الدستور هو نص قانوني متفوق على كل النصوص الأخرى التي تنساق منه، ومنه تستقي صحتها.
الأعمال الإدارية ليست صالحة إلا إذا امتثلت للقوانين. وهذه بدورها تفقد صحتها إذا لم تتطابق مع الدستور الذي يغدو هكذا الضابط الأساسي(1)... فالدستور كمفهوم يرتبط، وعلى درجات متفاوتة، بـ"الاتفاق" أو "العقد الاجتماعي" وعليه فهو شكل من أشكال الميثاق الاجتماعي ويعبر عن مجتمع مؤسس على إرادة البشر بدل المجتمع المبني على التاريخ والتقاليد. وفي هذا الميثاق يقرر المتفقون تكوين جماعة بينهم ويحددون المبادئ الجوهرية التي يجب أن تمتثل إليها هذه الجماعة، فالاتفاق أو الميثاق الاجتماعي هو قاعدة الدولة نفسها.
أما في لبنان فقد ولد الكيان في 1 أيلول 1920 ثم ولدت الجمهورية في 23 أيار 1926 مع صدور الدستور كنتيجة للتطور السياسي والإداري الذي قام في لبنان منذ إعلان لبنان الكبير عام 1920 بتعاون اللبنانيين مع سلطة الانتداب(2)
ونتيجة لمجموعة من العوامل المتشابكة المرتبطة بمجرى تطور الأحداث السياسية في سوريا، خاصة بعد اندلاع الثورة السورية الكبرى عام 1925 والتي كانت تهدف إلى وضع دستور ديمقراطي لسوريا، فكان صدور الدستور اللبناني بمثابة منحة أو مكافأة أعطتها فرنسا للبنان بسبب عدم معارضته للسياسة الفرنسية أكثر منه نتيجة نضال خاضه الشعب اللبناني في سبيل الاستقلال(3).
وهذا الدستور كان متعذراً ميلاد مثيل له في سوريا مثلاً نظراً للموقف العدائي الذي اتخذه القادة الوطنيون هناك من الفرنسيين.
وبعيداً عن التاريخ السياسي للكيان اللبناني الذي لا يدخل ضمن نطاق عملنا، نلفت إلى أن المهم هو ملاحظة التدرج التاريخي لظهور المؤشرات ذات الدلالة في بحثنا وهي أن الدستور اللبناني قد نشأ بعد تشكل الكيان الذي تولد من ظروف سياسية اجتماعية بالغة التعقيد وكان متأخراً جداً عن تشكل الطوائف ككيانات ذات تنظيم داخلي محكم(4).
بل يمكن القول إن الكيان اللبناني هو مجموع كيانات الطوائف المكونة له وإن تاريخه ليس إلا تاريخها، فإذا حاولنا أن نكتب للكيان اللبناني تاريخاً معزولاً عن تاريخ طوائفه كانت المحصلة صفراً، لذا كان الكيان اللبناني منظومة للتوفيق بين التعارضات الطائفية، بإرادة خارجية. ولا أدل على هذا من سيرورة بروز الكيان الذي ظهر بإرادة المفوض السامي الفرنسي عام 1920 واكتسب نوعاً من الوجود بموجب صك الانتداب عام 1922. وملاحظة الإرادة الخارجية تكون من خلال متابعة المصادر المكونة للدستور اللبناني، أما ملاحظة التشاركية الكيانية للطوائف فيمكن إبرازها عبر تحليل البنية الداخلية للدستور.
