هو المختار بن عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقده ابن غبرة بن قي بن منبه بن بكر بن هوازن ، وكنيته : أبو اسحاق. (1)
وأسرته من أشراف قبيلة ثقيف في الطائف ، وإنّ قبيلته هذه قد عرفت بأسلامها المبكّر ، وخاصّة عمّه «عروة بن مسعود» الّذي تبع النبيّ محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى المدينة المنورة ، وأخذ على عاتقه نشر الدعوة الأسلامية في ثقيف ، اعتمادا على نسبه فيهم.
وكان أبوه «عبيد» من الصحابة الأجلّاء ، قتل أثناء حربه مع الفرس في معركة «الجسر» سنة (١٤) (2) للهجرة. وأمّه (دومة بنت عمرو بن صعب) ، اتاها آت في منامها فقال لها : (3)
ألا إبشرن بالولد
أشبه شيء بالاسد
إذا الرجال في كبد
تغالبوا على بلد
كان له حظّ الاسد
فولد المختار في السنة الّتي هاجر بها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى المدينه.
وبعد ذهاب سليمان بن صرد الخزاعي إلى «عين الوردة» كما بيّنا ذلك في ص ٥٦ ، حبس المختار من قبل عبيد الله بن زياد «أمير الكوفة» مدّة ثلاثة اشهر ، وكان اهل الكوفة الموالين لآل البيت عليهمالسلام على اتّصال دائم بالمختار اثناء وجوده في الحبس. (4)
ولمّا قتل سليمان بن صرد في معركة «عين الوردة» وتفرق اصحابه ، ورجع اهل الكوفة ، كتب اليهم المختار من السجن ، يواسيهم باستشهاد سليمان ، ويحثّهم على المضي في المطالبه بثارات الحسين عليهالسلام وإنه سوف يخرج من السجن عمّا قريب.
ثم كتب المختار إلى عبد الله (5) بن عمر بن الخطاب بالمدينه ، يطلب منه أن يتشفع له عند عبد الله بن يزيد (امير الكوفة) وابراهيم بن محمّد بن طلحة ليخرجاه من السجن ، فكتب ابن عمر اليهما ، فأطلق سراحه ، بعد أن تعهد لهما ألّا يتعرض لهما بسوء.
وقيل إنّ المختار ، سبق له وأن حبسه عبيد الله بن زياد ، ولم يطلق سراحه إلا بعد قتل الحسين عليهالسلام سنة ٦٠ للهجرة ، وبعد أن توسط عبد الله ابن عمر في ذلك. (6) ثمّ ذهب المختار إلى عبد الله بن الزبير في مكّة فبايعه ، وعند ما بايعه قال له : «أبايعك على أن لا تقضي الأمور دون علمي ، وعلى أن اكون أوّل داخل ، واذا ظهرت استعنت بي على افضل عملك». فقال ابن الزبير : (أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم).
ثم قاتل المختار معه أهل الشام ، أشدّ قتال ، فقال فيه إبن الزبير : «لا أبالي اذا قاتل معي المختار من لقيت ، فإنّي لم أر أشجع منه». (7)
ويبدو أنّ عبد الله بن الزبير ، قد أدرك غرض المختار ، لذلك لم يولّيه أيّة إمارة ، مما دفع المختار إلى ترك المدينة ، والتوجّه إلى الكوفة يوم الجمعة في الخامس عشر من شهر رمضان من سنة (٦٤) للهجرة ، الموافق ٦ حزيران من سنة (٦٨٤) (8) للميلاد.
فأخذ الناس يبايعون المختار ، حتّى كثر أصحابه ، وفي تلك الفترة عزل عبيد الله بن يزيد وابراهيم بن محمّد بن طلحة عن الكوفة سنة (٦٦) للهجرة ، فتنفس المختار الصعداء ، وتخلّص من العهود والمواثيق الّتي كان قد أعطاها لعبد الله بن يزيد الخطميّ ، ثمّ ذهب إلى ابراهيم بن مالك الأشتر ، واقنعه بتولية قيادة الجيش ، عندها ثار المختار بالكوفة سنة (٦٦) (9) للهجرة ، ونادى أصحابه : «يا لثارات الحسين» ثمّ انشد المختار يقول : (10)
قد علمت بيضاء حسناء الطلل
واضحة الخدين عجزاء الكفل
اني غداة الروج مقدام بطل
ثم دارت معركة بين انصار المختار وبين جماعة عبد الله بن مطيع العدويّ ، ثمّ ذهب ابراهيم بن مالك الأشتر إلى قصر الأمارة ، واخرج منه العدويّ ليلا ، لا يعلم به أحد ، واستسلم كلّ من كان في القصر ، ثمّ جاء المختار ، ودخل القصر ، فبايعه الناس ، ثمّ وزع المختار على جميع أصحابه ما بين مائتي درهم الى خمسمائة درهم لكلّ رجل.
