يعطيها المشروعية التي يحتاج إليها من يؤمن بآرائه وقناعاته ومشروعية دوره.
هنا يكون النقاش في المشروعية جزءاً من النقاش في المبدأ والمنطلقات.
لا مجال للعودة إلى قاعدة أو مقياس معترفٍ به بين البشر لحسم الجدل حول المبدأ والمنطلقات الأصوب، فكلّ فريق يدَّعي الأصوب بما أرشدته إليه عقولهم، فإذا ما حصل نقاشٌ مبدئي بين مختلفين، فإمَّا أن يُقنع أحدهما الآخر فيتفقان، وإمَّا أن يتمسك كل واحد منهما برأيه فيختلفان، وإمَّا أن يضيِّقا من مساحة اختلافهما لكنهما يبقيان أيضاً في إطار قناعتين مختلفتين، وهذا هو ديدن البشرية عبر التاريخ، فهذا ما خلقه الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾(2).
نحن أمام رؤىً لكل منها طريقٌ لمشروعيتها. فمن أراد الحوار أو الجدال أو الاقناع أو تثبيت الاختلاف فعليه النقاش في الرؤية، لأنَّه لا ينتفع ولا يعنيه كيفية تحصيل المشروعية لهذه الرؤية. فمن اختلف مع حزب الله يمكنه مناقشته في رؤيته الإسلامية، لكنه لن ينتفع بإثارة طريقه للمشروعية بإيمانه بولاية الفقيه، لأنها حكمٌ شرعي ديني يعني المؤمنين بها، وهي جزء من الرؤية المتكاملة.
وهذا لا يعني سد باب النقاش، وإنما منع التراشق السياسي في مسألة إيمانية. كما لا يستفيد حزب الله من مناقشة تحصيل المشروعية عند القوى الأخرى، فالمهم هو رؤيتهم وانعكاسها أهدافاً وبرامج على الواقع في لبنان.
إذاً نحن أمام رؤية فكرية سياسية ومشروعية دينية أو فكرية أو سياسية لطمأنة أصحاب الرؤية حول سلامتها. فالمشروعية طريق إلى الرؤية، التي تتضمن المنطلق والأهداف ويتفرع عنها البرامج والسياسات والمواقف. وإنما يتواجه المختلفون بالرؤية، بينما تندرج المشروعية في داخلها وتكون من خصائصها ومستلزماتها الذاتية، والعبرة بإثبات أحقية الرؤية.
ترجمة الولاء للوطن: إذاً كيف يكون تقييم الولاء للوطن مع اختلاف المبادئ والقناعات؟
يترجَمُ الولاء للوطن من خلال الأهداف والبرامج التي تنعكس أداءً ونتائج تؤشر إلى حقيقة الموقف.
وقد كان سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله واضحاً وصريحاً عندما حدَّد رؤية الحزب في نظرته إلى الحكم في لبنان، وتقدير المصلحة في ذلك، وضرورة تكاتف جميع أبنائه لبنائه، فقال في كلمة له في ذكرى التحرير والانتصار في 26/5/2008: "نحن لا نريد السلطة في لبنان لنا، ولا نريد السيطرة على لبنان، ولا نريد أن نحكم لبنان، ولا نريد أن نفرض فكرنا أو مشروعنا على الشعب اللبناني، لأنَّنا نؤمن بأنَّ لبنان بلدٌ خاص ومتنوع ومتعدد... لا قيامة لهذا البلد إلاَّ بمشاركة الجميع، وتعاون الجميع، وتكاتف الجميع، وهذا ما كنا نطالب به...ثم قال: إنَّ ولاية الفقيه تقول لنا: إنَّ لبنان المتنوع المتعدد يجب أن تحافظوا عليه".
يعتبرُ حزب الله لبنان وطناً لجميع أبنائه، ولا يقبلُ تصنيف المواطنين وفق درجات متفاوتة على أساس انتماءاتهم الدينية والسياسية، بل يجب أن يتساوى المواطنون بالحقوق والواجبات، ويقبل بخيارات الناس لممثليهم في التعبير عن قضاياهم، ويدعو إلى مشاركة جميع القوى للنهوض والاعمار والإصلاح وحماية البلد، ويعارض الاستئثار والإقصاء الفئوي أو المناطقي أو الطائفي أو المذهبي، ويقبل دستور الطائف سياسياً وتنفيذياً كنظام تعاقد عليه اللبنانيون واتفقوا عليه لإدارة شؤونهم، وهو الذي يشكل الحد الأدنى للاستقرار السياسي الضروري، ويؤكد على إبقاء الفرصة متاحة لتطوير النظام السياسي في لبنان نحو الأفضل.
ويدعو إلى معالجة القضايا المختلفة في إطار المؤسسات الدستورية، ويؤكد على حفظ وحماية وتدعيم السلم الأهلي، ويرفض تشكيل الميليشيات المسلَّحة أو استخدام العنف والإرهاب لتحقيق الغلبة السياسية أو الاجتماعية، ويؤمن بالدفاع عن لبنان بكل الوسائل الممكنة وعلى رأسها المقاومة المسلحة لتحرير أرضه وحمايته من أخطار الاعتداء والاحتلال والتهديد، ويرفض الوصاية الأجنبية على لبنان أو جعله ملحقاً بأي جهة إقليمية أو دولية، ولا يقبل توطين الفلسطينيين في لبنان إيماناً منه بحقهم في العودة إلى أرضهم الفلسطينية وتحريرها من المحتل الإسرائيلي، ويولي اهتماماً كبيراً لمصالح الناس الاقتصادية والاجتماعية، وأن تكون سياسات الدولة إنسانية في تأمين حاجات مواطنيها، وأنه يجب أن يكون لدينا جيش قوي، وقضاء مستقل غير مسيَّس، وأن تتم محاسبة المرتكبين والمجرمين والعملاء والخونة لحماية الساحة.
لا يكون الولاء للوطن بالخطب الرنَّانة، ولا بالشعارات المخادعة، ولا بالعمالة لإسرائيل، ولا بقبول الاحتلال أو التغاضي عنه، ولا باستقدام الأجنبي والاستنصار به على الآخرين، ولا بالتحريض الطائفي أو المذهبي أو المناطقي، ولا بالبهتان وبث الإشاعات والأكاذيب لتضليل الرأي العام، ولا بالمواقف المستندة إلى مقدمات ومعطيات خاطئة تؤدي إلى التصادم والتوتير.
لولاء للوطن سلوك تعكسه المبادئ والقناعات من خلال الأهداف والبرامج عند تطبيقها عملياً.
وهنا يكون النقاش في السلوك. وهل هناك وطني أشرف ممن يقاتل لتحرير أرضه مقدماً دمه وماله من أجل قضيته؟ هذا هو المعيار الأساس الذي نجح فيه من قاتل أو أيَّد أو نصر أو دعا أو آزر أو دافع... فوطنيته عَلَمٌ وولاؤه ساطع. أمَّا من برَّر للعدو أو تعامل معه أو وضع العراقيل أو ثبَّط العزائم والهمم... فقد ارتكب خيانة للوطن، تتطلب توبة عنها لمن أراد أن يكون وطنياً.
المصادر :
1- حزب الله: المنهج، التجربة، المستقبل، ص: 333-335.
2- -هود: 118.