ودون التوسع في مصادر الدستور أو في التدليل على الإرادة الخارجية المكونة للكيان اللبناني التي لا حاجة لإثباتها، نجد من الضروري أن نقف عند واحد من مصادر الدستور اللبناني، نظراً للأهمية الخاصة التي يتمتع بها من وجهة نظرنا حيث يساعد في إثبات ما نذهب إليه من أن الكيان اللبناني لا يشكل دولة ولا مركزاً بل نظاماً سياسياً بلا دولة أو مركز، وأنه نظام سياسي يقوم على فكرة الاتحاد التشاركي بين الطوائف التي تحتفظ كل واحدة منها بكيانيتها الخاصة وسلطتها الداخلية، وهذا المصدر هو الاستفتاء الذي قامت به لجنة القانون الأساسي في المجلس التمثيلي اللبناني والذي تلخصت نتائجه في التقرير الذي قدمته اللجنة في 19 أيار 1926 إلى المجلس التمثيلي، والذي أشار إلى أن الاستفتاء قد تضمن اثني عشر سؤالاً حول موضوعات أساسية تشكل مرتكزات أي دستور، وأن الأسئلة وجهت إلى شخصيات ذات حيثية في المجتمع ولآرائها وزن في التعبير عن الشعب اللبناني وتوجهاته وأن اللجنة تلقت 132 جواباً وأن 32 شخصاً رفضوا الإجابة لأنهم من مؤيدي الوحدة السورية ولا يريدون الاعتراف باستقلال لبنان الكبير. ومن جملة هذه الأسئلة يعنينا التوقف عند السؤال السادس الذي يطرح مسألة الطائفية وهل يجب اعتماد الطائفية في توزيع المقاعد في المجلس النيابي؟
الغالبية الساحقة من الإجابات (121 إجابة) رأت ضرورة اعتماد النظام الطائفي كأساس للتمثيل الطائفي وقد قدمت تبريرات لهذه الإجابات نقلها عن التقرير الدكتور زهير شكر في كتابه الوسيط في القانون الدستوري ص165 وما بعدها. ونحن سنذكر هذه الأسباب ونتوقف عندها عندما يستدعي ذلك التحليل في إطار استدلالنا على الفرضية موضوع البحث...
السبب الأول خلاصته أن الشعب يتألف من مجموعة من الطوائف، لكل منها معتقداتها الدينية وعقليتها وعاداتها وتقاليدها الخاصة... وهذا السبب يؤسس لنفي الركن الأول من أركان الدولة وهو الشعب، فهنا لا شعب في أذهان المؤسسين للدستور، بل مجموعة طوائف تتعاهد معاً ليكون "الشعب"، نتيجة لهذا التعاهد. وما دمنا قد شرحنا أن الشعب هو مجموع الأفراد الذين يرتبطون برابط المواطنة ويأتمرون بأمر الإرادة العامة ويكتسبون الحقوق بحكم ارتباطهم كأفراد بدولة ما بعينها، ومن خلال الفهم المستخلص من السبب الأول نكون بصدد نحو من أنحاء الاتفاقيات التي تؤسس للاتحادات التشاركية الكونفدرالية لا بصدد دستور ناظم لدولة بالنحو الذي عرّفناه سابقاً...
فواضعو الدستور أكدوا أننا لسنا بصدد وضع دستور ينظم علاقة "شعب" بالسلطات التي ترعى شؤونه بل نحن بصدد كيانات منفصلة بل ومتباينة ويراد تأسيس شكل من أشكال العلاقة التشاركية بينها عبر اتفاق ميثاقي مكتوب. وهذا المنحى ظاهرٌ من كلماتهم التي وصفوا عبرها حقيقة الطوائف اللبنانية حيث اعتبروا أن لكل منها "معتقداتها الدينية وعقليتها وعاداتها وتقاليدها الخاصة". وكون الطوائف تتخذ في أذهانهم هذا المعنى فهذا معناه أن كل طائفة هي بنظرهم "أمة" منفصلة عن الأمم الأخرى التي فرضت المعطيات الجغرافية والسياسية أن تكوّن معاً كياناً سياسياً واحداً.
وما دام الأمر إجبارياً ولا مناص منه إذاً لا بد من نص يحفظ الكيانات ويحميها ويمنع ذوبانها في أغيارها ويؤكد مصالحها مهما كان حجم هذه الكيانات أو حجم مصالحها.لذا قال المستفتون "إنّ إلغاء التمثيل الطائفي ينهي التوازن ويعطي بعض الطوائف امتيازات على حساب الطوائف الأخرى". وقد اتضح خلال معالجتنا النظرية لمفهوم الدستور ولركن الشعب عند تحديدنا لأركان الدولة أنّ الدساتير تحدد شكل الدولة وأنواع السلطات وأشكال تعاونها وتكون حصيلة لإرادة مجموعة من الأفراد تأسيس دولة تكون أسمى وأرقى من كل العناصر الغريبة عنها وبالأخص ذات الطابع الوراثي، فهي السلطة السيدة التي تُمارس على الناس الأحرار دون كيانات وسيطة.
أما النصوص التي وظيفتها حفظ التوازن بين الكيانات المنفصلة فهي المعاهدات أو الوثائق التي تتأسس بموجبها الاتحادات التشاركية... وعليه لم يكن في أذهان غالبية المستفتين معنى الدولة، بل يظهر بشكل قاطع أن ما كان في أذهانهم هو "الكونفدرالية التشاركية" المتولدة من حكم الضرورة السياسية - الجغرافية. فهم أكدوا في التعليل الثالث "إنّ روح الطائفية تسود البلاد، ولا يمكن بيوم إلغاء عقلية عمرها عدة قرون" وهذا يبين إدراكهم لحقيقة سبق وأشرنا إليها وهي أسبقية الكيانات الطائفية على الكيان اللبناني وأنها في تاريخها تختصر تاريخه وفي وجودها تشكل وجوده أو تلغيه.