وعند ما سمع المختار بمجي جيوش مروان بن الحكم إلى العراق بقيادة عبيد الله بن زياد ، أرسل ابراهيم الأشتر مع سبعة الاف مقاتل ، لمواجهة الجيوش الغازية ، وبعد أن ابتعد ابراهيم عن الكوفة ، أعلن شبث بن ربعيّ وشمر بن ذي الجوشن وجماعة آخرون ثورتهم على المختار ، مما اضطر المختار إلى دعوة ابراهيم الأشتر بالعودة إلى الكوفة حالا ، فعاد ابراهيم إلى الكوفة ، وأخذ بمطاردة المناوئين ، وأستمرت المطاردة أياما ، حتّى تمكنوا من السيطرة على الموقف. (12)
وقتل خلال المعركة شمر بن ذي الجوشن ، وأسرّ جماعة آخرون ، كان من ضمنهم سرافة بن مرداس «إلّا ان المختار عفا عنه ، وأطلق سراحه في اليوم الثاني» فقال سرافة شعرا نقتطف منه :
ألا أبلغ أبا اسحاق عنّا / نزونا نزوة كانت علينا
خرجنا لا نرى الضعفاء فينا / وكان خروجنا بطرا وحينا
نصرت على عدوّك كلّ يوم / بكلّ كتيبة تنعى حسينا
كنصر محمّد في يوم بدر / ويوم الشعب اذا لاقا حنينا
تقبّل توبة منيّ فإني / سأشكر إن جعلت النقد دينا
ثم أخذ المختار «بعد ذلك يطارد الّذين قتلوا الحسين عليهالسلام والّذين شاركوا في حربه وقتاله ، فقتل خولى بن يزيد الأصبحي شرّ قتله ، ثمّ أحرقه بالنار ، ثمّ قتل عمر بن سعد مع ابنه «حفص» ، وأرسل برأسيهما إلى محمّد بن الحنفية ، ثمّ تتبع المختار بقية من شارك في قتل الحسين عليهالسلام فقتل أكثرهم ، وأنهزم أكثر رجالات أهل الكوفة إلى البصرة ، والتحقوا بمصعب بن الزبير. (13)
ثم رجع ابراهيم الأشتر لمحاربة عبيد الله بن زياد ، ومعه؟ عشرين ألف مقاتل ، فتلاقت الجيوش ، ودارت معركة ضارية بين الطرفين ، قتل فيها عبيد الله بن زياد ، وقتل الحصين بن نمير السكوني ، وأرسل برأس عبيد الله بن زياد إلى الإمام عليّ بن الحسين (زين العابدين) عليهالسلام وكان يتغدى ، فلمّا رأى رأس إبن زياد تذكر أباه الحسين عليهالسلام وقال : (سبحان الله ، ما أغترّ بالدنيا ، إلّا من ليس لله في عنقه نعمه ، لقد أدخل رأس أبي عبد الله على أبن زياد وهو يتغدّى) (14).