ومن الحقائق التي يبرزها هذا الاستفتاء ما أشار إليه المستفتون في التعليلين الخامس والسادس في جوابهم عن السؤال السادس تأييداً للتشاركية الطوائفية حيث أكدوا "ضعف روح التضامن بين مختلف الطوائف" وأن "الشعب اللبناني لم يعتد إعطاء الأولوية للتضامن الوطني على حساب التضامن الطائفي". وبالإحالة إلى ما ذكرناه سابقاً حول ركن الشعب نكون وبشكل واضح أمام كيان سياسي غير متشكل كدولة. وهذا التوصيف يدعم ما افترضناه من أن الأفراد ما كانوا يوماً العنصر المكون للكيان اللبناني. وما دام الأمر كذلك إذاً فلا مواطنة ولا أفراد يتمتعون بحقوق ناتجة من عضويتهم في دولة يشكلونها بإرادتهم بل الأفراد هم أعضاء في طوائف ينتمون إليها ويقدمون انتماءهم إليها على أي انتماء آخر ومن خلال عضويتهم فيها وبوساطة إرادة الطائفة تشكيل اتحاد الضرورة مع غيرها من الطوائف يصير هؤلاء الأفراد أعضاء في الكيان الأوسع، فهم لم يعتادوا إعطاء الأولوية لغير الانتماء الطائفي.
هذه الصورة التي استخلصناها من أجوبة السؤال السادس في الاستفتاء وتعليلاته تبين لنا الصورة الواقعية في لحظة التأسيس الأولى للكيان. هذه الصورة التي حفظتها النصوص والممارسات وسجلها التاريخ وأثبتتها الأحداث لا يمكن أن تشكل "شكلاً من أشكال الحكومة"، وهذا كلام الإجابات الأربعة عشر التي اعترضت على اعتماد الطائفية كأساس في تشكيل السلطة ضمن الكيان. هذه الإجابات كانت مثالية تتحدث عن دولة يجب أن تكون، أمّا الإجابات الأكثرية فكانت واقعية بحيث شرحت واقعاً وسعت لإدارته وفق حقيقته فأكدت أن "لا شعب" وأن لا إمكانية لوضع دستور بل أقصى ما يمكن هو ميثاق تعايش وبالتالي "لا دولة".
وربما يقال إن هذه التعليلات تنفع في دراسة البنية الاجتماعية ولكنها لا تنفع دستورياً لأنها لم تدخل في نص الدستور. والجواب أن هذا غير صحيح فهذه التعليلات قد وردت بتمامها في نصوص الدستور ولا تزال تتأكد وتزداد تجذراً، ولا أدل على هذا من نص الفقرة "ياء" من مقدمة الدستور اللبناني (تعديل 1990) التي نصت على أن: لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.
واللافت في هذه الفقرة استعمالها عبارة "ميثاق" وهي مفهوم مغاير كلياً لمفهوم "الدستور" وهذا ما كنا نؤسس لإثباته منذ بداية البحث. كما يستفاد من استعمال عبارة "العيش المشترك" أننا لا نتحدث عن دولة تفرض سيطرتها على المجتمع الذي يشكلها وتنفصل عنه ذاتاً ومفهوماً لتشكل حيزاً مغلقاً وآلة إدارية صالحة للسيطرة على جميع الأطراف، بحيث تشكل كدولة منظومة أدوارٍ ممأسسةٍ عاملة بصورة دائمة والمالك الشرعي الوحيد للسلطة والقائم على حفظ الإقليم وصيانته والأهم الآلة السياسية المستخدمة من قبل موظفين مختارين بطريقة موضوعية وفقاً لمعايير الجدارة، بل نتحدث عن مجموعات متجاورة محجوز بعضها عن بعض وتتشارك في العيش بحكم المجاورة الجغرافية وضرورات السياسة التي أملتها إرادات الاستعمار واتفاقيات التقسيم...
وما يؤكد تحليلنا عن انتفاء صفة الدولة عن الكيان السياسي اللبناني أن هذه الفقرة ذاتها تصرح بأن الميثاق التشاركي هو مصدر شرعية السلطات، وفي كل مرة ينقض فيها الميثاق التشاركي بنحو يؤدي إلى اختلال التوازن بين المتعاقدين تفقد السلطة شرعيتها أياً كانت السلطة وأياً كان شكلها. والفقرة (ياء) تؤسس لتفسير الفقرة (دال) التي اعتبرت "الشعب مصدر السلطات" وسنشرحها في طي الكلام الآتي...
يتضح من سياق ما ذكرناه أن الكيان اللبناني ليس دولة ولم يسع مؤسسوه لأن يكون كذلك بل أقصى ما سعوا إليه هو خلق إطار تتعايش داخله الكيانات الطائفية المستقلة مع حفظ استقلالياتها وتمكينها من متابعة العيش متجاورة في حيز جغرافي ضيق فكان لا بد من الاتفاق على نص ميثاقي تشاركي ينتج اتحاداً وتنسيقاً يؤمن الشروط المشار إليها أعلاه ونسميه تجوزاً "الدستور" ومن خلاله سنثبت أنه "ميثاق تشاركي" وأن الكيان اللبناني ليس دولة...
في تحليل النص الدستوري اللبناني
النظام الدستوري اللبناني من النظم التي يصعب تصنيفها ضمن الأطر التقليدية المتعارفة لتصنيف الدساتير. ومردُّ الصعوبة إلى الظروف التي تكوّن الدستور خلالها والتي برزت في مواده بشكل جلي، ما دفع بعض الباحثين إلى التصريح بأن: "الدستور اللبناني وإن أخذ بالمبادئ الدستورية الكلاسيكية، فإن هذه المبادئ لا تعطينا صورة حقيقية واضحة وموضوعية ومتكاملة عن طبيعة النظام الدستوري اللبناني"(5).لذا فمن غير المجدي أن ندرس النظام الدستوري اللبناني بحثاً عن حقيقته وطبيعته اعتماداً على المناهج الكلاسيكية وعبر تحليل المواد التقليدية كتلك التي تحدد علاقات السلطات بعضها ببعض او تشي بحقيقة كون النظام برلمانياً أو رئاسياً أو غير ذلك...
وإنما المجدي هو إعادة تركيب المواد الدستورية ذات الخصوصية اللبنانية والتي تعكس البنية السياسية - الاجتماعية التي أشرنا إليها في معرض بحثنا عن مصادر الدستور. وهذا التركيب يؤدي بنا إلى نتيجة قاطعة محددة هي أن لبنان قد اعتمد في دستوره القواعد التشاركية المعتمدة في النظم السياسية التي لا دولة ولا مركز لها مثل سويسرا وهولندا وبالتالي فنحن بصدد تنظيم ميثاقي لنظام سياسي تشاركي لا يراد تشكيله كدولة بالمعنى المتعارف للدولة كما في فرنسا مثلاً.
ونحن في قراءتنا التحليلية سنرتكز على نصوص الدستور اللبناني بتعديلاته الجوهرية التي أقرت في 21/9/1990 مع الإشارة حين تدعو الحاجة إلى نصوص الدستور اللبناني للعام 1926 دون أن نهمل ما للواقع السياسي اللبناني من أثر في الكشف عن الماهية الحقيقة للمواد. وقبل أن نقارب المواد الدستورية ينبغي أن نؤكد على ما للاتفاق الطوائفي المسمى "الميثاق الوطني" من قيمة في إثبات ما نحن بصدد إثباته، من حيث كونه اتفاقاً بين الطائفتين الكبيرتين يشكل أساس ممارسة الحكم في لبنان لعقود من الزمن. وسنعالج المواد وفق تسلسل منهجي يعالج بداية الشكل العام للنظام السياسي ثم السلطة التشريعية وبعدها السلطة التنفيذية ثم سنحلل طبيعة العلاقة بين السلطات من خلال الدستور بعد التعرض لبعض ملامح إدارة الحكم في النظام اللبناني.
المصادر :
1- دوفرجيه، موريس، المؤسسات السياسية والقانون الدستوري، ترجمة جورج سعد، ص60 وما بعدها، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1992.
2- الصليبي، كمال، تاريخ لبنان الحديث، ص20، دار النهار للنشر، ط6، 1985.
3- شكر، زهير، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، ص151، دار بلال للطباعة والنشر، ك2، 2001.
4- راجع مفصلاً الصليبي، كمال، تاريخ لبنان الحديث، م.س.، ص11 حتى ص21، بيت بمنازل كثيرة، دار نوفل بيروت، ط2، 1991، ص13 حتى ص51.
5- شكر، زهير، الوسيط، ص319 وما بعدها، م.س.