وقال الإمام جعفر الصادق عليهالسلام : (ما امتشطت فينا هاشميّة ولا اختضبت ، حتّى بعث الينا المختار برؤوس الّذين قتلوا الحسين عليهالسلام. (15)
وقيل إنّ أهل الكوفة سألوا محمّد بن الحنفية وطلبوا منه بيان رأيه بالمختار ، فقال : (فو الله فقد وددت أن الله تعالى قد انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه والسلام). (16)
ولم تدم الكوفة للمختار طويلا إذ سرعان ما تآمر عليه أهل الكوفة فكاتبوا عبد الله بن الزبير في (مكّة) يحثونه على قتله ، فطلب ابن الزبير من أخيه (مصعب) (17) أن يذهب إلى الكوفة لمحاربة المختار ، وجاء مصعب بن الزبير وجيشه الجرّار (وأكثرية جيشه من الحاقدين لا على المختار فحسب وإنّما حاقدين على أهل الكوفة الموالين لأهل البيت عليهالسلام. فالتقى الجيشان في (حروراء) ودارت بينهما حرب ضروس انهزم خلالها المختار ورجع إلى الكوفة وتحصن بقصر الإمارة ولحقه مصعب بن الزبير وحاصر القصر ثلاثة أيّام (وقيل أربعون يوما) وخرج المختار من القصر وأخذ يحارب بكل بسالة وشجاعة وقتل خلال المعركة خلق كثير ثمّ قتل المختار ، قتله عبد الرحمن بن أسد وجيء برأسه إلى مصعب بن الزبير ، فأعطى لحامله ثلاثين ألف درهم. ثمّ بعث بالرأس إلى أخيه عبد الله في مكّة فلم يعط لحامله شيئا وقال له : (خذ الرأس جائزتك). (18)
ثم أخذ مصعب بقتل جميع من كان مع المختار (بعد أن أعطاهم الأمان) وكان عددهم ثلاثة آلاف رجل ، وقيل سبعة آلاف. ثمّ طلب مصعب بإحضار زوجتي المختار وطلب منهما البراءة من المختار أو القتل فتبرأت إحداهن (19) أما الثانية فهي أسماء (20) بنت النعمان بن بشير الأنصاريّ وقد رفضت البراءة منه وقالت : (شهادة أرزقها ثمّ أتركها؟ كلّا .. إنّها موتة ثمّ الجنة ، والقدوم على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته عليهالسلام .. والله لا يكون مع ابن هند فأتبعه وأترك ابن أبي طالب. اللهم اشهد ، إنّي متبعة نبيك وابن بنته وأهل بيته). (21)
فأمر مصعب بقتلها ، وفي ذلك قال عمرو بن أبي ربيعة : (22)
إنّ من أعجب العجائب عندي / قتل بيضاء حرّة عطبول
قتلت هكذا على غير جرمد / إنّ لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا / وعلى المحصنات جرّ الذيول
وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في ذلك أيضا أبياتا نقتبس منها : (23)
أتى راكب بالأمر ذي النبأ العجب /بقتل ابنة النعمان ذي الدين والحسب
بقتل فتاة ذات دلّ ستيرة / مهذّبة الأخلاق والخيم والنسب
ومنها :
فلا هنأت آل الزبير معيشة / وذاقوا لباس الذلّ والنكب والكرب
كأنهم إذ أبرزوها وقطعت / بأسيافهم فازوا بمملكة العرب
إلى آخر الأبيات.
هذا وقد ذمّ الناس مصعب على قتل زوجة المختار لأنّه عمل ينافي ما نهى عنه الرسول الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم في نساء المشركين.
قتل المختار في السابع والعشرين من شهر رمضان من سنة (٦٧) للهجرة وقيل سنة (٦٨) للهجرة ، وقيل إنّ الّذي قتله هما أخوان من بني حنيفة أحدهما (طرفة) وقيل (طريف) والثاني (طرّاف) ابنا عبد الله بن دجاجه. وكانت مدّة إمارته على الكوفة ١٦ شهرا.
المصادر :
1- لويس ماسينيون ـ خطط الكوفة. ص ٦٧. وهند غسان ـ حركة المختار. ص ١٨٩.
2- ابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ١٦٠.
3- ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٦ / ١٠٣. وتاريخ الطبري. ج ٦ / ٢٠.
4- تاريخ الطبري. ج ٥ / ٥٧٣.
5- كان عبد الله بن عمر قد تزوج بأخت المختار.
6- تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ٢٢٤.
7- هند غسان ـ حركة المختار. ص ١٨٩.
8- ابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ١٧٠.
9- محمّد الخضري بك ـ محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية. ج ٢ / ١٣٩.
10- ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٦ / ١٠٣. وتاريخ الطبري. ج ٦ / ٢٠.
11- ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٦ / ١٨٢.
12- ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٦ / ١٥٢.
13- ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ١٢٤. وتاريخ الطبري. ج ٦ / ٦١.
14- ابن سعد ـ الطبقات ج ٥ / ١٠٠.
15- محمّد بن عبد العزيز الكشي. ص ١٢٥.
16- ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٦ / ٩٢.
17- كان مصعب أميرا على البصرة حينذاك
18- البراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٣١١
19- إحداهن : هي أم ثابت بنت سمرة بن جندب الفزارية.
20- أسماء : وقيل اسمها عمرة.
21- ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٦ / ١٩٩. والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٣١٢.
22- ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٦ / ٢٠٠. وتاريخ اليعقوبي. ج ١٣ / ١١. وتاريخ الطبري. ج ٦ / ١١٢. والمسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ١٠٠. والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٣١٢.
23- تاريخ الطبري. ج ٦ / ١١٣.